تكييف الطموح ومواجهة الذات
تكييف الطموح ومواجهة الذات
علامتان بارزتان في إبداع المرحلة الجديدة
الحسناوي يقرأ في رابطة الأدب الإسلامي
محمد الحسناوي |
من صالح أحمد البوريني/عمان عضو رابطة الأدب الإسلامي |
في جـو من الـدفء العاطفـي والمشاركـة الوجدانيـة مـع بطل قصة ( الآخر ) حامد عبد الواحد ؛ أنصت جمهور رابطة الأدب الإسلامي لقراءة هادئة النبرة بالغة التأثير من الأديب القاص الأستاذ محمد الحسنـاوي في الأمسية القصصية التي أقامتها الرابطة مساء يوم السبت 3/12/2005م وقدمه فيها الأستاذ حسام العفوري .
و( حامد عبد الواحــد ) هو الاســم الذي اختـاره الأستــاذ الحسناوي للبطل في قصصه الثلاث التـي قرأها ( تشريح الحلم ) و ( الآخر ) و( محمد علي والنهر ) ، ولكنه في القصة الأخيرة لم يسمـه ، بل ذكــره بعلاقة القرابة التي تربطه بشخصيـات القصـة ؛ وهـم الأبناء والأحفاد ، فحامد عبد الواحد فيها هو ( الجد ) الذي يقرأ سيرة طفولته في مراحل نمو حفيده ( محمد علي ) المقيم بمكة ، والمار بعمان مع أمه وأخته الصغيرة في طريقهما لزيارة مدينة حلب .
الطمـوح :
محمد الحفيد الذي كان رضيعا، ثم طفلا يحبو على الأرض ، ثم طفلا يتوكأ على الكراسي والجدران ليمشي ؛ يحاول أن يستوي على قدميه ، يلـثغ بالكلمات الأولى ، يتمرن على النطق ؛ ها هو الآن يركض ويقفز ويلعب تحت سمع جده وبصره ، فيتذكر ( الجد ) صورا من طفولته التي انقضت منذ أكثر من ستة عقود ، ويتأمل مسيرة الحياة ، وينظر في حركة الزمن ، فيـراها تشبه جريان النهر ، ومن هنا أخذت القصة عنوانها ، فالنهر هو العمر ، وهو مركب الحياة المنطلق بالإنسان إلى مصيره المحتوم .
والنهر رمز من رموز الماضي المركوزة في ذاكرة حامد ( الجد ) ؛ حينما كان محافظا على وده وصداقتـه لنهـر العاصي ؛ المتدفق بمائه الغزير عبر قناطره العالية في فصل الربيع ، وأمواجه الصاخبة العنيفة التي لا يطيق اجتيازها إلا مهرة السباحين .
إن ( محمد علي والنهر ) قصة تعبر عن طموح عظيم وإرادة جامحة إلى أن يكون عمر صاحبها عمرا ممتلئا لا فارغا ، وترسم للقارئ في الوقت نفسه صورة واضحة عن مواجهة الذات ، وتريدنا أن نواجه ذواتنا بالحقيقة ولو مرة واحدة كل يوم ، يظهر ذلك في حوار حامد مع نفسه في نهاية القصة :
ـ أنا لا أريد أن أكون ككل الناس مشغولا بالمألوف ، مجرد راكب في سفينة .
ـ ولماذا لا أكون ككل الناس ؟
ـ لأن الوقت من ذهب ، لأن العمر مسؤولية . لأنني أريد أن أعيش عمرا حقيقيا ، ممتلئا ..
ـ مرة أخرى ، وعاشرة ، ما العمل ؟
ـ العمل المطلوب ـ كما يبدو ـ أن أسأل نفسي هذا السؤال ، مرة واحدة في اليوم .
كان لحامد عبد الواحد طموح عام وطموح خاص ؛ أما الطموح العام فيشترك فيه مع رفاق الدرب وحداة الركب ودعاة الصحوة والنهضة ، وتتمثل الاستجابة لهذا الطموح في بذل الجهد والطاقة وتقديم التضحية في الميدان الجهادي والسياسي والدعوي .
وكان له طموحات خاصة ؛ منها ما أبرزته قصة ( تشريح الحلم ) ، وهو طموح الارتقاء في سلم التحصيل الأكاديمي إلى أرقى الدرجات ؛ وهو الطموح الذي جسـده الحلم الثاني في هذه القصة ، وقد تمثلت الاستجابة لهذا الطموح بمحاولات متكررة تصطدم الواحدة منها تلو الأخرى بحواجز مصطنعة ، أو سدود تقيمها الظروف غير المواتية ، أو معيقات تنشأ على غير توقع . وطموحات حامد عبد الواحد رافقته وعبر مراحل حياته ومحطات انتقاله ولم تفارقه ؛ الطموح السياسي والطموح الجهادي والطموح الأكاديمي ، لقد كان الطموح رفيقا ( لخالد سليمان السياسي ) وسميرا ( لمحمد بهار الشاعر ) وحاديا لمحمد الحسناوي الجاد في طرق أبواب التحصيل الأكاديمي والدراسة العليا عبر مراحل حياته الحافلة بالأحداث ، والمليئة بالمفاجآت ، والزاخرة بالتنقلات والأسفار وعبور المحطات الفاصلة بين المواقع المتباينة على خريطة الزمان والمكان والذات والمجتمع ؛ وحتى بعد المنعطف الأخير ؛ منعطف المرض الصعب ، فإن الطموح إلى الأسمى ، والنظرة إلى المستقبل الأفضل ، ظلت تحتفظ بمكانها في أعلى المنارة ؛ منارة الاستكشاف والاستبصار ، وهذه النظرة المتفائلة التي تصر على تجديد الطموح ، وتبدع في تكييفه ليتناسب مع كل مرحلة ؟! ترتقي الآن بحامد عبد الواحد إلى الطموح الأسمى ؛ وهو الطموح الروحي الذي يتمثل في السعي لبلوغ القمة في التوافق مع الذات ، ووحدة التوجه والطريق ، سعيا إلى تحقيق الفوز برضوان الله عز وجل ، وذلك هو أعظم طموح يسعى لتحقيقه المؤمن ، لأن تحقيقه يعني تحصيل السعادة الأبدية .
الطموح إلى الأعلى ، وإلى الأفضل ، واستشراف المستقبل ، والنظرة المفعمة بالأمل ، كل ذلك يشكل سمة بارزة في شخصية الحسناوي ، وهكذا يظهر في إبداعه الجديد .
المواجهة ( المكاشفة ) :
و( حامد عبد الواحد ) في القصص الثلاث يمارس المواجهة ، والمواجهة حين تكون مع النفس فهي مكاشفة موضوعية صريحة ، وحين تكون مع الغير تختلف باختلاف الظروف والأحوال والإمكانات . ولعل المواجهـة في حياة الأديب الحسناوي الخاصة والعامة تشكل ممارسة عملية ؛ يتحيز إليهـا أحيانا ويضطر إليها أحيانا أخرى ، ولكنها تشكل عموما موقفا حركيا في حياته العملية والأدبية ، وفي تقديري المتواضع أنها ـ أي المواجهة ـ تستحق دراسة مستأنية في أعماله الأدبية والإبداعية ، تطلعنا على مزيد من جوانب شخصية صاحب كتاب ( الفاصلة القرآنية ) وحياته الحافلة . وهي تتطور في هذه القصص الثلاث التي تشكل نوعا من السيرة الذاتية المتداخلة مع فن السرد الحديث ؛ إلى مكاشفة داخلية فلسفية أشبه بحوار الذات ومراجعة النفس ، بل هي عين المراجعة ونقد الذات ، ولكنها المراجعة العاقلة والنقد الواعي .
من يقود السفينة :
إذا كان الجسد يمثل الشطر المادي الأرضي الدنيوي من الإنسان بما فيه من شهوات وأهواء وغرائز ، والروح تمثل الشطر الروحي السماوي الأخروي من الإنسان بما فيه من فطرة واستقامة وسمو ونقاء ، فكيف يصوغ الإنسان علاقته بنفسه ؟ وعلى أي أساس يقـوم ارتباط الروح بالجسد في هذا الكيان البشري المعجز ؟ وما دام الإنسان يسير باتجاه الموت ، وما دام حامد الظاهر يسير نحو هذا المصير ، وما دام المصير يعني حسابا على ما فات ، وتحملا للنتائج ، فإما إلى جنة وإما إلى نار ، فمن هو المسؤول عن قيادة هذه القافلة ؟ ومن هو صاحب قرار تعيين الاتجاه وتحديد الأسلوب واختيار الطريق ؟؟! حامد الظاهر الأرضي الجسدي ؟ أم حامد الكامن السماوي الروحي ؟؟
لا شك أن تحديد الجواب يعتمد على العلاقة بينهما ، والحسناوي يرى أن هذه العلاقة مختلة عند عامة الناس ، وأن هذا الخلل الذي يصيب هذه العلاقة موجود في طبيعة البشر ، ولكنه يتفاوت من شخص لآخر ، ومن حالة لأخرى لدى الشخص الواحد . تتضح هذه الرؤية في المكاشفة التي ينفسح لها المدى في قصة ( الآخر ) :
( اكتشف أنه لم يكن يمارس رقابة كافية على تصرفات حامد الظاهر . كان يعامله معاملة رفيق أو صديق بل شقيق ، له حظوة ، وله مؤونة وحتى دالة عليه ) .. ( لكن هل كان كل هذا خالصا لوجه الله تعالى ؟ كم كان حظ الشهوة ، وحظ الشهرة ، وحظ النفس منها ؟ ) .. ( إن الله تعالى لا يقبل إلا العمل الخالص . هل كان كل ذلك خالصا لوجهه الكريم ؟ أشك بذلك . ومن يملك الإخلاص التام ؟ ) .
طبيعة العلاقة بين الروح والجسد هي التي تقرر من يكون ربان السفينة ؛
فما هي طبيعة العلاقة بين الجسد والروح ؟ هل هي علاقة تبعية أحدهما للآخر عن قبول وطواعية ؟ أم هي علاقة مجانبة ونفور لا لقاء فيها بينهما ولا تجانس ؟ أم هي علاقة منافسة على الصدارة وإثبات الوجود وتحقيق المكاسب الخاصة ؟ أم هي علاقة تكاملية ؛ يجتهد فيها كل منهما لتحقيق وحدة الطرفين ولقائهما على كلمة سواء بينهما ؛ باعتبار أن مصيرهما واحد ؟ إن الحسناوي يريد أن يوجهنا إلى صياغة علاقة مع ذواتنا تنتهي بتحقيق التوافق بين الظاهر والباطن ولو مرت عبر مسارات اللوم والمحاسبة والتقريع .
النفـس اللوامـة :
لا يستغرب أن يكون حامد الآخر ( الروح ) قد واجه ببرود مرض الفشل الكلوي ؛ هذا الطارئ الذي يفتح باب النظـر إلى المصيــر ؛ وكأن الأمر لا يعنيه .. إنها حالة تذكرنا بالنفس اللوامة التي أقسم الله تعالى بها في صدر سورة القيامة .. لماذا بدا حامد الكامن كأنه نائم أو غافل عن كل ما يجري ؟ وهو الذي يتدخل في الأزمات ويظهر في الشدائـد ؟ ألأنه أوكل مهمــة الرقابة الصحية لحامد الظاهر منذ البداية ؟! وترك له حرية اختيار أسلوب التعامل مع كل الناس ، ونمط العيش وطريقة الحياة التي يريدها ؛ فهو الآن غير مسؤول عن النتيجة ؛ وإنما يتحمل حامد الظاهر نتيجة تقصيره ؟ وماذا غير ذلك ؟!
إن هذا الموقف شديد الدلالة على ظهــور الازدواجيـة . ولكنه ظهور مؤقت لا يلبث أن يتلاشى حينما يبسـط حامــد الظاهر الأمر أمام صاحبه ، ويضع بين يديه قصارى جهده في مواجهـة الطارئ واختيار أسلوب المعالجة ، مستنهضا إياه للقيام بدوره التكميلـي الذي سيتوج جهود حامد الظاهر بالنجاح ، ويحقق تقاربـا يصـل حد التمـاهي والامتـزاج في خـط واحـد ووجهـة واحدة وقرار واحد في مواجهة المصير ، وحينئذ تغيب الازدواجية تماما .
الروح تحقق وحدة الذات :
والمكاشفة تتجسـد أكثـر ما تتجسـد فـي قصة ( الآخر ) ؛ حين يجد حامد ( الجسد ) نفسه في امتحان قاس مع المرض ؛ فيتساءل حامد ( الروح ) في مكاشفة تمتاز بالصدق والشفافية :
ـ هل من وظيفة ( القناع أو حامد الظاهر ) أن يتعامل مع الموت ؟
وبعد أن يقرر الحسناوي أن نصفه الروحي هو الباقــي مع أنه كان مغيبا ـ نسبيا ـ عن ساحة الفعل حينا من الدهر ؛ يمهد لمكاشفة مفتوحة يأخذ ( الآخر ) فيها زمام المبادرة .
في هذه المكاشفة يظهر الحسناوي في وحـدة ذاتية مـع الآخر، ويمضي في محاسبة حامد الظاهر ، الذي يمثـل ماضي الأيام ومراحـل العمر المنقضية وحصاد التفاعل مع أحداث الحياة . وفي حين يتجلى ضعـف حامد الظاهر في معترك المواجهة ؛ يظهر حامد الكامن قويا صامدا أمام الفشل الكلوي ؛ كأن الأمر لا يعنيه .. إنه أقوى على مواجهة الأزمة ، ولذلك فسوف يضع حامد الكامن حدا لصلاحيات حامد الظاهر ، ويفرض عليه رقابة صارمة ؛ تخضعه لبرنامج أكبر من تدابير مواجهة المرض ؛ برنامج مواجهة المصير الذي تعده الروح لملاقاة الله تعالى . وتستمـر هـذه المحاسبــة فيمـا يتبع من سرد وحامد الظاهر لا يبدي أدنى معارضة ، بل يبدو مستسلما ؛ راضيا بكل ما يقرره صاحبه ؛ معطيا القياد له عن طواعية ورغبة ؛ واثقا بأن هذه المحاسبة التقريعية تمثل رؤية الحقيقة ، وتفضي إلى قرار الحسم ؛ الذي لن يكون إلا الاختيار الأفضل ؛ وهو اختيار الحق والخير والهدى ، وهو الاختيار المتوافق مع عقيدة حامد ودينه ومثله الأعلى .
عبقريـة الوعـظ :
يريد الحسناوي أن يقول لنا أيقظوا أرواحكم ، وحركوا حامد الكامن ليأخذ دوره في حركة الحياة . يريد أن يقول إن حامد الكامن يعاني من حالة إقصاء شبه دائم .. لأن ظاهرنا يتحرك بسرعة وارتجالية في مواجهة الأحداث ويتولى هو قيادة السفينة وصناعة القرار .. إنه في الغالب لا يرجع إلى مشورة حامد الكامن ولا ينتبه إليه .. ولعل حامد الكامن في كل واحد منا يعاني حقا من التهميش والإقصاء وإلغاء الدور ومصادرة القرار ؛ بينما حامد الظاهر يمارس احتكار القرار واستلاب الإرادة . وكأن العلاقة بين الاثنين علاقة صراع إرادات ، أو تنافس على موقع الصدارة في قيادة السفينة وإدارة عجلة الحياة .
قصة ( الآخر ) تمثل عبقرية الوعظ في أرقى درجاتها ؛ إنها تفتح لنا طريقا إلى البحث عن الآخر فينا ، وتدعونا إلى العثور على ذواتنا ، والالتقاء بها ، والانسجام معها ، واحترامها ، وتقديمها للمشاركة في صنع قرار الحياة ومواجهة المصير .
ولعل أول خطوات تحقيق الذات هي الشعور بالحاجة إلى معرفتها ، والتي تدفع بدورها إلى البحث عنها ، ومحاولة اكتشافها ثم التحرش بها ، وتطوير التواصل معها إلى درجة فتح قناة الحوار معها ؛ ذلك الحوار الذي يؤدي بالضرورة إلى تطبيع ما لعلاقة المرء بذاته . وحين يقع الإنسان على الحقيقة ، ويختار العقيدة الصحيحة ، ويتسلح بالإيمان الراسخ ، ويخلص النية ، ويصلح العمل ؛ فإن ذلك يحقق وحدة الرؤية ، ووحدة الوجهة ، ووحدة الطريق نحو لقاء الله عز وجل .
بشـرى :
إن إيجابية اللقاء بين حامـد الظاهـر وحامد الكامن في قصص الحسناوي تعـد بشرى لكل إنسان يحققها قبل نهاية الرحلة ، وهي من مبشرات السعادة والطمأنينة الخاصة بالأديب المسلم ؛ حين يلتقي في قمة عطائه الإبداعي مع ذاته ؛ لقاء الانسجام والتواؤم الذي يهيئ للقاء الصالحين والمجاهدين ؛ المجاهدين باليد والمال واللسان ، والدم والقدم والقلم ؛ مع أقرانهم من السابقين ، تحت لواء خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام ، وفي ظل عرش الرحمن ، يوم لا ينفع مال ولا بنون ، إلا من أتى الله بقلب سليم .