في الذكرى السنوية الأولى لرحيل والدي المربي الحاج/ عبد الهادي نعمان فيصل

clip_image002_d53be.jpg

من السهل أن يكتب المرء في موضوع عام أو خاص، للتعبير عن رأي، أو الدعوة إلى فكرة، أو وجهة نظر، فذلك يتوقف على حدود ثقافته واهتماماته، وبالنسبة إليّ، فإن هذا الأمر سهل الخوض فيه، والتعامل معه بكفاءة دون ادّعاء التميز عن الآخرين، أما أن أجد نفسي أمام حقيقة لا مناص منها، تفرض عليّ حالة نفسية لم أتصور أنها ستكون فرضاً في ظل عدم التفكير يوماً بأنني سأكون في مواجهتها، فهذا أمر غاية في الصعوبة !!

تناجيني روح أبي .. وتدغدغني صورته في الإطار، تلك حالة من الدراما، أعيشها منذ أن غادرنا على عجل في ليلة لا ضوء للقمر فيها، ورحل إلى أكرم جوار، ونحن على السفح نتطلع إلى الذروة التي احتلها سادن العلم في محرابنا، وبقينا نتشمم عبق عطره الحجازي الأثير، ونتسمع إلى جِرْس صوته، وما يزال يصدح: تعالوا، لنذهب سوياً إلى المسجد.

حرتُ وفكرت كثيراً، وسألت نفسي: أيتها النفس الأسيرة لحب والديك - الذي هو ليس كأي حب آخر - هل تسعفني الكلمات؟ لأكتب رثاء لمن كان رصيدي وقاموسي: الأخلاقي، والديني، والثقافي في الحياة، وإني أراني عاجزاً عن التعبير عمّا يخالج صدري من شعور أتعبه الحزن، وأنا أسطّر هذه الكلمات، فهي في نظري أشبه بواحة في صحراء مجهولة المدى، أو بسراب يحسبه الظمآن ماء، ولكنني سأفعل بلا تردد ..

آه .. يا أبي .. إنك تعيش في وجداني كأنشودة أزلية، وأنت ما زلت حياً في الذاكرة، آه .. يا أبي .. لقد مضى عام على رحيلك بجسدك، لكنك ما زلت تتربع أمامنا، وفي تفاصيل حياتنا اليومية .. نراك دوماً، وأنت تجلس على مقعدك الأثير على الأريكة تطالع الجريدة، وتحتسي القهوة .. وتداعبنا بعباراتك الرقيقة رقة نسيم الصباح، ونرى بسمة الشمس، ونسمع صوت زقزقة العصافير، ونشم عبق الزهور الآتية من حديقة المنزل، تلك التي غرستها بيديك الكريمتين..

آه .. يا أبي .. لا زلنا نعيش لحظات الوادع الأخير، تلك التي انطبعت في نفوسنا، حيث الابتسامة الأخيرة التي ستظل مبعثاً للأمل، والبشرى برضا الله سبحانه وتعالى.. آه .. يا أبي .. ما زلنا نردد صدى كلماتك :

آه .. يا أبتي آنست سكان القبور

أما المنازل يا أبي فتحولت .. قبراً بفقدك يا أبي

وغدا فؤادي بلقعاً بعد الرحيل

فالجسم يبلى، لكن روحك

باقية .. وأنا أردد دائماً :

ما زلتَ حياً في القلوب .. لا زلتَ سراً في الصدور .

أبي الحبيب .. لو كنت أملك أن أهديك عمري لسجلت أيامي باسمك، ولو استطعت أن أنتزع من قلبي وشراييني ذكراك التي تسري فيها لقدمتها أقنوماً وعرشاً لمملكتك !! لكن لا بدَّ من الإيمان بالقدر، فلا حصانة لأحد ضد الموت، ولا أحد سيبقى إلى الأبد .. فكل المخلوقات ستصل إلى النهاية، ولكن بمسافات مختلفة، وحياة الإنسان هي القصة الوحيدة التي يكتب القدر نهايتها، وأمام هذه الحقيقة الإلهية التي لا تُمارَى، فلا أملك سوى الكلمات ذات التعبيرات الصادقة عن عميق الحزن المتواصل لفراقك .. في نفسي .. وفي قلبي .. هذا الحزن الذي صار نزيلاً جديداً عندنا، فلتكن هي هديتي إليك.

أبي .. أنت في أعماقي، بحثت عن رائحة، فلم أجد أطيب من تلك التي ما زالت عالقة في ثيابي حين كنت تضمني إليك .. تحية لك مني في كل صباح .. وقبلة مرسلة إلى روحك الطاهرة في كل مساء، طيفك يطاردني دائماً، فأشعر بالأمان رغم غيابك، فالكون على اتساعه لا يضاهي أبداً سعة قلبك.

آه .. يا أبتي .. تقطعت القلوب وقطعت

طاحونة الأشجان .. وتمزق الشمل اللفيف بنا ..

غاب الهناء، وغادر الأمن الذي

بك كان يحيا هانئاً بأمان ..

يا أبي الحبيب .. يا قدوتي .. يا أيها

النبراس يسطع في دجى قلبي ..

يا أيها البحّار قد علمتني التجديف .. ضد أعتى الموج .. يا من أرفع رأسي عالياً افتخاراً بك .. أبعث إليك بباقات من الزهور التي بذرتها أنت في عرصات قلبي؛ لأنك وحدك مَن صبغت حياتي بألوان القيم والمحبة والعطاء .. وعلمتني أن الوجود صداقةٌ .. وأن الحقيقة ننقشها من نفوس الآخرين، ومن عظمة لقائنا بهم.

آه .. يا أبي .. رغم غيابك الطويل عني إلا أنني أجدك دائماً تجلس مقابلي في أوقات ضيقي .. تحلُّ لي الرموز .. وتهوّن عليّ المصائب .. فأنتشي، ويتحول صوتك إلى معزوفة .. أسمع فيها سر الوجود الأبدي ..

يا أبي .. قبل أن أنهي قصة الحب الطويلة معك .. وأنا في مدينة الرباط (غزة الحبيبة)، لا يفوتني إلا أن أُحيي ذكراك بهذه الكلمات .. وبهذه المناقب الحميدة .. وبهذه الدموع الحرَّى .. وأن أهديك أشواقي .. وأشواق أبنائي جميعاً إلى ذكراكم العطرة النضرة .. فهي تسري في دمائنا دوماً، وتعيش في ذاكرتنا الجمعية .. ونحن .. يا أبتي العزيز ما زلنا نحتاج إلى عطفك، حاجة النبات إلى الماء .. فأنت في وجداننا، وحبّك يُعشش في مسامنا .. وهو خالد في ضمائرنا.. كلماتك .. ابتساماتك .. أوامرك .. ونواهيك .. كلها في دفتر نقرأه دوماً.

أبي الحبيب .. حبر قلمي يقف عاجزاً عن إيفاء آثارك حقها في ميدان الوصف، أو تأدية ما يجيش في القلب من التقدير والاعتزاز .. والإكبار والتبجيل، لما أكنّه لك من عمق وصدق مشاعري .. لأنك أنت أول من وضعت بصماتك على سجلات تاريخنا، وعلمتني معنى الحياة .. وأمسكت بيدي وأنا أتنقل في دروبها .. وزرعت في قلبي الفضيلة بأكمل معانيها الخيّرة ..

أبي .. أنت الكلمة التي لا تمحو كل ما فيّ، والدنيا التي تحتويني، آمل أن يصلك إحساسي من خلال ما زفرته أنفاسي .. نم يا أبي .. قُمْ يا أبي .. فأنت بجوار ربك .. مالك الملك .. الرحمن الرحيم .. نم يا أبي .. فإني أبتهل إلى المولى في كل صلاة أن يجزيك جزاء الأبرار .. أيها المعلم المربي .. والذي لا ينازعك المكانة أحد بالغاً ما بلغ .. في حصيلة الجهد .. ونتاج العرق .. وتعب العمر ..

ولعلَّ ما جسدته جنازتك - التي سارت مشياً على الأقدام - أرقى مظاهر الحب والوفاء، وبهذه الجموع الغفيرة .. وفي هذا المشهد المهيب .. والتي انطبق عليها ما قاله الإمام أحمد بن حنبل، الذي صار حكمه مضرب الأمثال: (بيننا وبينكم شهود الجنائز) .. ربما وفاءً لمعلم كاد أن يكون رسولاً .. فلن يَتِرَكَ الله عملك الطيب وأياديك البيضاء .. نم يا أبي .. واتركنا نسرح في ذكرياتك العطرة العبقة .. دوماً وأبداً.

وعزائي الوحيد .. أنك تعيش معي دائماً .. فأنت حيّ .. أنت حيّ ! فذكراك لا تُنسى ولا تذوب .. أبي أنت حكاية عشق تذوب فيه الروح داخل جسدها؛ لتمنح عشقاً أبدياً لا مثيل له.

يا أبي .. أسكنك الله فسيح جنانه .. ولا أجد ما أختم به هذه الكلمات عنك يا أبي الحبيب خيراً من قول شوقي:

وأخْذُكَ من فمِ الزمانِ ثناءً   وتركُكَ في مسامِعِها طنينا

وهذا هو أنت يا أبي !!

clip_image004_43612.jpg

وسوم: العدد 760