حوار مع الناقد التونسي حاتم بوريال

ترجمان المدينة

حاورته : هيام الفرشيشي – تونس

[email protected]

رسخ حاتم بوريال في الذاكرة ناقدا . وأنا أجري معه الحوار انحرف عن خط الأسئلة لأكتشف انني أقترب من مفهوم الصورة السينمائية التي تستخدم للمعنى عند التعبير عن الرؤى ، فالصورة نسج خيوطها كل من الشعور والتصميم والخطوط والأشكال لأجد نفسي مجرد قارئة لصورة سينمائية أحاول ترتيب لقطاتها الطويلة والمتوسطة والقصيرة والأجواء الجانبية علني أفهم التسطير الداخلي للمشهد وأفهم بعض الآثار الإبداعية لحاتم بوريال :

أحيانا يختار المبدع أن يعيش حميمية الإبداع من خلال انخراط الخلق الفني في واقع الأشياء الأشياء اليومية مع تعتيم فرصة المبدع على نفسه . لم اختار حاتم بوريال هذا التوجه لنادي " فوق السور" الذي يشرف عليه ؟

نادي الترجمة " فوق السور" كان دكانا لبيع الشواشي وسط المدينة العتيقة ، وهو ناد أدبي ارتبط لدي بتقنية " الخلوة " ، حيث كانت الخلوة عبارة على مجمع لقراء الجريدة أو لعب الشطرنج ، انطلاقا من هذه التقنية تبادر إلى ذهني فكرة إنشاء إطار حميمي للإبداع والمبدعين في نسيج الحياة اليومية هدفه أن يتم النقاش الأدبي في قلب مدينة تونس العتيقة لإحياء ما دفن ومحو القبر ، سيما وأن المدينة العربي عرفت بحانوت " المرزوقي" كمقر للإبداع ، الخلدونية التي أقيمت فيها المحاضرات حول شعر الشابي ، لقد عرفت المدينة حركة ثقافية هامة في الثلاثينات و قد قام البعض بترجمة الكتب رغم مستواهم المحدود وبترجمة الأعمال المسرحية . ثم تجددت النهضة الإبداعية في السبعينات بين أحياء وحوانيت المدينة العتيقة . في بداية الثمانينات كان ثمة ركود في هذا المكان إذ شعرت أننا غادرنا المدينة ثقافيا ورغبت في القيام بمشروع مضاد من خلال مبادرة شخصية في غياب الدعم ، ذلك أنني مقتنع بالحميمية لا الأنانية ، وبتبادل الأفكار عوض عدم إبرازها ، فالتأسيس لا يكمن في الكتابة بل في خلق علاقة حميمية بين المبدعين والمثقفين في هذا الوسط الثقافي الذي تشظى بما فيه الكفاية .

يقول الشاعر الأمريكي وايتمان " لكي يكون هناك شعراء عظام يجب ان يكون لدينا جمهور عظيم من قراء الشعر " من هذا المنطلق نطرح استفهامات حول غياب الجمهور لمقر هذا النادي ؟

مشكلتي ليست الجمهور ، لأن هم الشاعر في رأيي يجب أن يكمن في تطوير مساره الشعري وقراءاته وإلا سيصبح الشاعر مفلسا شعريا ، لأن مجتمعنا لم يترك مكانه للشعر ، إن الشاعر لن يخلق القارئ ، فالقارئ يجب أن يذهب للشاعر عبر وجود أرضية حاضرة ، هذه الأرضية تضطلع بها المكتبات في المعاهد والكليات ودور الثقافة ، وبالنسبة إلى نادي " فوق السور" كما أشرت منذ البداية عبارة على لمة حميمية ويكفي أن يأتي عشرة من الحضور ليمتلئ المكان بهم .

من خلال مرور أكثر من ربع قرن على إنشاء هذا النادي أتساءل عن الأسماء المعروفة التي مرت منه ؟

أسماء كثيرة على غرار يوسف رزوقة ، آدم فتحي ، سوف عبيد ، الروائي هشام القروي ، رضا الكافي ، بوبكر العيادي ، حافظ محفوظ ، حسين القهواجي . أما من كتبوا بالفرنسية أذكر صوفية القلي ، إلهام بن ميلاد ، درة شمام ، حافظ الجديدي والقائمة تطول . مع هؤلاء كان العمل تأسيسيا وكان المنطلق ثورة ضئيلة وفتوحات في الميدان الثقافي ، ففي الفترة الممتدة بين 1982 و1987 كان الكتاب ينشر بصعوبة وقد اضطلعت بنشر كتب لتلك الأسماء بمالي الخاص ، وعلى سبيل المثال أذكر لك هذه العناوين : " أسطرلاب يوسف المسافر " ليوسف رزوقة ، أول ديوان لآدم فتحي " سبعة أقمار لحارسة القلعة " ، " صديد الروح " لسوف عبيد ، أول كتاب لحافظ محفوظ "قلق" ، أما في الفترة الممتدة بين 1987 و1995 فقد كان هدف نادي " فوق السور" هيكلة العمل والإشراف الأدبي والتعامل روحانيا بين المجموعات ، ثم استمر العمل سيزيفيا لتنمية العمل الثقافي واحتواء الجيل الشاب لضمان التسلسل بين الأجيال ، فمنذ غياب جماعة " تحت السور" لم تترسخ لدينا آثار عمل ثقافي .

لكن جماعة " تحت السور " أشعوا ونحتوا بصماتهم وعبروا عن مرحلة قائمة بذاتها ؟

نادي "تحت السور" أو نادي "العيون" أو "نادي المجانين" هذا النادي الذي أطلقت عليه العديد من الأسماء لم يكن ليشع لولا كتابات عزالدين المدني الذي أعاد تأسيس هذا النادي والذي التقت فيه شخصيات ارتبطت بحميمية المقهى ولم تربطها ديناميكية تغيير أو خطاب ثقافي . " نادي فوق السور " أشبه بجزيرة معزولة ، وأستمد مقولة الفيلسوف "ليكراس" لأضيف " إنني أختار المكوث أمام الشاطئ لأرصد تزاحم البواخر " .

وماهو نشاط النادي حاليا ؟

أغلب رواد النادي حاليا يتميزون بثقافة فرونكوفونية وبرصيد في الثقافة والترجمة ، يقوم عملهم على ترجمة لشعراء عالميين كبار يمثلون الحداثة مثل "جورج تراكل" من النمسا و" سايفارت " التشيكي الحائز على جائزة نوبل ، كما ترجمنا أشعارا حول تونس لشاعر فرنسي هو "روبار بلان " وقد عنوان الكتاب ب "ينابيع الأزوردية " .

من خلال تصفحي لهذا الكتاب لاحظت أنه قصة حب لتونس ترجمتها أحاسيس هذا الشاعر ، ولكن ما خلق حميميتها نقلها إلى العربية بلغة مستساغة ، ولذلك سأنحرف عن خط أسئلتي لأعود إلى تجربة حاتم بوريال كشاعر ومبدع وأسأله عن ألبوم الصور الراسخ في ذاكرته عن تونس وهو الذي جاب أرضها وقطع أغلب طرقها ؟

لكل إنسان ألبوم صور ، وقد يملك هذه الصور وقد يتم استرجاعها بسرعة في التوزيع نظرا لإيقاع العمر المتسارع . الصورة لكي ترسخ يجب أن تتجاوز آنية الحدث إلى حميمية المعايشة ، وعلى سبيل المثال أثارت صورة محمد الدرة ضجة لدى الكثير ولو سألت أحد هؤلاء عن ألبوم صوره لغابت ولن تخرج حتما من ذاكرته المفقودة ، فمن خلال العلاقة بين الذاكرة والصورة نحدد علاقتنا بالصورة .

من خلال عملي في "التنمية الريفية" المنضوي تحت " الأمم المتحدة " وعبر سفري الدائم لبلدان إفريقية ، شرقية ، أوروبية ، أمريكا ، ومن خلال تنقلي في الريف التونسي  كنت أستشعر أنني أعود إلى المدينة العتيقة كنقطة ارتكاز وكمكان تظلله الأحاسيس الحميمية والدافئة ، أما في الأرياف فإني أستشعر عدم تغير نمط الحياة وعدم تلوث القيم الأصيلة ، وبالعودة إلى الأصل والملاذ ، فكلماخرجت إلى الريف تعود إلى ذاكرتي " يوميات نائب في الأرياف " لتوفيق الحكيم . الخروج من الأنا والاستماع إلى الرواة وأستحضر سيرة "الجازية الهلالية" في دشرة تسمى " خنقة الجازية " ، فأسماء الدشرات في تونس توحي بالشعر. تونس الأعماق يجهلها جل الشعراء والأدباء التونسيين ، فالريف ليس من اهتمامهم عدا قلة منهم .

ألا توجد صورة للصحراء في خضم هذه الصور ؟

ما علقت في ذاكرتي صورة لمدينة " قبلي" العتيقة ، لقد أضحت مدينة مهجورة غادرها سكانها . هذه المدينة الشبح يكمن مجدها في البقاء وسط الواحة ، تقاوم النسيان وتستمد بقاءها من خلال تجدد الرؤية إليها ، إنها تعود بي إلى أعماقي ، إلى تدحرج حجرة إيزيس ، إلى تواصل رحلة البناء وتجددها ، فثمة ما يحفز على العودة إلى ظل الصورة .

وهل ثمة ما يحفز على تجديد نشر كتاباتك ؟

لدي رصيد هام من الكتب بل مشروع أدبي كامل وهو عصارة أكثر من ربع قرن من خبرة ميدان في الأدب والنقد والتحرك عبر السفر ، ذلك أنني كمتعاط للأدب كنت بحاجة إلى التأمل ، الدربة ، التعلم ، الغسهام في المشهد الإعلامي المرئي والمسموع والمكتوب ، وقد ترجم هذا الرصيد عبر استرجاع لتلك التراكمات والخبرات المستبطنة ، وبداية متجددة للدخول إلى الميدان الأدبي بمغامرة شخصية ذاتية هي حصيلة رحلة بحث واكتشاف في ظل واقع ديناميكي ومتحرك ، فيبدو أنني قطعت شوطا معينا .

وكيف أثر عملك في وسائل الإعلام على نمط كتاباتك التي ستنشر قريبا وأغلبها روائية كما ذكرت لي ؟

لقد اطلعت على أفلام مهمة تتميز بجمالية الصورة وعمق الخطاب ولدي علاقة بالنص المسرحي على المستوى الإبداعي وفي التصور وتقنيات الكتابة واستعمال الضوء ، كل ذلك أثر إيجابيا في التفاعل مع تقنيات الصورة . وبذلك مثلت تجربتي في التلفزة والإذاعة عبارة على خلق جدلية في استهلاك ثقافة ما  والتفاعل معها  بعيدا عن منطق ثقافة  السوق المستهلكة من خلال وسيلة الخطاب الهادفة وهي نتاج رصيد هام من التقنيات والتمكن من المعلومة ، لقد زودني ذلك العمل بالصبر وبانتظار المفاجآت . وهنا تكمن المكابدة وينجلي التروي وتطرأ مفاجآت في مستوى سرد الوقائع وتصاعد الأحداث .

خلاصة القول ؟

خلاصة القول أنني طويت ورقة بعدما نشرت أكثر من مائة كتاب لمن ارتأيت في تجاربهم الاكتمال ، وخمسة كتب من تأليفي توزعت بين الشعر والخواطر والبحث في  صورة سيزيفية ما دامت الحجرة ترفض الثبات في لحظة محنطة .