من هو الشهيد محمد يوسف هواش
اذا كان الشهيد “سيد قطب” عملاق الفكر والأدب والبلاغة والتفسير والعقيدة، وبقيت كلماته وأفكاره منهلا تربويا متجددا في كل المراحل التاريخية والتحولات الكبرى تضيء الطريق؛ فإنّ الشهيد “محمد يوسف هواش” هو الأب الروحي للمنهج الحركي والذي استطاع أن ينشئ تنظيما في أوقات الشدة ارتبط بالدعوة، فكان أحد رجالها المخلصين وفى ذلك يقول:
“بدأت نشاطي في جماعة الإخوان المسلمين سنة 1945م؛ حيث انضممت لشعبة طنطا، وكنت وقتها طالبًا في مدرسة طنطا الصناعية، ثم أصبحت وكيل شعبة مصر القديمة وكنت عضوًا في فصيلة جنوب القاهرة وكان رئيس الفصيلة الأخ الشهيد كمال السنانيري”.
وكما قال الإمام “حسن البنا”: “إذا لامستْ معرفة الله قلب الإنسان تحول من حال إلى حال، وإذا تحول القلب تحول الفرد، وإذا تحول الفرد تحولت الأسرة، وإذا تحولت الأسرة تحولت الأمة، وما الأمة إلا مجموعة من أسر وأفراد”.
تزوج الشهيد “محمد يوسف هواش” من الأستاذة “فاطمة عبد الهادي” وهى واحدة من قامات دعوة الإخوان المسلمين، ممن تعلمن على يد الإمام الشهيد، وممن حملن الأمانة وعِشْن سنوات يجاهدن ويتحملن الكثير.
ظل “محمد هواش” يعيش مع زوجته في المَنْيَل وكان يقطن في ذات العمارة التي يقطن بها “السادات”، وقد عرفه كل رجال المباحث ورجال المخابرات المكلفين بحراسة منزل “السادات”، حتى حدثت حادثة المنشية عام 1954م لتُمَكِّن لـ “عبد الناصر” من الحكم، فاجتاحت سلطاته البلاد تعتقل كل مَن تصل إليه أيديهم، وكان “هواش” أحدَهم، فذهبوا إلى بيته لاعتقاله وانتظروا عودته ليقبضوا عليه، غير أنه عندما وصل إلى مدخل المنزل أشار له الحراس المكلَّفين بحراسة “السادات” أن المباحث في الشقة للقبض عليه ويجب أن يهرب، واستجاب فعلا وهرب مدة عشرة أشهر.
وأخذ ينظِّم مَن بقي من الإخوان خارج السجون ويقودهم، واستطاعت أجهزة الأمن أن تكتشف نشاط “هوَّاش” الجديد، فألقت القبض على التشكيل، وتمكَّن “هوَّاش” مِن الإفلات للمرة الثانية.
وشكّل تنظيمًا آخر من شباب المدارس الثانوية وطلاب الجامعات، وكان هذا التنظيم الأخير من أجل تمويل أُسَر المسجونين التي لا عائل لها، وفي هذه المرة أُلقِي القبض عليه قدرًا.
لقد كانت صدمة عنيفة لـ “عبد الناصر” وتأثرت أعصابه وحالته النفسية كثيرا بل اضطربت – شيئا ما – حالته العقلية وهو يرى أن الإخوان يصلون إلى هذا المستوى من التنظيم، ويستطيعون النفاذ حتى يصلوا إلى حرسه الخاص فينظموا “إسماعيل الفيومي” رحمه الله بين صفوفهم، وهذا الجندي الذي اتهم بأنه المعد لاغتيال “عبد الناصر” ولذا فقد حملوه بأرجله وضربوا رأسه بتمثال “عبد الناصر” فقضى نحبه إلى الله على طريق قافلة الشهداء.
أما زوجته فبعد اعتقال زوجها عانت الكثير من المتاعب على يد زبانية “عبد الناصر”، واستمر ضغط المباحث عليها لتطلب الطلاق من زوجها فرفضت، فهددوها فأبت!!
وحضرت الجلسة الأخيرة، وسألت الشهيد “سيد قطب”: هل سينفذون حكم الإعدام؟
فرد عليها: “إنْ كنا أهلاً للشهادة سينفذون، وإن لم نكن أهلاً لها لن ينفذوا”.
وبعد تنفيذ حكم الإعدام لم يُسلم زبانية “عبد الناصر” الجثة لها، استحضر عبد الناصر بعثة من علماء النفس الأمريكان ليدرسوا نفسيات الإخوان وطريقة غسل أدمغتهم، ولدى تفريغ الاستمارات التي عبأها الإخوان في السجون خرجوا بنتيجة (أنه لا يمكن لهؤلاء أن يتغيروا).
وقد جمعت بين “يوسف هواش” و “سيد قطب”، توأمة المحبة والأخوة في الله، فصدق فيهما قول رسولنا القدوة ﷺ: “ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه”..
كما جمعت بينهما وحدة الفكر والفهم والتصورات للإسلام والدعوة والحركة، بالإضافة إلى مستشفى ليمان طرة التي عاشا فيها معًا فترة الاعتقال الأولى كلها، من أغسطس 1955 حتى أغسطس 1964، وفي الختام جمعت بينهما الشهادة التي نالاها معًا في يوم واحد.
ولقد تأثر الشهيد “سيد قطب” كثيرا بالشهيد “محمد يوسف هواش” فقد قال الدكتور “محمود عزت” أنّ “هوّاش” “كان رفيق “سيد قطب” طوال فترة سجنه، وكان الأستاذ “سيد” يرحمه الله يعرض عليه كثيراً مما يكتب، وأحياناً يأخذ بوجهة نظره، فيعدّل”.
ويذكر الدكتور “توفيق الواعي”: أن “سيد قطب كان يعتبر “هوّاش” شريكه في كل ما وصل إليه من فكر”.
وتشير “حميدة قطب” إلى أن “الكثير من أفكار “محمد يوسف هوّاش” قد تسللت إلى عقل “سيد قطب” وقلبه، ونقلت عن “سيد” أنه تأثر بـ “هوّاش” كثيرًا، خاصة فيما كتبه في كتابه الشهير (معالم في الطريق).
تقول زوجة “هوّاش”: “ويجزم الأستاذ “أحمد عبد المجيد” والذي كان معتقلاً معهما أن سيد قطب استفاد من “هوّاش” في خطه الحركيّ وفي الإلمام بسيرة أحوال جماعة “الإخوان المسلمين”، والدروس المستفادة منها، وأنّ “هوّاش” قال له ذات مرةٍ وهم في طوابير السجن الحربي: إن كل بابٍ وكل عبارةٍ في كتب سيد أعرف متى كتبت وأعرف مناسبتها ومناقشاتها حتى وصلت بصورتها التي ظهرت بها.
وكان الشهيد يوسف “هواش” من رجال العقيد قبل أن يكون من رجال المنهج الحركيّ، فعندما سأله “الدجوي”: هل لك اعتراض على المحكمة؟
قال: إنني كمسلم ومن وحى عقيدتي أرفض أن أتحاكم أو أحاكَم إلى محكمة لا تحكم بما أنزل الله وهذه عقيدتي.
ولقد كان الشهيد “محمد يوسف هواش” يتبادل الخطابات التربوية مع زوجته وأولاده وكان من خلالها يعلِّمهم أن الحياة لا قيمة لها وأن الدار الآخرة خير وأبقى، وأنه على أعتاب الشهادة التي تمناها طوال حياته، ويوصيهم في هذه الخطابات بالتمسك بكتاب الله وسنة نبية ﷺ ويرسم لهم الطريق في غيابه.
كان “يوسف هواش” يقضي يومه كاملاً في العمل مع الإخوان فلا يأتي إلي البيت إلا متأخراً ربما في الواحدة أو الثانية بعد منتصف الليل، وكان يأتي بصحبة الأخ “كمال السنانيري” الذي كان يسكن بجوارنا -كما تقول زوجته- وكانت تجمعهما علاقة وطيدة ومحبة – رحمة الله عليهما – وكان يشفق عليّ من السهر في انتظار عودته فكان يطلب مني أن أترك له الطعام علي المائدة ثم أنام على أن يتناول هو العشاء عند عودته من دون أن يوقظني.
وكان الشهيد “هواش” نموذجا للمربي الواعي. الحكيم.
يقول الدكتور “محمود عزت”: كنت أمشي مرة خلفه، وكنا نصعد السلالم، فرأيته يردد عبارة: «كله في حبك يهون»، وكان من بين الإيذاء في السجن الحربي أن الميكرفونات تردد بصوت عال أغاني «أم كلثوم»، فشعرت أن الرجل كان يناجي ربه، ولمست من هذه العبارة عبارة قريبة من مناجاة ربه، نعم كل شيء في سبيل الله يهون .. التعذيب يهون .. الحرمان من كل شيء يهون ..
كان الأستاذ “هواش” حريصاً على أن يوصل كل ما عنده للجيل التالي، وكان يرى في أخي د. صلاح عبد الحق ـ وكان أصغرنا سناً ـ، ثم أنا، ثم أخي الشهيد فاروق المنشاوي (استشهد في السجن أيضاً) يرى في هؤلاء الشباب الثلاثة وعاءً يحمل هذه الدعوة؛ فحرص على أن يسكن معنا، ففي الفترة ما بين المحاكمات إلى إصدار الأحكام كنا في زنازين انفرادية،
ورأيتُ رؤيا وأنا في زنزانتي وافقتْ ما كان يطلبه الأستاذ “هواش”، كان حريصاً عندما تنتهي فترة الحبس الانفرادي أن يكون قريباً من شباب الإخوان حتى يستطيعوا حمل ما عنده من هذه الدعوة المباركة، وكنا نسأله ويحدثنا فيما يراه من تاريخ الدعوة من الدروس المستفادة،
وكان رفيق الأستاذ “سيد قطب” طوال فترة سجنه، وكان الأستاذ “سيد” يرحمه الله يعرض عليه كثيراً مما يكتب، وأحياناً يأخذ بوجهة نظره فيعدّل ما كتب،
وذات مرة سألته عن شيء فصمت، وتعودت منه التفكير قبل أن يجيب، فسألته مرة ثانية فصمت، فظننت أنه يفكر في الإجابة، وفي المرة الثالثة لما سألته قال لي: ماذا فعلتُ عندما سألتني؟ قلت له: صمتَّ، قال: هذه هي الإجابة..
كان يعلمنا أدب الحوار وأدب الحديث، وعندما نتناقش في موضوع من الموضوعات ننزل بعد ذلك إلى الطوابير وننتهز أي فرصة للحديث بيننا وبين إخواننا، وننقل للأستاذ “هواش” تساؤلات إخواننا.
كان لديه إحساس أنه سينال الشهادة، وكان حريصاً جدًّا على أن يكون أميناً في تبليغ هذه الدعوة، وكان مشغولاً بهذا الأمر شغلاً كبيراً.
حكى لنا مرة رؤيتين؛ الرؤيا الأولى: هي أنه يقف في صف والرسول ﷺ يسوي هذا الصف، فلما استوى هذا الصف أخذ الأستاذ “هواش” خطوة إلى الأمام كما يفعل الجندي، وأخذ يتحدث مع الرسول ﷺ يقول له: يا رسول الله، هل بدّلنا من بعدك؟ هل غيّرنا من بعدك؟
فأجابه ﷺ في الرؤيا: «لا، بل أمناء .. أمناء .. أمناء.
والرؤيا الثانية التي قصها علينا أيضاً: أنه رأى من يعذبوننا ويؤذوننا يدخلون إلى ذات الزنازين التي كنا نسكن فيها، وأشار إلينا أن هذه الزنزانة سيكون فيها فلان وهذه الزنزانة سيكون فيها فلان، وكنا نعجب من هذا الكلام!!
ولكن بعد أن نُفذت الأحكام واستشهد الأستاذ “هواش”، وحدثت نكسة 1967م تحققت رؤياه، لم يرها لكنها تحققت، أحسب أنه صدَقَ الله فصدقه الله، ورأينا ما قصه علينا.
ولقد تعرض “محمد هواش” لأبشع أنواع التعذيب أثناء التحقيق، حتى إنه لم يستطع أن يكتب التقرير الذي سُجِّلت فيه اعترافاته بخط يده،
وقد قالت الحاجة زينب الغزالي: “لقد رأيت الشهيد “محمد هواش” يذهب إلى مكاتب التحقيق وهو يزحف على مرفقيه وركبتيه !!”
تقول زوجته: وعند زيارتى له، التى سبقت تنفيذ الإعدام، نقلونا إلى خيمة وأتوا به وقد تورم وجهه من شدة الضرب، ثم ألقوا به في الخيمة أمامنا وهو يقول: مش عارف أندم على إيه؟ ماذا فعلت لأندم عليه؟!
وأخبرني أنهم كانوا يريدون منه أن يبدى ندمه على ما فعل ليعلنوا ذلك على الناس، ويستغلوه إعلاميا، ومَنْ يدرى فربما نفذوا فيه الحكم أيضا بعد إعلانه الندم .. لكنه رفض ذلك رغم التعذيب والإهانة ..
كان متأثرا جدا في هذه الزيارة، وعندما رأيته في هذه الحالة طلبت من الضابط أن يسمح لي بإحضار الطعام الذي أخذوه منا عند دخولنا، فقال لي محمد: لماذا أتعبت نفسك؟ ثم إنني صائم؟ وهل تعتقدين أنهم سيسمحون لنا بأخذ هذا الطعام معنا لنفطر عليه؟!
ثم هوّن عليّ فقال: يا فاطمة إن هذه الدنيا لا تساوى عند الله جناح بعوضة، وإلا ما سقى منها الكافر شربة ماء، فهوّني عليك،
وقال لي: لا ترهقي نفسك».
وقبل أن يأخذوه منا قال لى: أوصيك بسمية وأحمد،
فقلت له معاتبة: أتوصينى بأولادى؟! توكل على الله، والله لن يخزيك الله أبدا، وفى الصباح أعدموه.
هكذا كان الشهيد “محمد يوسف هواش” رجلَ دعوةٍ نذَر لها نفسه وحياته، على الرغم من مرضه الجسدي إلا أنه كان يحمل بين جوانحه قلبا سليما.
تقبله الله في الشهداء .. ولعْنةُ الله على قاتليه.
*ثبتنا الله على الطريق غير مضيعين ولا مبدلين*
وسوم: العدد 839