الخَلِيلُ.. فِي المَعْقُولِ مِنْ تُرَاثِنَا...
تتباين الرؤى إلى التراث العربي بحسب القيمة والمنهج العلمي والمصلحة لكل مفكر أو أديب، وتتنازع عاطفته ميل حاد نحو التقاطع معه في نقاط، أو قطيعته بالكلية، أو إقامة توازن تلفيقي أو توفيقي لضرورة يراها.
وبقدر المسافة المقطوعة بين السعي إلى التراث أو الفرار منه، بحسب المسافة المضروبة نحو المعاصرة بالرفض لكل معطياتها لدرجة الخصومة، أو الانبهار بها إلى حد الذوبان إن لم يكن الغرق مع رفع لافتات تندد بالتراث بالكلية وتحميل كتفيه وعنقه بأوزارنا وخطايانا من التخلف عن ركب الحضارة المعاصرة.
ويظل "التراث" في تعريفه أو توصيفه مبهمًا أو مجهولًا على الشيوع، وإن اتحدت معانيه لكل جماعة حددت مفهومًا إصطلاحيًا له، تبني عليه أطرها ودراساتها ورؤاها؛ فهناك من يعتنق الفكر العلماني فيتلبث بتلك النظرة الغربية التي تساوي بين التراث البشري والتراث الديني الإلهي، التي تخضعهما معًا للنقد والانتقائية وبالتبعية للرفض أوالقبول، بينما يمثل عند الغالبية العربية كتاب الله الكريم وسنة رسوله المطهرة في الجانب الديني، وكل مخطوطات ومنظومات الفكر العربي الإسلامي بكل فروعه ومخرجاته على مر العصور التي تلت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، أو ما سبقته فيما اصطلح على تسميته بالعصر الجاهلي.
يُحسب للدكتور زكي نجيب محمود صحوته في الالتفات نحو التراث مصحوب بلوم شديد لنفسه على هجره إياه؛ فقد كان من الذين نادوا ببتر التراث بترًا إذا أردنا أن نحيا حياة فكرية معاصرة، ودعوته للعيش مع من يعيشون في عصرنا علمًا وحضارة، ولكنه مع هذا لم يكن من المقبلين على التراث أيضًا بالكلية ينقل من تراث الأقدمين الغث والسمين، فالرجل عاش عمره في بوتقة الفلسفة والمنطق الوضعي، واعلاء العقل وسيادته في الأمور كلها، ولذا فقد سبر أغوار تراثنا العربي وشطره بين المعقول فيه واللا معقول منه؛ فالمعقول التمسه في قراءة نهج الأقدمين عند حل مشكلاتهم بالمنطق العقلي وصولًا إلى النتائج، وأما المجافي للعقل من شطحات وخوارق وكرامات فقد ضرب صفحًا عنها.
من الذين اختارهم الدكتور زكي نجيب محمود وأعجب بهم ــ من وجهة نظر عقلية بحتة ــ هو الخليل بن أحمد، إذ كان له مكانة كبيرة في مختاراته من المعقول في تراثنا، وفي ثنايا سطوره يبدو رفض بات ــ وعلى إيجازه قاطع ــ بنسبة معجم العين إلى تلميذه الليث بن المظفر بن نصر، وسيشير إلى الدكتور شوقي ضيف وكان ممن تبنوا هذا الرأي، بل بتأثر الخليل بنحاةِ السنسكريتية من الهنود في نظامِ ترتيب الأصوات، وهو من الظلم البين الذي ظل يطارد سيرة الرجل العلمية في عصرنا وما قبله.
يسرد الدكتور زكي نجيب محمود حيثيات اختياره للخليل بعد أن يقدم له، فيقول: (عاش الخليل بن أحمد على طول ثلاثة أرباع القرن الثامن الميلادي الأخيرة، وكان أهمَّ ما شغله في أعوامه النشيطة من حياته، نظرات فاحصة نافذة عميقة مستوعبة، في اللغة العربية وفي نحوها، وفي الشعر العربي وبحوره، وإن الواحد منا ــ نحن أبناء القرن العشرين ــ إذا ما كرَّ راجعًا ليقع منه البصر على رجل في علم الخليل وفي علمية نظره، ثم في بساطة عيشه، لتأخذه الدهشة مما يرى؛ فمث هذا الذكاء الخارق، وهذه المنهجية في النظر والتصنيف والوصول إلى القواعد الصحيحة، لو كان هذا كله في عصرنا نحن، لأصبح الرجل بغير أدنى شك من أئمة علماء الذّرة أو أعلام التكنولوجيا؛ فالعبقرية أداة فعالة في أي مناخ وضعتها فيه، فإذا وضعتها في عصر تشغله المسائل الفلسفية كما كانت الحال في مناخ اليونان القديمة، كان لك بذلك أفلاطون أو أرسطو، وإذا وضعتها في عصر تشغله مسائل العلم الطبيعي، كما كانت الحال في أوروبا خلال القرن السادس عشر وما بعده، كان لك بذلك جاليليو أو نيوتن، ولقد وضعت هذه العبقرية في البصرة خلال القرن الثامن، حيث المناخ الفكري مشحون بمسائل دينية بُنيت حلولها على دراسات لغوية، فكان لنا رجل كالخليل.. وما ظنك برجل يضع للغة العربية أول معجم "لقد قيل إن معجم ’’العين’’ المنسوب إلى الخليل، والذي نتحدث عنه الآن، هو في الحقيقة من عمل تلميذه "الليث" ونسب خطأ إلى الخليل ــ راجع في ذلك الدكتور شوقي ضيف في كتابه "البحث الأدبي" ــ لكننا نؤثر هنا أن نجري على العرف الأشيع، فالمهم في موضوعنا هو الكتاب لا الكاتب"، ويستخرج للشعر العربي للمرة الأولى بحوره؟ إنك قد تمر على حقائق مذهلة كهذه مغمض العينين، فلا ترى أبعادها الفلكية إذا جاز لنا هذا التعبير عند الحديث على قدرة العقل البشري ومداها؛ فلقد ألفت عيناك أن ترى للغات معاجمها، فقد تقول لنفسك عندئذ: وماذا في معجم؟ كما ألفت أذناك الحديث عن تفعيلات الشعر وأوزانه، فربما قلت لنفسك هنا أيضًا: وماذا في حصر لتلك التفعيلات والأوزان؟).
يستطرد الدكتور زكي نجيب محمود بعد أن يتوقف ليضرب مثلًا معاصرًا لقارئه مبينًا له بداية ما صنع الخليل في وضع المعجم، وما انتهى إليه من سهولة التناول لمستخدمه في المقارنة بين المسافر الذي يسافر بالطائرة عابرَا المحيط الأطلسي ليصل إلى أمريكا في سويعات، وبين رحلة المكتشف كولمبس وهو يعبر المحيط "لأول مرة"، وسيلاحظ القاريء اتكاء الدكتور نجيب على "الأولية" والتعويل عليها في رصد العبقرية والعمل العقلي، وهو يشرح كيف صنع الخليل معجمه، فيقول: (فالخليل بن أحمد وهو يجمع ألفاظ اللغة العربية ليصنفها في معجم "لأول مرة" وأنت إذ تمد ذراعك إلى رف مكتبتك لتشد معجمًا تبحث عنه بُغْية لك ثم تعيده، إنما يفصل بينكما ما يفصل كولمبس عن مسافر الطائرة..لأول مرة في التاريخ يجمع الخليل أشتات المفردات اللغوية بقدر ما مكنته الظروف، ولأول مرة رتبها في معجم، وليس قبله معجم يحتذيه؛ ثم تزداد ذهولًا لهذه القدرة الفائقة، عندما نجد الرجل "يبتكر" ــ وأرجوك ألا تدع هذه الكلمة تمضي أمامك وأنت مغمض العينين ــ يبتكر طريقة فريدة في ترتيب الألفاظ في معجمه، فلقد وجد الخليل بين يديه طريقتين معروفتين في ترتيب أحرف الهجاء، فهنالك الطريقة التي تسمي بالأبجدية، وهي التي ترتب الحروف على غرار ما ترد في هذه الكلمات: أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ؛ وهنالك أيضًا الطريقة الأخرى التي ترتب الحروف على هذا النحو: ا ب ت ث ج ح خ ... ... إلى آخر هذه الحروف على الترتيب الذي نألفه ويألف أطفالنا إلى اليوم؛ فلا أخذ الخليل عند تصنيفه لمعجمه بالطريقة الأولى ولا أخذ بالطريقة الثانية، إذ لعله لم يجد فيهما أساسًا علميًا، ويكفي أنهما ترتبان الحروف ترتيبين مختلفين، لنعلم أن فيهما عشوائية لم ترضها نظرته المنهجية، "وابتكر" الخليل لنفسه طريقة ثالثة تقام على أساس علمي لا مجال فيها لاختلاف النظر؛ وذلك أنه لاتب الحروف بحسب مخارجها عند النطق، فأقصاها مخرجًا يرد أولًا في الترتيب، وأدناها إلى الشفتين يرد آخرًا، وما بين الأقصى والأدنى ترتب الحروف بحسب المخارج المتعاقبة؛ فكأن أن وجد لها هذا الترتيب: ع ح ه خ غ ق ك ج ش ض ص س ز ط د ت ظ ذ ث ر ل ن ف ب م و ا ي).
يتوقف الدكتور زكي نجيب محمود ليمسك بتلابيب قارئه ليلفت نظره إلى الطريقة العلمية التي انتهجها الخليل، والعملية الرياضية التي بنى على أساسها ابتكاره، فيقول: (وإني لأدعوك أيها القاريء مرة أخرى إلى النظرة المتهملة لئلا تفوتك هذه النظرات العلمية الجانبية، فكم من دقة النظر، وكم من موهبة في ادراك الصوت، يحتاجه إنسان ليتعقب الحروف المختلفة إلى مخارجها عند النطق بها، ليرى أيها أقصى من الحلق وأيها أدنى؟ ثم ماذا بعد فراغه من الترتيب؟ يجيء بعد تحديده لمواضع الحروف فس سلسلة التعاقب خلال معجمه، استقصاء للألفاظ، ليصنفها؛ وحتى هنا لا تراه يكدس الألفاظ بعضها إلى بعض كأنها الغلال المكومة؛ بل يحصرها أولًا في أنواعها من حيث مبناها ــ وهو هنا يستعين بما ذكره الصرفيون من قبله في حصرهم لأبنية الكلمة، فهي إما ثنائية، أو ثلاثية، أو رباعية، أو خماسية ــ شأن العلماء في أخذ النتائج الصحيحة بعضهم من بعض، حتى لا يبدأ كل عام من الصفر، وكأن لم يسبقه علم ولا علماء. وبعملية رياضية بارعة، استطاع أن يحصر ــ من الوجهة النظرية الرياضية الصرف ــ كم صورة لفظية يمكن أن تنتجها لنا هذه الأبنية الأربعة في تباديلها وتوافيقها؟ فالعدد الناتج هو حصر كامل لصور اللفظ العربي).
ولم يتوقف إعجاب الدكتور زكي نجيب محمود بما صنعه الخليل في معجم العين حتى ينتقل إلى ما صنعه في الشعر حين استخرج من الشعر صوره بعد تفريغها من مادتها، فإذا هذه الصور ما نعلمه من أوزان الشعر العربي وبحوره، ثم يلتفت الدكتور نجيب إلى قارئه منبهرًا متسائلًا: (فبأي الرجال تقيس الخليل في عمله ذاك، إلا أنها تقيسه إلى قمة شامخة مثل أرسطو اليوناني، حين استعرض الأقوال العلمية التي تديرها حوله ألسنة العلماء في مختلف الميادين فإذا هو يفرغ تلك الأقوال من مادتها ليقع على صورها، وإذا هذه الصور هي "المنطق" الذي لبث عماد الدنيا المفكرة بأسرها، منذ أيام واضعه اليوناني وإلى عصرٍ حديث، قريب جدًا من عصرنا الراهن، حين لمح الرياضيون المحدثون في صياغات العلم الحديث صورًا أرى تباين الصور الأرسطية الأولى؛ وهكذا صنع الخليل للشعر العربي حين أفرغه من مادته ليرى على أيّ الصور العروضية ركِّبت تلك المادة).
إن المُطالِع لمؤلفات الراحل زكي نجيب محمود ليدرك أن الرجل لا يعرف إلا القواعد العلمية والعقلية ذات المنهجية المحكمة الصارمة، وأن من يتابع الشق الآخر من اللامعقول الذي أقصاه ولم يؤيده، سيتبين له فرادة الموقع الذي احتله الرائد المبتكر العبقري الخليل بن أحمد الفراهيدي في معقول تراثنا العربي لما تبناه من منهج علمي رياضي منطقي محكم أدهش علماء اللغة، كما أدهش الفلاسفة والمناطقة على السواء، في الوقت الذي يتصاخب بعض المعاصرين حوله للمروق من طريقته، والتمرد على منهجه الذي ما زالت أقلام المتخصصين في اللسانيات واللغة وعلم الأصوات والعروض وغيرها من علوم تنتقل من محابرهم لصفحات دراساتهم وبحوثهم المنهجية الأكاديمية لتدوِّن بالتأكيد مدى وثاقة ومواكبة ومطابقة ما ابتكر الخليل لقواعد ونتائج العلم الحديث.
وسوم: العدد 652