( وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد)
من المعلوم أن الله عز وجل قد أخبر في محكم التنزيل أن نعمه التي خص بها الإنسان لا حصر لها لذلك يتعذر إحصاؤها مصداقا لقوله عز من قائل : (( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها )) ، وإنما هي كذلك لكثرتها وتعالقها وتداخلها . ولما كان هذا هو شانها ، فإن ما لا يعد ولا يحصى منها يتعذر شكره إلا أنه جل شأنه يقبل من الإنسان ما في وسعه من شكر ما لا يحصى من أنعمه .
و من المعلوم أيضا أن الإنسان إنما يصيب شكر نعم ربه من خلال استخدامها في طاعته وحسن عبادته ، وفي المقابل يكفرها إن هو استعان بها على معصيته ، وذلك أعظم ذنب يقترفه على الإطلاق إذ كيف يعقل أن يقدم المنعم عليه بنعمة ما على الاستعانة بها على فعل ما لا يرضاه المنعم بها ؟
ولقد أعلم الله تعالى في محكم التنزيل أنه وعد بزيادة الإنعام مقابل شكره وبالعذاب مقابل كفرانه فقال جل شأنه : (( وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد )) . وقد جاءت هذه الآية الكريمة في سياق الحديث عما أنعم به الله عز وجل من نعم على قوم موسى عليه السلام . ولما كانت العبرة بعموم ألفاظ القرآن الكريم لا بأسباب نزوله ، فإن حكم هذه الآية ينسحب على كل الناس إلى قيام الساعة ، ذلك أن وعد الله عز وجل بالزيادة في إنعامه مقابل شكر نعمه وعد ناجز منه على الدوام لا ينقطع ، وأن عذابه لاحق لا محالة بمن يكفرها في العاجل والآجل .
وبموجب دلالة هذه الآية الكريمة ، فأن الزيادة في إنعام المنعم بنعمه سبحانه وتعالى تكون على قدر شكر المنعم عليهم بها . ومع أن الإنسان يحب إسباغ نعم الله عز وجل عليه، ويستزيد منها ، فإنه غالبا ما يغفل عن شكرها شكرا يجعلها في ازدياد حتى إذا ما منع منها تحسر على ذلك وشكا الحرمان منها ، وكفى بذلك تأديبا له على غفلته عن شكرها، أما إذا ما كفرها إما بإنكارها أو باستعمالها في معصية المنعم ، فإن النقمة تحل محلها لا محالة ، وذلك هو العذاب الذي توعد به الله عز وجل من يكفرها .
وإن شاكر النعم تظل نعمه في ازدياد كما وعد المنعم سبحانه وتعالى بذلك ما داما شاكرا لها ، وهو شكر لا يقتصر فقط على التنويه بها باللسان بل لا بد أن يتعدى ذلك إلى استخدامها في طاعة المنعم جل وعلا ، فعلى سبيل المثال لا الحصر إذا ما أنعم الله تعالى على إنسان بنعمة المال ، فإن الشكر المنتظر منه هو أولا ألا يستعين بهذه النعمة على معصية المنعم ثم هو مطالب بعد ذلك بالتصرف فيها كما يريد منه سبحانه وتعالى وذلك بصرفها في أوجه الخير والإحسان ، وتكون في ازدياد دائم ما دام على تلك الحال من الشكر لكنه إذا ما جحدها بوجه من وجوه الجحود، فإن أول العذاب الحالّ به هو زوالها وحلول وما يستتبع ذلك من نقم ، وعلى هذا المثال تقاس كل النعم التي ينعم بها الله جل شأنه شكرا أو كفرا .
الداعي إلى حديث هذه الجمعة هو التنبيه إلى الغفلة عن شكر نعمة هي رفع الله عز وجل عن الناس من شدة وطأة الجائحة الحالة بهم والتي نشرت الرعب بينهم لما يزيد عن حول كامل . ولا شك أن الناس يريدون رحيلها الكامل وزاولها لتعود حياتهم إلى ما كانت عليه قبل حلولها ، وهو طلب الزيادة من نعمة العافية من الوباء هم في أمس الحاجة إليها . ومعلوم أن السبيل إلى الاستزادة منها هو شكرها الشكر الذي يرضاه المنعم سبحانه وتعالى وهو الاستعانة بتلك النعمة وغيرها من النعم على طاعته ، وتجنب الاستعانة بها على معصيته ، كما قد يفعل البعض منهم .
ومما يجب التنبيه إليه والتحذير منه أن يستغل ذلك البعض نعمة رفع الله عز وجل عنا الجائحة للتمادي في معصيته ، فيكون اجتماعهم على فعل المنكرات على اختلاف أنواعها ، ويكون ذلك استعانة بنعمة العافية على المعاصي ، وهو أعظم ذنب كما مر بنا .
ومن شكر نعمة زوال الجائحة وآثارها السيئة أن يظل الناس على ما كانوا عليه من خشية الله عز وجل ساعة الشدة ،وهي في أوج انتشارها ،ذلك أن عذابه سبحانه وتعالى لا يؤمن إن لم يخش جانبه . ولنا عبرة في ما قصه الله تعالى علينا من أنباء أمم سابقة أسبغ عليها من نعمه لكنها كفرت بها فأذاقها من النقم مصداقا لقوله تعالى : (( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون )) .
إن هذه القرية اليوم هي العالم بأسره الذي كان قبل الجائحة آمانا مطمئنا ينعم برغد العيش، ولكنه لم يشكر أنعم الله عز وجل ، فأذاقه الله عز وجل لباس الجوع والخوف بما صنع أهله . ولو أن الناس تدبروا المثل الذي ضربه الله عز وجل لهم في محكم التنزيل لأفاقوا من غفلتهم ، وعجلوا بالتوبة والإنابة إلى خالقهم ، وكان ذلك منهم شكرا يستزيدون به من أنعمه أمنا وطمأنينة ، ورزقا رغدا . ولئن لم ينبوا إلى خالقهم ، فإنه قد حذرهم من عذابه الشديد إن هم كفروا بأنعمه .
اللهم إنا نسألك شكر أنعمك والاستزادة منها ، ونعوذ بواسع رحمتك من فجاءة نقمك . اللهم إنك إن أنعمت تسبغ ، وإن شكرت تزيد ، فأسبغ علينا من نعمك ، وزدنا منها ما تعيننا به على طاعتك ، وحسن عبادتك . اللهم لا تؤاخذنا بأفعال أو أقوال سفهائنا ، ولا تحل بنا محل نعمك نقما . اللهم إنا نرجو عفوك ومغفرتك ورحمتك ، فاعطنا ولا تحرمنا يا واسع العطاء ، وواسع المغفرة .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 935