البطل المغامر عبد المنعم عبد الرؤوف
(1333 - 1405ه / 1914 - 1985م)
مولده ونشأته
هو الفريق الركن الطيار عبد المنعم عبد الرؤوف، من مواليد حي العباسية بالقاهرة عام 1914م، وقد انتقلت أُسرته بعد ذلك إلى حيّ السيدة زينب، وكان والده من ضباط الجيش، وبعد حصوله على الشهادة الابتدائية عام 1928م توفي والده، ثم التحق بالمدرسة الثانوية وأثناءها كوَّن مع بعض زملائه الطلبة (جمعية اليد الخفيّة) التي قامت بتفجيرات ضد الإنجليز، حيث فجّرت قنبلة بدار المندوب السامي البريطاني بجاردن سيتي يوم 16/12/1932م، وأخرى في المدرسة الإنجليزية، وثالثة تحت أقواس الاحتفالات، والرابعة قرب قصر محمد علي.
وفي عام 1935م، حصل على شهادة البكالوريا والتحق بالكلية الحربية، ثم التحق بمدرسة الطيران، وكان زملاؤه يلقبونه ب (الأسد) لشجاعته وجرأته، وقد تخرَّج في مدرسة الطيران عام 1938م وعمل طيارًا وفي العام نفسه تزوّج.
وفي يوم 16/5/1941م، قام مع زميله الطيار حسين ذو الفقار بتهريب الفريق عزيز المصري بطائرتهما للالتحاق بالثورة العراقية ضد الإنجليز بقيادة رشيد عالي الكيلاني، ولكن الطائرة سقطت بهم، وظلوا مختفين عن أعين الإنجليز الذين أعلنوا عن مكافأة مقدارها ألف جنيه لمن يرشد عنهم، وقد ألقي القبض على الثلاثة يوم 6/6/1941م وأودعوا السجن، ثم أفرج عنهم يوم 5/3/1942م بعد تغيير الحكومة ومجيء حكومة النحاس الوفدية.
وفي العام نفسه وقع نظره على مجلة «الإخوان المسلمون» لسان دعوة الحق والقوة والحرية، وتملى صورة القرآن الكريم فوق سيفين متقاطعين يزيِّن غلاف المجلة، فسأل عن هذه الجماعة وأين مقرها، ثم زار المركز العام للإخوان المسلمين يوم الثلاثاء، والتقى الأستاذ محمد الطوبجي - مدير الدار - الذي رحّب به، وبعد الأذان وأداء صلاة المغرب جماعة مع الإخوان المسلمين في المركز العام جلس بهدوء يستمع إلى حديث الثلاثاء، وسمع هتافات الإخوان: الله غايتنا، الرسول قدوتنا، القرآن شريعتنا، الجهاد سبيلنا، الموت في سبيل الله أسمى أمانينا.. الله أكبر ولله الحمد.
ثم تكرّرت زياراته للمركز العام للإخوان المسلمين، وفي هذه الفترة لم يلتق الإمام الشهيد حسن البنا لأنه كان خارج القاهرة في جولة في الأقاليم لمدة شهر، ثم أبلغه الأستاذ محمد الطوبجي بعودة المرشد العام من رحلته في الأقاليم فحضر لزيارته بالمركز العام، وكان عنده الصاغ محمود لبيب، والدكتور المهندس حسين كمال الدين، فقال عبد المنعم عبد الرؤوف: لو أن الروح الإخوانية التي لاحظتها في درس الثلاثاء تسود الجيش المصري لعاد ذلك عليه بالخير الكثير، وإن أول شيء يجب البدء فيه هو تكوين مجموعة من الضباط تعتنق مبادئ الإخوان المسلمين وهي الحق والقوة والحرية، لتكون نواة تنبت منها خلايا تعمّ كل وحدات الجيش المصري، وقد استحسن الإمام الشهيد حسن البنا ذلك وقال له: إن أخاك الصاغ محمود لبيب سيعينك على تحقيق هذه الفكرة، وسيكون المشرف على تكوين هذه المجموعة، وكان الصاغ محمود لبيب يشغل منصب الوكيل الثاني للإخوان المسلمين وقائد الجوالة.
وفي شهر أكتوبر عام 1942م، استطاع عبد المنعم عبد الرؤوف أن يدعو مجموعة من الضباط لحضور درس الثلاثاء بالمركز العام للإخوان المسلمين بالملابس المدنية وكان منهم: جمال عبد الناصر، وحسين حمودة، وكمال الدين حسين، ثم تكاثر عددهم حتى بلغوا سبعة من الضباط عام 1944م، وكان لهم اجتماع أسبوعي في منزل أحدهم بإشراف الصاغ محمود لبيب، الذي لم يتغّيب عن هذه الاجتماعات إلا في النادر، وكانوا يدفعون الاشتراكات، ويقومون بالدراسات الإسلامية، ويواظبون على حضور درس الثلاثاء بالمركز العام للإخوان المسلمين بالملابس المدنية، ثم أخذ عدد هؤلاء الضباط يتزايد.
وفي مساء يوم من أوائل عام 1946م، ذهب الضباط السبعة الأوائل لأخذ البيعة منهم على يد رئيس النظام الخاص في ذلك الوقت عبد الرحمن السندي، وصار هؤلاء الضباط يدرّبون شباب الإخوان المسلمين، الذين كانوا طلائع العمل الجهادي في فلسطين عام 1948م، وكانت أول معارك الإخوان ضد اليهود يوم 9/5/1948م، ثم تتابعت معارك الإخوان ضد اليهود، أظهر فيها الإخوان المجاهدون أروع البطولات، مما أرعب اليهود وجعلهم يفرّون أمام مجاهدي الإخوان المسلمين، وارتوت أرض فلسطين بدماء الشهداء الأبرار، ثم كان ما كان من حكومات الدول العربية التي أدخلت جيوشها إلى فلسطين بعضها بأسلحة فاسدة أو دون أوامر للقتال، ولم يبق في الميدان سوى الإخوان المسلمين الذين قَدِمُوا من مصر، وسورية، والأردن يقاتلون بشجاعة نادرة، وبطولات خارقة.
ثم كانت الهدنات المتتابعة لتمكين اليهود وتقوية جانبهم، وأخيرًا أصدر النقراشي - رئيس حكومة مصر - قرار حل الإخوان المسلمين واعتقالهم حسب أوامر أسياده، ولم يقتصر الأمر على اعتقال الإخوان المسلمين بمصر، بل صدرت الأوامر لقيادة الجيش المصري بفلسطين باعتقال مجاهدي الإخوان المسلمين المصريين جميعًا، فوُضِعوا في معسكر اعتقال ميداني محاط بالأسلاك الشائكة تحت حراسة الجيش المصري، ثم نُقِل المجاهدون المعتقلون بعد تجريدهم من سلاحهم إلى معتقل الهايكستب بعد أن دبرت الحكومة جريمة قتل الإمام حسن البنا في أكبر شوارع القاهرة (شارع الملكة نازلي) أمام جمعية الشبان المسلمين على يد ضباط البوليس المصري، وذلك يوم 12/2/1949م.
يقول الأستاذ كامل الشريف في كتابه القيّم: (المقاومة السرية في قناة السويس):
«... كان عبد المنعم عبد الرؤوف أكثر من مجرد ضابط في الجيش المصري، لقد كان بحقّ رائدًا من أوائل الرواد الذين حملوا الفكرة الإسلامية إلى داخل الجيش، وجمعوا الضباط حولها، ولم يكن الضباط يجهلون عنه اتجاهاته الوطنية، فقد سبق له أن قام بمغامرة تستحق الإعجاب، حين حاول هو وزميله حسين ذو الفقار، نقل الفريق عزيز المصري ليلتحق بقوات الثورة العراقية ضد الإنجليز بقيادة رشيد عالي الكيلاني عام 1941م، قبل أن تهوي بهم الطائرة ولم ينجوا من الموت إلا بأعجوبة، عندما وقعت طائرتهم على أغصان شجرة متشابكة فخفف ذلك من اصطدامها بالأرض، ولقد سُجن عبد المنعم مدة طويلة، وطرد من الجيش، ولم يرد له اعتباره ويرجع إلى الجيش إلا حين تقلَّص النفوذ البريطاني بمصر بعض الشيء، ولكنه استمر في رسالته، ولم تقم حركة وطنية بعد ذلك إلا كان مساهمًا فيها بنصيب كبر أو صغر.
لقد جمعتني مع عبد المنعم عبد الرؤوف ظروف كثيرة، توطّدت بيني وبينه علاقة أكثر من الصداقة، حين عملنا معًا في قوات المتطوعين في فلسطين، وحين تعاونا بعد ذلك في تنظيم الضباط الوطنيين في الجيش، ولذلك كنت واثقًا أن وجوده على مقربة من السويس في كتيبة سيكون عاملًا مهمًا في إنعاش حركتنا في هذه المنطقة.
ولقد أخذتُ أستذكر الظروف التي عرفتُ فيها هذا الضابط الوطني، وأنا أعبر مجرى القناة قبل الغروب في زورق صغير من السويس إلى الضفة الشرقية ومعي ابن عم لي كان يعمل مدرسًا في إحدى مدارس المدينة.
وكنا قد اتصلنا بالأخ عبد المنعم في مكتبه وأخبرناه عن رغبتنا في الاجتماع به، فحدّد لنا هذا الوقت ليقابلنا على شاطئ القناة، وفي اللحظة التي اصطدم بها الزورق بالقاعدة الخشبية المثبتة على الشاطئ كان عبد المنعم يترجّل من سيارته الجيب ويأخذنا بالأحضان، وفي الطريق إلى معسكر الكتيبة، أخذتُ أحدّثه عن الأحوال الجارية، وأعيِّن له الغاية من زيارتي هذه، وهو ينصت باهتمام، ثم أبدى أسفه أن ضباط الكتيبة ليسوا على مثل رأيه، وأنه سيكون من الخطر مفاتحتهم في أي أمر، ولكنه سيحاول أن يعمل جهده في معاونتنا.
وفي الصباح كنا نتجوَّل في سيارة عسكرية مصرية على شاطئ القناة ونراقب النقط التي كان الإنجليز قد احتلوها حديثًا في نطاق خطتهم الرامية إلى مضايقة وحدات الجيش المصري، وكان عبد المنعم يشرح لي أهمية هذه المنطقة والأسباب التي أدت بالجيش المصري إلى إرسال كتيبة إليها.
وكانت فكرة عبد المنعم تتلخص في أن علينا أن ننظم عصابات في هذه المنطقة الوعرة، وتزويدها بالكفاية من التموين، على أن تكون مهمتها عرقلة أي هجوم تقوم به القوات اليهودية إذا ما نجحت في اختراق الدفاعات المصرية على حدود سيناء.
وحين اقتربنا من الشاطئ رأيت الجنود البريطانيين يحتلون (معدية الشاطئ) وهي ناقلة بحرية صغيرة تعمل بين ضفتي القناة، وقد احتلها البريطانيون قبل ذلك بوقت قصير، كما احتلوا (جسر الفردان) والمعديات الأخرى، وكان هدفهم من ذلك كما لخَّصه عبد المنعم عزل الكتيبة المصرية العاشرة ووضعها تحت رحمة القوات البريطانية، ومنع قوى المقاومة من استغلالها في نقل الأسلحة والذخائر، وقد اقترح عبد المنعم استرداد (المعدية) بالقوة، ولكن أوامر قيادة اللواء في الإسماعيلية استنادًا إلى أوامر رئاسة الجيش المصري كانت تقضي بعدم التعرض للجنود الإنجليز.
ولقد علمتُ من الأخ عبد المنعم أنه لا يوجد في الكتيبة ضابط آخر يمكنه أن يتعاون معه في ُمهمة إمداد الحركة الفدائية بالسويس، فأخبرته بأنه توجد كمية كبيرة من العتاد لحسابنا عند اليوزباشي عبد الفتاح غنيم الذي يمكن الاتصال به عن طريق الأخ الطاهر منير رئيس شعبة الإخوان المسلمين بالسويس ، وبالفعل ذهب عبد المنعم واستلم الشحنة من الذخائر، وأوصلها إلى إخواننا في السويس الذين واصلوا العمل الجهادي بعمليات ناجحة ضد الإنجليز».. انتهى.
وهكذا كان القائد البطل عبد المنعم عبد الرؤوف يدعم المجاهدين بكل قوة، ويغامر بكل جرأة وشجاعة، ويقتحم الصعاب، ولا يبالي بموقعه العسكري في سبيل دعم المحاربين في سبيل الله ضد الإنجليز المستعمرين.
لقد أسهم إسهامًا كبيرًا في فلسطين والقناة، إذ قام بتدريب المجاهدين، كما قام بتأمين الأسلحة والذخائر لهم، ولم يدّخر وسعًا في ذلك، وهذا هو شأنه منذ شبابه، لا يتأخر عن أي موقف وطني ضد العدو المحتل لديار العرب والمسلمين سواء من الإنجليز أو اليهود أو غيرهم، وهذا ما سمعته من إخواني بمصر حين كانوا يحدّثونني عنه وعن بطولاته الفذّة.
يقول الأستاذ عباس السيسي في كتابه القيَّم: (في قافلة الإخوان المسلمين):
«... لم تكن لي صلة سابقة بالأخ الفريق طيار عبد المنعم عبد الرؤوف قبل حضوري إلى «رفح»، ولكنني تعرَّفت عليه حال وصولي إليها، فقد دعاني لزيارته في منزله واستقبلني استقبال الأخ المسلم لأخيه دون اعتبار للفارق الكبير في الرتب العسكرية، فضلًا عن أخلاقه الإسلامية وبساطته وتواضعه، وسرعان ما اندمجنا، وتناولنا أمورًا شتى بالبحث والمناقشة، ثم عرَّفني بعد ذلك ببعض زملائه من كبار الضباط الذين آمنوا بدعوتنا، وكنا نعقد بعض الجلسات نتناول فيها الدراسات الإسلامية، ولم نتطرق كثيرًا للأمور السياسية إلا حين تكون الأحداث لا تحتمل الصمت.
وذات يوم أعلنت حالة الطوارئ في المنطقة، وتأهبت القوات وأخذت قوات الجيش حالة الاستعداد، وتصورنا أن هناك حالة حرب لا محالة، ولكن هذا المساء انتهى بهدوء، وبعد أيام صدرت أوامر من إدارة الجيش بالانسحاب إلى الخطوط الخلفية عدة كيلومترات، كما صدرت أوامر أيضًا إلى القوات الإسرائيلية بالانسحاب عدة كيلو مترات، ولهذا أُعلِنَتْ حالة الطوارئ، وقد تم الانسحاب من كلا الطرفين ليلًا.
وكان الفريق عبد المنعم يتحدث في هذا الأمر وهو غاضب ناقمٌ على هذا التصرّف الذي يوحي بفترة طويلة من المهادنة والملاينة.. ولم تمض أيام حتى صدر قرار بالتحرك إلى منطقة العريش...» انتهى.
هذا البطل المغوار والضابط الجسور هو الذي ذهب إلى الإسكندرية وحاصر قصر رأس التين، وأرغم فاروق على التنازل عن العرش.
يقول الأستاذ أحمد عادل كمال في كتابه (النقط فوق الحروف):
«... لقد علمتُ أن حركة الضباط لم تكن تستهدف خلع الملك، وأن الذي أوحى بهذه الفكرة، كان هو الفريق عزيز المصري، حيث قال لعبد المنعم عبد الرؤوف قل لجمال عبد الناصر، بأن الملك إذا رجع من الإسكندرية إلى القاهرة، عاد ولاء الجيش إليه وشنقكم في الطرقات، قولوا له الآن: اخرج.
ولقد قال لي محمد قطب بأن الشيخ محمد الأودن أيضًا أوحى إليهم بإخراج الملك، ونقل عبد المنعم الرسالة، فعقد مجلس قيادة الثورة اجتماعًا وناقشوا الأمر، وقيل إن علي صبري كان سفير الضباط إلى السفارة الأمريكية في القاهرة في هذا الشأن، وأن السفارة لم تعترض على إخراج الملك، ولكنها طلبت ضمان سلامته، وطلب عبد الناصر من عبد المنعم أن يقود القوات إلى الإسكندرية لإخراج الملك واشترط عليه ألا يقع اشتباك، ولكن عبد المنعم أبى وقال: "إما أن نقول له اخرج فيخرج، وإما أن يتحتَّم إخراجه ولو بالقوة، أما أن نطلب خروجه فيرفض ثم نتقاعس فهذا أمر غير مقبول، وعاد عبد الناصر يجتمع بالمجلس، ثم خرج إلى عبد المنعم بالموافقة على ما طلب، وذهب عبد المنعم مع القوة إلى الإسكندرية، وخرج الملك بعد أن اعتقل عبد المنعم كبار ضباط الملك وأطلق بعض الطلقات على القصر" انتهى.
هذا ما رواه الثقات من الوقائع والبطولات عن الفريق طيار عبد المنعم عبد الرؤوف.
أما هو فيروي في مذكراته التي تحمل عنوان كتابه: (أرغمتُ فاروق على التنازل عن العرش) فيقول:
«... في صباح يوم 26/7/1952م، كان الهجوم على قصر رأس التين ومحاصرته، حيث نجحتُ في إجبار الملك على رفع العلم الأبيض ومغادرة البلاد، ثم عدتُ إلى القاهرة يوم 28/7/1952م، وشاركتُ في محاصرة قصر عابدين، وفي يوم 1/8/1952م صدر قرار نقلي إلى كتيبة أخرى تمهيدًا لإبعادي عن القاهرة، فطلبتُ إعادتي إلى القوات الجوية، ولكن طلبي رُفض، ثم أبعدتُ إلى فلسطين يوم 2/10/1952م، وفي يوم 17/12/1953م صدر قرار إحالتي إلى المعاش، فقلت في نفسي إن الطعنة الثانية التي سيوجهها لي عبد الناصر وعصابته هي اعتقالي وإلقائي في غياهب السجن، لأنهم يعلمون إخلاصي لمبادئ الإخوان المسلمين وحماسي لها، ووفائي للقائمين على أمر الدعوة، وبالفعل صدقتْ ظنوني وتوقعاتي، ففي منتصف الليل من مساء يوم 18/1/1954م، فوجئت بثلاثة من البوليس الحربي ومعهم أمر اعتقالي، وحين ذهبتُ وجدتُ بعض ضباط الإخوان، وهم: حسين حمودة، ومعروف الحضري، وأبو المكارم عبد الحي، وفؤاد جاسر، ومحمد غراب، وغيرهم من ضباط الإخوان المسلمين، وتم توزيعنا على زنازين السجن، وكنتُ في الزنزانة رقم (9).
ولقد مرَّ عليَّ شهر وأنا في الزنزانة، ثم استدعيتُ للتحقيق يوم 18/2/1954م، ثم نقلتُ بعده إلى سجن الأجانب.
وفي يوم 17/4/1954م، عُقد المجلس العسكري العالي لمحاكمتي، وفي يوم 28/4/1954م نُقلنا جميعًا إلى السجن الحربي ووضع كل واحد منا في زنزانة انفرادية، وقررت الهروب، وتمّ ذلك بتوفيق الله ومعاونة المخلصين، أمثال الأخ محمد مهدي عاكف وإخوانه.."..
وأعلن طلب القبض عليَّ وعلى الأستاذ حسن العشماوي المحامي وحدد الإعلان كل من يتستّر على الهاربين من الإخوان بعقوبة الإعدام أو الأشغال الشاقة والسجن، كما أعلن عن مكافأة ألف جنيه لمن يُرشد عن عبد الرؤوف أو العشماوي.
وفي عام 1955م وفقني الله لمغادرة مصر مهاجرًا بديني، حيث وصلتُ لبنان بسلامة الله، وهناك التقيتُ بعض الإخوان كالأستاذ عبد الحكيم عابدين، والدكتور سعيد رمضان، والأستاذ سعد الدين الوليلي، والدكتور عز الدين إبراهيم وغيرهم.
وبعد فترة طويلة التقيتُ ضابطًا مصريًا أعرفه جيدًا يعمل في مخابرات السفارة المصرية ببيروت، ثم قرأت في مجلة «الصياد» اللبنانية أن الحكومة المصرية طلبت من لبنان تسليمها بعض المصريين المقيمين فيه.
وهنا فكّرتُ في ترك لبنان، والسفر إلى الأردن، حيث بقيتُ إلى عام 1959م وفي يوم 21/7/1959م غادرتُ الأردن إلى تركيا وأقمتُ فيها حوالي ثلاث سنوات، ثم غادرتها إلى لبنان يوم 23/7/1962م حيث زوجتي اللبنانية وأولادي، وهناك زرتُ الدكتور مصطفى السباعي المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية الذي كان يعالج في لبنان، كما التقيتُ الشيخ مناع القطان، وأحمد الطنوبي، وعبد العظيم لقمة، وكامل الشريف، وغيرهم، كما زرت سماحة مفتي فلسطين الحاج محمد أمين الحسيني.
وفي يوم 12/9/1972م عدتُ إلى مصر، بعد أن أعلن أنور السادات في شهر أغسطس عام 1972م بأن مصر مفتوحة لكل من يرغب في العودة إليها، وقد استقبلني بمطار القاهرة وزير الداخلية ممدوح سالم، كما حُدد لي يوم 2/11/1972م لمقابلة السادات في منزله بالجيزة، حيث تمت المقابلة، وصدر قرار جمهوري نُشرِ في الجريدة الرسمية بإلغاء حكم الإعدام الصادر ضدي..».
ولقد بقي الأخ الفريق طيار عبد المنعم عبد الرؤوف في مصر لم يغادرها إلا لأداء مناسك العمرة عام 1978م حيث التقى اللواء معروف الحضري الذي حدّثه عن علاقة عبد الناصر باليهود منذ عام 1948م أثناء حصار الفالوجة، وقال:
«لقد كنتُ أمدّ القوات المحاصرة في الفالوجة بالمؤن والمعدات كلما سنحت الفرصة لذلك، وأثناء فترة الهدوء قابلتُ ضابطًا إسرائيليًا يسأل عن عبد الناصر، ولما علم أنني أعمل مع عبد الناصر، أعطاني خطابًا خاصًا بعبد الناصر، وأثناء دخولي إلى الحصار في الفالوجة وقعتُ أسيرًا بيد اليهود، وأثناء الأسر أرسل لي عبد الناصر وهو محاصر في الفالوجة ضابطًا يهوديًا بخطاب وتضمّن الخطاب تطميني بقرب فك الأسر!!
بل لقد أفرج عبد الناصر عن (11) بحارًا يهوديًا - في الأسبوع الذي أُعدم فيه الشهداء الستة عودة وإخوانه».
بقي الفريق طيار عبد المنعم عبد الرؤوف في مصر بعد عودته من العمرة، ثم أصيب بشلل نصفي، فلما علم السادات بذلك أرسل له طبيبه الخاص ونقله إلى مستشفى المعادي، كما زاره في المستشفى، ثم أرسله للعلاج في فرنسا، حيث أجريت له عملية جراحية عاد بعدها إلى مصر، وفي عام 1979م قام عبد الرؤوف بزيارة الرئيس محمد نجيب في منزله فرّحب به وعانقه وقال له: "يا حبيبي يا عبد المنعم فين أنت، كلما أسأل عنك يقولون: مات!! يا حبيبي يا عبد المنعم أنت البطل وكلهم فئران.. كانوا بيهربوا!!".
ولقد عاش الفريق طيار عبد المنعم عبد الرؤوف بقية حياته في مصر، يعاني من كثرة الأمراض حتى انتقل إلى جوار ربه يوم الأربعاء 14 من ذي القعدة عام 1405ه الموافق 31/7/1985م، عن عمر يناهز ال 71 عامًا بعد حياة حافلة بالكفاح والتضحيات والمتاعب، على إثر نوبة قلبية بينما كان يتحدث مع نجله الصغير (مصعب).
رحم الله الفريق الركن طيار عبد المنعم عبد الرؤوف وأسكنه فسيح جناته، ورحم الله إخوانه الشهداء في ميادين فلسطين، وقناة السويس، وعلى أعواد المشانق، وفي زنازين السجون، وأقبية التعذيب، وجمعنا الله وإياهم مع الصدّيقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا..
وسوم: العدد 877