عبد الكريم زيدان المفترى عليه حيًّا وميتًا
العالم الذي فقدناه
عبد الكريم زيدان المفترى عليه حيًّا وميتًا
أ.د/ طه جابر العلواني
منذ آخر زيارة للدكتور عبد الكريم زيدان للولايات المتحدة، حيث شرفني بأن قضى معي في منزلي يومين، حين جاء في رحلة علاجيَّة لمعالجة عينيه، لم أره بعد ذلك، فهو في اليمن وأنا بين القاهرة والولايات المتحدة، لكن تحياته وثناؤه العاطر الجميل كانتا تبلغانني حيث أكون، من طريق بعض الأصدقاء المشتركين، ومنهم أخي الدكتور مصطفى جابر العلواني.
عبد الكريم زيدان عرفته حين كنت في بغداد سنة 1953م وما تلاها، مديرًا لثانوية دينيَّة اسمها النجيبيَّة، كانت تقع في منطقة السراي في بغداد، فكنت ألقاه في النجيبيَّة أو في مقر جمعيَّة إنقاذ فلسطين في باب المعظم، كنت آنس به ويأنس بي، ويزورني في مسجدي؛ ليستعير بعض الكتب مني في الأصول وفي الفقه خاصَّة، كنت أعرف أنَّه يعتبر مسؤول الإخوان بعد رحيل الشيخ الصواف ومغادرته العراق إلى السعوديَّة، لكنَّه كان يكتم ذلك ولا يبيح به، إلا للعاملين معه المنتمين إلى جمعيَّة الأخوُّة الإسلاميَّة التي كانت واجهة معبرة عن الإخوان في بغداد.
كان من أشد طلبة العلم حماسًا لابن تيمية ومدرسته، قلَّ أن لا يستشهد بشيء من كلام شيخ الإسلام أو تلامذته في أي مجلس يجلسه، وفي أي قضيَّة تثار أمامه، وإذا سئلت آنذاك من هم شيوخ عبد الكريم زيدان فسأقول: لعبد الكريم زيدان شيخان: أحدهما ابن تيمية ومدرسته، والثاني شيخنا وإمام جيلنا الشيخ أمجد ابن محمد سعيد الزهاوي. ربما كان الفقيه الحنفي الأوحد الذي يحترمه عبد الكريم ويعجب بفقهه ويلجأ إليه ويفخر بتتلمذه عليه.
تقلبت الأحداث في العراق وذهبت بنا يمينًا ويسارًا، واختلف معه بعض إخوانه وتحدثت إليه في ذلك الاختلاف، حاولت تقريب وجهات النظر بينه وبينهم، فكان الرجل شديدًا في موقفه متصلبًا فيه، خاصَّة بعد أن بلغه أن بعض إخوانه قد نال منه، وطعن عليه، وحمَّله مسئوليَّة إماتة الجماعة في تلك المرحلة، وإضعافها؛ ولذلك فقد أخفقت كما أخفق غيري في إيجاد تسوية بينه وبين تلامذته وإخوانه آنذاك، وبعد سنة ستين بدا له أن يحصل على الدكتوراه، وشجعته، وكنت مضيفه في مصر التي كنت أدرس فيها أيضًا، إلى أن رغب في أن يسكن في سكن آخر؛ ليتفرغ تفرغًا تامًّا لإعداد رسالته المتميزة جدًا "أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام" فاستأجرت له سكنًا مع أسرة أجنبية في وسط البلد، وكنت أذهب إليه كل أسبوع مرة أو مرتين؛ لتلبية ما قد يحتاج إليه، وتخرَّج وحصل على الدكتوراه، وعاد إلى العراق أستاذًا في كليَّة الحقوق.
كان الرجل مثالًا للفقيه المتبحر والمتمذهب في الوقت نفسه، وحين تقوده عقليَّته إلى اجتهاد ما فإنَّه يذهب إليه، لكنَّه يعمل على أن يجد صلة بينه وبين الفقه المذهبي، وهذه نقطة تعلمناها من شيخنا الزهاوي الذي علَّم طلابه كافَّة كيف يحترمون الإئمة السابقين، ويبتعدون عن كل ما من شأنه أن يغض من مكانتهم العلميَّة، والشخصيَّة.
دخل عبد الكريم معترك السياسة من البوابة الإسلاميَّة الإخوانيَّة، وقد اختاره إبراهيم الداوود الذي كان يدرس الحقوق على يديه، وهو ضابط من ضباط الجيش العراقي، اختار شيخه عبد الكريم وزيرًا للأوقاف، في الانقلاب الذي قام به النايف والداوود وحزب البعث سنة 1968م، وأتذكر أنَّ الشيخ الشهيد عبد العزيز البدري –تغمده الله برحمته- ذهب إليه معاتبًا بشدة قائلًا: كيف تبيح لنفسك أن تكون وزيرًا في وزارة يعتبر رئيسها الفكري وفيلسوفها ميشيل عفلق، دخلا في نقاش طويل عريض حسمه عبد الكريم في الآخر بقوله: يا شيخ عبد العزيز أظنني مؤهلًا لأن أفتي نفسي فيما يحل لها وما يحرم عليها؛ فسكت الشيخ البدري وانصرف غاضبًا، لم يستمر في الوزارة إلا أقل من ثلاثة عشر يومًا، ثم أقيل كما أقيل الداوود والنايف واستبد البكر وصدام بقيادة الحزب والدولة.
انصرف عبد الكريم إلى التأليف وألف مجموعة من الكتب القيمة ذات الصفة الموسوعيَّة، ومنها "المفصل في أحكام المرأة وبيت المسلم في الشريعة الإسلاميَّة"، وهو في 11 مجلدًا. وكتب كتبا أخرى منها:
المدخل لدراسة الشريعة الإسلاميَّة.
الكفالة والحوالة في الفقه المقارن.
أصول الدعوة.
الفرد والدولة في الشريعة.
الوجيز في شرح القواعد الفقهيَّة في الشريعة الإسلاميَّة.
الشرح العراقي للأصول العشرين.
أثر القصود في التصرفات والعقود.
اللقطة وأحكامها في الشريعة الإسلاميَّة.
أحكام اللقيط في الشريعة الإسلاميَّة.
حالة الضرورة في الشريعة الإسلاميَّة.
الشريعة الإسلاميَّة والقانون الدولي العام.
الاختلاف في الشريعة الإسلاميَّة.
عقيدة القضاء والقدر وآثرها في سلوك الفرد.
العقوبة في الشريعة الإسلاميَّة.
حقوق الأفراد في دار الإسلام.
نظام القضاء في الشريعة الإسلاميَّة.
موقف الشريعة الإسلاميَّة من الرق.
النية المجردة في الشريعة الإسلاميَّة
مسائل الرضاع في الشريعة الإسلامية.
وكتبه ما تزال مراجع للدعاة والفقهاء، وطلبة العلم، اختلف مع إخوانه واتفق مرات عديدة، لكنَّك دائمًا تجد فيه الإنسان الصلب الذي قلَّ أن يلين إلا إذا بان له خطأ ما هو عليه، وصواب ما عليه مخالفه، ولمثله يقال:
أزمعت عنا إلى مولاك ترحالا لمّا رأيت مناخ القوم أوحالا
رأيتنا في ظلام ليس يعقبه صبحٌ فشّمرت للترحال أذيالا
كرهت طول مقام بين أظهرنا بحيث تبصرنا للحق خذَّالا
لأشكرنك يا عبد مدى عمري وأبكينَّك أبكارًا وآصالا
حين يرحل عالم في وزن عبد الكريم عن دنيانا يترك ثغرة ليس لها من يسدها، ويدع فراغًا أحوج ما يكون إلى من يملأه، رحمك الله أخي أبا محمد، وجعل مثواك الجنَّة، وجعل كل ما نالك في دنياك في ميزان حسناتك، أسأل الله لنا ولك العافية، وإنَّا لفراقك يا أبا محمد لمحزونون، ولنا عودة إن شاء الله إلى سيرتك.