شمس الأئمة السرخسي
000- 483
000- 1090
القاضي شمس الأئمة، أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل، السرخسي نسبة إلى سرخس، بلدة في خراسان، الفقيه الحنفي الكبير كان إماماً علامة حجة متکلماً مناظراً أصولياً مجتهداً، عده ابن کمال باشا من المجتهدين في المسائل، لازم شمس الأئمة عبد العزيز الحلواني وأخذ عنه حتى تخرج به وصار أوحد زمانه، ألف عدداً كبيراً من الكتب الجليلة النافعة، فمن ذلك:
الكتاب الذي شرح به الجامع الكبير للإمام المجتهد أبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني، صاحب الإمام أبي حنيفة، (توفي الإمام محمد سنة سبع وثمانين ومئة، والإمام أبو حنيفة سنة خمسين ومئة).
وهو كتاب جليل، اهتم به العلماء اهتماماً عظيماً، حتى شرحه منهم أربعون عالماً ونيف، منهم الملك المعظم.
ولم تقف عناية العلماء بالجامع الكبير على هذه الشروح العديدة بل أقبل بعضهم على نظمه شعراً، وكان من هؤلاء أحمد المحمودي النسفي الذي أورد في كل باب قصيدة فبلغ خمسة آلاف وخمسمائة وخمساً وخمسين بيتاً وكان إتمامه له في محرم سنة خمس عشرة وخمسمائة. هذا لم يكن من الغريب أن يهتم السرخسي بهذا الكتاب فيشرحه لنا هذا الشرح النفيس. وله أيضاً كتاب المحيط وهو كأكثر كتبه، في الفقه الحنفي - في عشر مجلدات، ويقال له الرضوي، صنفه أولاً ثم لخصه، يقول عنه: جمعت فيه عامة مسائل الفقه مع مبانيها ومعانيها، بدأ كل باب مسائل المبسوط وأردفها بمسائل النوادر، ثم أعقبها بمسائل الجامع، وضم إليها مسائل الزيادات، وسماه محيطاً لشموله على مسائل الكتب وفوائدها وحقائقها. "المبسوط، والنوادر، والجامع، والزيادات من كتب الإمام محمد".
وله أيضاً: الأمالي، وشرح أدب القاضي، وشرح الجامع الصغير وشرح الحيل الشرعية، وشرح کتاب الكسب، وشرح مختصر الطحاوي، وكتاب الحيض، وصفة أشراط الساعة.. هذه المؤلفات العظيمة تدلنا على غزارة علم السرخسي الذي أعان عليه، هذه الذاكرة العجيبة، التي حباه الله تعالى بها، حتى لنكاد نتردد في التصديق حينما نسمع أنه ذكر مرة للسرخسي أن الإمام الشافعي حفظ ثلاثمائة كراس، فقال: حفظ زكاة ما أحفظ فحسب ما حفظه فكان اثني عشر ألف كراس..
ولكننا لن نستطيع أن نبقى في ترددنا طويلاً، حينما نطالع الكتاب الضخم الفخم، المبسوط، بأجزائه الثلاثين الذي ألفه السرخسي دونما رجوع إلى كتاب أو دفتر أو فقيه وإنما أملاه كله من خاطره إملاء، وهو مسجون في جب، يملي من ذاكرته، وطلابه عند أعلى الجب يكتبون، هذا الكتاب الذي هو كالشرح لكتاب الحاكم الشهيد: الكافي فهذا يدلنا ليس فقط على أنه كان يحفظ کتاب الشهيد كله عن ظهر قلب، وإنما يدلنا أيضاً على هذه المعلومات الغزيرة والمعرفة الواسعة التي ملأ بها هذا الكتاب الجليل الذي يزخر بذلك العدد الهائل من الأحاديث والنصوص والأخبار التي كانت مستقرة كلها في هذا الذهن الجبار. وإذا بقي بعد هذا من جعله عجبه ودهشته يستبعد وجود مثل هذه الذاكرة، وكأنها يستعظم على الله عز وجل أن يحبو من يخلص نيته له، ويصدق العمل فيه، مثل هذه النعمة، ويمن عليه بهذه المنة، إذا وجد من يستبعد ذلك، فإنه لا يملك إلا أن يدع استبعاده ويشهد مع الشاهدين، حينما يعلم أن السرخسي لم يؤلف في سجنه (بأوز جند) كتابه المبسوط فقط، وإنما ألف فيه أيضاً كتابه الهام في أصول الفقه: الأصول، وألف كتاب: زيادة الزيادات، شارحاً به كتاب الإمام محمد: الزيادات المشهور الذي قيل فيه:
أملى على طلابه هذه الكتب، وشرع أيضاً يملي كتابه شرح السير الكبير، موضحاً به وشارحاً كتاب الإمام محمد: السير الكبير، فهذا يشير لنا إلى أن كتب ظاهر الرواية للإمام محمد كانت جزءاً مما يحفظه هذا الرجل العظيم.
ولكن عظمة هذا الرجل لا تقف عند هذا العلم الواسع، بل إن سجنه هذا، ليكشف لنا جانباً آخر من عظمة هذه الشخصية الجليلة، فإذا كان كثير من العلماء إنما يطلبون بعلمهم الدنيا ويجعلونه مطية لمالها وجاهها يلقونه على أبواب الكبراء والحكام والسلاطين، ويلقون معه دينهم وعزتهم، ليجود عليهم هؤلاء ببعض الحطام:
إذا وجد في العلماء من هذا القبيل، الكثير، فإن السرخسي ويشهد له سجنه أنه عرف قيمة علمه وأدى حقه، فكان صلباً في دينه، مستقيماً فيه، جريئاً في صدعه بالحق، لا يخاف في الله لومة لائم، يوقن بعظمة الله فتدل الجبابرة في ناظره، ويصدق بوعيد الله، فيستخف بوعيد عبيده، ويؤمن بوعد الله، فيزهد في الدنيا وترهاتها ولا يأبه لما يفوته منها، ولا يرى فيه أعظم من جزء من جناح البعوضة. كان عالماً يعرف الحق الذي يوجبه على العالم علمه.
أجل، كان سبب سجنه، أنه عَلِمَ أن الخاقان «ملك الترك ببلاد ما وراء النهر، عزم أن يتزوج بجارية له أعتقها ولم تنقض بعد عدتها. ولم ير السرخسي إزاء هذا أنه يسعه السكوت ولو كان الخاقان ظالماً بطاشاً سفاكاً للدماء، فبين له بحزم أن هذا لا يحل، وغضب الخاقان، وتهدد وتوعد، ولكن السرخسي لم يكن ممن يحابي في الحق، أو يلين في موضع الصدع، أو ترعد فرائصه أمام الوعيد، كان من أنفته وعزته بالعلم، كأن الجرجاني يعنيه حين قال:
فكان أن أمر به الخاقان إلى السجن. وذهب إلى السجن، لم يذهب مكتئباً حزيناً ذليلاً، يرى في السجن مجمع المصائب والبلايا والهموم وإنما ذهب عزيزاً كريماً، وكأن هذا السجن دلیل عزته، وعنوان استقامته، وبرهان عمله بعلمه، ذهب إليه دون مبالاة أو اهتمام، کما يذهب إليه من أوتي من صفاء البصيرة ونور اليقين ما جعله يؤمن أن القتل شهادة، والسجن خلوة، والنفي سياحة.
فأقبل في السجن على عمله، ودأب على التأليف، لقد منعوه الكتب والأقلام والدفاتر، ولكنهم لم يستطيعوا أن يسلبوه هذه الكتب الكثيرة التي ضم عليها صدره، ولا هذا القلم الماضي الذي أطبق عليه فكيه، فكان أن أنتج لنا في هذه الفترة التي سجن بها، ما لم يستطعه العلماء الطليقون الكثر.
وكان كلما أنهى باباً من الكتاب ختمه بعبارة يذكر فيها حاله، فيقول عند فراغه من كتاب العبادات؛ هذا آخر شرح العبادات بأوضح المعاني وأوجز العبارات أملاه المحبوس عن الجمع والجماعات. فترى كيف أنه يقول في هذا الكتاب. وقد ذكرنا أنه ثلاثون جزءاً - أنه استعمل أوجز العبارات فكم تری کان یکون كتابه لو أسهب فيه واعتمد فيه على كل علمه وكامل حفظه؟ وقال في آخر کتاب الإقرار: انتهى شرح الإقرار المشتمل من المعاني على ما هو من الأسرار أملاه المحبوس في محبس الأشرار.
فتراه وهو في السجن لا يلين ولا يخضع، وأي سجن في الدنيا أو طاغية في الأرض يستطيع أن يلين من قناة المؤمن الذي آمن بالله فاستهان بملوك الأرض وصدق بوعد الله فازدرى المال والجاه ولذات الدنيا.. فلا عجب بعد هذا أن يكون حاله في السجن لا مقام المتزلف الذليل المنكسر ولكن موقف الأبي الذي يعلن بينهم أنهم من "الأشرار".
وتلاحظ أيضاً في هذه النفس الكبيرة، أنه لم يندب الحظ العاثر ولم يشك السجن الضيق، ولم يتسخط الحبس والاعتقال، وإنما كان الذي يهمه ويغمه، أنه حبس عن البقاع الشريفة والأعمال الرابحة الحبيبة، فيملي بأسى وحرقة: أملاه المحبوس عن الجمع والجماعات.
ولم يزل على جده وعمله، حتى وصل في الإملاء إلى باب الشروط، من كتابه شرح السير الكبير، فحصل له الفرج فأطلق، فخرج إلى فرغانة، حيث أنزله الأمير حسن بمنزله وأكرمه. وتوجه إلى مرغينان. «بلد في نواحي فرغانة، نبغ منها صاحب الهداية» حيث لحق به طلابه إلى هناك فأخذ يملي عليهم تتمة الكتاب حتى أكمله، وذلك سنة ثمانين وأربعمائة قبل وفاته بثلاثة أعوام رحمه الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وسوم: العدد 862