الأمير محمد عبد الكريم الخطّابي (أبو حسن) بطل الريف
(1300 - 1383ه / 1882 - 1963م)
مولده ونشأته
هو محمد عبد الكريم الخطّابي زعيم ومجاهد إسلامي من بلاد الريف بالمغرب الأقصى، من قبيلة (بني ورغايل) الريفية من قبائل (الأمازيغ) وُلد سنة 1300ه (1882م)، أي في الفترة التي شهدت حدّة التنافس بين الدول الأوروبية المستعمِرة على القارة الإفريقية.
تلقى الأمير دراسته الأولية بجامعة (القيروان)، واطلع على الثقافة الغربية، واصطدم بالإدارة الإسبانية في «مليلة»، فسجن، غير أنه تمكّن من الفرار من سجنه وعاد إلى مسقط رأسه.
بطولته وشجاعته
تزعّم قبيلته بعد وفاة والده سنة (1339ه/ 1920م)، وحمل راية الجهاد، فأباد ورجاله جيشًا إسبانيًا يتكون من أربعة وعشرين ألف مقاتل بقيادة الجنرال (سلفستر) سنة (1340ه / 1921م)، وذلك في معركة (أنوال) المشهورة، وبذلك تمكّن من السيطرة على بلاد الريف، ومنطقة عمارة، واتخذ «أغادير» عاصمة له.
أما النفوذ الإسباني، فقد اقتصر على مدينة «تطوان»، وعلى بعض الحصون في الجبال القريبة منها، وفي هذه الأثناء، قامت في إسبانيا دكتاتورية (بريمودي ريفيرا) سنة (1342ه/ 1923م)، فأرسلت قوات جديدة إلى الريف لمحاربة الأمير الخطابي، بلغت مئة وخمسين ألف مقاتل بقيادة الجنرال (بيرنجر)، وقد رفض الخطابي العروض الإسبانية بالاعتراف باستقلال الريف تحت سيادته بحماية إسبانية، ثم هزم الإسبان، وطاردهم سنة (1343ه/ 1924م)، حتى مدينة (تطوان)، وقد بلغت حكومة الأمير الخطابي ذروة قوتها عام (1344ه/ 1925م)، وأصبح مضرب المثل في جهاده ضد الاستعمار الأوروبي، وما زال اسم محمد عبد الكريم رمزًا للرعب في اللغة الإسبانية، ولقد تمكَّن الخطابي أيضا من أن يهزم القوات الفرنسية في معركة (تازة) سنة 1344ه (1925م)، فعملت فرنسا على إضعافه بإشاعة أنه يطمع في عرش مراكش، ونسَّقت دعايتها مع الحكومة الإسبانية، كما ضمنت معاونة إيطاليا وصَمْتَ بريطانيا، وقد أحدث هذا انقسامًا في صفوف المجاهدين، وتحالف بعض أتباع الطرق الصوفية مع القوة المعادية، فقد تحالف أتباع الشيخ عبد الحي الكتاني والشيخ عبد الرحمن الدرقاوي مع الفرنسيين، وبلغ عدد القوات الفرنسية والإسبانية التي واجهت الأمير الخطابي مئتين وثمانين ألف جندي، مما اضطره إلى التسليم للفرنسيين سنة (1345ه 1926م) الذين نفوه إلى جزيرة (ريونيون) إحدى جزر المحيط الهندي، حيث قضى في منفاه هذا إحدى وعشرين سنة.
لجوؤه إلى مصر
وفي عام (1367ه / 1947م) قررت فرنسا نقله إليها على متن سفينة عبر قناة السويس، فتمكن من الفرار إلى داخل مصر يوم 29/5/1947م بتحريض من شباب المغرب وتونس والجزائر، المقيمين في مصر والمنضوين في مكتب المغرب العربي بالقاهرة، حيث زاروه على السفينة وأطلعوه على أوضاع المغرب العربي الكبير، وحدّثوه عن نشاطهم من خلال المكتب بالقاهرة، ورجوه أن يتقدم باللجوء إلى مصر للاستمرار في مواصلة الكفاح والنضال من أجل تحرير المغرب العربي الكبير، تحت راية واحدة، تناهض الاستعمار، وتتصدى له، فانشرح صدر الزعيم الخطابي لكلامهم، ووافق على اللجوء إلى مصر، بشرط موافقة الحكومة المصرية، كما صعد وفد الإخوان المسلمين برئاسة الأستاذ طاهر منير - رئيس الإخوان بالسويس - مرحبين به.
بذل الأمين العام للجامعة العربية الأستاذ عبد الرحمن عزَّام جهودًا مكثفة مشكورة، حتى تمّت موافقة الحكومة المصرية على لجوئه السياسي إلى مصر رغم احتجاج السفير الفرنسي بمصر، حيث بدأ بعد استقراره بالقاهرة يمارس نشاطه من أجل استقلال بلاد المغرب العربي الكبير، وفي القاهرة، أسس الخطابي وأبناء المغرب العربي الكبير، لجنة أسموها «لجنة تحرير المغرب العربي»، وذلك يوم 9/12/1947م، واختير الأمير رئيسًا لها، وأصدرت اللجنة بيانًا جاء فيه:
«في عصر تجهد فيه الشعوب بالاضطلاع بمستقبلها، حيث إن بلدان المغرب العربي تتطلع إلى استرجاع استقلالها المغتصب وحريتها المفقودة، يصبح من الضرورة الملحة لكل الزعماء السياسيين في المغرب أن يتوحدوا، ولكل الأحزاب التحررية أن تتحالف وتتساند، لأنه في هذا تكمن الطريق التي سوف تقودنا إلى تحقيق أهدافنا وآمالنا على ضوء مبادئ الإسلام والعروبة والاستقلال الشامل ورفض أي حل متواطئ مع المستعمر...» انتهى.
وقد مكنته إقامته في مصر من اللقاءات الكثيرة والمتكررة مع زعماء العالم العربي والإسلامي، أمثال الحاج محمد أمين الحسيني، الذي كان قد سبقه باللجوء إلى مصر، ومحمد البشير الإبراهيمي، والفضيل الورتلاني، ومحيي الدين القليبي، ومحمد علال الفاسي، وغيرهم من الزعماء العرب والمسلمين، كما كانت له صلة وثيقة وعميقة مع الإمام الشهيد حسن البنا، المرشد العام للإخوان المسلمين، حيث كان كثير اللقاء به في اجتماعات خاصة وعامة، في مكتب المغرب العربي، والمركز العام للإخوان المسلمين بالقاهرة.
وكان الخطابي يُكثر التردد على المركز العام للإخوان المسلمين، ويحرص على صلاة المغرب خلف الإمام الشهيد حسن البنا، وكانت مجلة «الإخوان المسلمون» الأسبوعية، وجريدة «الإخوان المسلمون» اليومية، تنشران المقالات الطوال عن أخبار وأحوال المغرب العربي، كما أصدرت المجلة الأسبوعية للإخوان المسلمين عددًا خاصًا عن المغرب الجريح، نددت فيه بالسلطات الاستعمارية الفرنسية، وأشادت بجهود زعماء المغرب العربي وعلى رأسهم البطل الشجاع محمد عبد الكريم الخطابي.
يروي الدكتور توفيق الشاوي فيقول: «حين زرتُ الأمير محمد عبد الكريم الخطابي بمكتب المغرب العربي بالقاهرة، وجلستُ أستمع إليه، كان حديثه عن جهاد المستعمرين وإصراره على أن هناك سبيلًا واحدًا للحرية، هو القتال المسلح لتحرير البلاد والعباد، وكل ما عداه عبث وضياع...» انتهى.
مجالس العلماء والمجاهدين
ولما توجَّهت إلى مصر للدراسة الجامعية سنة (1369ه/ 1949م)، كنت مع إخواني الزملاء من طلبة البعوث الإسلامية الوافدين من أنحاء العالم العربي والإسلامي، نكثر الزيارة والتردد على مجالس العلماء والأدباء والقادة والزعماء في مكاتبهم ومنتدياتهم وجمعياتهم وبيوتهم للتعرف إليهم والاستفادة منهم، كالمركز العام للإخوان المسلمين، وجمعية الشبان المسلمين، ورابطة الدفاع عن المغرب العربي برئاسة الخطابي، وجمعية العلماء الجزائريين برئاسة البشير الإبراهيمي، ودار الشورى للزعيم الفلسطيني محمد علي الطاهر، وصحيفة أنصار السُّنَّة، برئاسة محمد حامد الفقي، وجمعية الهداية الإسلامية برئاسة محمد الخضر حسين، ودار الفتح لمحب الدين الخطيب، والاتحاد اليمني، برئاسة محمد محمود الزبيري، ومجلس السفير الأفغاني محمد صادق المجددي، والجمعية الشرعية برئاسة الشيخ عيسى عاشور، فضلًا عن ندوة الشيخ محمد أبي زهرة وأحمد حمزة، وندوة عباس محمود العقاد، ومحمود شاكر، ودار الرسالة لأحمد حسن الزيات، ودار الشهيد سيد قطب بحلوان، ومكتبة وهبة حسن وهبة وغيرها.
وكان معظم لقاءاتنا بأبناء العالم الإسلامي من خلال قسم الاتصال بالعالم الإسلامي بالمركز العام للإخوان المسلمين، الذي كان يرأسه الأخ المجاهد الأستاذ عبد الحفيظ الصيفي، كما كان المركز العام يستضيف الكثير من زعماء العالم الإسلامي في حديث الثلاثاء، حيث يلقون الخطب، والمحاضرات، والدروس، والندوات على جماهير الإخوان المحتشدة في ساحات المركز العام، وشوارع الحلمية الجديدة، ممن يفدون من المحافظات والأقاليم كل أسبوع لحضور حديث الثلاثاء بالقاهرة.
وكان هؤلاء الزعماء يشرحون للحضور أوضاع العالم الإسلامي، ووسائل الاستعمار في حرب الإسلام كعقيدة ونظام، وحرب المسلمين كأمة تريد الحكم بشريعة الإسلام، وواجب المسلمين بضرورة اجتماع كلمتهم للتصدي لهؤلاء المستعمرين.
وكم استفدنا نحن الطلبة الوافدين من خارج مصر، من هذه الدروس التي قدّمت لنا هذه النماذج الفذّة من القادة والزعماء الذين ضربوا أروع الأمثلة في مصاولة الأعداء والدفاع عن حياض الإسلام، وفي مقدمة هؤلاء الزعيم البطل الأمير محمد عبد الكريم الخطابي، بطل ثورة الريف، الذي جعل شعوب العالم العربي والإسلامي وبخاصة أقطار شمال إفريقيا تفخر بالانتصارات التي هزم فيها الإسبان والفرنسيين مرات ومرات، وأباد جيوشًا بأكملها في حرب استمرت أكثر من خمس سنوات من سنة 1921م إلى 1926م، حتى تكالب عليه الإسبان والفرنسيون وأعوانهم، وحشدوا لمواجهته أكثر من ربع مليون جندي، مجهَّزين بأحدث الأسلحة، كما سلكوا طريق الدّس والخداع، وإثارة الفتن والشقاق، واختراق صفوف المسلمين.
إن بطل الريف المجاهد الكبير محمد عبد الكريم الخطابي، يجب أن تسطّر سيرته بأحرف من نور، وأن يعلّم الآباء أبناءهم سيرته وجهاده، لأنه قمة شامخة في الجهاد، وبطل شجاع مغوار أرهب دول الاستعمار.
لقد ضرب لنا الخطابي أروع المثل في عزة المسلم وإبائه، وبطولته وإقدامه، وصبره وصلابته، لأنه تربى في مدرسة الإسلام، وعاش في ظلال القرآن، وجاهد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله.
إن الإسلام العظيم يصنع الرجال في كل وقت وحين، وإن رحم الأمة الإسلامية غير عقيم، بل يلد الرجال والأبطال على مدار الأيام وتعاقب الأجيال.
وإن الأمة الإسلامية ستظل تطالعنا بين فترة وأخرى، بمثل هذه النماذج المجاهدة على امتداد الساحة الإسلامية في المشرق والمغرب، كعمر المختار، والشهيد القسَّام، وعبد القادر الحسيني، وحسن البنا، ومحمد فرغلي، وعبد الله عزام، ويحيى عيَّاش، وأحمد ياسين، وعبد العزيز الرنتيسي وغيرهم من المجاهدين الأبطال.
إن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، وهو ماضٍ إلى يوم القيامة، وهو الطريق الوحيد لرفعة الأمة وسيادتها، وحياتها بين الأمم، فما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا، والأمة الإسلامية، لا زال الخير فيها باقيًا، ولازالت قوافل الشهداء تتسابق إلى الجنة، نصرة لدين الله، وتحريرًا لأوطان المسلمين من كل عدو محتل، أو طاغية جبَّار يريد الفساد بالأرض، وإهلاك الحرث والنسل.
يقول الإمام الشهيد حسن البنا في رسالة الجهاد:
«فرض الله الجهاد على كل مسلم فريضة لازمة حازمة لا مناص منها ولا مفرَّ معها، ورغَّب فيه أعظم الترغيب، وأجزل ثواب المجاهدين والشهداء فلم يلحقهم في مثوبتهم إلا من عمل بمثل عملهم، ومن اقتدى بهم في جهادهم، ومنحهم من الامتيازات الروحية والعملية في الدنيا والآخرة ما لم يمنح سواهم، وجعل دماءهم الطاهرة الزكيّة، عربون النصر في الدنيا، وعنوان الفوز والفلاح في العقبى، وتوعّد المخلَّفين القاعدين بأفظع العقوبات، ورماهم بأبشع النعوت والصفات، ووبّخهم على الجبن والقعود، ونعى عليهم الضعف والتخلف، وأعد لهم في الدنيا خزيًا لا يرفع إلا إن جاهدوا، وفي الآخرة عذابًا لا يفلتون منه، ولو كان لهم مثل أحد ذهبًا، واعتبر القعود والفرار كبيرة من أعظم الكبائر، وإحدى السبع الموبقات المهلكات.
ولست تجد نظامًا قديمًا أو حديثًا، دينيًا أو مدنيًا، عني بشأن الجهاد والجندية واستنفار الأمة، وحشدها كلها صفًا واحدًا، للدفاع بكل قواها عن الحق، كما نجد ذلك في دين الإسلام وتعاليمه، وآيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول العظيم (صلى الله عليه وسلم) فيّاضة بكل هذه المعاني السامية، داعية بأفصح عبارة، وأوضح أسلوب إلى الجهاد والقتال والجندية وتقوية وسائل الدفاع والكفاح بكل أنواعها من برية وبحرية وغيرها، على كل الأحوال والملابسات، بل أجمع أهل العلم، مجتهدين ومقلدين، سلفيين وخلفيين، على أن الجهاد فرض كفاية على الأمة الإسلامية، لنشر الدعوة، وفرض عين لدفع هجوم الكفار عليها، والمسلمون اليوم كما تعلم مستذلون لغيرهم، محكومون بالكفار، قد ديست أرضهم، وانتهكت حرماتهم، وتحكم في شؤونهم أعداؤهم، وتعطلت شعائر دينهم في ديارهم، فضلًا عن عجزهم عن نشر دعوتهم، فوجب وجوبًا عينيًا لا مناص منه، أن يتجهز كل مسلم وأن ينطوي على نيّة الجهاد، وإعداد العدّة له حتى تحين الفرصة ويقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
وإن المسلمين في أي عصر من عصورهم، قبل هذا العصر المظلم الذي ماتت فيه نخوتهم، لم يتركوا الجهاد، ولم يفرِّطوا فيه حتى علماؤهم والمتصوفة منهم والمحترفون وغيرهم، فكانوا جميعًا على أهبة الاستعداد» انتهى.
أما الزعيم المجاهد الخطابي فيقول عن الإمام الشهيد حسن البنا:
«ويح مصر!! وإخوتي أهل مصر مما يستقبلون جزاء ما اقترفوا، فقد سفكوا دم ولي من أولياء الله.. ترى أين يكون الأولياء إن لم يكن منهم بل في غرّتهم حسن البنا الذي لم يكن في المسلمين مثله».. انتهى.
وعلى هذا سار المجاهد محمد عبد الكريم الخطابي، ومن سبقه ولحق به من المجاهدين المسلمين في مختلف الديار، وشتى الأعصار، يؤكدون للدنيا كلها أن الأمة الإسلامية بخير والحمد لله، ولقد بقي الخطابي بمصر يزاول نشاطه مع الدعاة المخلصين للإسلام، حتى إذا تفرّد عبد الناصر بالحكم، بعد إطاحته بالرئيس محمد نجيب، صار يضيّق على القادة المخلصين، والزعماء المتعاطفين مع الإخوان المسلمين، مما اضطر سماحة السيد محمد أمين الحسيني، ومحمد علي الطاهر وغيرهما إلى مغادرة مصر إلى لبنان، كما غادرها زعماء وقادة المغرب العربي، باستثناء بعض من تعاون منهم مع المخابرات الناصرية من العلمانيين.
ولهذا تقلّص نشاط الزعيم الخطابي بمصر، لوجود الرقابة الصارمة على من يزوره أو يتردد عليه، واستمر الحال حتى غادر الدنيا الفانية إلى جوار ربه يوم (6/2/1963م - 1383ه)، ودُفن بالقاهرة حسب وصيته، ولم يذكر الإعلام المصري عنه أي شيء، حتى إذا هلك الطاغية عبد الناصر، وجاء عام 1978م نشرت جريدة الأخبار تقول:
«إن التاريخ العربي الإسلامي ليعتز بالأمير محمد عبد الكريم الخطابي كبطل من الأبطال الأفذاذ الذين يضيئون صفحات التاريخ على الزمان، وإن سيرة الخطابي العظيمة يجب أن نجسدها لأجيالنا العربية ليقفوا على حياة وأعمال هذا الرجل الذي تحدّى إسبانيا وفرنسا وأرغم برجاله القليلين جيوش الدولتين على الفرار أمامه، مما حدا بالأوروبيين أن يدرسوا انتصاراته الأسطورية ويُدرّسوها في الأكاديميات العسكرية عندهم، باعتبار أن الزعيم الخطابي صاحب مدرسة في القيادة وفي تكتيك الحروب التحريرية» انتهى.
رحم الله المجاهد الخطابي، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
وسوم: العدد 865