في تجديد الخطاب الدعوي

مِن المسلمّات التي اتفق عليها عقلاء كل عصر: أنَّ لكل زمانٍ حديثه ولكل عصرٍ خطابه, ولكل مخاطَبٍ أسلوب يليق به, بل البلاغة –كما قِيل- هي سَوْقُ الكلام الفَصِيحِ على مقتضَى الحال بحسب المقَامَات والأحوال, لكن في عصور التخلف والانحطاط تتبدَّل القواعد, وتتغيَّر القوانين, وينتحر المنطق؛ لهشاشة العقول وتسمُّم المُناخ وبطْش الأنظمة وثِقَل السَّوط ؛ فقد وُسِّد الأمر لغير أهله, وارتقى الصغار بعدما غاب- أو غُيِّب- مُعظم الكبار, وقد قَلَبَ لهم الزمانُ ظَهْر المِجَن؛ لحاجةٍ في نفس مَن يخشى اللسان الفصيح, والعقل المستقل, والفكر المستنير .

   فعَمِلَ هؤلاء الذين فُتحت لهم النوافذ, وأُتيحت لهم المنابر, ورُصدت لهم الهدايا والجوائز عَلَى لَيِّ أعناق النصوص, وتوظيفها في غير ما جاءت له؛ خدمةً للجوِّ العام, ومسايرةً للتيار الجارف, وإرضاءً للمكافِئ, وإن كان في ذلك معصية وإثم هُمْ أدرَى الناس بها وبعقوبتها, ولكن حُبُّ النفاق يعمي ويصم!!

    يستخدمون النِّعم التي مَنَّ الله عليهم بها مِن ذاكرةٍ تحفظ النصوص, ولسانٍ طلْقٍ يبهر المستمعين, وحُجةٍ دامغةٍ تقنع المتلقين, لكن-وللأسف- تُوظَّف هذه النِّعم حسب الأوامر التي تصدر إليهم ممن يَمْلكون المنِّ والسلوى, بل-أحيانًا- يتزلَّف من غير مقابل؛ فيبيع- يا لحسرته- دينه بدنياه , أو يا لخسارته المُركبَّة, يبيع دينه بدنيا غيره, فيكون مِن أسْفل السَّفلة, كما قال بذلك السلف.

    فتراهم يَحثُّون الناس على التواضع والزهد في العيش, والصبر على المصائب, والرضا والقناعة بالمقسوم, والترغيب في الذِّلة والمَسْكنة, ويستجدون الأحاديث النبوية الصحيحة منها والموضوعة, ويخرجونها من سياقها, ويوظفونها حسب الرغبة والتوجُّه(الأوامر), في حين أن مخاطبيهم من الدرجة العاشرة – إن وُجدت لهم طبقة- لا يجدون الحد الأدنى من العيش, بل هم يغرقون في براثن الفقر والجهل والتخلف والأمراض المزمنة التي تقتلهم بالبطيء, في غيابٍ كاملٍ لدَور الرعاة والولاة, مع التوازي بالجهدٍ المحموم من الوعَّاظ والدعاة في تخدير وتسكين هذه الطبقة الكادحة السائرة -بخُطًى واثقةٍ- إلى القِفار أو القبور!!  

    يقارنوهم دومًا بالأسوأ منهم في معيشتهم, ولا يَقْربون من النماذج الطيِّبة الجيِّدة التي حولهم, فانظر إلى من دونك لا إلى مَن هو فوقك, وليكن الحمد شِعارك, والشُّكر دِثَارُك, وإلا تبقى من المعترضين على قضاء الله لك, وهو ما يجعلك في قائمة العصاة والمذنبين, لا تُقبل له توبة, ولا تَصحُّ له أوْبة إلّا بهَدْيٍ يذبحه إلى وليِّ النعمة وصاحب المقام العالي, داعيًا له بطول البقاء ورغد العيشُ, يكفي أنه يستعبده في أمان!!

    وهذا ما ازدراه الأديب العبقري "أحمد أمين"(ت 1954م) في كتابه "فيض الخاطر"- والذي رحل قبل أن  يشهد  أشدِّ عصور الانحطاط  التي نحياها الآن- فيقول في مقالته "العِزَّة" (ج2, ص 149, باختصارٍ يسير) : " وأؤكد أن أكثر المتكلمين في الأخلاق من المسلمين لا يعرفون زمانهم, ولا يعرفون أمتهم ولا يعرفون موقف أمتهم من زمانهم, يرونهم أذلةً فيدعون إلى الذِّلة, ويرونهم زُهَّادًا بالطبيعة فيُمعنون في طلب الزهد, فإنْ هُم تلطَّفوا قليلًا طلبوا منهم الرضا بالبؤس وألصقوه بالقدر, وجعلوا ذلك كلَّه ضربًا من التقوى والإيمان, وهم بذلك يُداوُون جوعًا بجوع, وجُرحًا بجرح, وسُمًّا بِسُم, وكان يجب أن يداووا  جوعًا بشبع , وجرحًا بضماد , وسُمًّا بترياق".

    أما العدل  وأهميته في بناء الأمم, وعاقبة الظلم والبغي, وسفك الدم الحرام بغير حق, وحبس الأبرياء دون ذنبٍ أو جريرة, وتغيير المنكر بمراحله المختلفة , وإعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه, حق الراعي على الرعية, وحق الرعية على الراعي,  وشروط الحاكم  والصفات الواجبة فيه: فخارج قاموسه ومُعجمه, ومَناط تفكيره .

      ثم لا يتوقفون– هداهم الله- عند هذه المرحلة, فتجد سَلوتهم في حب الوطن, والحفاظ عليه, فقد شرب من نِيله وتنفَّس هواءَه, وأكل من خيره , وهو كلامٌ لا مراجعة فيه ولا مراء ؛ فحُبُّ الوطن- باتِّساعه وشموله- من الإسلام, ويجب الذّْود عنه, والمحافظة عليه من كل مُحتلٍّ أو أهوجٍ مرعون, ومن قُتلَ دونه فهو شهيد, لكن– مع ذلك- يجب أن يُعلم أن الذي يَحكم الوطنَ مسئولٌ– أمام الله ثم أمام الناس- عن الحدِّ الأدنى لضروريَّات الحياة .

     إنه الوطن الذي يُسوِى فيه بين الناس في الحقوق والواجبات, إنه الوطن الذي يَجْهد فيه رَأْسُ هَرَمِه للتخفيف على الناس, لا كسر ظهورهم بضرائب باهظة, وفواتير مرافق غير موجودة من الأساس وغلاء فاحش للأسعار واختفاء السلع الأساسية, وإن وُجدت فبِشقِّ الأنفس!!

    إنه النظام الذي أقرَّه أمير المؤمنين"عمرُ بن الخطاب", رضي الله عنه, – فيما نُسب له- وقد سَأل الصحابيَّ الجليل"عمرو بن العاص" عندما ولَّاه مصر: "إذا جاء سارقٌ ماذا تفعل به؟", فقال عمرو بن العاص: أقطعُ يدَه, فقال له "عمرُ بن الخطاب": "وأنا إنْ جاءني جائعٌ من عندك قطعتُ يدك". 

    فإذا ما انقطعت بهم السبل وضاقت بهم الموضوعات: تجدهم يملئون الفراغ بحبِّ "النبي"– صلى الله عليه وسلَّم – وآل بيته الكرام, وهو شيءٌ طيب, وأمرٌ محمودٌ يُثاب فاعله, لا ريب, لكن هذا كله هو فعل الشرط -إن صحَّ القياس- وتنتظر لتسمع الجواب والجزاء فتجده يُلملم حديثه ويختم خطابه الأجوف؛ هروبًا من الإقتداء بهم في أعمالهم المُشرِّفة ومواقفهم النيِّرة, وتحكيمٌ للإسلام في حياتهم وتطبيقهم العمليِّ-رضي اللهُ عنهم أجمعين- لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, في محاولةٍ منه لدغدغة المشاعر, وإثارة العواطف, وتكريس الحب المُزيَّف المغشوش, لا غير.  

    إننا لفي أشد الاحتياج إلى خطاب دعويٍّ يناسب الحالة التي تحياها الأمَّة, وهي في صراعها مع المشاريع الأخرى التي تستهدف وجودها, ومحو هُويتها والنَّيل من ثقافتها, وتشويه تاريخها المشرِّف العريق المتربِّع على قِمَم الشرف والفَخَار.

     إننا لفي أشد الاحتياج إلى دعاةٍ يُبلِّغون رسالات الله ويخشونه, ولا يخشون أحدًا إلا الله , يدعون إليه على بصيرةٍ, مُتسلحين بعلوم العصر, مُدرَّبين على مهارات التواصل والإقناع وحل المشكلات, والتأثير-بحقٍّ- في الجماهير؛ حِسبةً لله ورغبةً في مرضاته, ونُصرةً للدين القويم والملَّة الحنيفة, وتطبيقًا لكتاب الله العزيز في واقع الناس المَعِيش, شريطة أن يكون قدوةً لهم , يجتهد في العمل بما يقول.

 إننا لفي أشد الاحتياج– وقد أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب أن يبينوه للناس ولا يكتمونه- لإدارة هذه الإمكانات المادية والموارد البشرية إدارة يغلب عليها الصدق والإخلاص والتجرد, والعمل لمصلحة هذه التكليف الربَّاني, باختيار الكفاءات, وكفايتهم الماديَّة والأدبيَّة والتدريبيَّة, دون النظر إلى أيِّ اعتباراتٍ أخرى, وتحييد هذه الملف عن أيِّ صراعاتٍ ضَيِّقة, لا نجني منها سوى الضعف والتقهقر, وتغييب الوعي الجمعيِّ للأمة المكلومة .

وسوم: العدد 693