شيخنا الشيخ أحمد بن السيد عبد القادر قلاش الشافعي الحلبي
1328 ـ 1429 هـ
1911 ـ 2008 م
عالم عامل، فقيه، نحوي، داعية.
ولد ونشأ في كنف أسرة بسيطة محافظة تحب العلم وتحترم أولياءه ( ) وتعلم القرآن الكريم منذ نعومة أظفاره على يد الشيخ مصطفى عاشور، في مكتب جامع (علم الشرق) في حي (المشاطية)( ) ثم انتقل إلى المدرسة الابتدائية، ودرس بعض صفوفها، وفي هذه المرحلة تنبه والده إلى فطنة ولده وذكائه، فقرر إرساله إلى المدارس الشرعية ليطلب العلم الشرعي.
وبدأ يتلقى العلوم الشرعية والعربية في المدرسة (العثمانية) على يد شيخه الشيخ محمد الناشد، ثم انتقل إلى المدرسة (الشعبانية)، وتابع فيها تلقي العلم على يد شيوخه الشيخ طاهر الكيالي، والشيخ أحمد التيجي، والشيخ إبراهيم الدرعزاني، وحفظ في هذه المرحلة الكثير من المتون، والقصائد الطويلة، ثم عاد إلى المدرسة (العثمانية)، ليلتقي فيها شيخه الشيخ محمد الحنيفي ويأخذ عنه علم التوحيد، وقد قرأ عليه متن الباجوري، ثم أعاد قراءة النحو مرة ثانية على شيخه الشيخ محمد الناشد، والفقه الشافعي على شيخه الشيخ محمد سعيد الإدلبي، ثم تحول إلى المدرسة (الإسماعيلية)، وبدأ فيها حفظ القرآن الكريم، فحفظ ثمانية أجزاء، ثم انتسب إلى المدرسة (الخسروية) (الثانوية الشرعية)، فأخذ الحديث النبوي الشريف والسيرة العطرة وتاريخ الإسلام، على يد شيخه محدث حلب ومؤرخها الشيخ محمد راغب الطباخ، ودرس الفقه الشافعي على شيخه الشيخ محمد سعيد الإدلبي، والشيخ عمر المارتيني، حيث قرأ عليه كتاب: (الإقناع في شرح متن أبي شجاع)، وأخذ علوم اللغة العربية نحوها وصرفها وبلاغتها، على شيخه الشيخ أحمد الكردي، وأخذ علم الفرائض على شيخه الشيخ عبد الله المعطي، وعلم المنطق والتوحيد على شيخه الشيخ فيض الله الكردي( ).
هذا بالإضافة إلى ما حصله المترجم له من العلوم الكونية كالحساب والجغرافية والعلوم الطبيعية وغيرها، وفي عام: 1348هـ ـ 1929م، تخرج الشيخ في المدرسة (الخسروية) حائزاً على الدرجة الأولى، بمرتبة نابغ ممتاز ( ).
وقد التقى في هذه المرحلة الشيخ محمد أبا النصر خلف الحمصي وصحبه، وأخذ عنه الطريقة (النقشبندية)، ورافقه في بعض جولاته على المدن والقرى.
ثم انطلق إلى ميادين العمل، والدعوة إلى الله، ونشر العلم، فعمل إماماً وخطيباً في عدد من مساجد المدينة، وأنشأ بالاشتراك مع أخيه الشيخ بكري رجب مكتباً لتعليم الطلاب القرآن الكريم، ما لبث هذا المكتب أن غدا مدرسة علمية عظيمة، أطلق عليها الشيخ اسم: (المدرسة الرضائية)، وقد شاركهم في التعليم فيها الشيخ محمد أديب حسون والشيخ أحمد حسين كعكو( ).
وعندما افتتحت المدرسة (الشعبانية) بإشراف شيخنا الشيخ عبد الله سراج الدين، انتدب الشيخ أحمد ليدرس فيها علوم اللغة العربية، نحوها وصرفها وبلاغتها، كما كانت له جولات على القرى المحيطة بحلب كلّ يوم اثنين بصحبة بعض إخوانه من العلماء، يجمعون أهل القرية في المسجد، فيعظونهم، ويعلمونهم، أمور دينهم ودنياهم ( ).
وربما قصد بعض المقاهي في مدينة حلب، ووقف بمكان (الحكواتي) ليعظ الناس ويعلمهم، وقد تعرض لكثير من المضايقات حتى منع من قبل الشرطة.
وكانت له دروس في اللغة العربية والفقه الشافعي والتفسير في المدرسة (الخسروية)، وكان ينتقل بين هذه المدارس، يلقي دروسه هنا وهناك، دون كلل أو ملل، إذ كان يجد متعته في نشر العلم، وإفادة الطلاب وقد تخرج على يديه عدد كبير من طلاب العلم خلال أكثر من ستين سنة أمضاها في نشر العلم، والدعوة إلى الله ( ).
وفي عام: 1400هـ ـ 1981م، آثر شيخنا مجاورة النبي عليه الصلاة والسلام، فهاجر إلى المدينة المنورة، وعمل أستاذاً في الجامعة الإسلامية فيها، كما اختير عضواً في مجلس البحث العلمي في الجامعة المذكورة وعندما أحيل إلى التقاعد، نظراً لكبر سنه، آثر البقاء في المدينة المنورة للمجاورة والعبادة.
فإذا حضر إلى مدينة حلب، أسرع إليه طلابه، فله معهم في كل يوم مجالس علم، يقرأ لهم فيها الحديث النبوي الشريف، والنحو في جامع (قسطل حرامي)، وجامع (قنبر)، وجامع (سكر في حي الكلاسة).
كان شيخنا وما يزال محباً للمطالعة، شغوفاً بقراءة الكتب، يمضي الساعات الطويلة في القراءة الواعية، واضعاً ملاحظاته وحواشيه وآراءه وتعليقاته على هامش الكتب التي يقرؤها، قال لي مرة: (يا بني إنني تعلمت من قراءتي من الكتب أكثر مما تعلمته من أساتذتي) ( ).
وهو صاحب أسلوب مميز في التعليم، يقف بطلابه عند كل عبارة يدقق في ألفاظها ومعانيها وما ترمي إليه، يوضح ذلك بذوقه العلمي الرفيع وأسلوبه النقدي المتزن البعيد عن التعالي أو النيل من غيره، إذ الهدف عنده هو الوصول إلى الحقيقة العلمية، فحيثما وجدها التقطها، وهو لا يجد حرجاً إن راجعه أحد في مسألة علمية، وبان له صواب رأيه، أخذ به مباشرة، ووضح ذلك لطلابه، مع تقديم الشكر لمن راجعه والثناء عليه.
ولقد رأى الشيخ في تأليف الرسائل التوجيهية، والقصص التربوية والكتب العلمية، طريقاً آخر لنشر العلم، والدعوة إلى الله، فكان له جملة من الرسائل والكتب، نذكر منها:
أ- الكتب العلمية:
1- تيسير البلاغة.
2- أحكام البيع على المذهب الشافعي.
3- من كنوز الإسلام.
4- من بدائع الحكم.
5- تفسير جزء عمّ.
ب - الرسائل التوجيهية:
1- كيف تكون مسلماً؟
2- الصلاة الخاشعة.
3- صوموا تصحوا.
4- كيف تحج؟
5- أنفع الدروس في تهذيب النفوس.
6- سلم الأطفال لبلوغ الكمال.
7- محمد رسول الجهاد.
8- حيّ على الجهاد.
9- طريق النصر.
ج- القصص التربوية للأطفال والكبار:
1- القصص النبوي الصحيح.
2- معجزة الإسراء والمعراج.
3- أنبياء العرب.
4- عيسى بن مريم.
5- يوسف الصديق.
6- نوح عليه السلام.
7- جنة آدم.
وقد حقق المترجم له كتاب: (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس)، وكتاب: (إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء) لمحمد الخضري.
كما ضبطه (متن البناء)، و(متن المقصود) في علم الصرف.
وكان بعض الأدباء والشعراء يعرضون نتاجهم عليه قبل طبعه وإخراجه، ليقوم بتصحيحه، وإبداء ملاحظاته عليه ( ).
عظيم النفس، عالي الهمة، ذكي، لماح، رفيع الأخلاق، يتواضع لمن يعلمه، أو يتعلم منه، محب لطلابه رؤوف بهم.
وقد أتي إلى ذلك روحاً مرحة، وظلاً خفيفاً، ودعاية محببة، ونكتة حاضرة، ويظهر أثر ذلك كله في دروسه، فلا ترى فيها أثراً للسآمة
أو الملل مهما طالت.
أسمر البشرة، منور الوجه والشيبة، ضعيف الجسم، اضطربت خطوته لما كبر في السن، وقد أدركته شاباً قوي الجسم، يسير وكأنه ينحط من جبل
وينتقل بين المدارس والصفوف بهمة ونشاط، مرتدياً جبته الطويلة مزيناً رأسه بعمامة بيضاء فوق (طربوش أحمر).
وما زال الشيخ مقيماً في المدينة المنورة، مجاوراً الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام، مستمراً على عطائه العلمي، حتى كسر حوضه، ولزم الفراش، وكان يتردد عليه طلاب العلم، وهو حاضر البديهة، ولا يخلو مجلسه ـ حتى في أيام مرضه ـ من الفوائد العلمية، والنكات اللغوية، ويتعرف على زائريه، ويطلب القراءة عليه في كتاب من كتب العلم، حتى اشتدَّ به المرض قبيل وفاته بشهر، وتوفي عصر يوم السبت العاشر من شهر رجب، سنة: تسع وعشرين وأربعمئة وألف للهجرة النبوية المطهرة، الموافق للسابع من شهر تشرين الثاني، عام: ثمانية وألفين للميلاد، عن عمر قارب المئة عام، أمضاها في نشر العلم والدعوة إلى الله، وفي صباح اليوم الثاني صلي عليه في المسجد النبوي الشريف بعد صلاة الصبح، ثم حمل على الأعناق بين حزن مشيعيه وبكاء طلابه وأهله وأحبابه إلى مثواه الأخير من الدنيا، ووري الثرى في بقيع الغردق، بجوار محبوبه الرسول الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وصحابته الأكرمين والعلماء والصالحين، وكان من فضل الله عليّ أن وصلت إلى المدينة المنورة في ذلك الصباح المبارك، وأسرعت إلى المسجد النبوي الشريف لأداء صلاة الصبح والمشاركة في الصلاة على شيخنا الجليل، وحمل ذلك الجثمان الطاهر، وتشييعه ومواراته في تربته الطاهرة.
(1) والد صاحب الترجمة رجل بسيط يعمل نساجاً على (النول العربي)، ووالدته سيدة فاضلة من (آل قنبر) المشهورة نسبتهم إلى السيد عبد القادر الجللاني (عن مقابلة شفهية مع المترجم).
(2) حي قديم يقع بين (حارة الدلالين) و(محلة الفرايين التحتاني)، وبها عدد من الآثار والمساجد وأهمها (جامع المشاطية)، وفيه مزار الشيخ سعد اليماني، وانظر نهر الذهب 2/253.
(3) انظر ترجمات شيوخه في مكانها من الكتاب.
(4) تخرج مع الشيخ في (القافلة الرابعة) كل من وحسب ترتيب نجاحهم: أحمد قلاش (المترجم)، برهان الدين الداغستاني، محمد الناصر، سعيد المسعود، محمد سلقيني، مصطفى مزراب، محمد خليلوا التادفي
مصطفى المارعي، همام النعساني، عبد الرحمن حوت، عبد الله الأسود، محمد نور البلاط
عبد الله سلطان، عمر محو، حسن الحموي، عن (سجلات المدرسة الخسروية).
(5) عن مقابلة شفهية مع شيخنا الشيخ محمد أديب حسون ـ حفظه الله ـ
(6) كانت هذه الجولات بتوجيه من شيخنا الشيخ عبد الله سراج، وكان يشاركه فيها صديقه الشيخ بكري رجب والشيخ مصطفى مزراب، والشيخ محمد الغشيم، والشيخ عبد المجيد مزراب، وغيرهم، وانظر ترجمة الشيخ عبد الله سراج الدين ص546.
(7) كان من فضل الله على أن كنت أحد طلابه في الثانوية الشرعية، حيث قرأت عليه البلاغة والفقه الشافعي وذلك من عام: 1963-1969م، وما زلت أحضر مجالسه كلما جاء إلى حلب، وقد قرأت عليه في جامع قنبر عدداً من الكتب في النحو والحديث والمصطلح. (المؤلف).
(8) عن مقابلة شفهية جرت في جامع سكر صيف عام: 2001.
(9) حدثني المترجم له أن كثيراً من الآثار العلمية والأعمال الأدبية والشعرية كانت تعرض عليه قبل تقديمها للطبع، كما طلب منه الدكتور شكري فيصل مراجعة ديوان أبي العتاهية قبل طبعه للمرة الثانية، (عن مقابلة شفهية مع المترجم جرت في جامع قنبر صيف عام 2002م).
ـ رحمه الله تعالى ـ
وسوم: العدد 961