سلطة الخوف ومسالك التخويف
هي سُلطة تفعل فعلها تحت ربقة الاستبداد وتفرض سلطانها في فضاء الديمقراطية أيضاً، فما من مجتمع انفكّ من الخوْف أو تحرّر منه، وإن أعاد توزيع الأدوار فيه. وقد تفرض ثقافة الخوف هيمنتها على الأذهان والوجدان فتستبدّ بها بما تبثّه من هواجس وتشيعه من رهبة، وسيجد الناس حظوظاً لهم في هذا تدفعهم إلى الاستثمار في الخوف والانخراط في التخويف. فما الذي يحدث؟
توظيف الخوف
يبدأ الأمر مع مدرسة يُدرِك تلاميذُها عواقبَ تقاعسهم عن الحضور المنتظم أو أداء الواجبات، حتى في المجتمعات الموصوفة بالحرّة، ويتواصل مع استعمال مؤثِّرات الترغيب والترهيب في مؤسسات الدولة والمجتمع، بأدوات ناعمة قد لا تُلحَظ أساساً، فالأنظمة الحديثة لا تشتغل بلا تخويف رمزي تتحرّى به فرض الانصياع لها.
إنها سلطة الخوف التي تُستعمَل بطرائق متعددة عبر البيئات كافّة وتخالج مجالات الحياة المتعددة، لضمان الانضباط والرضوخ، وقد تُمارَس بأساليب فجّة أو ناعمة. فلا يستغني مجتمع عن توظيف الخوف في مسعاه لتنظيم شؤونه ولأغراض الإصلاح ومقاصد الرّدع أيضاً. فكما أنّ خشية الفقر والفاقة توجِّه الإنسان إلى العمل والكدّ؛ فإنّ العواقب التي يخافها الإنسان في مآلاته تنتصب له موجِّهاً ورادعاً. إنّ مشهد الموظّف المنكسر المفصول من عمله لمخالفته الأنظمة كفيلٌ بتحريض زملائه على الاتعاظ منه ودرء سوء المصير عنهم، وهو مشهد تُكرِّسه أعمال الشاشة بأن تستحضره في سياقات متعددة؛ بما يعزِّز العظة المتوخّاة منه.
تتعاظم السلطة أو تتضاءل بمقدار اقتدارها على الثواب والعقاب، وهي سُلطة تُمارَس على مستويات شتى وفي نطاقات واسعة من حيث يحتسب الناس أو لا يحتسبون؛ فتتجلّى السلطة في البيت والمدرسة والجامعة والمصنع وموقع العمل والحياة العامة، وتعبيراتها ظاهرة ورمزية على مسارات المرور وفي الدوائر الرسمية وأقسام الشرطة وأروقة المحاكم، وهي سلطة تُمارَس تحت حكم الدولة ونظامها وفي الهوامش المنعتقة عنها أيضاً. لمثل هذا ما يُحاكيه في فضاءات التشكُّل المجتمعي وفي أواصر المجتمعات وتواطؤاتها؛ وفي توازنات السوق وحياة الأحياء الشعبية أيضاً.
ومن الوجوه المستجدّة لسلطة الثواب والعقاب التي تستثير الطمع وتبعث الرهبة؛ ما يُمارَس في الحياة الشبكية من امتيازات ومكافآت تُمنَح وتُحجَب، وتكفل انصياعاً لشروط المُمسكين بأطراف الشبكة. إنّ خشية أحدهم من تعليق حسابه على منصّة تواصل اجتماعي أو إلغاء حضوره الافتراضي بقرار لا يُناقَش؛ هو نظير الطّرد المُهين خارج أروقة محظيّة يتطلّع البشر إلى دخولها. وكما يتسابق البشر إلى وُلوج أروقة الصفوة بحرصهم على تحصيل درجاتٍ وعلاقات، ودفع رسوم أو حيازة بطاقات وتعظيم أرصدتهم من "النقاط"؛ فإنّ خشية أحدهم من خسران هذا الامتياز بعد تجريبه يفرض عليه الانصياع لمدوّنات سلوك مكتوبة أو عرفية كفيلة بأن تَعقِد لسانَه وتضبط تصرّفه وتحدِّد اختياراته. فالحظوة تستبطن من هذا الوجه انصياعاً مخصوصاً وعبودية رمزية لامتيازات ومكتسبات تصير بذاتها طوقاً ذهبياً حول الأعناق، فالاغتراف من الدنيا يستتبعه تثاقُل إلى الأرض وإحجام عن التضحية بما في الأيدي.
يفسِّر هذا المنحى – مع ملابساتٍ أخرى – استئناس أهل الحظوة والمراتب العليا بالمكوث في أقفاص وثيرة، يخضعون فيها ذاتياً وينضبطون معها طوْعياً ويحترزون من أيِّ تعبير ظاهر عن نزوع إلى الحرية والكرامة. وهم إن تباهَوا بالقيم النبيلة والمبادئ السامية؛ انتقَوْا منها ما يُستعمَل في خدمة السكون والانسحاب والفردانية ويتحاشَون القيم والمبادئ التي تشي بروح إصلاح أو تغيير أو تضامُن؛ إلاّ بما يوافق هوى الأفلاك التي يدورون فيها بانصياع. إنهم يخشون المساس بمصالحهم والتضحية بامتيازاتهم؛ بما يُحيل هذا الملأ إلى طبقة تستشعر ارتباطها الوجودي بواقع قائم لا ترجو تغييره أو إصلاحه فتلتحم به بمنطق تشابك المصائر، وقد تنزلق إلى خندقه لخوض معركة ضد المبادئ والقيم، كما يُرَى من سلوك النخب التي تخذل شعوبها في لحظة الحقيقة إن طالبت الجماهير بحريتها وكرامتها.
ولن تعمل الأنظمة العقابية، عموماً، دون اغترافها من التخويف، الذي لا يتوجّه إلى مَن انحرفوا أو جنحوا عن سواء السبيل وحدهم؛ فرسالة الترهيب من عواقب المخالفات يُرادُ منها أساساً أن تبلغ الناس كافّة في الفضاء المجتمعي؛ بأن يُدركوا ابتداءً معنى الغرامة وحقيقة السجن، كي يحذروا سوء العاقبة ويتحاشوا ما يستدرجهم إليها، وهذا من فلسفة العقوبات في المجتمعات كافّة؛ لأنّ انتفاء المعرفة بإنزالها بحقّ المُدانين لن يحقِّق مفعولها الرّدعي. لكنّ توظيف الخوف بقدر محسوب ورشيد لإصلاح الإنسان أو ردع تجاوزاته؛ لا يستوي مع إشاعة ثقافة الخوف التي تتحكّم بالإنسان وتهيمن على المجتمع. ومن أعراض ثقافة الخوف والتخويف إقدام الوالديْن في بعض المجتمعات على ترهيب الأطفال بالشرطة بما يشي بخبرة الراشدين مع هذا الجهاز ومخاوفهم منه، وبما يكشف عن انطباع شائع بأنها جهاز للقمع؛ وإن رفعت شعار "خدمة الشعب".
تتحرّر المجتمعات من خوفها من الشرطة وأجهزة الأمن بعد أن تتوافق على أنظمة ضابطة لاستخدام السلطة وكابحة لعمل "أجهزة تنفيذ القوانين"، لكنّ ذلك لا يكفل لها الانعتاق عن سلطات مفروضة عليها في مسارات الحياة المتعددة تستعمل الخوف مع الناس بحُسبان. تخفق القلوب كلّ صباح في الحواضر الحديثة خشية التأخّر على موقع العمل في الزحام بما يوْرث التأنيب ويقضم من الامتيازات. ويفرض الوازع الأرضي سلطانه الرّادع على الجمهور برهبةٍ من تجاوز الضوابط المفروضة؛ بدءاً من إشارة المرور عند ناصية الشارع. تشير علامات الطريق إلى قائمة من المحظورات المغلّظة التي لا تعمل في واقع مجتمعها بلا تخويف من انتهاكها، فالأنظمة لا تنهض بلا خوف رادع أساساً
خوف في فضاء الديمقراطية
من المخاطر التي تجمح بديمقراطيات الحاضر أن يستبدّ الخوف بجمهورها، بما يستدرجه إلى تراجعات مبدئية وتنازلات قيمية والتهاوُن مع القضم من مكتسبات تحققت له بشقّ الأنفس وما كان له أن يستسهل الإقدام عليه في أحوال الطمأنينة والدعة. تُدرِك النزعة السلطوية في الديمقراطيات ما يمنحه الخوف من نفوذ لمستعمِله، فتوظِّفه لتسويغ خطوات الحظر والتقييد والرقابة وتشديد القوانين والأنظمة؛ مما لم يكن بالوسع القبول به بغير استيلاء الخوف على الناس واستعلاء الهواجس في المجتمع.
تتعدّد الشواهد على ذلك، ومنها استغلال الحوادث الداهمة والتطوّرات المخيفة في فرض توجّهات سابقة عليها. فما إن يقع اعتداء إرهابيّ حتى يُخرِج أحدهم مشروع قانون من الأدراج ليباشر الاستثمار في الرهبة في اتجاه يُفضي إلى تقليص محسوب في نطاق الحقوق والحريات، أو بما يسطو على المجال الشخصي للأفراد بوسائل الرقابة والتلصّص والتعقّب. ما كان لهذا أن يحدث بدون رشفة خوف تُسكِر وعي الذاهلين وتدفعهم إلى التفريط بأقساط من حريّتهم، وقد يستسيغ بعضهم التنازل عن أقدار من كرامتهم، فالخوف مسألة وجودية ترقى في عيون البشر فوق قيَم ومبادئ تعلو شعاراتها من حولهم. فتَحت وطأة الهواجس قد تتنصّل الأمم من التزاماتها المبدئية والأخلاقية، فيجنح بها الخوف بعيداً عن شعاراتها المجيدة وتغدو القيم التي ترفعها مقولاتٍ جوفاء.
ثمة صلة مؤكدة بين استشراء ثقافة الخوف؛ واندفاع الشعوب إلى اختيارات متطرِّفة لا مصلحة لها بها. فزمن الهواجس هو موسم فرسان التحريض ومُثيري الهلع ومُشعلي الحرائق. لا تقتصر الحيلة في هذا المقام على شعبوية غوغائية تتمادى في غيِّها؛ فاستعمال الخوف يتجلّى في بعض الخطاب السياسي للمحسوبين على الاعتدال أيضاً، حتى أنّ دعاية "داعش" المرعبة جادت على بعض الحكّام المتعثِّرين في ديمقراطيات أوروبية بإشغال الجمهور عن معضلات مزمنة وصرفه عن أزمات مستعصية في السياسة والاقتصاد والخدمات. فلا ريب أنّ الخوف يُملِّك سلطة تأثير لمن يستعمله بدهاء في توجيه مخاوف الجماهير نحو اتجاهات محسوبة، بما يعين على سلب إرادتها والتحكُّم بانفعالاتها.
صناعات الخوف
تستدعي السينما مشاهد نمطية تعبِّر عن مخاوف متأصِّلة لدى الإنسان حتى يُحاكى بعضها كابوساً منامياً يتخلّله سقوط من شاهِق أو حادث طريق مروِّع أو اندلاع حريق كبير. تُفلِح أفلام الرعب إن لامست مخاوف الناس الوجودية المتأصّلة من الهلاك والعجز والخسران والهوان، فتحرِّك ما في أعماقهم من خوف بصفة افتراضية محفوفة بالتشويق والإثارة بمعيّة الذرة المفرقعة، ثم ينتهي بهم الانغماس الرمزي في التجربة والتماثل مع شخوص العمل إلى خروج آمِن من قاعات المشاهدة يحتفون معه بنجاتهم مما عايشوه افتراضياً.
تكشف لنا السينما عن سلطان الخوف علينا، كأن يتقدّم جموع الموتى السائرين بخطى ثابتة نحو أسرة عالقة في سيارة دفع رباعي نستشعر ضمناً أنها "نحن"؛ فيدفعنا الخوف من "الغزاة" إلى شرعنة مسلك اصطيادهم واحداً تلو الآخر ببندقية نصف آلية. ينتهي مشهد الخوف بمجزرة جماعية نتشارك الشعور بشرعيّتها وضرورتها، بافتراض أنها خيارنا الأوْحَد في التصرّف مع الذين يشكٍّلون خطراً وجودياً علينا؛ أو على الأسرة العالقة في السيارة بالأحرى. إنها سردية الخطاب ذاتها تقريباً التي تستعملها سلطات تمارس القتل الجماعي، وهي صنو حجج تنسجها قوّات غزو وجيوش احتلال، وتستبطنها أحزاب وقوى عنصرية ترى في ألوان مخصوصة من البشر جموعاً من "الزومبي" الذين ينبغي "تحييدهم"؛ بالإقصاء والطرد أو حتى بالفتك الجماعي بهم على طريقة مقترف مجازر كرايستشيرش في نيوزيلندا مثلاً.
لا يعمل الخوف في هذا المقام بمعادلات الدرجة الأولى وحدها؛ فهو يختمر في معادلات أعقد تتعدّد أطرافها وعواملها ومتغيِّراتها، فمنهم مَن يستثير، ومنهم مَن يحرِّض، ومنهم مَن يوظِّف، ومنهم من يُمارس، ومنهم من يتواطأ. تنهض لتخويف المجتمعات صناعاتٌ بحيالها في الأنظمة الحديثة تنتظم فيها خطوط إنتاج وشبكات عمل يتجلّى فيها توزيع الأدوار والاعتماد المتبادل، بما يحقِّق كيفيات غير مسبوقة في إتقان فنون التشويه وإثارة المخاوف وإذكاء أساليب التحريض والشيطنة؛ لتبرير ما يترتّب على هذا كلّه من تصوّرات وأحكام؛ ولاستدراج ما يلحق بذلك من ممارسات وتبعات.
من سيرة الخوف
للخوف سيرته في مجتمعات البشر، حتى أنه طبع موقف بيئات أوروبية من الطبيعة مثلاً. هيْمن الخوف من الطبيعة على مجتمعات في القارّة التي خافت وحشة الغابة وتقلّبات الطقس وحدوث الكوارث حتى العصر الوسيط. ارتبطت الغابة وقتها بالأساطير المرعبة وبالسحرة والأشرار، ونُسِجت من وحيها حكاياتٌ تشويق وترهيب وتأديب للأجيال بما أذكى مخيالاً مقموعاً وظّفه تحالف السلطة والكنيسة وما نشأ معه من تواطؤات وتقاليد. ثمّ تحوّلت المعتقدات وتبدّلت الفلسفات، وتملّك الإنسان عبر امتياز العلم والتقانة إحساس الهيمنة على الطبيعة، فمضى محاولاً ضبطها والتحكّم بها، وباشر اجتثاث الغابات والإسراف في استغلالها، وتوارت حكاية "ذات الرداء الأحمر" التي ابتلعها الذئب في طريقها عبر الغابة. عبّر الإنسان في طوره الجديد عن نزعة قمعية باشرها إزاء الغابة التي أرهبته سابقاً، بأنْ فرض مسارات محسوبة للبَسْتنة ومارس الضبط المتطرِّف مع زوائد الأشجار ومضى في محاولة إلزام البيئة بمعاييره. جرى ذلك كلّه كنايةً عن استعلاء الإنسان المتمكِّن على الطبيعة وانعتاقه من خوفه المتأصِّل منها، رغم ما يدركه من ضعف سلطانه في مواجهة زلزال داهم أو بركان ثائر أو سيل جارف أو ريح عاصف.
مع هذا التحوّل صارت وحوش الغابة التي أخافت الإنسان دهوراً أهدافاً سهلة لقَنْصه، افتتاناً منه بممارسة التوحّش الرمزي، أو طلباً لجلودها وقرونها وعاجها، أو لاتِّخاذ رؤوسها المحنّطة تذكارات لغرف الجلوس الأنيقة تبرهن على سطوته وانتصاره الحاسم على الطبيعة والكائنات، بما هدّد مزيداً من الأنواع بالانقراض أو اجتثّها عن آخرها. إنّ حدائق الحيوان ومتاحف الكائنات المحنّطة هي التجسيد المرئي للمعركة مع الطبيعة والكائنات؛ انتهت السِّباع الضارية معها إلى أقفاص تتعلّم فيها الانصياع لأيدٍ تُلقي إليها بقطع اللّحم. لكنّ الإنسان مع كل ما تحقّق له من علوّ يبقى هو هو؛ في خشيته من الكائنات عظيمها ودقيقها، فمن يفتك بسباع الغابة في نزهة قنص تؤرِّق ليلَه بعوضةٌ فما فوقها فتحرمه النوم، أو تفتك به كائنات مجهرية تدبّ فيها حياة لا تُدركها الأبصار.
لم تكن "المعركة" مع الطبيعة وحدها، فالإنسان لم يزهد في "حداثته" في الاستحواذ على امتياز تخويف أخيه الإنسان، فاستغلّ ما طوّره من علوم ومباحث نفسية واجتماعية في إذكاء نوازع الرّهبة ووظّف التقانة في بعث الهلع بين البشر أنفسهم، وخاض بذلك حروباً ميدانية ونفسية ضارية. سارع الإنسان إلى توظيف معارفه في تكديس مقوِّمات القوّة والتباهي بها، ومن مقاصد الأفراد والجماعات والدول والجيوش والتحالفات الأممية في استعراضها؛ تحقيق الرّدع وبثّ الخوف من فكرة التحدِّي، الذي بلغ مبلغه في رعب نووي تجاوز – حتى حينه - كلّ ما أدركه البشر من أساليب الرّدع الأخرى. أدرك الإنسان في ذروة صعوده أنه على شفير هاوية، وأنّ أداة القوّة التي اقتدر عليها كفيلة بأن تخيفه هو ابتداءً، وأنّ أداة الفتك التي تباهى بها في لحظة هيروشيما ونكازاكي قد تنفلت من عقالها بسهو لا يسلم منه مبتكرها ومطوِّرها.
تجارة الخوف
تتهاوى قطاعاتٌ وتنهار صناعاتٌ وتبور تجاراتٌ إنْ انقشع الخوف وتبدّدت الرهبة. فلا تنهض شركات التأمين بدون خوف تستثيره ثم تتطوّع بتقديم "حلولها" لما يؤرِّق الزبون المحتمل. وتحرِّك بعض شركات الحماية الإلكترونية مخاوف الجمهور من القرصنة، وبعضها يخصِّص أفلاماً ترويجية لعرضها على مديري المؤسسات الكبرى تحاكي مخاطر اختراق بياناتها بما يستنفرها لشراء أنظمة الحماية المعروضة.
يتضخّم اقتصاد الخوف في عالمنا، وهو يعمل باستثارة مزيد من التخويف لدفع الجمهور إلى شراء أنظمة مراقبة وإنذار مثلاً، بينما تحقِّق التعاويذ والتمائم والاستلهام من قوّة متوهّمة في الأحجار الكريمة رواجاً واسعاً في معاقل "العقلانية" ذاتها. وتكشِف بعض الوقائع عن ضلوع بعض بؤر الصناعة الدوائية في زيادة جرعة التخويف من جوائح داهمة، للفوز بتعاقدات مع هيئات الدواء والجهات الصحية المختصّة تحت تأثير معطيات مضلِّلة تبثّها بين الجمهور، ومن ذلك فضيحة نشر تقارير في الولايات المتحدة سنة 2005 بالغت في تقدير مخاطر "إنفلونزا الطيور" لاستدراج السلطات الصحية الأمريكية إلى التعاقد مع الشركة المنتجة لعقار "تاميفلو" الذي يثور الشكّ في فعاليته وجدواه.
لا تقتصر تجارة الخوف على مستوى واحد أو مجالات محددة، فالعيْن الفاحصة ستلحظ اشتغالها في حقول شتى وقد يمارسها بعضهم بعناية من حيث لا يَحتسب الجمهور. تلجأ بعض الخطابات الجماهيرية إلى فنون التخويف للتمكين لمقولاتها بفرض سطوة غير ملحوظة على وجدان الناس وأذهانهم. يستدعي بعض المتحدثين، مثلاً، أعراضاً تُقلِق الجمهور وظواهر تخيفه، كي يستولي الجزع على القلوب وتتمكّن الرهبة من النفوس ثم يُعرَض ملاذ مزعوم يَعِد الجمهرة بالخلاص والطمأنينة شرط تنازلهم عن قناعات مُسبَقة يبدو هيِّناً إزاء مخاوف بُعِثت من مراقدها. هكذا – مثلاً - يُستعمل التخويف الرمزي في فرض تحوّلات، ولدفع الناس إلى المروق من قناعات وتصوّرات ومواقف، وهو أسلوب لا تزهد به "حروب الأفكار" عندما تمنح الانطباع بأنّ المكوث على عقائد وأفكار مخصوصة سيعود على ناسِه بعواقب جسيمة وخسران مؤكّد. قد يُقال مثلاً في أساليب التخويف الخطابية هذه: "إن لم تتغيّروا سيفوتكم القطار". إنّ محاولة ترويج أفكار محددة وقناعات مخصوصة تحت سلطان الخوف المحبوك على هذا النحو يفرض التشكّك في سلامة المقصد وصلاح المنهج، علاوة على أنّ خطابات كهذه تستقوي بهواجس المستقبل وتغترف من منطق الحتميات التي لا فكاك منها، إدراكاً منها أنّ الإنسان مجبول على خشية من آتٍ لم يجرٍّبه بعد، وأنّ الحنين يشدّه إلى ماضٍ يبدو له "جميلاً" لمجرّد أنّه جرّبه وأَلِفه واجتاز محطّات ونجا من عواقبه.
خوف على لقمة العيش
قد يُوْدي الخوْف بمن يرضخون لسلطانه إلى مسالك متطرِّفة وقد يستدرجهم إلى اختيارات عابثة، وقد يتبيّن من بعدُ أنها ما كانت إلاّ هواجس ساذجة انبعثت من أوهامهم وتحرّكت من ظنونهم، والظنّ لا يُغني من الحقّ شيئاً. وقد يبلغ الأمر حدّ قتل الأولاد خشيةَ إمْلاق؛ بأنْ يُخشَى عليهم من الفقر والفاقة، أو أن يُوْرِثوا والديهم مثل ذلك من بعدُ، في خوْف سقيم يطمس الوعي بمفهوم الرِّزق وحقيقة أنه من الله تعالى.
قد يتفاقم الخوْف على لقمة العيش فيُلجئ الأفرادَ والمجتمعات إلى الانصياع وخفض الرؤوس واستمراء المهانة، وقد يتنازل القوم طوْعاً عن أقساط من حريّتهم وكرامتهم فتُضرَب عليهم الذِّلة والمَسكنة. تُستعبَد الشعوب بالخوْف على رغيف خبزها، فإنْ مُسّ الرغيف هبّ بعضها وانتفَض، وستدرك حينها أنها اجتازت خوفها المديد من حيث لم تحتسب، فتكتشف جدارتها بالتحرّر من سطوة الاستبداد التي انعقدت في وعيِها. هكذا تنقل الجمهرة من مطالباتها الأولى بقوت عيالها؛ إلى خوْض ملحمتها لأجل حريّتها وكرامتها، وهذه من سيرة الثورات.
إنّ ارتهان المجتمعات للوظيفة العمومية دون عقد اجتماعي ضامن لحقوقها وأنظمة حامية لحريّاتها؛ كفيل بأن يعزِّز ثقافة الخوْف على لقمة العيْش بما يُفضي إلى طأطأة الرؤوس إزاء المشغِّل الذي هو الدولة؛ أو النظام بالأحرى. يطوِّق الرّاتب أعناق "شعوب آخر الشهر" التي ينضمّ إليها في كلِّ موسم مبتعثون تخرّجوا من جامعات الأمم التي تحرّرت من العبودية للحاكم ونظامه وعاشت الديمقراطية ومارست حقوقها. تنخرط الأجيال الجديدة من هؤلاء وهؤلاء في ثقافة الانصياع المتكرِّسة، ومعها تتعلّم طقوسَ الخضوع للقابض على السلطة ورفع صوره وحفظ مقولاته والتزلّف إليه خوفاً وطمعاً، لأنها تحسب أنها تأكل خبزها من يديه، وقد تبوح علناً بما يشي بذلّتها واحتقارها لذاتها إزاءه، مثل القول إنّ "لحم أكتافها من خيْره"، وأنها بدونه لم تكُ شيئاً مذكوراً، وهي من تجلِّيات العبودية الرمزية التي ينخرط فيها المسجّلون على "قيد" الراتب والطامحون إلى العلاوات والامتيازات والأعطيات والجوائز، وجميعاً مؤهّلة لأن تصير أصفاداً ترضخ لها الأيدي وتخضع لها الرقاب.
سلطة الخوف والتخويف
يحرص الاستبداد على تظهير صورة وديعة عنه، وأخرى مشبّعة بأعراض القسوة والبطش، فوقائع التنكيل التي يمارسها بحقّ معارضيه وما تجود به من حكايات مرعبة؛ تعزّز سلطانه بالخوف فيصير الأحرار عبرة لمن تراوده أشواق الحرية. ولا يكفّ الاستبداد عن تخويف المجتمع من عواقب الحرية؛ فإن انتفى الخوف تحرّر البشر. ومن شأن الثورات أن تنقدح عندما تتجاوز كتلةٌ حرجة من مجتمعها حاجزَ الخوف وتقتحم العقبة، وقد يستلّ المستبدّ سيفَه في وجه شعبه ثأراً لهيْبته الضائعة وتصعيداً لمنسوب التخويف عن سابق عهده. يفسِّر هذا ما يُرى من استشراء الاستبداد بعد الانقلابات على عهود الحرية والديمقراطية القصيرة، فيتفاقم الطغيان قياساً بخبرة الاستبداد التي سبقت الأنفاس الطليقة، فتكون نسخة الاستبداد المفروض بعد عهد حرية أشدّ وطأة من سابقتها. ومن التخويف من عواقب الحرية أن توظّف شواهد الأشلاء والأنقاض التي غمرت بلداناً لم يرضخ طغاتُها لإرادة شعوبهم، فيُدفَع بهذه الخبرة المرئية رادعاً مشهوداً على سوء المصير الذي سيلحق بمن يحاول تجريب حريّته.
لا يزهد الاستبداد بالحضور المصوّر، فالمستبدّ يفترش بصوره وتماثيله وشعاراته الميادين والمرافق العامّة ووسائل الإعلام والشاشات والشبكات والمطبوعات والكتب المدرسية. وإنْ تحرّت النزعة الصنمية تكثيف هالة التعظيم والتمجيد والقداسة حول القابض على السلطة؛ فإنّ لحضوره المصوّر في أرجاء البلاد سلطته الرمزية وسطوته المعنوية أيضاً. من رسائل التكثيف المصوّر أنّ الحاكم حاضر في كلِّ مكان بما يشي بنزعة تألّه كامنة؛ فهو يتعقّب شعبه ويراقبه بعينين مفتوحتين على مدار الساعة؛ في الميدان والمدرسة والجامعة وموقع العمل والدائرة الرسمية وعيادة الأسنان وقد تُعلّق صورته في غرفة الجلوس أيضاً، ولن تخلو من إطلالاته المصوّرة برامجُ المساء والسهرة، وستُلازم المواطن في جهازه المحمول باليد حتى لحظة الغفو. يُطارد الحاكم المتسلِّط وجدان مواطنيه، فهو يأسر قلوبهم أو يؤنِّب ضمائرهم، وقد يحرِّك الرهبة في صدورهم، أليس هو مَن يتجلّى بوجهه في كلِّ مكان حتى يخال بعضهم أنه يراقبهم آناء الليل وأطراف النهار، بما يعزِّز ثقافة الخوف التي تباشرها أجهزة الرقابة في الظلّ، وتتأكّد الهواجس لدى رؤية الصوَر ذاتها معلّقة في حجرة التأديب المدرسيّ أو عند أول استدعاء أمنيّ. فمن يُمارِس سلطة التأديب والترهيب بصفة مباشرة في مكتبه يبدو مفوّضاً بذلك من صاحب السلطة الفوقية المتجلٍّية بصورتها على الجدار.
يظلّ توظيف الخوْف أسلوباً في الهيمنة على المجتمعات والشعوب. يُتقِن الحُكم السلطوي، مثلاً، فنون تخويف المجتمع من المجتمع، مستعملاً حيلة "فرِّق تَسُد"، فيضع المكوِّنات المجتمعية في مواجهة بعضها بعضاً. قد يحرِّض الاستبداد على افتراق الشعب والأمّة حسب الأديان والطوائف، أو القبائل والمناطق، أو الأحزاب والمشارب؛ لينشغل كلّ مكوِّن بخندق مقابل؛ ويبقى النظام نقطةَ التقاء وعنصرَ توازن وضرورة وجود. إنها الخبرة ذاتها التي تُمارِسها بعض قوى الهيمنة الخارجية عندما تبسط نفوذها المباشر على أمم أخرى؛ بأنْ تحاول إضعاف الشعب الواقع تحت الاحتلال أو الوصاية باستنفار مكوِّناته بعضها ضد بعض وإثارة العداوات والمخاوف بينها. تُمارَس هذه الحيلة مع الهيمنة على إقليم من فتات الدول الموزّعة على حظائر التجزئة، باستثارة مخاوف متبادلة بينها تستدعي الاستقواء بقوّة خارجية مهيمنة على الجميع.
خذها ولا تخف
يقتضي التهيُّؤ لمواجهة السطوة اجتيازَ حاجز الرّهبة ابتداءً، وهو ما تحقّق لموسى عليه السلام في تجربة الوادي المقدّس استعداداً لمهمة تاريخية بمخاطبة فرعون في علوِّه وطغيانه، مع ما تفرضه هذه المهمّة من تحدِّي النظام الفرعوني ومناجزته في موقف يوم الزينة.
من شأن تجارب الخوْف الأولى أن تحسم المآلات، فإنْ تمالَك الإنسان نفسَه إزاءها، وأطفأ جذوة الرهبة المتّقدة في صدره برشفة الطمأنينة، وبادر بالتصرّف فأقدَم ولم يُحجِم؛ اقتدر على الاستعلاء على واقع مفروض عليه بتحجيم بواعث الرهبة واستمداد القوّة من مظانٍّها حتى في مواجهة اختبارات مصيرية شاقّة.
تتأتّى للمؤمن قوّةٌ لا تضاهيها قوّة، فهو يزهد بقوى الأرض جميعاً ويتعالى عليها بيقينه العظيم بالله تعالى. لا عجب من كبار السحرة في يوم الزينة، بعد أن اشرأبّت أعناقهم أوّل اليوم إلى الأعطيات والحظوة التي يجود بها فرعون على الملأ من حوله؛ وكيف انقلب هؤلاء في آخر يومهم من تسخير فرعون لهم إلى اجترائهم الجسور على تحدِّيه ومناجزته الشجاعة له واستهانتهم الباسلة بأساليبه في الترهيب والعقاب فأسفرت عن عجزها وخيبة رجائها. انقلب يوم الزينة من موقف أُريد منه تكريس نظام السطوة الفرعونية إلى مشهد تهاوت فيه على رأس صاحبها وانقشعت هالتها الزائفة من الأذهان والوجدان. تبدّدت السطوة الرمزية فاضطرّ فرعون إلى لجوء فوري إلى السطوة العملية؛ بإطلاق إداناته الجاهزة لجوقة السحرة والإمعان في تهديدهم والمبالغة في توعّدهم بأشدّ العذاب. اكتشف فرعون أنّ قوّة ردعه تعطّلت تماماً عن آخرها فأعجزت نظامه عن بلوغ مقصده منها؛ فتخبّط فرعون وانساق في مطاردة عبثية انتهت بهلاكه المشهود، ولمّا أدرك أنه غارق لا محالة أعلن دخوله في زمرة المؤمنين، بعد أن فات الأوان.
ينسبط موقف يوم الزينة مثالاً تاريخياً للناس كافّة في الاستعلاء على سلطة الخوف والرهبة، فالمجتمعات التي تتسامى بتضحياتها، وترتقي بمصابرتها، وتستهين بجراحها، وتزهد بآلامها؛ قادرة على تجسيد صمود ملحميّ يعُجِز الطغيان ويواجه العدوان، فكيف بها إن تسلّحت بإيمان عميق وأدركت أنّ دنياها مقطع عابر في خيط الزمن، وأنّ معادلة الثواب والعقاب لا تنحصر في الدنيا وإنما تتجاوزها؟
لا ينفك البشر عن خوف يخالج أنفسهم، ولا غنى للإنسان عن أن تنتظم معادلة الخوف لديه بمعيار موزون، فهي إن اختلّت أو انقلبت آلت به إلى اضطراب جسيم أو خُسران مُبين. أدرك السحرة في موقف يوم الزينة أنّ لله القوّة جميعاً، فأجهزت خشيتُهم من الله تعالى على ثقافة الخوف التي استبدّت بالأتباع في النظام الفرعوني. إنّ استسلام الإنسان لخوفه من الإنسان يُفضي به إلى انصياع أو عبودية؛ وإن تجلّت أماراتهما بصفة رمزية غير صريحة. إنّ التكبير هو هتاف الحرية الأصدق في عالمنا، إن أدرك الناس معه بحقّ أنّ الله تعالى أكبر من كل ما يُحسَب أنّه عظيم ومهيْمن، وفي لحظة السجود لله تعالى تتجلّى الحرية والانعتاق بما أنها موقف إعراض عن قُوى الأرض وشواغلها ومرتقى يقترب فيه الإنسان من خالقه القويّ المتين (فاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ). إنّ بديل السجود لله تعالى أن يخضع الإنسان لما يخيفه ويُهيْمن عليه، أو لما يستبدّ به من هواجس ونزعات وشهوات يحرص عليها ويخشى خسرانها؛ وإنْ تباهى بانعتاقه وتحرّره؛ أو توهّم أنه حسَم – أخيراً - معركته التاريخية مع الخوْف والرهبة.
وسوم: العدد 833