القلق بضاعة الشاعرِ المحسودُ عليها
بن العربي غرابي
ميسور، المغرب
إن السجالَ حول جدوى الشعر أصبح مسألة متجاوزة وغير مطروحة، فالكل مقتنع أن للشعر وظيفة يؤديها: مثلما يفسر العِلمُ العالَمَ و تمفهمه الفلسفة. اعتُبِر الشعر طيلة تاريخ البشرية أينع غصن في غابة الفن والملاذ المنيع للإنسان والأقدر على إرضاء حاسة الفن التي لا تفارقه. والشعر يستمد مكانته التليدة من مرافقته للإنسان منذ صرخة الاستهلال الأولى حيث كان جزءا من الطبيعة، شديد الالتصاق بها، إلى غاية عصرنا هذا الذي انفصل فيه الإنسان عن هذه الطبيعة وساءت العلاقة وفُقدت الثقة بينهما، إلى الحد الذي جعل الطبيعة تبدو شديدة الاقتناع بنوايا الإنسان العدوانية تجاهها.
وعلى امتداد التاريخ البشري كان اللجوء إلى الكلمة الشعرية لا يحتاج إلى ترخيص لأنه في الحقيقة غوص في حميمية الذات و الآخر والأشياء واللغات. إن الشاعر القديم لاذ بالشعر ودندن به لتمجيد الطبيعة وتأبيد عقد الثقة بينهما واستجدائها بغرض تهدئتها وتدجين قسوتها والتمسُّح بأركانها، لكن ، في عصرنا هذا، انفرط عِقد الصلح وانتهت الهدنة بين الإنسان والطبيعة بسبب إخضاعه لها و استعباده إياها من خلال تفسير أسرارها والتدخل في خصوصياتها، وهذا أدى إلى إذلال كبريائها و القيام بردود أفعال عنيفة أحيانا : فلم يعد الشاعرالحديث يكتب تزلفا إلى الكون الجميل والمتناسق حوله أو احتفاء به و مديحه، بل – كما لا يخفى على قارئ الشعر الحالي – أن نغمة الرثاء و التأبين تنبعث منه بجلاء، لأن وجه الطبيعة "المهد الدافئ" في القديم أصبح شائها ولم تنجح عمليات التجميل المتكلَّفةُ و المكلِّفةُ في استعادة بريقه ورونقه.
إن شاعرنا في عصرنا الماحل هذا لم يعد ينظر إلى الطبيعة مرآة تعكسه فصنع من ذاته مرايا يتأملها فأصبح رائيا مرئيا، ذاتا وموضوعا، فاعلا ومفعولا، فسقطت ثنائية الذات و الموضوع، وأصبح يتعاطى مع العالم انطلاقا من مراياه الغائمة الدائمة الارتجاج و التموج و الارتحال.
و الحقيقة، أو ما نعتقد أنه حقيقة، أن الشاعر الحقيقي الحديث ينطلق في إبداع الشعر من معاناة حقيقية وقلق وتمزق شديدين، فكل ما يموج حوله لا يوحي بالشعر و لا يثيره، لأن عالمنا أصبح نهبا لآلهة أرضية لا ترحم عبادها، و التقنية الصماء مزقت جغرافيتنا إلى ممالك هندسية متصارعة على شكل جزر متنافرة يحول الماء دون التقارب و التناص بينها. و الأمر من كل هذا أن الإنسان الذي يعتقد أنه سيد الكون لم يعد سوى رقم حسابي في لائحة الكون وخسر "وجوده" و " كينونته" الفعليين باعتباره كيانا يفترض فيه رجاحة العقل واستقامة السلوك ورقة الشعور. لقد أحس شاعرنا الحديث في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين أن الظروف الاجتماعية التي اضطرته إلى العيش في المدينة، فرضت عليه التضحية بمعدن نفيس من رأسماله المعنوي، فأرَّخ لنضوب العواطف وضياع المضمون الشاعري والإحساس بالألم والاغتراب، فلم ينظر إلى نفسه في ضيافة المدينة القاسية بأنه لبنةٌ في أساسها أو عنصرٌ في أثاثها، بل صار مجرد "وُرَيْقَةٍ فِي الرِّيحِ دارت ثم حطت ثم ضاعت فِي الدُّرُوب" وهي مجرد" مدينةٌ من الزجاجِ والحجر"بتعبير عبد المعطي حجازي و "حدائقُها تبخلُ بالأَزهار" بتعبير أحمد بنميمون. و لكن هل نتجرأ في هذه الأجواء المتوترة بين الإنسان والعالم لنقول للشاعر: آن الأوان كي تصمت؟ إننا بذلك لا نكسب سوى عداواة الشاعر، وهي عداوة" بئس المُقْتَنَى"بلسان المتنبي ولها تبعات لا تنتهي. وهذا النداء مرفوض بالإجماع ولا يمكن القبول به، بل سيستشيط الشاعر غضبا ويقول بأنانيته التي لا تفارقه : إنها لَوَفاحةٌ وتطاوُلٌ أن أُدعى إلى الصمت لأن هذا يتعارض مع طبيعة الأشياء، ويستعير من البارودي عبارته الشعرية الشهيرة " فلا بُدَّ لابنِ الأَيْكِ أَنْ يَتَرَنَّما"...
ففي هذا العالم البارد الذي لا مرق فيه، يلوذ الشاعر بأحد أمرين:
1- ذات الشاعر نفسه التي استحالت إلى مرآة كما أسلفنا، الذات التي اقتنعت بالفراغ والقفر والصقيع ورأت بأم العين اغتيال الوردة ومقتل القمر وتسليع القيم وتعليب الجمال وسمعت نشيج الرصاص وعنف المطر وموت الأسطورة، فأصبح لزاما على الشاعر التوغل في رحاب الذات التي كلما اتسعت امتلأت رؤيا شعرية بشطآن متباعدة، و كلما ضاقت اختنق الشاعر في صوته ونضب معينه منذ الباكورات الأولى، وسواء عندئذ أتوقَّفَ عن الكتابة الشعرية أو استمر فيها لأنه يصير صوتا مدجنا مألوفا كصوت طاحونة البلد بعبارة منير العكش. إن الشاعر الحديث مطالب بالنبش في متاهات الذات و أنقاضها عن المعنى المنتفي خارجها باحثا عن غصن نجا من العاصفة أو لحن تسلل هاربا من ثقب ناي مكسور. و لا نحتاج إلى حصافة نقدية كبيرة إذا قلنا إن شعرنا الحديث يسك آذان المتلقي بنبرة قلقة وحيرة بالغة فتسري العدوى ميكانيكيا من الشاعر إلى القارئ، ونستطيع أن نقول باستنامة و اقتناع إن " الغرض الشعري" المستفيد في الخلق الشعري الحديث هو الرثاء، فقد انتقلنا من رثاء الآخر الذي حل الموت بساحته و رثاء المدن التي دكتها سنابك الخيل إلى رثاء الذات "العمر الجميل" في طقوس جنائزية درامية، و رثاء "النهر" و "الطبيعة" و " القيم" و " الكينونة"... ورغم أن القلق سمة بارزة في الإنسان الحديث نتيجة الأخطار المادية التي تتهدده والفراغ الروحي بفعل استبعاد القناعة الدينية، فإن هذا القلق يبلغ منتهاه لدى الشاعر بالمعنى الحقيقي الذي يشعر بانسداد الأفق الإبداعي في وجهه ويرى نفسه مطالبا باستمرار بالخلق المتجدد وتجاوز إبداعه الشخصي وإبداعات الآخرين.إن القلق أحد مستلزمات الشاعر الخالق في كل العصور*، ولكنه عنصر تكويني أشد حضورا في شعرنا الحديث تحديدا، لهذا أمكننا الخلوص إلى نتيجة مهمة هي: إبداعية الشاعر الحديث تقاس، إضافة إلى معايير أخرى، بمدى نسبة القلق في شعره.
2 – اللغة: إن الشاعر صائغ لغوي و باحث في مختبر اللغة، هكذا كان و هكذا هو الآن و هكذا سيظل. و لكن الشاعر يرفض رفضا باتا لقب الصائغ أو الصانع ويسمي ما يفعله لعبا، و تلك أنانية واضحة تسكن الشاعر لأنه يريد بذلك أن يكون طفلا في طول حياته و عرضها، و الطفل كما هو معلوم غير مكلف وغير مسؤول، لا تجوز معاقبته إذا كسر أشياءَه و آذى ألعابه، ولكن ، مرة أخرى، عندما ننعت الشاعر بالعبث يغضب و يثور. و بالتالي فالشاعر يرى نفسه طفلا جادا ويرى ما يفعله عبثا منظما أو انتهاكا مباحا... الشعر أداء لغوي بامتياز، بحيث تصبح اللغة غاية في ذاتها تؤدي الوظيفة الجمالية الغائبة في الخطاب التواصلي .
إن الشاعر الذي يشتغل على اللغة يفرغها من بعدها الوظيفي والاجتماعي وينزع عنها حصانتها القاموسية ويخرق مواضعاتها وعاداتِها ل"يصنع" من كلماتها كلاما فرديا خالقا بذلك"اللعب" دلالات غير معهودة و منشئا بين الألفاظ علاقات جديدة غير معروفة من قبل.
* نذكّر القارئ الكريم بالقلق الخلاق الذي جعل من المتنبي قامة إبداعية لا تُدرَك، يقول:
على قلقٍ، كأن الريحَ تحتي أُوَجِّهُها يمينا أو شِمالا.