التجربة السياسية للحركة الإسلامية في سورية: محمد عبد القادر المبارك أنموذجاً (1912- 1982م )
-1-
مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية
يعدّ العالم الداعية محمد بن عبد القادر بن محمد المبارك من أبرز علماء سورية، وهو يرجع إلى أصول جزائرية تعود جذور الأسرة إلى مدينة (دلس ) ببومرداس كما أفاد أخوه الدكتور فاضل المبارك، ويغلب على الأسرة التدين، وحب الأدب واللغة العربية، فجده (محمد المبارك)، ووالده ( عبد القادر المبارك )كانا شاعرين، بل كان الشيخ عبد القادر المبارك عضواً في مجمع اللغة العربية بدمشق، وممن يحفظ (القاموس المحيط) عن ظهر قلب، وكانت العلاقات الاجتماعية لهذه الأسرة متميزة، فلا يكاد بيتهم يخلو من الضيوف والمحبين والزوار ، ....
مولده ونشأته:
ولد العالم، والوزيـر، والمفكر، والداعيـة: محمد بن عبد القادر بن محمد المبارك الحسني الجزائري في دمشق سنة 1331هـ/ الموافق 1912م، ونشـأ في رعاية والـده العلامـة اللغـوي عبد القادر المبارك، الذي كان عضواً في اللجنة التي ألفت في عهد الملك فيصل الأول لتعريب المصطلحات العسكرية، كما اختير عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق حين تأسيسه، وكان كذلك عالماً بالسيرة ووقائعها وبتراجم الرجال ومشاركاً في العلوم الإسلامية ومتقناً للغة التركية وعارفاً بالإنجليزية، وله رسائل أدبية مطبوعة، وشرح لعشر من مقامات الحريري، أما جده فهو الشيخ محمد المبارك الذي سمي باسمه، وكان عالماً من علماء اللغة العربية، وله نثر وشعر وله آثار مروية تدل على فضله ومكانته.
ترعرع الشيخ محمد المبارك في أجواء أسرة معروفة بالعلم، والتقوى، والصلاح، والطهر، وحبّ الأدب والعربية، هـاجر منها والـد جدّه إثر الاحتلال الفرنسي سنة (1262هـ/ الموافق 1845م) .
دراسته ومراحل تعليمه :
وقد درس محمد المبارك المرحلة الابتدائية، ثم الثانوية في مدارس دمشق، وكان متفوقاً في دراسته خاصة في اللغة العربية والرياضيات، وكان له ميل واضح نحو العلوم الدينيـة، والعربية، وقد تابع محمد المبارك دراستـه النظامية بدمشق وبثانويتهـا سنة (1351هـ 1932م)
كما قـرأ على علمـاء الشـام، وبخـاصة العلاّمـة الشيـخ بـدر الـدين الـحسني، وقد استفاد من علمه وقرأ عليه النحو والصرف والتفسير والمصطلح والفرائض وأصول الفقه والكلام والبلاغة والحساب والجبر والهندسة
و كان يدرس على الشيخ سليم الجندي رحمه الله .
وعلى والده العلامة عبد القادر المبارك علوم اللغة العربية.
وكان يحضر في الصباح في دروس المدرسة، وفي المساء يتابع دروس العلماء في المساجد .
وكان محمد المبارك في هذه الفترة متأثراً بالأمير شكيب أرسلان وبمؤلفاته، وما كان ينشره في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية والتحرر من الاستعمار .
وقد أتيح له الالتقاء بالأمير في باريس عندما كان طالباً في جامعتها .
وكان ممن أثروا في توجيه محمد المبارك الفكري من القدماء بآثارهم التي قرأها :
-شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن قيم الجوزية، فأعجب بتفكيره ونقاشه وبحثه، كما قرأ كتاب الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، ثم اطلع على ( أعلام الموقعين ) لابن القيم، وكان حينئذٍ طالباً في الحقوق .
ولهذه الكتب الثلاثة صلة بالعلوم الحقوقية، ففتحت أمامه آفاقاً جديدة، وكشفت له عن جوانب من عظمة التشريع الإسلامي ومن إبداع الفقهاء والمفكرين المسلمين، ثم اطلع على مجموعة رسائل ابن تيمية.. وغيرها من الكتب، فاستهواه النقاش بين الصوفية السلفية الذي امتدّ لقرون .
ثم درس في كلية الحقوق والآداب بجامعة دمشـق، وأنهى الدراستين معاً، وتخـرج فيهما سنة (1354هـ 1935م).
وبعد أن تخرج (محمد المبارك) من الجامعة السورية، أوفدته الدولة مع من أوفدتهم إلى جامعة السوربون في باريس ليدرس في كلية الآداب في معهد الدراسات الإسلامية التابع لها ثلاث سنوات، درس في السنة الأولى الأدب العربي والثقافة الإسلامية، وعرف المستشرقين عن كثب، وكثيراً ما كان يصحح لهم معلوماتهم .
وخصص السنة الثانية من دراسته لدراسة الأدب الفرنسي وعصوره وفنونه وأعلامه، وكان من أبرز أساتذته المستشرقان المشهوران مارسيه وماسينيون .
أما السنة الثالثة فخصصها لدراسة علم الاجتماع، وكان أساتذته من كبار علماء الاجتماع الفرنسيين، وقد استفاد من فرعي الأدب الفرنسي، وعلم الاجتماع استفادة كبيرة جداً مكنته من الولوج في صميم الثقافة الغربية والتفكير الغربي ومذاهبه الفكرية الأدبية من منابعها الأصيلة وعن طريق الاختصاص من أهلها.
ولم يكن يقتصر على محاضرات الجامعة، بل كان يحضر المنتديات والمحاضرات العامة ويتردد على مختلف المعاهد العلمية والنوادي على تعدد اتجاهاتها وألوانها.
وقد تعرف في باريس إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكان يتردد على نواديهم ويتعاون معهم في مجال الدعوة الإسلامية التي كانت أشمل من محاربة الاستعمار والتحرر الاستقلال .
عاد الأستاذ محمد المبارك إلى أرض الوطن، وقد حصل على درجة الليسانس في الآداب من جامعة (السوربون) بباريس في فرنسا سنة (1356هـ 1937م)، وكذلك حصل على دبلوم في علم الاجتماع والأخلاق سنة (1357هـ 1938م).
وفي فترة دراسته في فرنسا، اطلع على الثقافة الغربية مباشرة، وعرف كبار المفكرين في الغرب.
أعماله، والوظائف التي تولاها :
-تمّ تعيينه عام 1938م أستاذاً للأدب العربي في المدرسة الثانوية بمدينة حلب، وخلال وجوده في حلب تعرف على الشاعر الإسلامي الكبير عمر بهاء الدين الأميري الذي عرفه بدوره على أسرة البيانوني، المعروفة بالعلم والصلاح، فتزوج من السيدة (سامية البيانوني) هي أم أولاده، وظلّ في حلب سنتين .
ثم نقل إلى دمشق، تابع فيها مهنته، فعمل مدرساً للأدب العربي الأخلاق والمنطق والنصوص الفلسفية في المدارس الثانوية بدمشق .
ثم درّس كذلك في دار المعلمين العليا، وكان له نشاط ملحوظ في المحاضرات العامة في مختلف نوادي العاصمة في شتى الموضوعات في اللغة والأدب والقضايا الاجتماعية والإسلامية .
وفي 17 نيسان عام 1946 تمّ جلاء القوات الأجنبية عن سورية، وكانت بداية الحكم الوطني المستقل، وجرت في وزارة المعارف تنظيمات جديدة كان من جملتها إحداث لجنة فنية عليا في الوزارة تتألف من مختلف الاختصاصات لوضع الخطط والمناهج والأنظمة، كما تمّ إحداث هيئة تفتيشية للتعليم الثانوي في عموم سورية، فعيّن الأستاذ (محمد المبارك ) عضواً في اللجنة الفنية للتربية، ومفتشاً اختصاصياً عاماً في سورية لمادتي اللغة والدين، وعن هذا الطريق عرف جميع المحافظات السورية التي كان يزورها وكثيراً ما كان يكلف بتفتيش مواد اللغة الفرنسية والفلسفة لعدم وجود مفتشين لهذه المواد يومئذ .
وفي تلك الفترة كلف بوضع مناهج اللغة العربية والدين للمدارس الثانوية منفرداً، وعمل في ذلك عملاً جاداً استغرق نحو شهرين أنجز خلالهما وضع مناهج المادتين لجميع سنوات التعليم الثانوي الست.
وفي سنة 1946م أقصي الأستاذ محمد المبارك عن التفتيش، واقتصر عمله على عضوية اللجنة الفنية، وجاء الإقصاء الجائر بسبب ما قام به من نشاط إسلامي في المحافظات التي كان يزورها للتفتيش؛ وذلك بإلقاء المحاضرات العامة في أهم الموضوعات المتعلقة بالإسلام والتعريف بدعوته، أو بالقضايا الإسلامية المعاصرة، أو بالأدب والدراسات الفنية لبلاغة القرآن ..
التجربة السياسية :
لم يلبث الأستاذ محمد المبارك بعد عودته من باريس عام 1938م أن انخرط في العمل الدؤوب في جمعية الشبان المسلمين مع أصدقاء له سابقين كانوا ضمن المؤسسين لجمعية الشبان المسلمين، فأمسى عضواً دائماً في إدارتها حيناً، ورئيساً لها أحياناً . لا يفتر عن إلقاء المحاضرات، وعقد الندوات الرامية إلى بناء جيل واع مؤمن مدرك لرسالة الإسلام .
نستطيع القول بثقة تامة : إن الأستاذ المبارك، أحسن الله إليه، يعتبر المؤسس الحقيقي لجمعية الشبان المسلمين في دمشق، وهو الذي قادها، تعاونه ثلة من المخلصين على طريق تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في سوريا بالتنسيق واللقاءات والحوار والتعاون مع ممثلي الجمعيات الإسلامية في حمص، حماة، حلب، واللاذقية، ودير الزور في النصف الأول من الأربعينات في القرن العشرين، عبر المؤتمرات التي عقدوها، وبعضها كان في نهاية عقد الثلاثينات، فنجحوا في تأسيس الحركة الإسلامية في بلاد الشام، لترى النور على أيديهم، وليشهد عام 1945م ولادة جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، بل وفي بلاد الشام كلها التي تشمل سوريا، ولبنان، والأردن، وفلسطين، وبعد انتقال الشيخ مصطفى السباعي من حمص إلى دمشق ليزاول مهماته كمراقب عام للجماعة، وتراجع له الأستاذ محمد المبارك، وآثره، وعمل معه، وشد من أزره طوال حياتهما الميمونتين .
وليس هذا فحسب، فبعد عودة الأستاذ محمد المبارك من باريس عام 1938م تمّ تعيينه مفتشاً للغة العربية والدين راح يطوف المدن السورية، ويلتقي مدرسي اللغة والدين عبر مهمته الوظيفية وعلاقاته الشخصية، مما أتاح له أن ينشئ جمعية إسلامية ( الشبان المسلمين) في مدينة اللاذقية في مطلع الأربعينات من القرن الماضي، وهو اسم الجمعية التي كان المبارك من أبرز مؤسسيها في دمشق .
وقد تولى إدارتها الشيخ صلاح الأزهري، والتاجر بدر الدين سعيد، والشاعر المهندس عبد الرحمن الصوفي، والمحامي عبد الله محمودي، والأستاذ الأديب محمد المجذوب .
دخول البرلمان :
وفي عام 1947م قرر الإخوان خوض الانتخابات ولما يمض على ظهور الجماعة سوى عامين اثنين ، اقتناعاً من قيادة الجماعة أن المجلس النيابي الذي يسن القوانين ، وينظم ميزانية الدولة بوارداتها ونفقاتها، ويراقب سلوك الحكومة وأداءها، ويحاسبها على تقصيرها، لا يجوز تركه للعمانيين وللأحزاب التي تناوئ الإسلام، أو تعمل على إقصائه عن المجتمع وعن حياة المواطنين .
وكانت حركة الإخوان في سورية من أقدم الحركات مشاركة في الحياة السياسية والبرلمانية، والذي يلفت النظر ويستحق التسجيل أن الجماعة قررت الموافقة بدخول البرلمان بمباركة من الإمام حسن البنا الذي ارسل مندوباً عنه هو الأستاذ عبد الحكيم عابدين سكرتير جماعة الإخوان في مصر وألقى الخطب التي سحر بها قلوب الناخبين ، وكان خطيباً مفوهاً يتدفق كالسيل ، ولم يكتف الإمام البنا بذلك بل نشر بياناً دعا فيه الشعب السوري إلى الالتفاف حول الجماعة لرفع راية الإسلام .
–وقد رشّح الإخوان والعلماء وأنصارهما ( سنة 1947م ) أربعة من القيادات الإسلامية لخوض معركة الانتخابات في المدن السورية الكبيرة الأربع : معروف الدواليبي (حلب)، والشيخ محمود الشقفة (حماة )، والشيخ القاضي أنيس الملوحي (حمص)، والأستاذ محمد المبارك عن مدينة دمشق، حيثُ قدم المبارك استقالته من وزارة التربية؛ ليتمكن من ترشيح نفسه للانتخابات النيابية عن مدينة دمشق تلبية لرغبة رابطة العلماء، والجمعيات الإسلامية، فنجح الثلاثة من الجولة الأولى، وأخفق القاضي أنيس الملوحي لأصوات قليلة جداً، واتهم الإخوان حكومة الكتلة الوطنية بالتزوير لصالح مرشحيها، بقي الدواليبي على علاقة حب واحترام وتفاهم مع الإخوان، ولم يرتبط تنظيمياً بهم، وانشغل الشيخ محمود الشقفة بالتصوف والتعبد والعمل الدعوي، وطلب منه بعض أقربائه اعتزال السياسة .
وأما الأستاذ محمد عبد القادر المبارك فقد مثّل الإخوان خير تمثيل، وعبّر عن آمالهم وأمانيهم وأهدافهم وبرامجهم تحت قبة البرلمان، ودلّل بفكره ونشاطه وأعماله النيابية أنه من أفضل الذين دخلوا البرلمان أو المجلس النيابي، وكان له نشاط سياسي بارز، وإسهام في الحركة الوطنية في سورية، وانتخب ثلاث مرات نائباً عن مدينة دمشق خلال الفترة من سنة (1367هـ 1947م)، حتى عام 1958م .
وكانت أبرز نشاطاته السياسية في هذه الفترة :
أ- وفي 14 تشرين الثاني 1947م ناقش مجلس النواب عريضة لتعديل المادتين (68، 85 ) من الدستور السوري الصادر عام 1930م ، فدارت مناقشات حامية مما دفع برئيس المجلس بالوكالة (محمد العايش) إحالة الاقتراح على اللجنة الدستورية المكونة من: هاني السباعي، وعبد الوهاب حومد من حزب الشعب، وصبري العسلي، ولطفي الحفار من الحزب الوطني، ومحمد المبارك من الإخوان المسلمين وبتاريخ 20 آذار 1948م عقد مجلس النواب جلسة علنية للاستماع إلى تقرير اللجنة الدستورية، وبعد الاستماع عُدلت المادتان اللتان تنصان على انتخاب الرئيس بشكل سري، وموافقة أكثرية مجلس النواب، ومدة الرئاسة / 5 / سنوات لا يحق له ولاية ثالثة حتى تنقضي خمس سنوات من ترك الرئاسة .
كان الأستاذ المبارك هو الممثل الحقيقي لجماعة الإخوان المسلمين في المجلس النيابي السوري، وإذا كان المجلس النيابي يتشكل من كتل حزبية مثل الحزب الوطني وحزب الشعب وريثي الكتلة الوطنية، وكتلة العشائر، وكتلة المستقلين وبعض البعثيين والاشتراكيين، فإن الشيخ المبارك كان بمفرده يعادل كتلة برلمانية تضم عشرات النواب، كان تأثيره وهو الفرد يفوق تأثير بعض الكتل النيابية، بل كان يتقدم عليها بطروحاته وأفكاره ومواقفه ومعالجته للعديد من القضايا السياسية والخارجية والداخلية على كل الصعد الاجتماعية والاقتصادية والزراعية وأحوال الفلاحين والعمال، والدفاع عن الفقراء، والإصرار على تأمين حاجاتهم الأساسية، وفي مقدمتها خبز الفقير، وكان شديد الحماسة لإقرار قانون التجنيد الإجباري وتسليح الجيش، وإعادة النظر في العلاقات مع الدول التي تقف من قضايا ولا سيّما قضية فلسطين موقف العداء، بالإضافة إلى معالجته للقضايا ذات الحساسية البالغة مثل قضية المرأة، والعروبة والإسلام التي أصدر فيها كتاباً هو : الأمة العربية في معركة تحقيق الذات، وهو من أهم المراجع في بابه .
وأهم الإنجازات النيابية للأستاذ محمد عبد القادر المبارك الذي نجح في دخول البرلمان ثلاث مرات، أولها عام 1947م، وهو الذي يعنينا في هذه المرحلة من تاريخ الجماعة (1945-1949) :
أ-كان المبارك هو أول الإخوان المسلمين الذين عبروا عن تصورهم (للإصلاحات الاجتماعية)، ففي 1/6/1947م فوّض القوتلي (جميل مردم) بتشكيل الوزارة التي وعدت بإجراء إصلاحات واسعة في تطوير التربية والتعليم، وتنظيم الاقتصاد، وتنشيط الصناعات المحلية، والإصلاح في المجال الزراعي، وفي إصلاح جهاز الدولة إلا أن تلك المخططات تعرضت لانتقاد شديد من قبل محمد المبارك، الذي حدّد السياسة الاقتصادية في ثلاث نقاط :
1-تحديد الثروة .
2-والضرائب التصاعدية .
3-وتوزيع الأراضي التي لا يستفاد منها من قبل ملاكها .
إنّ هذه المطالب الثلاث التي عرضها (محمد المبارك) على البرلمان عام 1947م كانت بمثابة المطالب الأساسية لسياسة الإصلاح الاقتصادي التي كان الإخوان المسلمون يطالبون بها، وأعلنوا عنها لاحقاً .
ب-طالب (المبارك) في المناقشة البرلمانية في 3/1/1948م بتقسيم الأراضي الزراعية من أملاك الدولة المتروكة والتي يمكن استصلاحها .
ج-عقد الإخوان مؤتمرات في دير الزور، وحلب أصدروا بعدها مذكرة تطرّقت للزراعة، وأوضاع العمال، وعدم اتخاذ الحكومة أية إجراءات لمعالجة الفقر، وإن عدم اهتمام الدولة بأمور الفلاحين دليل واضح على روح الطبقية التي ما زالت تسيطر على الحاكمين .
هذه التوجهات حيال الفلاحين والعمال تمثلها المبارك في معظم نقاشاته وأنشطته البرلمانية في مجلس 1947م، ولا سيّما تركيزه على تقسيم أملاك الدولة وتوزيعها على الفلاحين، ولو أنّ البرلمان والحكومات المتعاقبة أخذت باقتراحات المبارك في موضوع الأرض وتمليك الفلاحين، لوفّرت على سورية صراعاً طبقياً وفوضى عارمة، وقانوناً للإصلاح طبق في ظل الانقلابات العسكرية والسيطرة الدكتاتورية بروح الحقد والانتقام، فعطّل الازدهار الزراعي، وتراجع في ظله الانتاج، فخيم الركود على الحياة الزراعية والصناعية بعد قوانين التأمين فيما بعد، وهربت الأموال وهاجرت الخبرات والعقول وعاشت سورية ظروفاً قاسية امتدت لعدة عقود.
د-ومن المسائل الهامة جداً كانت قضية الخبز إذ أوجدت حكومة خالد العظم في عام 1941م أثناء الحرب العالمية الثانية ما اطلق عليه خبز الفقير بدعم حكومي، ثم أشيع بأن الحكومة التي كانت تعاني من نقص في الخزينة تطالب بإلغاء خبز الفقير، فردت المنار بشدة أدت إلى تعطيلها لمدة شهرين، وأعقب ذلك هجوم في البرلمان من الأستاذ محمد المبارك على البذخ والإسراف بمناسبة مناقشة الموازنة قال في ختامها : إن الدولة ليست بحاجة إلى حدائق ومتنزهات وعربات فاخرة للوزراء .
ه- ولما كانت القضية الفلسطينية في أخطر مراحلها، وكان التآمر الصهيوني والدولي عليها قد بلغ غايته، وكان التفريط بها من بعض الحكام في سورية وغيرها قد ألحق بالأمة الهزيمة نكراء مشينة، تحرك الإخوان والمخلصون في الوطن تحركاً مجزياً ، ورفعوا أصواتهم على كل الصعد، مطالبين بالتعبئة والثأر، والأخذ بالأسباب التي تعيد للأمة عزتها وكرامتها ، وكان من الأصوات المدوية صوت الأستاذ محمد المبارك في المجلس النيابي الذي يمثل الجماعة وينطق باسمها، فقد طالب بالتجنيد الإجباري وتسليح الجيش، وإعادة النظر في العلاقات الاقتصادية وغيرها مع الدول التي تظاهر العدو، وتقف معه وتمده بالمال والسلاح والرجال في حربه معنا، وعدوانه علينا .
وفي أثناء جلسة الثقة تكلم المبارك ، وطالب بالتعبئة العامة، وبأن تكون المسائل الداخلية للدولة مرتبطة بالسياسة الفلسطينية .
-ثم صار عين محمد المبارك وزيراً للأشغال العامة والمواصلات ممثلاً للجبهة الإسلامية التي كان يرأسها السباعي عام 1369ه/ 1949م، وكان رئيس الوزراء ناظم القدسي من حزب الشعب.
ولم يطل العهد بهذا المجلس المنتخب، فسرعان ما عاجله انقلاب عسكري قاده (حسني الزعيم) قائد الجيش السوري، فأطاح به وبالحياة الدستورية بكاملها، في 30 / 3/ 1949م أي بعد انتخاب برلمان 1947م بعشرين شهراً .
الجبهة الإسلامية :
في بداية الخمسينات قامت داخل البرلمان السوري عدة تكتلات مختلفة الأمزجة والمشارب، مما دفع الإسلاميين إلى تكوين تكتل سياسي إسلامي داخل البرلمان، فأسسوا الجبهة الإسلامية وكان ذلك عام 1951م ، وكان من أبرز شخصيات هذه الجبهة الشيخ مصطفى السباعي ، والأستاذ محمد المبارك المدرس في جامعة دمشق .
وكانت مهمة المجلس النيابي الجديد، هي وضع الدستور الذي سيحكم البلاد فيما بعد، وكان الصراع على أشده بين العلمانيين المستغربين الذين يطالبون بتحكيم القوانين الغربية الوضعية في البلاد، وإقصاء الدين من الحكم والسياسة، وبين الحركة الإسلامية، ولكن وجود جماعة الإخوان المسلمين، والمفكرين الإسلاميين الواعين، حال دون ذلك، واستعرت «معركة الدستور»، ونجح الإسلاميون في إقرار دستور للبلاد ينص على اعتبار الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع في سورية، وهذا بفضل الله أولاً، ثم بجهود الإخوان المسلمين، وعلى رأسهم الشيخ الدكتور مصطفى السباعي، ونواب الإخوان، والإسلاميين المستقلين .
وفي صبيحة انقلاب حسني الزعيم 30 آذار 1949م حضر النواب : أكرم حوراني، ولطفي الحفار، وصبري العسلي، ومعروف الدواليبي ، ومحمد المبارك، واجتمعوا في منزل رئيس المجلس النيابي (فارس خوري)، وأبلغوه أن الرئيس شكري القوتلي يرفض تقديم الاستقالة .
وعلى إثر انتخاب هاشم الأتاسي في رئاسة الدولة في يوم الأربعاء 14 ك1 عام 1949م حيثُ كلف السيد ناظم القدسي برئاسة الوزارة حيث شغل زكي الخطيب وزارة العدل، وهاني السباعي التربية، والأستاذ محمد المبارك وزارة الأشغال العامة .
وبعد انقلاب أديب الشيشكلي في 19 كانون الأول 1949م كلف الأتاسي السيد ناظم القدسي بتشكيل الوزارة فكان نصيب محمد المبارك وزارة الأشغال العامة ، ولكن تلك الوزارة لم تدم أكثر من 24 ساعة حيث انهارت في يوم واحد .
وخرجت حكومة خالد العظم بعد 8 أيام من المشاورات بتاريخ 27 كانون الأول عام 1949م احتفظ فيها خالد العظم بوزارة الخارجية، ومعروف الدواليبي بوزارة الاقتصاد، ومحمد المبارك بالأشغال العامة ممثلاً للإخوان المسلمين .
وفي اليوم التالي قرر المجلس إلغاء الرقابة على الصحف .
وفي حكومة د. معروف الدواليبي تولى محمد المبارك وزارة الزراعة غير أن الشيشكلي حذر الدواليبي بأن وزارته لم تكن مقبولة، ولكن الدواليبي لم يخش التهديد، ولم يرض بأي تسوية، وكان ينوي طرد الشيشكلي من الجيش مما دفعه مع مؤيديه للقيام بالانقلاب الثاني في 29 تشرين الثاني 1951م ، وتمّ اعتقال رئيس الوزراء، وبعض أعضاء حزب الشعب .
واجتمع الشيشكلي بالسادة مصطفى السباعي وجلال السيد ..وغيرهم، واقترح النواب تشكيل وفد لمقابلة الدكتور الدواليبي في السجن وبعد المقابلة فوّض الرئيس الأتاسي بأن يفعل ما يراه مناسباً، فكلّف بدلاً عنه حامد الخوجة رئيساً للوزراء .
وفي 20 آب 1954م جرت انتخابات طاحنة عن طريق الغرف السرية لأول مرة فازت فيها كتلة الإخوان التي يرأسها الأستاذ محمد المبارك بخمسة مقاعد.
وعندما دخل البرلمان في نقاش حاد حول دين الدولة خاض الإخوان معركة حامية؛ ليكتفي المجلس بأن ينصّ الدستور على أن يكون رئيس الدولة مسلماً، وأن سورية جزء من الأمة العربية .
المؤتمر الشعبي العربي :
هبّت الأحزاب في سورية لعقد مؤتمر شعبي عربي عام 1956م أثناء العدوان الثلاثي على مصر وظهور حلف بغداد فتمَّ تشكيل لجنة مؤلفة من علي بوظو عن حزب الشعب، ومحمد المبارك عن الإخوان المسلمين، وظافر القاسمي عن الحزب الوطني، وأكرم حوراني عن حزب البعث، وخالد العظم عن المستقلين، وخالد بكداش عن الحزب الشيوعي، وألقيت الخطب الحماسية، وأرسلت البرقيات إلى الأمم المتحدة والدول العربية ، وعقدت بعد ذلك عدة اجتماعات استطاع المؤتمر إنجاد مصر، وتخفيف الضغط عليها، ومساعدتها في محنتها .
ثم صار وزيراً للزراعة، في الفترة من (1369هـ 1372هـ/1949 ـ 1952م)، وعاد بعدها إلى مجلس النواب، نائباً عن دمشق من (1374هـ 1379هـ /1954م ـ 1959م).
وكان محمد المبارك أمة في رجل، وكان أفضل من مثل الجماعة في الحياة النيابية وفي الوزارات الائتلافية، وكان قد فرض على الحياة السياسية عبر المشروعات والمقترحات والمواقف البرلمانية للجماعة مكانة كبيرة، كما كان نزيهاً لم يعرف عنه أي استغلال طيلة حياته السياسية في المجلس النيابي وفي مقاعد الوزارات التي شغلها ، واستمر نشاطه السياسي الإسلامي حتى عام 1958م الذي تمت فيه الوحدة بين مصر وسورية، فأيدت الحركة الإسلامية الوحدة، ورفعت شعاراً يقول : الوحدة جزء من عقيدتنا، ثم رفضت الانفصال رغم تحفظها على سياسة عبد الناصر، وحينئذ انصرف الأستاذ محمد المبارك إلى العمل الجماعي العلمي، وفضل التدريس والكتابة، وإلقاء المحاضرات ليرفع مستوى الوعي الإسلامي العام عند الجماهير الإسلامية .
-يتبع -
وسوم: العدد 757