الأستاذ الداعية الشهيد محمد مهتدي كسحة: (1933- 1980 )
هو الشهيد السعيد والسجين التدمري السابق الذي أفنى شبابه في خدمة أمته ودعوته ، ورحل عن هذه الدنيا الفانية بعد مسيرة حافلة بالبذل والعطاء والتضحية والفداء ..
المولد، والنشأة:
ولد الأستاذ أبو غياث محمد مهتدي كسحة في عام 1933 في حي باب النيرب في مدينة حلب..ونشأ يتيما اذ توفي والده قبل ولادته بعشرين يوما، وتربي بين أخواله وخالاته في حارة البلاط بباب النيرب، وهو وحيد لامه وله أخوين واخت من ابيه...
وأما أمه فهي السيدة الفاضلة ( نبيهة سواس) التي أحسنت تربيته، ولم تتهاون في ذلك؛ لأنه يتيم، بل كانت تتعامل معه بالشدة حينا وبالرفق أحيانا ، ولا تتوانى في ذلك رأفة به، وقد ذكر انها كانت تضربه مرة، فقيل لها : يا ام محمد يتيم، فأجابت يعيش بأدبه ، او يموت بآجله .
توفيت والدته، وهو طالب في الصف التاسع..
دراسته، ومراحل تعليمه:
درس مراحل التعليم المختلفة في مدارس حلب .
وبعد نجاحه في الصف التاسع توجه للدراسة في معهد اعداد المعلمين في حلب حيث درس أهلية التعليم، وتخرج منها معلما ..
فتم تعيينه في قرى ميركان- جويق التابعتين لعفرين في ريف حلب.
خدمة العلم :
وذهب الشاب محمد مهتدي كسحة الى خدمة العلم بالرغم من أنه وحيد لأمه جهلا منه، وكان يرفض الاجازات؛ لأنه لا يوجد بيت يأوي اليه ، ولا اهل يفتقدونه، فيذهب اليهم، وقبيل تسريحه تزوج، وسكن في دار أخته، ثم انتقل مع زوجته الى قرية ميركان حيث أنجبت له اول أولاده.
ودرس البكالوريا حينها كما استدعي للخدمة الاحتياطية عدة مرات، ثم اشترى أرضا في صلاح الدين وعمر فيها غرفة، وسكن فيها، وتابع دراسته في الجامعة، فحصل على شهادة الحقوق من جامعة حلب، ثم درس الأدب العربي في كلية الأداب في جامعة حلب حيث تقول زوجته : انه كان يقضي الساعات الطوال، وهو يدرس لا يشعر بالوقت...
أحب محمد مهتدي كسحة كرة القدم، ولعب مع فريق الجيش، ومن زملائه الحكم الدولي (سالم ايمش)، (وزكي ناطور)، كما كان من هواة التصوير الفوتوغرافي وأبدع فيه
ظل محمد مهتدي كسحة يمارس مهنة التعليم في مدارس حلب ما يزيد عن عشرين سنة بالرغم من حصوله على شهادات عليا، فعشق اللغة العربية، و أبدع في تدريسها ...وترك أثرا ايجابيا في طلابه.
وتعرف خلال هذه الفترة على الشيخ أحمد ماردنلي، والأستاذ محمد النجار في مدرسة أبي أيوب الأنصاري في حي المشهد ، وتعرف أيضا على الشيخ فاروق بطل، وعبد الكريم فتال، فكان له نعم الأخ...
ثم تقدم لمسابقة في رئاسة مجلس الوزراء للحقوقيين ، ونجح فيها، وعرض عليه القضاء فرفض لأنه يعرف ان قاضيا في الجنة وقاضيان في النار، كما خاف أن تنفتح عليه الدنيا، ويغتر بها فاثر السلامة.
وقد عرض عليه الهجرة للبرازيل من أجل أن يتسلم مركزا إسلاميا هناك فرفض قائلا : انا ان ضمنت نفسي فلست متيقنا انني سوف أضمن أولادي من بعدي .
وبعد المسابقة تم تعيينه في وزارة الإدارة المحلية التي تم استحداثها آنذاك، وتدرج فيها، واستلم رئيس دائرة المجالس المحلية حتى الشهر الرابع من عام 1979حيث اعتقل من هناك ، وكان مقررا لجلسات مجلس المحافظة كما كان يرأس لجان الانتخابات التي تجري حين ذاك والتي تهتم بجمع وفرز أصوات الناخبين..وكان في عمله مثالا للأخلاق ونظافة اليد .
أخلاقه، وسجاياه :
كان رحمه الله طيب القلب لطيف المعشر يألف ويؤلف ولم يكن -يرحمه الله - من أولئك الشباب المائع الذي ينساق نحو اللهو أو الذي تجرفه الحياة بمباهجها وفتنها بل كان ملتزما فكريا واخلاقيا بالرغم من أن كل ما حوله يجرفه نحو طريق لا يعرف اخره بل التفت الى الدراسة ومتابعة حلقات العلم عند عدد من المشايخ منهم: الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والشيخ عبد الله سراج الدين ...
وكان من أبناء الدعوة الناشطين في خدمتها يقيم الدروس والدورات للموجهين، وكان يساعد د. فاروق بطل في تلك الدورات، وكان من تلاميذه المقربين : زهير سالم، ود.عثمان مكانسي، والشاعر يحيى حاج يحيى، وعدنان المنلا، ومحمد أديب صالح ...وغيرهم من الشباب الذين أصبحوا ملء سمع العالم وبصره ...وكانت لديه صور لاستقبال الدكتور حسن الهضيبي عند مشارف حلب في خمسينات القرن الماضي ، كما كان مولعا بالبحث والمطالعة اذ كان ينفق جل ما يأتيه على اقتناء الكتب وخاصة الفكرية والدينية، وأحيانا يشتري الكتاب أجزاء (كانت بعض دور النشر تنشر الكتاب على أجزاء كثيرة ليسهل عل الانسان شراؤه وقراءته كالظلال ، وحياة الحيوان للدميري، وعجائب المخلوقات للقزويني، وجامع الأصول وووو....)...وكانت لديه مكتبة ضخمة قيمة تضم أمهات الكتب والتي قلما تجد كتابا فيها لم يعلق عليه أو يفهرسه فهرسة خاصة به (فاذا ذكرت موضوعا أمامه فورا يذهب الى كتاب بعينة فينظر في الفهرس الذى كتب ، وينتقل للصفحة المطلوبة بيسر وسهولة ) ثم اتجه للتخصص فاهتم بالتجويد واتقنه وعلمه لأولاده وتلاميذه، وجعل يدرس فيه، واقتنى أغلب كتب التجويد المعروفة آنذاك القديمة والحديثة، واهتم بالسيرة النبوية فجمع الكثير الكثير من كتبها حيث نبغ في تحليلاته فيها ، وكانت له دراسات ضاعت وللأسف بعد اعتقاله، واستشهاد أحد أولاده.
لم يكن كذلك - رحمه الله - يحب الشهرة بل كان يحب ان يعمل في الظل فعندما تشكلت لجنة جامع صلاح الدين لم يشأ أن يكون فيها بالرغم من أن جميع أعضائها ذوو ثقافة محدودة ، وكانوا يشاورونه في الصغيرة والكبيرة ، وأنه كان يدرس في المسجد تفسير سورة النور، وألقى خطبة الجمعة فيه عدة مرات لأن الخطيب (الشيخ أحمد ماردنلي -رحمه الله - والذي جمعه به صداقة حميمة لم يأت أو كان مريضا) الأمر الذي جعل أهل الحي يطالبونه بأن يكون هو الخطيب وهو القيم على أمر المسجد...
وكان -رحمه الله - صاحب نكتة أليفا ودودا يحب الخير وخدمة الناس ونشر العلم وكل من حوله يحبه ، ويحترمه.
أما طلابه فكانوا شديدي التعلق به بالرغم من قساوته عليهم أحيانا عند ملاحظة تقصيرهم كان لا ينفك يتابعهم في الشاردة والواردة يكرم المتفوق، ويأخذ بيد المتعثر كان ماهرا في إعطاء الدروس يعلم، ويربي ، ويكرر ، ويعيد حتى ترسخ في أذهانهم الفكرة المعطاة ، ولا زالت كلماته ترن في أذهان التلاميذ ، وقد نقل عشقه للعربية لأبنائه وطلابه ولطالما كان في دروسه مسابقات في النحو والاعراب الأمر الذي جعل مدرسته من أوائل المدارس في نجاح الطلاب في مسابقة الصف السادس آنذاك، ونال على ذلك عدة أوسمة من وزارة التربية والتعليم سواء عند مدارس الاكراد أو في مدارس حلب...
وقد أثنى عليه الأستاذ زهير سالم، فقال :
( رحم الله أخانا الراحل الحبيب ابا غياث وتقبله في الصالحين ، وأين ما قيل فيه مما كان عليه ، جدا وقوة في دين وصدعا في الحق ..
في حياته الدعوية كان مشرفا على ما سميناه في حلب " دورة الموجهين " وتحت ضغط الحاجة للموجهين مع توسع العمل في ٧٧ -٧٨ تأسس في حلب مؤسسة خاصة تختار النجباء من الاخوة وتصقلهم في دورة خاصة مدتها سنة تركز تأهيلهم العلمي والتربوي ليكونوا موجهي الأسر في المستقبل. وتولى الاخ ابو غياث رحمه الله تعالى إدارة هذه الدورة بعزم وحزم ، وكنت أدرس فيها مادة فقه الدعوة ..
ثم انضم الأخ أبو غياث رحمه الله تعالى إلينا في إدارة حلب المنتخبة سنة ١٩٧٨ وكنا جميعا
عارف بارود - مصطفى زاكري - عثمان جمال - مهتدي كسحة - زهير سالم - دينمو الحركة في مدينة حلب في تلك المرحلة رحل الجميع، وبقي اخوك
وانا اخاف على عملي أن يحبطه الكتابة عنه ..
شكر الله لكم
كما أثنى عليه تلميذه المهندس الداعية محمد نور سويد، فقال : ( رحم الله أستاذنا محمد مهتدي كسحة أبو غياث رحمة واسعة، وأنزله الفردوس الأعلى وموتى المسلمين وعنا معهم يا ارحم الراحمين .
كان أستاذا بارعا قوي الحجة والبيان هادئ النفس لطيف المعشر محببا لتلاميذه متفهما احوالهم تلقيت عنه السيرة النبوية والتجويد ولقيته في سجن كفر سوسة المنحوسة ، ثم سجن القلعة الذي خرجت منه افراجا بتاريخ 15-3-1980!مودعا إياه وكنا في مهجع 85 شخصا، وقد كانت الدروس فيه بلغت 45 درسا في الاسبوع لمختلف العلوم الاسلامية، وكان محكما في الاصلاح بين الزوجين عملا بقوله تعالى: فابعثوا حكما من أهله وحكماً من أهلها إن يريا إصلاحا ًيوفق الله بينهما فسألته من خلال خبرته ماهي أسباب الطلاق؟ فقال : كلمة أنا فالزوج يقول انا قلت له وهالزوجة تقول: أنا قلت له اي ان حب الذات يهدمون بيوت الزوجية ،
وكتب أحدهم الى زوجته وأولاده، وكان عددهم 9 : انا في رحلة تعبدية علمية لم تنته بعد، واستشهد في تدمر التي كانت مأساة البشرية ووصمة عار في تاريخ سورية وفي جبين الانسانية فلأول مرة في التاريخ يتم الهجوم بالأسلحة والقنابل على مساجين الراي لتشكل مجزرة تدمر منعطفا ًمأساويا في القتل بل في وحشية الفعل فرحم الله شهداءها وبلغهم الفردوس الأعلى من الجنة ولا حول ولا قوة الا بالله، وحسبنا الله ونعم الوكيل وانتقم يا الله من الطغاة المجرمين بقوتك يا أرحم الراحمين .
اعتقاله، واستشهاده:
وكشأن كل مثقف مسلم حر كان لا بد للطغاة من أن يذيقوه بطشهم وظلمهم ، فاعتقل في شهر نيسان من
عام 1979 ، ثم سيق إلى سجن الموت والإرهاب : سجن تدمر العسكري ليلاقي وجه ربه صابرا محتسبا مع المئات من شباب سورية المثقف الواعي في مجزرة تدمر وصمة العارعلى جبين الطغاة الطائفيين ولعنة تلاحقهم ليوم الدين...وكان استشهاده بتاريخ 27 حزيران 1980م
رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
مصادر الترجمة :
1- رسالة من ولده بتاريخ حزيران 2021م.
2- بعض المعلومات من د. عثمان مكانسي .
3- معلومات من الأستاذ زهير سالم .
4- تعليق من المهندس الداعية محمد نور سويد.
وسوم: العدد 936