الطريق إلى مراكش الحمراء – 6
الطريق إلى مراكش الحمراء – 6
أ.د. حلمي محمد القاعود
[email protected]
من
الساحة قرب مسجد الفنا أو الكتيبة ، تبدو مجموعة من الشوارع الضيقة الطويلة ، التى
لا تختلف كثيراً عن شوارع القاهرة المعزّية ، وتضم هذه الشوارع التى تتولد منها
شوارع أضيق معظم التجار الذين يقومون على تجارة الجملة والتجزئة ولبعض محلاتهم
أسماء مخالفة للأسماء الشائعة عندنا ، وإن كانت تتفق معها فى المعنى اللغوى
والدلالى ، على سبيل المثال ، تسمّى محلات العطارة بالمعشبة وهى مأخوذة من العشب
الذى يعتمد عليه العطّار فى جلّ بضاعته ، ومحل الجزارة يسمى الملحمة وهى من اللحم
فهى مكان للحم أو لبيع اللحوم ، ومقر الهاتف العمومى يطلق عليه مستقر الهاتف أو
المكان الثابت للهاتف ..
وظاهرة استخدام المشتقات / المغايرة واضحة فى أكثر من مجال ، فسيارة الأجرة مثلاً
التاكسي تكتب هناك أحيانا " الطاكسى " ، والشوارع الضيقة الطويلة يطلق عليها "
رياض أو طريق ، والمحلات الصغيرة تسمى " طوالة " وهواتف المحمول والساعات والمسجلات
والنظارات ، تجمع فى تسميتها العربية والأجنبية .. وبدلاً من كلمة عالم يوضع مكانها
فضاء ، فنجد مثلاً " فضاء إلكترونيك " وهاتف المحمول يسمى النقال وتاريخ الميلاد
يسمى تاريخ الازدياد ، والمغسلة ( للملابس ) تسمى مصبنة ، نسبة إلى الصابون ،
والبنوك يطلق عليها الأبناك ، وأحياناً تسمى المصارف ، وبوابة الرسوم على الطرق
السريعة تسمى محطة الأداء .. وفى مجال التعليم ، مسميات عديدة مغايرة يمكن أن نجد
تجلياتها فى الكتب التى يترجمها الزملاء المغاربة عن الفرنسية – غالباً – وتكاد
تأخذ طابع الأداء الفرنسى فى تركيب الجملة الفرنسية وصياغتها .. ولعل هذا ما أدى
إلى ضبابية كثير من المصطلحات الأدبية الحديثة ، وخاصة فى مجال النقد الأدبى على
النحو الذى يعرفه المتخصصون ، وهو ما أدى إلى وجود فجوة كبيرة عندنا بين فريق من
النقاد وقرائهم ، نتيجة لمتابعة الأولين للترجمات العربية القادمة من المغرب الشقيق
.
وبعيداً عن أمر المعجم السائد فى مراكش الحمراء وغيرها من بلاد المغرب العربى ،
يبدو أن الفضائيات العربية ، وخاصة السياسية ، قد نجحت إلى حدّ كبير فى التقريب بين
المشتقات العربية أو التعريف بها فى سياق النشرات الإخبارية والبرامج الجادة ؛ إن
الحى الشعبى الذى يصب فى الساحة ، يبدو عالماً مدهشا ، بما يتوفر فيه من حرفيين
وتجار فى مختلف السلع واللوازم ، وخاصة فى الحارات الضيقة التى تشبه المتاهة ،
وتؤدى نهايتها كما يتخيل الزائر إلى بداية أخرى لها نهاية تؤذن ببداية جديدة وهكذا
.. واذكر أننى وقفت مع صديق فى أحد المحلات أو الطوالات ، لشراء شئ ما ، وطلبت من
البائع الذى تعرّفنا عليه ، وجلسنا فى طوالته نحتسى الشاى الأخضر ، أن أحصل على شىء
ما من مكان آخر ، فأرسل معى شقيقه الأصغر ، الذى أخذنى ، ودخل بى من حارة ضيقة إلى
أخرى أضيق ، ومن منعطف إلى منعطف ، حتى وصلنا المكان الذى كان على هيئة منزل قديم ،
ولكننى فوجئت فى الدور الأرضى بمعرض فخم للملابس ، وفى الدور الثانى بمعرض آخر
للستائر وما يشبهها ، ثم كان الدور الثالث مطعماً شرقيا ، ولأننا كنا فى الصباح
والمكان شبه خال ، سألت مرافقى ، هل يعرف الزبائن هذا المكان ؟ ، فقال لى : إن
زبائنه يأتون من أنحاء المغرب والعالم ، وفى مقدمتهم السيّاح ، الذين يستمتعون بما
يشترونه ويأكلونه هنا .. ومع التواضع الذى يبدو عليه المبنى الذى كنا فيه ، شأن
بقية المبانى المجاورة ، إلا أن الداخل يختلف تماماً ، من حيث التنظيم والتنسيق
والشكل العام ، فضلاً عن النظافة التى تبدو سمة عامة فى الأماكن العامة ، وخاصة "
الحمامات " التى تعد قطعة من البللور النقى ولا أبالغ ، فلا توجد بها ذرة تراب أو
أثر ، ولو كان بسيطا ، للإهمال أو القذارة ، بل إنها مزوّدة بأحواض تلمع ، ومرايا
صقيلة ، ومنظفات من أرقى الأنواع ..
تذكرت الحمامات فى بلادى ، وخاصة فى الميادين والمساجد والمصالح الحكومية والمدارس
والجامعات ، حتى تلك التى تخصص للسادة الكبراء ، ويحتفظ الحجّاب بمفاتحيها .. فقلت
لا حول ولا قوة إلا بالله .. صحيح أن الحضارة نظافة ، ويوم كان الهمج الهامج فى
أوربا لا يعرفون الحمامات ولا كيف يستحمون ، كان هارون الرشيد – رحمه الله – يطلب
من مساعديه أن يذهبوا بضيوفه من هؤلاء للاستحمام أولاً ، وكانوا يخافون أو يستشعرون
نوعاً من الدهشة وهم يدخلون الحمّامات ، فيتولى المساعدون بيان كيفية استخدامها حتى
يحدث الاطمئنان للقوم .
هل
تستطيع أن تجد فى القاهرة الآن حماماً عاماً " معقول " النظافة ؟ بل هل تجد فى
الأصل حمامات فى كثير من الأماكن ؟ لنا الله !
فى
المحلات التجارية التى تبيع الأجهزة الكهربائية " الثلاجات والغسالات والمطابخ "
قرأت اسم شركة مصرية على ثلاجة أو غسالة لا أتذكر . نبهنى إليه صديقى الذى كان
يرافقنى فى رحلة التجول فى الحى الشعبى .. فرحت فرحاً شديداً ، لأن " رجل قروض "
مصرى استطاع أن يصدّر " سلعة " مصرية إلى بلد عربى . أعلم أن هذه السلعة تجميع "
كورى " أو تايوانى " ، ولكنها فى كل الأحوال عبرت عن حالة ذات قيمة ، وهى إنتاج
بضاعة للتصدير على العكس من بقية رجال القروض الذين يريدون الاقتراض من البنوك
المصرية حتى تجف ، ثم يهربون أو ينشئون مشروعات ترفيهية أو كمالية لا تسمن ولا
تغنى من جوع ، ويطلقون القنوات الفضائية المبتذلة بقصد تغيير هوية البلد وأهله
ولغته ، أو يحلمون بالسيطرة على البلد واقتصادها وسياستها وإعلامها فى ظل "
المواطنة " التى تعنى الخروج من دين الإسلام والدخول فى عباءة الهمج الهامج من
صناع الوحشية الاستعمارية !
على
الأرصفة تباع أشرطة وأسطوانات مدمجة ، أغلبها فرنسى ، أو مصرى وتشمل الأغانى
والأفلام والمسلسلات والمسرحيات والمباريات ، والقوم هناك يعرفون أسماء المطربين
والممثلين ولاعبى كرة القدم ، و " أبو تريكة " و الأهلى ، لهما شعبية جارفة هناك ،
وللزمالك أنصاره أيضا ، ويحتشد الناس هناك أمام الشاشة الصغيرة فى مباريات الفريقين
الكبيرين فى الدورى المصرى أو الكأس المحلى أو الإفريقى .
فى
محلات الأقمشة التى تملأ حارة ضيقة انطلق صوت أم كلثوم بأغنية جميلة من الخمسينيات
، وصاحبها يجلس فى محله الصغير منسجماً مع الصوت الذى ظننت أنه انتهى بعد موت
صاحبته بأكثر من ثلاثين عاماً فى ظل هوجة " التغريب " و " الديسكو " والصخب التافه
الذى صنعه مطربو الأيام السود ودمى الأجساد المتهرئة بالكولاجين !
كان
على في آخر الجولة أن أحسم أمرى ، وأشترى " المحمول " الذى أوصتنى به " فاطمة ابنتى
" أو أمى الغالية كما أناديها .. لابد أن يكون محمولاً بغطاء برقم معين من أحدث
الأنواع .. أليس لها حق ، وقد حمل أشقاؤها أغلى " المحاميل " ؟ هل كونها أصغرهم لا
تستحق محمولاً ؟ على عينى يا أمى ، ولكن تذكرى أن أباك " أستاذ الجامعة " على
المعاش ، وليس تاجر مذكرات ، وجمال سلطان لا يعطيه " هُبراً " ولا عظاماً مما يدفعه
لكتّابه كما زعم بعض القراء ، بل ضنّ على أبيك بنسخة من " المنار " لأنه ينسى !!
على عينى يا أمى الغالية .