القاضي المستشار منير الدلة .. رمز التضحية والفداء
( ١٩٢١_. ١٩٧٤م)
هو القاضي المستشار والداعية الصادق الكريم المعطاء الذي يعد رمزا من رموز التضحية والفداء في دعوة الإخوان.
أولاً: المولد؛ والنشأة:
ولد السيد المستشار منير الدلة سنة 1921م تقريبا بصعيد مصر في أسرة ثرية؛ ثم استقر بالقاهرة ، والتحق بكلية الحقوق تعرف منير الدلة على حسن العشماوي وهو ابن محمد العشماوي وزير المعارف في فترات كثيرة، وهو رجل مشهود له بالغيرة على الإسلام، عمل على إصلاح التعليم في مصر في وزارته .
وتوثقت علاقته بحسن العشماوي، لا يكادان يفترقان ثم التحق بعدها منير الدلة بمجلس الدولة و أصبح مستشارًا، وعين حسن العشماوي وكيلاً للنائب العام، غير أنه استقال وعمل محاميًا .
وتعرف على دعوة الإخوان؛ وأصبح عضوا فى مكتب الإرشاد في عهد الهضيبى، وشارك الإخوان جميع المحن .
ثانياً: حياته الأسرية:
ازدادت صلة الصديقين ارتباطا بزواج منير الدلة من آمال محمد عشماوي أخت صديقه ،ويصدق عليهما المثل السائر :" الطيور على أشكالها تقع " فقد أكُرم كلاهما بالآخر ، وكأن الله أراد أن يصبغ عليهما نعمته بصلاح الزوج ،فكانت زوجه آمال العشماوي بالرغم مما كانت تعيش فيه من رخاء وثراء، إلا أنها لم تشعر بلذة المال إلا في إنفاقه في سبيل الله،وما إن دخل زوجها وأخوها دعوة الإخوان إلا زاحمتهم فيها، فكانت نعمة الزوجة التي تعين زوجها على دعوته، ولعل صاحبنا له من اسمه نصيب فقد نشأ على التضحية والتجرد والبذل والعطاء وملكت عليه دعوة الإخوان حياته ،ولما لا وهى دعوة الإسلام التي استوي فيها ثراء عثمان بن عفان بفقر بلال بن رباح، وتضحية مصعب بن عمير، وصهيب الرومي بأموال الدنيا .
حقا إن دعوة الإخوان هي دعوة الإسلام التي انتظم في صفوفها الأغنياء والفقراء، والوجهاء والضعفاء، ونجد صور من أعمال الصحابة رضوان الله عليهم ماثلة في منير الدلة ورفاقه .
لقد كان المال في يديه ليس في قلبه، يبذله في تواضع ورقة يستره حياء حتى كأنك تشعر أنه يأخذ لا يعطى، ولله در ُّ القائل:
تراه إذا ماجئته متهللا ::: كأنك تعطيه الذي أنت سائله
تُرى ، أسرة تجمعها هذه الأخلاق والصفات كيف يكون حالها ؟!. لقد بذلت هذه الأسرة جهد مشكورا يذكرنا بالصحابة رضوان الله عليهم في تضحيتهم وبذلهم .
ثالثاً: مواقف لا تنسى في دعوة الإخوان:
تعرف الصديقان منير وحسن على دعوة الإخوان في الأربعينيات، ويشير ميتشل في كتابه (الإخوان المسلمون ) إلى أن منير الدالة انضم إلى صفوف الإخوان سنة 1947م، لكن ذلك يبدو غير دقيق، ومن المرجح أنه انتظم في صفوف الإخوان قبل ذلك بأعوام في أوائل الأربعينيات هو وصديقه حسن، وزاحمته في العمل الدعوى زوجه آمال العشماوي، وقد نال منير الدالة كل ثقة واحترام وتقدير من الإخوان ومرشدهم، وأثبت أنه جدير بهذه الثقة وجندي من جنود الدعوة على مستوى المسئولية .
عندما حلت الجماعة سنة 1948 واعتقل كثير من الإخوان كان مرشد الإخوان مطلق السراح مع الشيخ الباقورى والأستاذ منير الدلة، فقام بمساعدة أسر الإخوان المعتقلين والقيام على شئونهم هو وزوجه آمال العشماوي.
فى المحن يعرف الرجال:
ولما استشهد الإمام البنا دخلت الدعوة في أطوار من الابتلاء صبر خلالها منير الدلة مع إخوانه حتى زالت، واتجه إلى إعادة تنظيم صفوف الجماعة مرة أخرى مع إخوانه وعلى رأسها اختيار مرشد جديدا يخلف الإمام البنا ولعب دورا كبيرا في حسمه.حقيقة لقد تأثر بسماته القضائية في أعماله يسمع كثيرا ثم يصدر القرار الحاسم، وهكذا تجده يراقب الأحداث ويحللها ثم يأتيك بالتصرف الحكيم الحاسم الذي لا ينسى وله أثره العظيم على الدعوة .
يروي صلاح شادي كيف اختلفوا في اختيار نائبا للشهيد حسن البنا، فقام الأستاذ منير دلة بمحاولة لجمع الرأي حول من يشغل هذا الفراغ دفعا للفتنة واتقاء للاختلاف ، فدعا الأربعة المتنافسين على الترشح لخلافة الشهيد حسن البنا إلى منزله ، وهم: صالح عشماوي؛ وأحمد حسن الباقوري؛ وعبد الحكيم عابدين؛ وعبد الرحمن البنا، كما دعا الأستاذ عبد القادر حلمي إلى حضور هذا الاجتماع وصارح الإخوان الأربعة مما يشغل باله وبال الإخوان جميعا، و دعاهم إلى الاتفاق على اختيار أحدهم وإلا فأولى أن يتفقوا على شخص آخر غيرهم .
واستمرت اللقاءات حتى اتفقوا على واحد من خارج مكتب الإرشاد؛ وهو المستشار حسن الهضيبي المستشار بمحكمة النقض وعرفهم بعلاقته بالدعوة من قديم وصلته بالأستاذ البنا وأسباب عدم ظهوره، وقد كان الأستاذ الهضيبى معروفا للأستاذ الباقورى والأستاذ عبد الحكيم عابدين، ووافق عليه الجميع؛ وبايعوه.
وبذلك استطاع جمع الشمل ورأب الصدع الذي حاول خصوم الإخوان العمل على اتساعه.
أخوة فى الله:
وفى أعقاب الثورة اتجه بعض رموز الفساد من تلفيق التهم لأحد الإخوان لإقصائه من طريقهم وحبكوا المؤامرة بشهود زور مأجورين ، وكان الإخوان في المركز العام متابعين هذا الموضوع بكل خطواته، فلما وصل إلي هذه الخطوة قام الأخ الأستاذ منير الدلة المستشار في ذلك الوقت بمجلس الدولة بلقاء زميله المستشار الذي يرأس محكمة التطهير وشرح له الموضوع بحذافيره، فلما مثل الأخ المتهم أمام المحكمة، وقدمت إليه الاتهامات مشفوعة بتقارير من الرؤساء مدعومة بشهود زور من عمال وموظفي المصلحة ومن المتعاملين معه .. ولما انتهي عرض القضية قرر رئيس المحكمة النطق بالحكم بعد المداولة، وفي أثناء المداولة طلب رئيس المحكمة أخانا المتهم وجلس معه في حجرة وحدهما وقال له: يا أستاذ " م " لعلك خدعت بالشعارات التي يطلقها هذا العهد فظننت أن الأمر جد لا هزل، فرحت تتعامل مع هذا العهد علي هذا الأساس فكان أن رأيت نفسك هذا الموقف .. ولولا أني عرفت هذا الموضوع من صديقي الأستاذ منير لما كان بوسعي إلا أن أصدر حكمي بإدانتك وفصلك من العمل؛ لأن الأدلة المقدمة إلي المحكمة مستوفية الشروط القانونية ومؤيدة بالشهود ..
منزل منير الدلة: دار أرقم الإخوان:
لعلنا عندما نقرأ السيرة النبوية نقف عند دار الندوة التي كانت قريش تعقد اجتماعاتها ، أو دار الأرقم التي كانت الرسول صلى الله عليه وسلم يعقد اجتماعاته مع الصحابة سرا .
وعندما نطالع تاريخ الإخوان فلابد أن نعرف أن دار أرقم الإخوان التي يتشاورون في أمورهم المهمة هي دار منير الدلة ، وكم من الاجتماعات التي كانت لها أثرها البالغ في حياة الدعوة عقدت في دار منير الدلة !!.
ولعلنا أشرنا من قبل إلى اجتماع الإخوان في منزله لاختيار المرشد الجديد .واستمر كذلك منزله دار أرقم الإخوان وملتقى جلساتهم المهمة ، وعندما خرج المستشار حسن الهضيبي من الاعتقال أوائل سنة 1954م، يقول محمود عبد الحليم : ولم ألتق بالأستاذ المرشد والإخوة المسئولين إلا في اليوم التالي في حفل شاي دعيت إليه في منزل الأخ منير الدلة .. وهكذا كان بيته لا يكاد يخلو من الاجتماعات لدراسة شئون الدعوة .
رابعاً: ثبات على الحق مواقف تاريخية مع ضباط الثورة
في سبيل الثورة
بذل الإخوان جهدا كبيرا في سبيل نجاح الثورة ومساعدة الضباط الأحرار في الإعداد لها ، وعندما حدث حريق القاهرة في 26 يناير 1952 اتصل عبد الناصر بحسن العشماوي لنقل الأسلحة المعدة للثورة لمكان آخر ، وشاركه في نقلها زوج أخته وصديقه منير الدلة وإخفائها في مزرعة أهله في مدينة الشرقية ، وتم الحفر في المزرعة دون علم أحد من آل العشماوي باستثناء حسن العشماوي وزوجته و منير الدله ، و عبد القادر حلمي ، وعبد الناصر.
مع ضباط الثورة:
وكما شهد بيته اللقاءات المهمة لاختيار من يخلف الإمام البنا، شهد أيضًا لقاءات أكثر أهمية بين الإخوان ورجال الثورة حول رأي الإخوان في قيام الثورة، ثم محادثات الجلاء.
وبعد قيام الثورة طلب جمال عبد الناصر اشتراك الإخوان في الوزارة عام 1953، وكان منير الدلة أحد الثلاثة المرشحين للوزارة إلا أن مكتب الإرشاد اجتمع وقرر عدم اشتراك الإخوان في الوزارة ، ولم يبدِ منير الدلة أي اعتراض وامتثل لقرار الإخوان .
وكان منير الدلة كثيرا ما يمثل الصلة بين ضباط الثورة والإخوان والتحاور معهم في القضايا الوطنية التي نقلها عبد الناصر مشوهة ، ومن ذلك أن منير الدلة وصلاح شادي اجتمعا بعبد الناصر ، فاقترح صلاح شادي على عبد الناصر أن تعرض القوانين على الشعب قبل إصدارها؛ فنقلها عبد الناصر لزملائه أن الإخوان يريدون أن تعرض عليهم القوانين قبل إصدارها ؛ ليشكل رأى عام داخل ضباط الثورة ضد الإخوان .
ولما رغب الانجليز في التفاوض من أجل الجلاء وحاولوا الاجتماع بالإخوان من أجل ذلك ،أبلغ الإخوان عبد الناصر بذلك وأنهم سيعرضون عليه ما يتم في الاجتماع فوافق.
وفي أبريل سنة 1953 اتصل به القاضي جراهام بالسفارة البريطانية وطلب منه أن يمهد بين مستر إيفانز والمستشار الشرقي للسفارة البريطانية وبعض قادة الإخوان وكان ممثل الإخوان في تلك المقابلة : منير الدلة وصالح أبو رقيق، ومستر إيفانز عن الجانب البريطاني، وتناول الحديث موقف الإخوان من الحكومة ، وتباحثوا في تفاصيل القضية المصرية ورأى الإخوان وموقفهم من هذه القضية .
وتم إبلاغ عبد الناصر بما حدث ، لكنه بعد ذلك أنكر معرفته بذلك وعدها من التهم الموجهة للإخوان .
ثبات على الحق:
وعندما افتعل جمال عبد الناصر حادث المنشية في 26 أكتوبر سنة 1954م للتخلص من الإخوان ، وزج بالآلف منهم في السجون قاسمهم منير الدلة المحنة ، واعتقل مع إخوانه .
سأله رئيس المحكمة جمال سالم : هل تذكر يوم ما رحت مع صلاح شادي إلي جمال عبد الناصر في سنة 1953 ، وطلبتم منه أن تعرض عليكم مشروعات القوانين قبل صدورها ؟
أجاب منير دلة: إحنا قابلنا جمال عبد الناصر؛ لنبدي له أن الإخوان المسلمين يؤيدون الثورة، وتطرق الحديث بين الرئيس وبين صلاح شادي إلي موضوع القوانين، وقال له صلاح: حبذا لو عرض الحاكم مشروعات القوانين علي الشعب قبل إصدارها، ودا كان رأي شخصي ولم يكن رأي جماعة .
وقاطعه جمال سالم صارخًا: أنتم قلتم: لازم الحكومة تعرض القوانين علي الجماعة، فقال لكم: الحكومة لا تقبل الإخوان، والحكومة تمثل الشعب أكثر من الإخوان .
ورد الشاهد: أنا أقسمت علي كلامي – ولم يتركه جمال سالم يكمل بل قاطعه قائلا :
إحنا كمان أقسمنا بيننا وبين ربنا .
فقال الشاهد: أنا أروي الواقعة كما حدثت .
فصرخ جمال سالم: كلامك ده فيه نوع من الاتهام لجمال عبد الناصر ، إنه مش عارف ينقل الكلام صح . وفي الرابع من ديسمبر، حكم بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة علي منير الدلة وإخوانه من أعضاء مكتب الإرشاد ، وهم: كمال خليفة ومحمد خميس حميدة؛ وأحمد عبد العزيز عطية؛ وحسين كمال الدين؛ ومحمد حامد أبو النصر، وصالح أبو رقيق.
وفى السجن ضرب المثل في الصبر والشجاعة والثبات على الحق مدة عشرين سنة تقريبا في السجن .
خامساً: فى رحاب الخلد:
وتوفى إلى رحمة الله بعد خروجه من السجن بسنوات في عهد السادات وذلك تقريبا في عام 1974م ليترك زوجه تواصل طريق الدعوة والكفاح الذي شاركها فيها حتى لحقت به سنة 1995م .
سادساً: المراجع:
1ـ محمود عبد الحليم: الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ، مكتبة الدعوة ،الجزء الثالث .
2 ـ صلاح شادي: صفحات من التاريخ وحصاد العمر ، نسخة الكترونية على موقع إخوان ويكى .
3 ـ ميتشل: الإخوان المسلمون، ترجمة عبد السلام رضوان، نسخة الكترونية على موقع إخوان ويكى .
4ـ مادة آمال العشماوي، ومادة حسن العشماوي على موقع إخوان ويكى ،أعلام الحركة الإسلامية .
وسوم: العدد 1034