ماذا نعرف عن الصحابيّ الجليل أبي الدرداء؟ رضي الله عنه
الصحابة رضي الله عنهم قبسوا من نور النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتربّوا على يديه الشريفتين، فكانوا خير أمّة أُخرجت للناس، ثم إنهم تفاوتوا بمقدار صحبتهم، كما تفاوتوا بالخصال التي وهبها الله لكل منهم. وفي هذا يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا". متفق عليه. ويقول: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدّهم في دين الله عمر، وأصدقُهم حياءً عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأعلمهم بالفرائض زيد بن ثابت، وأقرؤهم أُبيّ بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل. وإن لكل أمّةٍ أميناً، وأمينُ هذه الأمّة أبو عبيدة بن الجرّاح". حديث صحيح، رواه الترمذي وابن ماجه والبيهقي.
والآن لنتعرّف إلى واحد من كرام أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم:
إنه الصحابي الأنصاري الخزرجي أبو الدرداء عويمر بن مالك، ويُكنّى على اسم ابنته الدرداء. وقد تأخّر إسلامه إلى ما بعد غزوة بدر، وكان لأخيه لأمّه عبد الله بن رواحة تأثير عليه في ذلك، فقد أسلم ابن رواحة مبكراً وشهد بيعة العقبة، وكان حريصاً على هداية أخيه أبي الدرداء، يتعهّده بالنصح والدعوة، ولا يفتأ يدعوه مرةً بعد مرة، لكن أبا الدرداء كان بطيء الاستجابة، حتى نَصَرَ اللهُ جندَه يومَ بدر، وجاءت بشرى النصر إلى المدينة المنورة، وكان أبو الدرداء في طريقه إلى متجره فإذا بأهل بدر عائدين مبتهجين، يسوقون بين أيديهم أسرى قريش، وعَلِمَ أن أخاه ابن رواحة قد أبلى في المعركة بلاءً حسناً، وعاد سالماً غانماً. ودخل الإيمان قلب أبي الدرداء، فلما شاهد أخاه عانقه ونطق بالشهادتين، فكانت فرحةً فوق فرحة النصر، وانطلق الأخَوان إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ليعلن إسلامه بين يديه ويبايعه على السمع والطاعة وعلى الجهاد في سبيل الله. ومن يومها ما كانت تفوته غزوة، بل إنه يوم أُحد كان ممن ثبت حول النبي صلّى الله عليه وسلّم يصدّ عنه السيوف والرماح، حتى قال فيه صلّى الله عليه وسلّم: "نِعمَ الفارسُ عُوَيمر".
لقد ملأ الإيمان قلب أبي الدرداء وحَرَصَ على تعويض ما فاته من خير، فَعَمَدَ إلى حفظ القرآن، والانصراف عن الدنيا، والإكثار من تلقّي العلم ومن العبادة والتبتّل. قال عنه ابن الجَزَري: "كان أبو الدرداء من العلماء الحكماء، وهو أحد الذين جمعوا القرآن حفظاً على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم بلا خلاف، ويرجع إليه الصحابة يسألونه في علوم القرآن. وروى عنه أهل الحديث 179 حديثاً".
وقد كان قبل إسلامه تاجراً، وكانت له تجارة أخرى بعد إسلامه، وهو يقصُّ علينا أمرَ تجارته:
" لقد كنتُ تاجراً قبل عهدي برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما أسلمتُ أردت أن أجمع بين التجارة والعبادة فلم يستقم لي ما أردت، فأقبلتُ على العبادة، فرأيتها التجارة التي تُنجيني من عذاب أليم... أنا لا أقول: إن الله عز وجل حرّم البيع والمتاجرة، ولكن أرجو أن أكون من الرجال الذين لا تُلهيهم تجارة ولا بيع عن ذِكر الله وإقام الصلاة...".
ومن هنا تنسّك أبو الدرداء وتزهّد، وأعرضَ عن زينة الحياة الدنيا وزخرفها، واكتفى منها بلقمة خشنة تُقيم صُلْبه، وثوبٍ صفيق يستر جسده، وصار من أهل الصفّة، لا تفوته صلاة واحدة خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وتبعته زوجُه أم الدرداء في زُهده، وأكبرتْ فيه مسلكه، فكان من دعائها: "اللّهم إن أبا الدرداء خطبني فتزوّجني في الدنيا، اللّهم فأنا أخطبه إليك فأسألك أن تزوّجنيه في الجنّة".
وكان له في الشام غرسٌ مبارك. أورد البخاري في التاريخ أن يزيد بن أبي سفيان والي الشام كَتَبَ إلى أمير المؤمنين عمر: قد احتاجَ أهلُ الشام إلى مَن يعلّمهم القرآن ويفقّههم في أمور دينهم. فأرسل إليه معاذَ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبا الدرداء. فكان هؤلاء الثلاثة شيوخَ المدرسة الفقهية بالشام. وقد ولي أبو الدرداء قضاء دمشق في خلافة عمر ومكث قاضياً حتى توفي في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنهم.
وقد نزل هؤلاء الفقهاء الثلاثة أول الأمر في حمص ثم خلّفوا بها عبادة بن الصامت، وخرج أبو الدرداء إلى دمشق ومعاذ إلى فلسطين... فنشروا الفقه في بلاد الشام. ورأى أبو الدرداء أهل دمشق قد انغمسوا في النعيم فوعظهم وذكّرهم بالإقبال على الله، والزهد في زينة الحياة الدنيا. وكان من مواعظه: "الدنيا دار كَدَر، ولن ينجو منها إلا أهل الحَذَر، ولله فيها علامات يسمعها الجاهلون، ويعتبر بها العالمون...".
ولما مرض أبو الدرداء وأحسّ بدنوّ أجله، دخل عليه أصحابه فقالوا: ما تشتكي؟. قال: ذنوني. قالوا: وما تشتهي؟. قال: عفو ربي. ثم قال: لقّنوني لا إله إلا الله، محمّد رسول الله. فما زل يردّدها حتى فاضت روحه.
توفّي أبو الدرداء بدمشق في خلافة سيدنا عثمان سنة ثنتين وثلاثين للهجرة. رضي الله عنه وأرضاه.
وسوم: العدد 1009