الداعية والكاتبة الإسلامية السيدة مريم جميلة
عاشت الفقيدة 51 عاماً من حياتها في كنف الإسلام الذي اهتدت إليه على هدى وبصيرة؛ حيث اعتنقته بعد بحث طويل ودراسة واعية في 24/مايو 1961م؛ فكان إيمانُها بالله ربًّا وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولاً، إيمانَ الخبير الواعي الذي تَعْرُكُه الحوادثُ فتُحَنَّكُه، فتصوغه قويًّا راسخاً لا تُزَعْزِعُه عواصفُ الحياة مهما كانت هوجاءَ عاتيةً.
وقد شاء الله العليم الحكيم أن تُوْلَد على الفطرة، سليمةَ الطبع، تتقزز ناشئةً من الخمر والقذارات والخبيثات الخلقية التي كان يستغرق – ولا يزال – فيها المجتمع الأمريكي الذي وُلِدَت ونشأت وترعرعت وشبّت فيه في حضن والديها اليهوديين أَلْـمَانِيِّ النِّجار المتوطنين بمدينة «نيو روشيلا» (New Rochella) بولاية «نيويورك» الشهيرة، معجونةَ الطينة بالبحث عن الحق، والانتصار له، والتعطش للتوصّل إليه، فالاقتناع به، فاحتضانه والتوفّر عليه، والانقطاع إلى الدفاع عنه وتأكيد حقيّته، بكل ما أُوتِيَتْ من المُؤَهِّلات، وأُكْرِمَتْ به من ربّها من المواهب غير العاديّة والقدرات المغبوطة للدراسة والمقارنة والتحليل وغربلة الحق والباطل ومعرفة الأوّل من الآخر.
بعد ما اشتدّت كراهيتها لليهودية عكفت على دراسة المسيحية فلم تقتنع بها؛ لأنها علمت أنّها هي الأخرى نفاية وخواء لا تقدر على إقناع الروح والنفس، كما درست البهائيّة في ضوء مصادرها التي توصلت إليها، فعلمت أنها أشدّ تخلخلاً من المسيحية؛ فانقطعت إلى دراسة دين الله الإسلام، وعكفت على اقتناع المصادر الإسلامية التي تيسرت لها في ذلك المجتمع الأمريكي المادّي الغارق إلى الآذان في وحل المادية الجامحة والمجون والاستهتار والخلاعة، الذي كان يقل فيه المسلمون الذين بدورهم كانوا منهمكين في السباق الماديّ. وفي سبيل التوصّل إلى الحق راسلت عددًا من كبار العلماء في البلاد العربية والإسلامية بما فيها الهند و باكستان، وظلّت تبحث عن أعلام علماء الإسلام الذين علمت بنحو أو آخر أنهم مؤهلون لإقناعها بأحقية الإسلام والرّد على التساؤلات والخلجات التي تتور في ذهنها نحو الديانات، فاتصلت في هذا الصدد بالبحاثة الهندي الكبير الدكتور حميد الله الحيدر آبادي - رحمه الله - المقيم بـ«باريس» وعالم الفقه الإسلامي الكبير الدكتور معروف الدواليبي، والدكتور سعيد رمضان البوطي، وقائد الإخوان المسلمين سيد قطب الشهيد، والدكتور فاضل جمالي العراقي، والدكتور محمود حبّ الله مدير المركز الإسلامي بـ«واشنطن» والعالم المناضل ضدّ الاستعمار الفرنسي بالجزائر الشيخ محمد بشير الإبراهيمي والدكتور محمد شيخ الجامع الأزهر وغيرهم.
وبما أنها منذ صباها كانت تعيش منعزلة عن تقاليد المجتمع الغربي راغبة عن مفاسده الحضاريّة؛ فلم تتزيّا بالملابس السافرة التي ترتديها الغربيّات، ولم تكثر من استخدام مستحضرات التجميل كعامة الغربيات والأمريكيات وكانت تعيش همًّا لا يبرحها؛ فظنّ والداها أنها مصابة في عقلها، فذهبا بها إلى إخصائيين في الطبّ النفسي، فظلت موضع دراستهم وفحصهم طَوَالَ ثلاثة أعوام ونصف دونما جدوى، ثم أدخلت مستشفى الأمراض النفسية لمدة عامين. ولم يكن بها شيء سوى قلقها النفسي نحو الديانات، وعدم ارتياحها إليها، وتعطشها إلى دين يشفي عليلها ويروي غليلها، ويعالج الخواء الروحي الذي كانت تشكوه هي. وكان قد شكلّ ذلك عقدة نفسيّة لديها شغلت عليها فكرها ونفسها، وبدا مرضاً نفسيًّا يحتاج إلى علاج طبيّ
وأخيرًا حطّت رحلَها في دين الإسلام؛ حيث اعتنقته عن اقتناع كامل ودراسة واعية على يد إمام مسجد «بروكلين» الشيخ «داود فيصل» في 24/مايو 1961م، وتسمّت بـ«مريم جميلة» متخليةً عن اسمها الأول الذي سَمَّاها به والدها، وهو «مارغريت ماركوس». ورغم أنّ والديها لم يتعرّضا لها باعتراض على إسلامها؛ ولكنّها عادت تشعر بالغربة في ذلك المجتمع الأمريكي الغربيّ الذي كان لا ينسجم مع الإسلام تقاليده، فاتصلت بالمودودي، وقالت في خطابها إليه: إنها تعيش في مجتمع لا يجاريها، فدعاها إلى باكستان، وتردّدت في المغادرة إليها نحو عام ونصف؛ لأن مفارقة الأقارب والوالدين ومسقط الرأس لم تكن هينة؛ ولكنها عزمت أخيرًا على اللجوء إلى باكستان مغادرةً مسقط رأسها؛ حتى يسهل عليها العمل بالدين الذي آمنت به، ولا يعترض شيء طريقها إلى العمل به وتطبيق أحكامه على نفسها.
وكانت لا تملك من النقود ما تسافر به من أمريكا إلى باكستان بالطائرة، فحجزت مقعدًا لها في إحدى بواخر البضائع، وركبها عام 1962م إلى «كراتشي» التي استغرقت رحلتها إليها شهرًا، وفي طريقها إليها مرت بكل من مصر والسودان وجدة وجيبوتي وما إليها من البلاد التي ظلت باخرتها تقف بموانئها للشحن والتفريغ لمدة زمنية محددة. وفي باكستان نزلت على المودودي ضيفاً؛ حيث أقامت بدارها بـ«بتهان كوت» أكثر من عام، ثم تزوجت بالسيد يوسف خان الذي كان عضوًا نشيطاً في الجماعة الإسلاميّة لأبي الأعلى المودوديّ، وكان ذا مال ورخاء، وكانت لديه زوجة وأولادها الأربعة، وولدت له السيدة «مريم جميلة» ابنين وثلاث بنات، ماتت إحداهن رضيعةً، وعاشت حياة عائليّة مرضيّة مع ضرّتها الأولى السيدة «شفيقة» التي عاملتها معاملة الأخت الشقيقة، وتولت تربيته أولادها، وفَرَّغَتْها للدراسة والكتابة والتأليف والإنتاج العلمي والفكري الذي أثرت به المكتبة الإسلامية الإنجليزية، وعاشت حياة حافلة بالأعمال العلميّة والتأليفية والدعوية، وأبرزت في كتاباتها فضل الحضارة الإسلاميّة، وانتقدت انتقادًا موضوعيًّا فساد الحضارة الغربيّة وتَسَبُّبَها في ضياع الإنسان وانحرافه عن صراط الله المستقيم. وتجلّت في كتاباتها مؤلفة بارعة تتمتع بالبراعة الكتابية والقدرة الفذّة على طرح الموادّ وتصنيفها بنحو أنيق يشدّ القارئ، ويجذب الدارس، ويمدّ الباحث بمواد دسمة حول الإسلام ومنته على الإنسانية وكونه وحده سفينة نجاة دون غيره من الديانات التي يموج بها العالم البشريّ، كما تجلت فيها مفكرة تحمل أفكارًا نيرة رزينة، وأراءً سديدة، وتصورات ناضجة فيما يتعلّق بما يجب أن يفعله الكتاب والمفكرون والدعاة المسلمون المثقفون نحو الطرح العصريّ المطلوب للإسلام ودعوته.
ولم تكتف بتأليف الكتب، وإنما كتبت كثيرًا من الدراسات والمقالات في الصحف والمجلات السيّارة في أوربّا، تتغنى فيها بمجد الإسلام أو تعلق فيها على الكتب الصادرة بأقلام الكتاب الغربيين حول الإسلام.
وقد صدر بقلمها 38 كتاباً باللغة الإنجليزية، تُرْجِمَ معظما إلى العربيّة والفارسيّة والأردية والبنغالية والماليزية والإندونيسيّة والتركية وغيرها من اللغات الحيّة.
لقد كانت السيدة «مريم جميلة» أحد المفكرَين الكاتبَين الكبيرَين اللذين كسبهما الإسلام في العصر الحاضر، وهما: هي و«محمد أسد» صاحب الكتابين الشهيرين العظيمين: «الإسلام على مفترق الطرق» و «الطريق إلى مكة» (Islam at the cross road – Road to Mecca) وكان اسمه اليهودي سابقاً “Leo Pold Veiss” وقد ولد بمدينة “Lviv” بدولة «يوكرين» (Ukraine) يوم 2 يوليو/تموز 1900م ومات بـ«غرينيدا» بإسبانيا في 23 فبراير/شباط 1992م، وكان يحمل جنيسة كل من دولة باكستان ودولة إسبانيا. وقد ألّف في الانتصار للإسلام وإبراز فضله على الأديان 37 كتاباً.
رحمها الله، وأعلى درجتها في جنة الفردوس، وجزاها جزاءً موفورًا عن كل ما قدمته للإسلام.
وسوم: العدد 936