كما يخرج الحيّ من الميت فقد هدى الله: عكرمة بن أبي جهل
عندما جَهَرَ النبي صلّى الله عليه وسلّم بدعوته كان عكرمة شاباً جاوز العشرين من عمره، وتابع أباه أبا جهل على طريق العتوّ والاستكبار، وأسهمَ في إيذاء الصحابة الكرام.
ثم كان أن هيّأ الله تعالى لجنده الانتصار الباهر يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، وكان عكرمة في صف المشركين، وشهد مصرع أبيه، وصار له ثأر من الإسلام، وزادت عداوته لهذا الدين، فما زال يوقد نار العداوة في قلوب المشركين حتى كانت غزوة أحد، فكان خالد بن الوليد على ميمنة فرسان قريش، وكان ابن عمه عكرمة على ميسرتهم.
ثم إنه شارك في غزوة الأحزاب، حتى إنه اقتحم مكاناً ضيقاً من الخندق مع نفر من أقرانه، لكن المسلمين تصدَّوا لهم، وكاد عكرمة يُقتل لولا أنه لاذ بالفرار.
وعندما فتح الله مكّة لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم كان عكرمة ممن تصدّى للمسلمين، يحرّكه الثأر لأبيه ولأصنامه، لكنه هُزم ولاذ بالفرار كذلك. وقد مَنحَ النبي صلّى الله عليه وسلّم الأمان لقريش كلها، إلا لنفر قليل كانت عداوتهم للإسلام شديدة، وكان من هؤلاء عكرمة!. فقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقتلهم وإن وُجدوا متعلّقين بأستار الكعبة. فتسلّل عكرمة متخفّياً نحو اليمن.
وعند ذلك توجّهت هند بن عتبة، زوج أبي سفيان، وأمُّ حكيم، زوج عكرمة، وعشر نسوة أخريات إلى بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتكلّمت هند، وقد وضعت النقاب على وجهها، خجلاً من النبي صلّى الله عليه وسلّم، أنْ كانت قد مثّلت بعمّه حمزة رضي الله عنه. قالت: يا رسول الله، الحمد لله الذي أظهر دينه الحق، وإني لآمل أن تُحسن إليّ وترعى ما بيني وبينك من قرابة، فإني امرأة مؤمنة. ثم كشفت عن وجهها وقالت: أنا هند بنت عتبة يا رسول الله، ووالله ما كان على وجه الأرض بيتٌ أحبُّ إليّ أن يذلّ مِن بيتك، ولقد أصبحتُ وما على وجه الأرض بيتٌ أحبُّ إليّ أن يعزّ مِن بيتك. فرحّب بها النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ثم قامت أم حكيم زوج عكرمة فأعلنت إسلامها وقالت: قد هرب منك عكرمة إلى اليمن خوفاً من أن تقتله، فأمّنْهُ أمّنَكَ اللهُ. فقال لها صلّى الله عليه وسلّم: هو آمِن. فخرجت تطلبُ زوجها حتى لقيَتْه عند ساحل البحر فقالت له: يا ابن عمّ، جئتُك من عند أوصل الناس، وأبرّ الناس، وخير الناس... من عند محمّد بن عبد الله، وقد استأمنتُ لك منه فأمّنَكَ. وما زالت به تُطمئنه حتى اطمأن وعاد معها. فلما دنا عكرمة من مكّة قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: "سيأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمناً مهاجراً، فلا تسبُّوا أباه، فإن سبّ الميت يؤذي الحيّ ولا يبلُغُ الميت". فداك أبي وأمي يا رسول الله، ما أحلمك وما أحكمك!.
ودخل عكرمة وأم حكيم على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وشهِدَ أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن الإسلام دين الحق... ثم قال: يا رسول الله، إني أسألُك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتُكها، أو مسير أوْضَعْتُ فيه، أو مقام لقيتُك فيه، أو كلام قلتُه في وجهك أو غيبتك. فاستجاب له النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى تهلّل وجه عكرمة وقال: أما والله، يا رسول الله، لا أدعُ نفقةً أنفقتُها في صدٍّ عن سبيل الله إلا أنفقتُ ضعفها في سبيل الله، ولا قتالاً قاتلتُه صدّاً عن سبيل الله إلا قاتلتُ ضعفه في سبيل الله.
وصدق عكرمة، فكان فارساً في ساحات الجهاد، عبّاداً قوّاماً، تالياً لكتاب الله، وما خاض المسلمون معركةً بعدها إلا كان في مقدّمتهم.
وفي معركة اليرموك عندما أوشك جيش الروم الذي يضم مئتين وأربعين ألفاً، على تدمير جيش المسلمين الذي يضم ستة وثلاثين ألفاً بعد أن قاموا بمحاصرتهم من كل جانب، وكان ذلك في شهر رجب سنة 15 ه(آب 636م). تناول هذا البطل الإسلامي الفذ سيفـه واتخذ القرار الأصعب على الإطلاق في حياة أي إنسان. لقد اتخذ عكرمة قرار الموت فنادى بالمسلمين بصوت يشبه الرعد: أيها المسلمون من يبـايـعنـي على الموت...؟
فتقدم إليه 400 فدائي، ليكوَّنوا ما عرف في التاريخ باسم "كتيبة الموت الإسلامية" وكان فيهم الحارث بن هشام عمه وضرار بن الأزور وعياش بن أبي ربيعة، عندها اتجه خالد بن الوليد نحو ابن عمه عكرمة ليمنعه من التضحية بنفسه، فنظر إليه عكرمة وقال: إليك عني يا خالد فلقد كان لك مع رسول اللّه سابقة، أما أنا وأبي فقد كنا من أشد الناس على رسول اللّه، فدعني أكَفّرْ عما سلف مني، ولقد قاتلت رسول الله في مواطن كثيرة، وهـل تظن أن أفر من الروم اليوم؟! إن هذا لن يكون أبــدًا! (وكان خالد قد أسلم هو وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة أول صفر سنة ثمان للهجرة بعد عُمرة القضاء التي كانت في ذي القعدة سنة سبع).
فانطلقت كتيبة الموت، وتفاجأ الروم بأسُود جارحة تنقض عليهم لتكسر جماجمهـم، وتقدم الفدائي تلو الفدائي من وحدة الموت العكرمية نحو مئات الاَلاف من جيش الإمبراطورية الرومانية، وتقدم عكرمة بنفسه إلى قلب الجيش الروماني ليكسر الحصار عن جيش المسلمين، واستطاع إحداث ثغرة في جيش العدو بعد أن انقضّ على صفوفهم انقضاض طالب الموت.
فأمر قائد الروم أن تصوب كل السهام نحو هذا الفدائي، فسقط فرس عكرمة من كثرة السهام التي انغرست فيه. فوثب قائد كتيبة الموت الفدائي عكرمة من على ظهر فرسه وتقدم نحو عشرات الآلاف من الروم يقاتلهم بسيفه، عندها صوب الروم سهامهم إليه، فلمّا رأى المسلمون ذلك المنظر البطولي، توهجت المشاعر في صدورهم، فاندفع الفدائيون نحو قائدهم لكي يموتوا في سبيل اللّه كما بايعوه، فلم يصدق الروم أعينهم وهم يرون أولئك المجاهدين الأربعمئة يتقدمون إلى الموت المحقق بأرجلهم، فألقى الله في قلوب الذين كفروا الرعب، فرجعوا القهقرى ولاذوا بالفرار، وصيحات: اللّه أكبر تطاردهم، فاستطاعت تلك الوحدة الاستشهادية كسر الحصار عن جيش المسلمين، ففتش خالد بن الوليد عن ابن عمه عكرمة ليجده وهو ملقى بين اثنين من جنوده: الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة، والدماء تسيل منهم جميعًا، فطلب الحارث ابن هشام بعض الماء ليشربه، وقبل أن يشرب قطرة منه نظر إلى عكرمة وقال لحامل الماء، اجعل عكرمة يشرب أولًا فهو أكثر عطشاً مني، فلما اقترب الماء من عكرمة أراد أن يشرب لكنه رأى عياشا بجانبه فقال لحامل الماء: احمله إلى عياش أولًا، فلما وصل الماء إلى عياش قال: لا أشرب حتى يشرب أخي الذي طلب الماء أولاً، فالتفت الناس نحو الحارث بن هشام فوجدوه قد فارق الحياة، فنظروا إلى عكرمة فوجدوه قد استشهد، فرجعوا إلى عياش ليسقوه شربة ماء فوجدوه ساكن الأنفاس...
وكان إلى جانب النصر العظيم استشهاد أربعة آلاف من المسلمين ومقتل سبعين ألفاً من الروم.
وقد كان في جيش المسلمين ألف من الصحابة، فيهم نحو مئة من أهل بدر.
هؤلاء هم جنود الله، جنود الإسلام. اللهم ارض عنهم وارزقنا السير على طريقهم.
وسوم: العدد 1032