الإخوان «بربروسا».. والمهمة المستحيلة
لا أظن أن أيا منا تابع الأفلام الهوليودية التي تتناول قراصنة البحر إلا وسمع عن القرصان بربروسا، ذي اللحية الحمراء والعين الواحدة واليد المقطوعة والقدم الخشبية!!
هل تعلمون أن هذه الشخصية هي خير من أنجب تاريخنا الإسلامي من أبطال وقادة البحار، أنقذ الله على يديه مئات الآلاف من المسلمين الأندلسيين، وكتب الله على يديه النصر في معارك كثيرة للمسلمين.
فمن هو بربروسا؟!
القائد عروج -كما يذكر ذلك المؤلف جهاد الترباني- قائد عثماني من أب ألباني وأم أوروبية أندلسية هربت من محاكم التفتيش الصليبية لتزرع في أبنائها معاني العزة والكبرياء، مع تاريخ بشع من استئصال وتصفية المسلمين في الأندلس.
التقى السلطان العثماني سليم الأول بالقائد عروج، وأطلعه على استغاثة مسلمي الأندلس، ثم سلمه المهمة المستحيلة، فما هي تلك المهمة؟
كان على القائد عروج أن يُبحر من أقصى شرق البحر المتوسط في تركيا إلى أقصى غرب المتوسط في الأندلس لمحاربة أساطيل الجيوش الصليبية الإسبانية والبرتغالية والإيطالية وسفن القديس يوحنا مجتمعة!
عليه أن يخترق تلك الحصون التي تطوق الأندلس ليرسو في أحد مدنها المحتلة من القشتاليين الصليبيين.
عليه تدمير الحامية البحرية الإسبانية وشل قوتها الدفاعية، وخوض حرب شوارع في أزقة تلك المدن.
عليه تحرير المدن الأندلسية ومباغتة الكنائس للحيلولة دون هروب القساوسة الكاثوليك الذين يعرفون أقبية الكنائس المخفية وأماكن التعذيب السرية.
تحرير المسلمين مع ضرورة نقلهم بعد غياب الشمس لتجنيبهم الإصابة بالعمى نتيجة عدم رؤيتهم الشمس سنين عدة.
كما أن عليه نقل الأسرى حملا إلى السفن العثمانية مع مراعاة جلودهم الهزيلة وحالتهم البدنية الصعبة.
كان على القائد عروج أن ينجز تلك المهمة المستحيلة في 6 ساعات فقط وتحت جنح الظلام؛ لتجنب الاشتباك مع قوات المدد للعدو.
النتيجة أن القائد البحري عروج نجح في تلك المهمة، بل قام بتكرارها مع إخوته أكثر من مرة، لينقذ الله على يديه مئات الآلاف من المسلمين، حتى ذاع صيته في شوارع أوروبا الكاثوليكية، حيث عرف بالشبح المرعب.
سماه الأندلسيون «بابا أروج» أو «بابا أروتس».
أما الإيطاليون فحرفوها إلى «بابا أروتس» أو «بربروس» أي صاحب اللحية الحمراء.
تمر الأعوام ويشاء القدر أن يسقط عروج في أسر فرسان القديس يوحنا في جزيرة «رودوس»، لكن بعملية بطولية حرر نفسه، وتسلل بحرا إلى إيطاليا، وهناك استولى على سفينة من الجيش الصليبي، بعد أن قتل كل من عليها، وأبحر بها من إيطاليا إلى مصر، حيث قابل سلطانها «الغوري» الذي أهداه سفينة بعتادها وجنودها، انتقل بها ليلتقي أخيه خير الدين، وليواصلا مسيرة جهاد لم يتوقف، حيث أرعبت بطولاتهم الصليبيين.
وكالعادة، لا تؤتى أمتنا إلا من الخونة بداخلها؛ إذ تآمر أحدهم مع الحكام الإسبان وفتح لهم أبواب مدينة تلمسان، ليخيّر القائد عروج ومن معه بين الاستسلام أو القتال والشهادة، ولم تكن الأولى في قاموس القائد المجاهد عروج، إذ قاتلهم بيد واحدة، حتى علم الصليبيون أن عروج هو المحاصر، فأرسلوا الإمدادات العسكرية من مدريد.. حاصروه ثم انقضّوا عليه بسيوفهم تقطيعا وانتقاما؛ لما فعله بهم من مهانة وتركيع، ولما نشره بينهم من رعب.
لم يكتفوا بقتله، بل قطعوا رأسه ومروا به في مدن الصليب، وكلما وصلوا إلى مدينة دقّوا أجراس كنائسهم احتفالا، وانتقاما ممن أذاقهم الرعب، بعين واحدة، ويد واحدة، وقدم واحدة!
استشهد ذلك الأسطورة، ليخرج بعده أخاه خير الدين بربروسا، الذي انتقم لأخيه، وحرر تونس فالجزائر، محطما السفن الإسبانية، بل احتل جزرا إسبانية أخرى.
سمع به البابا بولس الثالث في روما، فأعلن الفاتيكان نفيره العام، فشكلوا ضده تحالفا صليبيا ضخما، يضم 600 سفينة تحمل 60 ألف جندي، تحت لواء قائدهم الأسطوري «أندريا دوريا»، في مقابل 122 سفينة عثمانية تحمل 22 ألف جندي فقط، فماذا حدث؟
أرادوا إنهاء الإسلام في البحر المتوسط، والتقوا في معركة «بروزة»، التي أنهاها القائد خير الدين في خمس ساعات فقط، مع تدمير كلي للأسطول الصليبي، وهروب قائدهم الأسطوري الذي لم يذكر التاريخ عنه أي شيء بعد تلك الهزيمة المخزية.
ذلك النصر مكّن المسلمين من البحر المتوسط ثلاثة قرون متتالية.
رحم الله القائد بربروسا وإخوانه، فقد سطروا ملاحم نصر وتفريج لأهل الأندلس، وشيدوا بطولات وفتوحات بحرية إسلامية في البحر المتوسط، لم يذكر التاريخ لها مثيلا.
وسوم: العدد 936