نفحات توثيق "حقيبة الفن"
نفحات توثيق "حقيبة الفن"
سليمان عبد الله حمد
الفكرة :
كانت الشرارة الأولى في لندن عام 1953 م حيث كان يعمل صلاح أحمد محمد صالح في الإذاعة البريطانية وطلب منه تقديم برنامج عن تاريخ الأغنية السودانية وحينما أراد تقديم نماذج عن الأغنية السودانية أراد إن يبدأ بذرة الغناء السوداني (عزة في هواك) ولكنه لم يعثر على تسجيل لها رغم بحثه وتم تأجيل برنامجه واهتدى أخيراً إلى أن يقوم بتقديم الأغنية بتوزيع موسيقى جديد ، ورحب الأستاذ نعيم البصرى رئيس وحدة الموسيقي بالفكرة وطلب المشاركة بضرب الطبل ورحب الأستاذ المبعوث وقتها خليفة خوجلى بالغناء وهو يمتلك صوتاً فارهاً هو أقرب إلى طبقات صوت المبدع عبد العزيز محمد داؤود يرحمه الله ، وعزف على آلة الكمان الأستاذ/ الماحي إسماعيل الذي كان مبعوثاً للتأهيل في علوم ا لموسيقي .
ويستطرد صلاح بالقول : استعنا بمواطن أرمنى يجيد العزف على البيانو وتدوين النوتة الموسيقية ونجحت الفكرة .
كانت صعوبة الحصول على أغنية (عزة في هواك) سببا في تخوف صلاح من ضياع التراث الغنائي السوداني نتيجة لعدم توثيقه وحفظه ، وعند عودته إلى السودان في نفس العام شرع في الإعداد لبرنامج حقيبة ا لفن .
تقول الأستاذة / فيحاء العاقب في مقال لها (الموسيقي السودانية الأصيل والوافد ) ( الأنماط المتباينة من جنوب وشرق وغرب وشمال السودان نتجت عنها عدة أنواع غنائية متنوعة منها الدوبيت وأغاني الطنابرة الذين إذا جاء الليل تعالت أصواتهم صانعة البهجة والسرور في النفوس وتمايلت لها الأعناق طرباً (فأغاني الطنابرة هي نوع من أنواع الغناء الجماعي الذي يعتمد على الحنجرة في إصدار الصوت ) ...
هذه الأنماط المختلفة كانت حصيلتها أغنية الحقيبة في بداية العشرينات من القرن الماضي ، هذه الأغنية التي اعتمدت على النص الشعري واللحن الدائري المتبادل بين المغني وما يردده الكورس (وهم جماعة تصاحب المؤدى وتردد ما يقوله " دون آلات موسيقية سوى الآلات الإيقاعية كالرق والمثلث ، ويعتبر فن الحقيبة نقلة نوعية للغناء والموسيقي السودانية في سنواتها التأسيسية وحتى اليوم .
وقد تحدث الكثيرون عن هذا الفن ولكن للأسف الشديد لم أجد أثناء كتابتي أي شيء محدد فقد تناثرت الأقاويل واختلفت الآراء ، بين ما تفوهت به ألسنة من واكبوا تلك الحقبة وتناقلته الأجيال التي توالت بعد ذلك ، فأشار البعض إلى أنها تنسب إلى الإذاعي السوداني المبدع الأستاذ/ صلاح أحمد محمد صالح ، آثر قلقه على اندثار هذا الفن خاصة بعد دخول الاسطوانات التي توافدت من مصر حيث كانت تسجل هناك ، فعمل على جمعها وحصرها إذ كان يحضرها معه إلى الإذاعة حافظا إياها في حقيبة أطلق عليها العاملون في الإذاعة أسم حقيبة الفن .
تبلورت الفكرة عند الإذاعي صلاح أحمد بعد عودته من لندن ورأى أن حظ البرنامج سيكون وافرا إذا ما تسنى له تقديم برنامج يجمع بين الأغاني القديمة الحديثة وذلك لإرضاء الجيلين قرر أن يستعين بمطربين محدثين ليقدموا أعمال غنائية قديمة بمصاحبة الآلات الحديثة ، والصعوبة كانت في الحصول على نصوص مكتملة وصحيحة للأغاني فاستعان بالطاهر حمدنا الله الذي كان يمتلك مكتبة من الاسطوانات والمجلات ومنها مجلة (هنا امدرمان) التي أصبحت لاحقا مجلة التلفزيون والمسرح ، ومن هذه المجلة حصل على نصوص أغاني كلف كبار مطربي الإذاعة آنذاك بحفظها وأداءها بمصاحبة الفرق الموسيقية ، عندما بدأ صلاح في توزيع النصوص على المطربين فكانت (عزة في هواك ) من نصيب أبو داود و (أنا ما معيون) من نصيب أحمد المصطفي .
قصة التسمية :
تجمعت لدى أراء متباينة بخصوص التسمية ألخصها في ثلاثة آراء رئيسية مرتبة حسب قوتها واعتماد الكتاب والنقاد والجمهور لها .
1 ـ تبادر إلى ذهن صلاح أحمد أن يسميها (من حقيبة الفن) لأنه تصور أنه سيفتح حقيبة تحوى نصوص وأسطوانات قديمة ينتقي منها لمستمعيه ويحكى لهم شيئاً من تاريخها ، قال صلاح : (كانت هناك حقيبة سوداء في قسم الأخبار في الإذاعة ، وكان مقره آنذاك في الخرطوم ، بينما كانت الاستوديوهات في أمدرمان ، تذكرت أن تلك الحقيبة كانت تحدث صوتاً عند فتحها ولم يكن لنا قبل آنذاك بالمؤثرات الصوتية ) ، وكان صلاح يعقب المقدمة بفتح حقيبة قسم الأخبار وقبل أن يختتم الحلقة كان يعتمد إلى غلق الحقيبة لتصدر صوتا يبلغ مسامح الجمهور ، هذه الحقيبة لا تزال موجودة و يعمل بها حتى هذه اللحظة .
وحين قدم الأستاذ الإعلامي الكبير / على شمو البرنامج بعد صلا غير الاسم إلى (حقيبة الفن ) .
2 ـ وهناك من يقول أنها سميت حقيبة الفن لأنها تمثل حقبة هامة وغنية من تاريخنا الفني بدأت في العقد الثاني من القرن العشرين واستمرت حتى العقد الخامس ،.
يقول عدد من كتاب حقيبة الفن ، منهم معاوية ، أن القول بأن تسمية حقيبة الفن ترجع إلى حقبة زمنية معينة مردود عليه حيث أن النمط الغنائي الذي يسمي " حقيبة " رأى النور قبل اهتداء السفير صلاح أحمد إلى برنامجه باكثر من ثلاثة عقود .
3 ـ وهناك من يقول بأن هذا البرنامج كان موجوداً قبل عودة الأستاذ صلاح أحمد من لندن ، يقول هذا الرأي بأن هذا البرنامج كان اسمه ( من أغنياتنا القديمة ) وكان شعاره عزف بالفلوت بلحن (حليل موسى يا حليل موسى ) وكان يقوم بتقديم البرنامج الأستاذان متولى عيد والمبارك إبراهيم وذلك بالتناوب ولم يكن له موعد بث ثابت فقد كان يقدم كلما توفرت لهما بعض الاسطوانات ، وعندما عاد الأستاذ / صلاح أحمد من لندن لاحظ أن الاسطوانات التي تقدم قديمة ومستهلكة فاقترح عليهما بأن يتم تسجيل هذا الأغنيات مجدداً بأصوات فنانين جدد ممن عاصروا الرواد الأوائل وبمصاحبة الموسيقى .
الأوائــــــــل :
من أوائل من استضافهم البرنامج الشاعر المخضرم الراحل محمد ود الرضي والمطرب الراحل إبراهيم عبد الجليل الذي زاره البرنامج في منزله و الذي لقبته أم كلثوم (بعصفور السودان ) وكان معتكفاً بمنزله بعد انحسار مجده وعندما طلب منه مقدم البرنامج أن يكون ضيفا على ا لبرنامج بكى من شدة التأثر لأنه حسب أن الناس تناسوه ونسوه .
ومن أول الكلمات التي قالها صلاح أحمد في الحلقة الأولي من برنامجه ( اليوم انفض الغبار عن تراث الأغنية السودانية ) ، ويقول د/ حسن في ذلك أيضاً ، راق هذا التعبير (لست البنات الفتاة اللجناء بحيهم فظلت تنقل خبر هذا البرنامج الجديد من منزل إلى منزل مرددة لقول (بارك الله في صلاح الذي نفض الغبار عن حقيبة البرنامج) ...
وأول أغنية تم تقديمها في برنامج حقيبة الفن هي أغنية ( أنا ما معيون) للشاعر سيد عبد العزيز وقد لحنها كرومة وغناها الفنان عبد الله الماحي 1954 م .
لعلى أكون قد وفقت في تقديم إيجاز موجز عن حقبة حقيبة الفن في فترات كان فيها كثير من جيل اليوم لم يشهدها ولم يسمع بها .. فهذه محاولة جادة في حفظ التراث السوداني الغنائي مكتوباً وليس مسموعاً فقط ، لأن المكتبة السودانية شحيحة في هذا المضمار من التوثيق ، سوى بعض المحاولات الإعلامية الجادة من قبل الأستاذ الإعلامي المبدع / عمر الجزولي مقدم برنامج ( أسماء في حياتنا ) فله منا كل التحية والتقدير لما يبذله من جهد مقدر يشكر عليه في تقديم اضاءات مشرقة في ظل الإعلام السوداني الحديث ... وكذلك التوثيق ألبرامجي المرئي من قبل الإعلامي الصحفي الأستاذ المبدع / حسين خوجلي في برنامجه ( تواشيخ النهر الخالد ) وكذلك برنامجه ( أيام لها إيقاع ) ... فهو برنامج يجمع بين الحداثة والأصالة لتاريخ الأغنية السودانية مع تقديم نماذج من فنانين القديم والحديث فيها كثير من الإشراق الفني وتزويد المكتبة السودانية بصور فيها كثير من الرؤيا الإبداعية لجيل اليوم الذي لم يحظى بذلك الطرب الأصيل والنبع الذي أنحسر فيها الإبداع الفني ...
مع تحياتي لكم حتى يحين اللقاء أحبتي في لوحة من لوحات الإبداع الفني السوداني ... مع مبدع وزمن في الأيام القادمات أحبتي...