الفضاءات الشعرية تنفتح في ديوان" حكاية تروي البحر" للشاعر الكبير محمد خالد النبالي

clip_image002_062e1.jpg

26/7/2014

لايتجاوز الوعي الابداعي الانساني الموجودات التي تحاكي ذاته، وتنشأ علاقة وطيدة مع سياقه الوجودي من جهة، وسياقة التاريخي من جهة اخرى، هذا ما يقدمه لنا ديوان " حكاية تروي البحر"  المتضمن ل (35) نص شعري مميز، وذلك عبر حالة شعرية ذات خصوصية واضحة، وبراعة في ابتكار اللغة والصور بعيداً عن ما هو مألوف من خلال فضاءات شعرية متنوعة اثمرت نضجاً ووعياً متنامياً لدى الشاعر في ديوانه الرابع، من العنوان نلمس قيمة الوظيفة الاغوائية او التاثيرية  التي انتهجها الشاعر وذلك بوصفها آلية ذات طابع تحريضي، تنطوي على فعل القراءة الذي يعد بشكل من الاشكال ممارسة تفكيكية من حيث هي قراءة في دوال النص وآلياته، ومن ثم نلاحظ تلك المساحة والفضاءات الشعرية التي اشتغل عليها سواء من حيث فضاءات النفس او الواقع او التاريخ.

وتعتبر فضاءات النفس هي من مرتكزات هذا الديوان باعتبار ان الذات الانسانية تقبع في خضم هذه التجربة بين معطيات تفصيلية منوعة منها تلازمية ومنها تفاعلية واخرى شعورية لايمكن حصرها في اتجاه محدد دون الاخذ بنظر الاعتبار الاتجاهات الاخرى حتى ان كانت مغايرة ومتضادة معها، وعلى هذا الاساس عاش شاعرنا فى مهمة لا تنقطع، يبحث باستمرار عن ذاته الحقيقية، ويسعى لتعريف العلاقة بينها وبين العالم، ومن هنا كان يقدم ذاته ويطرح نفسه كمشروع إنساني لا يقف وراء ستارة بل تجد ذاته حاضرة في اغلب ان لم نقل كل نصوصه " وانا حبل ممزق انتظر / حورية البحر" و " ماعدت ادرك لي ارادة/ طيف" و " لكنك لاتأمرين بسوء وانا لاادري/ تزواج القناديل" و " أتسحر والغراب يأكل من رأسي/ تجلت الاقمار" و" انا اسافر لوحدي/ انفاس المطر" و" انا ظلم لنفسي/ اعصار الحب" ووردت انا بصورها المختلفة في نصوص اخرى كنص شمس اخرى وغياهب الشوق ورحيل النوارس مما يشير وبوضوح الى تجلي الذات في التماساته الوجودية وترويه الصوفي.

على هذا الاساس نجد بأن فضاءات النفس اخذت حيزاً كبيراً في الديوان بل وكما اسلفنا القول شكلت احدى اهم مرتكزاته وهذا ليس بامر غريب على الشعر الحداثي الذي تعتبر فضاءات النفس هي الاقرب الى وجدان الشاعر والاعمق في تشكيل تجربته الشعرية والاصدق في التعبير عن معاناته وهمومه واماله والامه واحواله واندهاشاته وقلقه واغترابه وانكساره وانتصاره وقوته وضعفه كما يقول " د. احمد الزعبي" .

لقد تمخض عن فضاءات النفس جملة قيم تقويمية ذات علائقية واعية بالذات الشاعرة وشكلت من خلال مكوناتها وتراكيبها الدلالية معالم صورية مبتكرة منتمية بوجوديتها الى الذات، ومعبرة بنسقها التوظيفي عن مدى المؤثرات البرانية والتي تمثلت في الكثير من الاحيان بالبحر وماسواه في السياق الاجمالي للنصوص.

اما فضاءات الواقع  فقد انبثق منها صور اغترابية اخرى تتناسب الانغماسات الذاتية في العمق الوجودي المنحاز هنا الى التشاؤمية او العدمية باعتبارها صورة مستنبطة من منطومات الواقع نفسه، سواء على المستوى الاجتماعي او العاطفي او الثقافي او غيره من المستويات التي ساهمت في تشكيل رؤية الشاعر وموقفه وفلسفته في الحياة والوجود، وكذلك في بلورة رسالته من خلال الشعر ففي قصيدة الدمع خارج المجاز تجلى هذا الاندماج الحتمي " كان العالم معطوباً وطال انتظاره للمعجزات.." لتعبر بوضوح عن رؤية الشاعر وعن فلسفته وموقفه من الواقع، الذي يمر بتحولات غير مسبوقة في منظومته القيمية على اغلب الاصعدة.

وفي سياق فضاءات التاريخ نجد توهجاً واضحاً في منظومة الشاعر الدلالية وتماهياً مع دوائر انتمائية موروثة واخرى انسانية تتناسب مع قراءة الشاعر للوجود لكون قراءته للتاريخ بلاشك ستختلف عن قراءة الاخرين فهو يقرأه من منظور وجداني تأملي ثم تخزن في اعماقه هذه التأملات والانفعالات حتى اذا ما جاءت لحظة ولادة القصيدة وجد هذا المخزون الوجداني المتراكم يتسرب الى عالم القصيدة ويشكل ارضية يبني الشاعر عليها رؤيته وموقفه واحلامه بل وتنفتح امامه افاق ومديات ربما لم يكن يتوقعها " تفتح كل بوابات التاريخ امامي، فانا من الاغريق، وظلي من مصر القديمة../كهرمان العقيق"، وفي قصيدة زجاج لايلين نراه يتقمص دور الصوفي الذي يرى في الذات الملهمة له بانها كل الوجود وكل الحضارات" انتِ الحضارة القديمة والجديدة..."، وبهذه المحاكاة وذاك التماهي نرى ان شاعرنا استغل تلك الفضاءات الشعرية بآليات وتقنيات حداثية موفقة.

كل تلك المرتكزات استطاعت ان تقدم لنا ديواناً شعرياً مميزاً ومتفرداً سواء من الناحية البنائية والتوظيفات الدلالية والصورية او من الناحية الشخصية حيث جعلتنا نلامس قوة شخصية الشاعر وموهبته التعبيرية التى تطرح ذاتا متفردة فى وجودها وعلاقتها مع الموجودات ضمن دائرة التشظى وكسر التابو. 

وسوم: العدد 733