نعِمَّا رجالٌ عرفتُهُم ، الشيخ أحمد عبدالله الدُّوغان 1332\1434هـ (6)
التَّواضُعُ خُلُقٌ حميدٌ ،و جوهرٌ لطيفٌ، يستهوي القلوب ، ويستثيرُالإعجابَ والتَّقدير، ويبعثُ على حبِّ صاحبِهِ ،والقُرْبِ منه ،وهو من أخصِّ خصال المؤمنين المتَّقين ،ومن كريمِ سجايا العاملين الصَّادقين ،ومن شِيَم الصَّالحين المُخْبتين.
ويُمكن القولُ عن التَّواضع بأنه لينُ الجانِبِ مع الخَلْقِ ،والخُضُوعُ للحقِّ ،وخَفْضُ الجَنَاح .
وقيل هو هدوءٌ وسكينةٌ ،ورَزَانَةٌ وبَشَاشَةٌ ، ورِقَّةٌ و وَقَارٌ ،
ومن حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم رضي الله عنه ذَكَرَعن التًواضُعِ وثمارِِهِ فقال:
{ مانَقَصَت مالٌ من صَدَقة، ومازاد اللهُ عبداً بعفوٍ إلا عِزّاً ، وما تواضَعَ أحدٌ لله إلا رَفَعَه} رواه مسلم
ويقول أمير المؤمنين أبوبكر الصديق رَضي الله عنه :
{وجدنا الكَرَمَ في التَّقوى ، والغِنَى في اليقين ،والشَّرَفَ في التَّواضُع}
أما الصَّحابي الجليل معاذ بن جبل رَضي الله عنه فيقول عن التَّواضع كلاماً يهزُّ القلبَ :
{ لا يبلغُ عبدٌ ذُرى الإيمان حتى يكون التَّواضُع أحبَّ إليه من الشَّرَف }
وقيل في الأثر أشدُّ العلماء تواضُعَاً أكثرهم عِلماً ،كما أنَّ المكان المنخفض أكثرُ البقاع ماءً وأكثرهم خيراً وعطاءً
وبحقٍ فإن التَّواضُعَ هو سُلَّم الرِّفْعَةِ والشَّرَف ،وارتقاءٌ لمنازل الفَضْل والقبول ،
وفيه أعظم أنواع المجاهدة ،حيثُ مجاهدةُ النفس ،وكبحُ جِمَاحِها عن الظُّهور،وقلبِ مجنِّ النَّفس عن الثَّناءِ والشُّهرة
فهو حقيقةً الجهادُ الأكبرُ لها ،
حتى يكون العملُ خالصاً لله ،لا يطلب فيه سِوَاه ،ولا يبغي أحداً إلا رضاه ،وهو بحقٍ توأمُ الإخلاص ومِرآته ونِعِما قول الشاعر :
تواضَعْ تكُنْ كالبدرِلاح لِناظرٍ على صَفَحاتِ الماءِ وهو رفيعُ
ولا تَكُ كالدُّخانِ علا خوَاءً إلى طَبَقات الجوِّ وهو وضيعُ
وكأنِّي فيما تحدَّثتُ به أنِفاً وما ذكرتُهُ من خِصالٍ حميدةٍ موشاةٍ بهذا الخُلُق الرَّفيع المُسَمَّى بالتَّواضُعِ ينسكبُ على شيخِنا القدير ،وعالِمنا الجليل مُجددِ الفقه الشافعيِ في الأحساء ،الشيخ أحمد عبدالله الدُّوغان رحمه الله
أجل صَعَدتْ روحُهُ لِبارئها ولكنَّ بُدُورَ أفعاله ،وأقمارَ أعماله ،وضياء أثره ،وجميل ذِكره، مازال يعيشها تلاميذه ،ومحبوه ،وطلابه ،وذووه حيث كان يُنيرُ لهم الطَّريقَ بسيرته ،ويُرشدُهم إلى سبيلها بأخلاقه ،مُقتدياً بكُلِّيتهِ بهديِ الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاةِ وأتمُّ التَّسليم لِأعود بذاكرتي إلى ثلاثةِ عقودٍ ونصفٍ وبالتَّحديد لعام 1405هـ متذكراً موعِداً لي في مسجدِ العميرِ في الكوت بُعيدَ صلاةِ المغرب مع أخوين كريمين كانا من خُلَّصِ أصحابي أما أحدهما فهو الأخ الحبيب المهندس عبدالقادرعموري الذي قَدِمَ إلى رحمةِ ربِّه العام الماضي
وأما الآخَرُ فهو الأديب القريب الأستاذ ياسين مرزا حفظه الله و رعاه وأطال عُمُرهُ وأبقاه حيثُ كانا يحضرانِ درساً في الفقهِ الشافعي عند الشيخِ الجليل أحمد عبداالله الدُّوغان رحمه الله .
كانت هذه الليلة هيَ المرةُ الأولى التي أسمعُ فيها عن الشيخِ الجليل ،والعالِمِ الفقيه والَّذي لم تكُن لي معهُ صلةٌ وثيقة لِالتزامي بمذهبِ سادتنا الأحناف، ولكن كانت لي لقاءاتٌ معه بِمناسباتٍ مختلفة ،وأُكِنُ له عظيمَ تقديرٍ و إكبار، ومثلها في قلبي من الحبَّ و الودِّ لِما سمعتهُ عَنْه ،ورأيتُهُ مِنْه ، وقرأتُهُ عن سيرتهِ العَطِرة من كِتاب أحدِ أخلص تلامذتهِ النُّجَبَاء وهو الأستاذُ الدكتور عبدالإله العرفج حفظه الله ورعاه والذي لازَمَهُ لِأكثر من أربعةِ عقود ملازمَةَ رقيب في حلقاته ودروسهِ ، في بيته ومسجده ،في حِلِّهِ وترحاله ،في بستانهِ مع طلابه حيث كان بحقٍ قُدوةً تُحتذى ،ومِثالاً يُقتدى تستشعر معهُ حين لقياه أنَّكَ مع البقيَّةِ الباقية الذين يُذَكِّرونَ بالسَّلَف الصَّالح بعلمه وتواضُعِه ،بسيرته وخُلُقِه ،تحكيه عنه مواقِفُ لا تُحصى، وتقصُّهُ ذكرياتٌ معه لا تُنْسى حيث كانت حياتُهُ بين الكتاب والمحراب ،مبتعداً عن الظُّهور والشُّهرة ،هكذا كان ولِعَالَم التَّواضع عنده عالَمٌ رحْبٌ واسعٌ ،وفضاءٌ فسيحٌ شاسعٌ ، حيث كان لا يسمح لطلَّابه أن يقوموا له تواضعاً منه ،وكان يقول لهم
(انتم تظنُّون أنِّي بشيء وأنا لست بشيء )ويكرِّرعليهم
(أنتم اصحاب الفضل عليِّ) لابل يقول لهم أيضاً (أنتم أفضل منِّي)
مردداً قول الشافعي :
ولقد ولد شيخنا في حي الكوت أشهر الأحياء العلمية في الأحساء في بيت علمٍ و فضل وصلاح عام 1332هـ وكان الفقرُ وضيق الحال يحيط ببيئته حيث اضطرت والدته أن تبيع من حُلِيِّها ليتعلم صغيرُها القراءة والكتابة ثم التحق بحلقاتٍ لتعليم القرآن الكريم حيث طلب منه شيخهُ أن يُوفِّر مُصحفاً خاصاً له للتعلم ،ولكن نظراً لضيق الحال ما استطاع والده تأمينه له، فتعهَّد والده بتدريسه القرآن تطييباً لخاطره، إلا أنَّ مشاغل الحياة وضيق الحال كان حائلاً عن أن يستمر الوالد في تعليم صغيره ويروي ظمأه وشغفه ،فدفعه لصديقٍ له هو الشيخ الجليل محمد حسين العرفج رحمه الله ليتولى تدريسه فكان أن أولاه الشيخ مكانةً خاصةً لصداقته مع والده ،ولما لمسه منه من حرصٍ ونباهة ونبوغ فتوثَّقت علاقتهما ببعض وأمَّن له شيخه بيئةً علميةً تربويةً تنبض بالرَّحمة ،وتخفق بالأبوَّة ،وتفيض بالحَنَان ،حتى كان أبوه يقول له أنت ابن الشيخ محمد حسين رحمهم الله أجمعين.
كان العلمُ للفتى روضَه وجِنَانه ،وروحَه ريْحَانَه حيث تابع تعلُّمَهُ ومضى في مسيرته العلمية ودروسه الشرعية وفيما كان يقطف بعض ثمارها نزل بوالده ريب المنون والأجل المحتوم وكان قد قارب العشرين، فثقل الكاهل بعد أن ذهب العائل ،رغم عناية الشيخ واهتمامه به إلا أنه اضطر للسفر الى الهند بحثاً عن الرزق مواصلاً رحلة تعليمه هناك عند مشايخ أجلَّاء أفاضل في شتى العلوم الشرعية، ومكث فيها زُهاء خمس سنوات عاد بعدها للأحساء ليواصل رحلته مع شيخه الأثيرمحمد حسين العرفج رحمه الله .
وفي سن الثلاثين تزوج وعُرضت عليه فرصة العمل في جزيرة جنة في عَنَك إماماً وخطيباً ومدرساً عند بني خالد ليقضي هناك فترةً ثم يعود للأحساء ليلتحق بالعمل في التعليم معلماً في المدارس الحكومية لمدة سبعٍ وعشرينَ عاماً مواصلاً خلالها مسيرة تعليمه واستزادته من العلوم الشرعيه مع أقرانه وزملائه.
وفي عام 1392هـ حين بلغ الستين من عمره افتتح أول حلقةٍ لتحفيظ القرآن الكريم في مسجد آل الملا في حي الكوت ، وكان يلبي كل طالب علم يطلبه ،ويستجيب لكل حلقةٍ علمية تريده واتسعت الدائرة وزاد روَّاد العلوم الشرعية لتزيد معها الحلقات في شتى العلوم الشرعية من أصول الفقه إلى علم الفرائض إلى الحديث الشريف إلى السيرة النبوية إلى القواعد والنحو والأدب والصّرف ليوكل مهمة بعض الدروس ابتداءً إلى بعض طلابه المتميِّزين ثم ليوكلها لهم بعد أن رقَّ جسمه ودقَّ عودُه في آخر سنيِّ حياته الحافلة بالغراس وهكذا كان الخِصْب والثِّمار ،والرَّياض والأزهار تضوعُ وتعبقُ من حلقات الدرس ومن رياض الأنس في المساجد راسماً لهم طريق السعادة والنَّجاة والقبول في الدَّارين حيث كان يُردِّدُ دائماً
وكان يُبيِّن لطُلَّابه طريقَ النُّبوغِ والتَّفوق وسبيلَ التَّعلُّم والتَّفَقُّه مبيناً لهم الصِّفات التي يجب توفرها في المُعلِّم والمُتعلِّم فأما المتعلِّم فأربع بها التوفيق ذكاءُ القريحة ،وطبيعة صحيحةٌ، وعنايةٌ مليحةٌ، وعلم ذو نصيحةٍ، وإذا جمع المعلِّمُ ثلاث خصال فقد تمَّتْ النعمة على المتعلِّم ألا وهي الصَّبرُ والتَّواضُعُ ،وحُسْنُ الخُلُق وإذا جمع المُتعلِّم ثلاث خصالٍ فقد تمَّتْ النِّعمة على المُعلِّم ألا وهي العقلُ ،و الأدبُ، وحُسْن الفهم
وكان يدعو إلى تقييد العلم لتثبيت المعلومة وحفظها مستشهداً بذلك بقو ل الشاعر:
كان يجمعُ في مسيرته التَّعليمية مع طُلاَّبه فضائل شتَّى من البساطة والأريحيَّة إلى الحِلْم والتَّواضُعِ مع الرِّفْقِ و الوَرَع مستصحباً فيها لُطفَهُ وحُبَّهُ، وحنْوَهُ وأَدَبَهُ ليشاركهم في أحوالهم ومناسباتهم كان رحمه الله لِينَ الجانِب سمتُهُ ،والتَّواضُعَ صفتُهُ، والملاطفةَ دأبُهُ، والرِّفْقَ ديدنُهُ يمازحهم مع عظيم هيبةٍ له .
مرةً قال لأحد طلابه طويلِ القامة خلافاً لشيخه) ما رأيك أن أُعطيك بشتي وتقصُّ من طوله ليلائمك !؟.. )
ومرةً من شدَّة فرح أحد طلابه قال لشيخه سأطلب من أمِّي أن تدعو عليك !!!بدلاً من قوله: أن تدعو لك فكان الشيخ رحمه الله يُذَكِّره بها ويمازحه بقوله )أما زالت أمُّك تدعو عليَّ )رحمه الله.
كان حريصاً على تعليم العلوم الشرعية وتفقيه طلبته لينالوا بُلْغَتَهم ويُحصِّلوا بُغْيَتَهُم ليصلوا إلى بَرِّ الأمان في حياتهم ويبلُغوا مُناهُم وسعادتهم في دنياهم وآخرتهم ،كانت حياته المسالمة,وطبيعته تحكيها آيةٌ من كتاب الله
"وعبادُالرَّحمن الذين يمشون على الأرض هوْناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً" سورة الفرقان 63 أجل كان كذلك ولا يحب الصَّخَبَ والضَّجيج يعمل بصمتٍ بعيداً عن أعين النَّاس كضوء القمر في الظُّلمات مضيئاً بهياً جميلاً صامتاً في جوف الليل بعيداً عن الأعين والظهور وكان يُردِّدُ دائماً
كان دأبُهُ النَّأيَ عن الجِدال ،والبُعدَ عن السِّياسة وعدم الخوض فيما لا جدوى منه ،عَفَّاً لا يذكر أحداً بسوء ،مُبتعداً عن الخصومات المذهبية ،والصِّراعات الفكرية وكان يقول :
(رحم الله امرءاًعرف زمانَهُ فاستقامت طريقته)
كما كان دائم السؤال عن أحوال المسلمين يفرح لأفراحهم ،ويحزن لآلامهم.
كان سعيه في حياته العلم والتعليم للعلوم الشرعية سعياًلإحياء السُّنَّة النَّبويَّة باتباع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم مُعَلِّم البشريَّة وقدوتها ،وخاتم النبيِّين وأسوتها، وكانت محبَّتَهُ للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلَّم هُياماً بمشاعره وأحاسيسه، واقتداءً بسُنَّته ،واتباعاً لهديه وسيرته طيلة حياته.
كانت صِلاته بمشائخ الأحساء من مختلف المذاهب الفقهيه قويةً على أحسنها والزيارات المتبادلة معهم لا تنقطع، كذلك كانت صلاته مع علماء أفاضل من مختلف الأقطار والأمصار لا يخوض في أحد ،ويكره الغيبة ،ولا يسمح لأحد أن يغتابَ أحداً عنَده ،مقيماً علاقات طيبة مع الجميع ،وإن اختلف معهم وا ختلفوا معه ويصبر على أذاهم ويبقى مسالماً لهم و إن سلحوا عليه بالقول ، يكره الغلوَّ والتَّمنطق ،ولايُحبُّ المجادلة و التَّشدُّق مستصحباً الحكمة المعروفة
(خيرٌ من أن تلعن الظَّلامَ أن توقد شمعة) وكان يردد دائماً
(النَّاس هلكى إلا العالمين , والعاملون هلكى إلا العاملين ،والعاملون هلكى إلا المخلصين و المخلصون على خطرٍعظيم) كأنه يستحضربذلك الآية القرآنية
(والذين يؤتون ما آتوْا وقلوبُهُم وَجِلَةٌ أنَّهم إلى ربهم راجعون) المؤمنون, آية (60)
وكان يفتخر بعبوديته لمولاه وانضوائه تحت لواء سيد المرسلين محمد عليه أفضل الصَّلاة وأتمُّ التَّسليم مردِّداً قول أمير الشعراء أحمد شوقي
:
كان يعرف قيمة العلم والعلماء ،ويعرف كم يتوجب عليه وعلى العلماء للحفاظ على قيمة ما تحويه صدورهم ،وماتغتني بهم عقولهم لذلك كان يردد قول الإمام الجرجاني :
والحقيقة أني بعد أن اطَّلعت على سيرته ،وما كُتب عنه، وما رأيته منه، وما سمعته من أفواه الكرام الأفاضل الَّذين صاحبوه والنَّاس شهود الله في أرضه تذكرت حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام بقوله "يوشك أن تعلمَ أهلَ الجنَّةِ من أهل النَّار فقال: بما ذاك يا رسول الله فقال : الثَّناءُ الحَسَن والثَّنَاء السَّيِّء , أنتم شهداءُ الله بعضكم على بعض "رواه احمد وابن ماجة
فهنيئاً لمن حَسُنَ مَقَالُهُ، وحَسُنَتْ فِعَالُهُ ونال وظَفَرَ بالذِّكْرِ الحَسَنْ والثَّنَاء الجميل
وفي 14/12/1434 هـ قدم شيخنا إلى رحمة ربه حيث وافاه الأجل المحتوم وصُلِّيَ عليه في جامع الجبري في الكوت وكانت جنازته مهيبة حيث دفن في مقبرة الكوت تذكرت ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى :
(اولم يروْا أنَّا نأتي الأرضَ ننقُصُها من أطرافها )
قال : خرابُ الأرض بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير فيها
أجل والله ولا نقول إلا عوضنا الله بأمثاله ،وتقبله مولانا في عليين، لأختتم مقالتي برثاء يقطر عذوبةً ووفاءً من أحد تلاميذ شيخنا النُّجَبَاء الأستاذ الفاضل عبد الرؤوف العبد اللطيف ذاكراً فضلَهُ وأثَرَه عليه:
رحمه الله ،وطيَّبَ ثَرَاهُ، وتَقَبَّلَهُ مَوْلاه، والحمد لله رب العالمين.
وسوم: العدد 816