الشيخ العلامة المحدث عبد الفتاح أبو غدة
( 1336- 1417هـ )/( 1917- 1997م)
توطئة:
يعدّ الشيخ العلامة المحدث أبو زاهد عبد الفتاح أبو غدة من خيرة أعلام أهل السنة والجماعة في سورية في العصر الحديث، ومن أبرز رجالات الدعوة الإسلامية الراشدة، غُرس حبُّ الكمال في طبعه في كلّ شؤون حياته، فكان يحبُّ الترقي من الحسن إلى الأحسن، وبخاصة ما يلزم لرفعة المسلمين من سلوك، وآداب، وتجارة، وصناعة، وعلم، ومعرفة، حتى يكون المسلم أولاً في كل شيء.
فكان – رحمه الله – مجمع الفضائل، بلغ من الكرم أقصى الغايات، يحرص على إكرام ضيفه بما يستطيع، ويبذل في ذلك جهده وغايته.
وكان حليماً، يعفو، ويصفح عمن أساء إليه، وكان أديباً خلوقاً عفيفاً مترفعاً عن الدنايا وسفاسف الأمور، لا يؤذي أحداً بكلامه، بل يحترمه، ويثني عليه، ويختار في ذلك الألفاظ الراقية.
وكان عاقلاً أريباً لا تخرج الكلمة منه إلا بوزن وفي موضعها المناسب، ولا يقوم بأمر إلا ويزنه بعقله، وطالما أوصى أولاده بقوله: (استعمل عقلك في كل ما تقوم به).
وكان ظريفاً، خفيف الروح، يمازح جلساءه بالقدر المناسب، ويضفي على مجلسه العلمي والطبعي روح اللطافة والظرافة، بما يناسب مقام المجلس، ويخفف من وطأة الوقار، لكن في ظل التأدب والاحترام.
وكان ذواقة جداً في ملبسه، ومشربه، ومسكنه، وكتبه ترتيباً وكتابة وتأليفاً، حتى في صفه لحذائه وتنعله، وهكذا تراه في كل حركة وسكنة عاقلاً ذواقاً .
وكان عفيف اللسان لا يشتم أحداً، ويشهد له في ذلك أولاده وأحبابه، وكان لا يغضب إلا إذا رأى أو سمع فحشاً ومنكراً، فغضبه دائماً لله.
وكان عفيف النفس لا يطلب من مسؤول أمراً لذاته، وإنما لأحبابه وإخوانه.
وكان صبوراً على الطاعة والابتلاء، حريصاً على الصلاة حرصاً شديداً، مؤدياً لها في أول وقتها في الحضر والسفر، والتعب والمرض، غارساً ذلك في أولاده وأحفاده، فإذا كان نائماً أو متعباً ونبه إلى الصلاة، انتفض، وقام مسرعاً، وطالما ذكر قصة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في وفاته، وقوله: ( لا حظّ في الإسلام لمن ترك الصلاة).
وكان -رحمه الله تعالى- خدناً للقرآن، له ورد صباحي يومي، لا يدعه إلا مضطراً، مع إكثاره من الأذكار والأوراد، فلا تجده جالساً بدون عمل علمي من تأليف وتحقيق أو تعليم أو مذاكرة أو إفتاء، إلا وجدته يسبح ويحمد الله، ويهلل ويكبر.
وكان رقيق القلب، سريع الدمعة، كثير العبرة، يفيض دمعه عند قراءة القرآن وذكر الله، وقصص السلف والصالحين، وفي المواقف الروحانية، وعلى مآسي المسلمين وآلامهم، وعندما يمدح، ومن شاهد حفل تكريمه عند الشيخ عبد المقصود خوجة المسمى ( الاثنينية) رآه كيف قطع الحفل كله بالبكاء.
وكان يألم، ويحترق على مآسي هذه الأمة وأحوالها، وكم أرق الليالي حزناً وتفكيراً في أحوال المسلمين.
وكان جلداً على العلم قراءة ومطالعة وتأليفاً لا يغادره القلم في حله وسفره وصحته ومرضه، وقد ألف وأنهى بعض كتبه في أسفاره الكثيرة، كما دون في مقدمات كتبه، وقبل دخوله المشفى بيوم كان – وهو يعارك الآلام – يضيف في كتابه الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم وأساليبه في التعليم، كما كان يكثر السؤال وهو في المشفى عن كتاب ( لسان الميزان)، كما أنه كتب مقدمة لسان الميزان قبل عشرين يوماً من وفاته.
وكان قليل النوم يستكثر ساعات نومه مع قلتها، وكان في شبابه يواصل اليوم واليومين. وهذا يدل على حرصه على الوقت أكثر من حرصه على المال، ويدل أيضاً على نهمه العلمي الشديد.
وكان لا يأمر بأمر إلا ويأتيه، ولا ينهى عن شيء إلا ويجتنبه.
وكان – رحمه الله – ذكياً ألمعياً ذا حافظة قوية، وذهن متقد مع عمل بالعلم، وعبادة وتقوى وصلاح وورع، وتوضع جم لطلابه وتلاميذه، وشيوخه وأساتذته، فلا يرى نفسه في جنبهم شيئاً يذكر.
ولما مدحه شاعر طيبة محمد ضياء الدين الصابوني بقوله:
أبو حنيفة في رأي وفي جدلٍ يسمو بهمته لأرفع الرتبِ
عقّب على ذلك بقوله: ( وكذلك الذين تكلموا، وتفضلوا بهذه الكلمات عني، فقد أغدقوا، ولكنهم أوسعوا، وأرهقوا، حتى دخلت مع أبي حنيفة رضي الله عنه بالمواجهة كما قال أخي الشاعر ضياء الدين الصابوني، فهذا شيء لا يبلغ من قدري أن أكون ذرة رمل أو تراب في جنب أبي حنيفة، من أبو حنيفة ؟ أبو حنيفة رحمة من رحمات الله عزّ وجل أهداها الله سبحانه لهذه الأمة كما أهدى الإمام مالكاً، والأمام أحمد، والإمام الشافعي، والإمام ابن جرير.. فهؤلاء الأئمة ..فإن صلحت أن أكون رملة صغيرة في جنب هؤلاء فهذا وسامٌ عظيم وفضل كريم، لا أستطيع الشكر عليه، فأعتذر عن مثل هذه الكلمات التي وجهت في جنب الحديث عني، فإنها لا تستطيع نفسي سماعها ولا قبولها، وإن صدرت من أخ محب صادق في نية حسنة، ولكن الحق أحقّ أن يتبع..).
وكانت له نظرة في الرجال وفراسة، فما رأيته وصف شخصاً بوصف أو مدح أو قدح إلا وجدته فيه ولو بعد حين.
وكذلك نظرته في الأمور تجدها مسددة، ولو بعد حين، وظني أنه مسدد بتقواه وعقله، كما كان يصف الإمام الشهيد حسن البنا – رحم الله الجميع.
فهو – رحمه الله – مجمع الفضائل، ويصدق عليه قول القائل:
وتُوجزُ في قارورة العطر روضةٌ ويُوجزُ في كأس الرحيق كرومُ
ونحن في هذه الرسالة المتواضعة سوف نقف عند سيرة حياته العطرة، وسوف نتحدث عن كتبه ومؤلفاته النافعة، وسوف نتناول بعض صفاته وأخلاقه الحميدة، ومنهجه في التأليف...ثم نتوقف عند ثناء العلماء عليه ورثاء الشعراء له، وما أظن أني قد وفيت بحق الحقّ، قطرة من بحر علمه وأخلاقه وفكره، وقديماً قالوا: مالا يُدرك كلّه، لا يترك جلّه.
مولده، ونشأته:
ولد الأستاذ الشيخ المحدث أبو زاهد وأبو الفتوح عبد الفتاح بن محمد بن بشير بن حسن أبو غدة -يرحمه الله تعالى- في مدينة حلب الشهباء شمالي سورية، في 17 رجب 1335/ الموافق 9 مايو 1917 في بيت ستر ودين، وكان هو الأخ الثالث والأصغر بين إخوته الذكور، فيما تكبره أخته الحاجة شريفة، وتصغره أخته الحاجة نعيمة.
وكان والده محمد بشير- يرحمه الله - رجلاً مشهوراً بين معارفه بالتقوى والصلاح والمواظبة على الذكر وقراءة القرآن، وكان يعمل في تجارة المنسوجات التي ورثها عن أبيه، حيث كان الجد بشير- يرحمه الله تعالى- من تجار المنسوجات في حلب، والقائمين على صناعتها بالطريقة القديمة، أما والدة الشيخ فهي السيدة فاطمة مزكتلي المتوفاة سنة 1376-1956.
وينتهي نسب الشيخ -رحمه الله تعالى- من جهة والده إلى الصحابي الجليل خالد بن الوليد رضي الله عنه، وكان لدى أسرة الشيخ شجرة تحفظ هذا النسب، وتثبته أما اسم أبو غدة فهو حديث نسبياً، ومن فروع العائلة فرعان يحملان اسم صباغ، ومقصود.
وقد عمل الشيخ في حداثته بالنسيج مع والده وجده -رحمهم الله-، ثم عمل أجيراً مع الحاج حسن صباغ في سوق العبي، وكان من زملائه الحاج عبد الرزاق قناعة، ولا تزال الدكان التي عمل بها موجودة يعمل فيها آل أبو زيد أصهار الشيخ عبد الباسط أبو النصر.
عائلته:
كان والد الشيخ وجده - رحمهما الله- يعملان – كما أسلفنا في النسيج وصباغته – وقد تزوج من السيدة فاطمة مزكتلي، وقد توفي جد الشيخ بشير عام 1355/1935 عن عمر يناهز 95 سنة، ويقال إنه لم يسقط له سنّ، فيما توفي والد الشيخ رحمهم الله جميعاً عام 1360/1940 عن 63 عاماً، وللشيخ أخوان من الذكور، وأختان من الإناث، هم:
1-عبد الكريم أبو غدة ( 1322–1 شعبان 1402/1905-24/5/1982):
ومن أولاده محمد سعيد -رحمه الله-، وهو من أوائل الصناعيين بحلب.
- والدكتور عبد الستار: الحائز على شهادة الدكتوراه في الفقه من الأزهر، والذي عمل مع الأستاذ مصطفى الزرقا في موسوعة الفقه الإسلامي في الكويت، ويعمل مستشاراً شرعياً لكثير من المصارف الإسلامية، وعلى رأسها شركة دلة في جدة، وكان الشيخ قد وجهه لطلب العلم الشرعي، وأدخله في نشأته دار الحفاظ في جامع العثمانية.
- وعبد الهادي: الذي توفي في 25 محرم 1384 المصادف 5/6/1964 في حلب بسرطان الدم وأهداه الشيخ كتابه (رسالة المسترشدين).
2-عبد الغني أبو غدة ( 1328/-28 ذي الحجة 1393/1907- 22/1/1974م):
-ومن أولاده أحمد أبو غدة: تاجر العقارات في حلب.
-والشيخ الدكتور حسن أبو غدة: الأستاذ في جامعة الملك سعود.
-وله من الأحفاد الشيخ الناشئ معن حسين نعناع- وفقه الله- ويعمل أميناً للمكتبة في المدرسة الكلتاوية في حلب، والتي يديرها الشيخ محمود الحوت.
3-السيدة شريفة أبو غدة: زوجة السيد محمد سالم بيرقدار المتوفى سنة 1398/1978 عن 73 عاماً، وقد ولدت – أطال الله في عمرها ومتعها بالعافية – عام 1332/1914 ولها من الذكور الأستاذ عبد المعطي رجل الأعمال المعروف في مدينة حلب، والمولود فيها عام 1365/1944.
4-السيدة نعيمة أبو غدة: زوجة السيد علي خياطة، والمولودة عام 1920: ولها من الأولاد محمود، ويعمل في صناعة البلاستيك، وسعد الدين، ومحمد، ولها من الأحفاد غياث طالب العلم الشرعي في المدرسة الكلتاوية في حلب.
زواج الشيخ عبد الفتاح أبو غدة:
تزوج الشيخ أبو زاهد من السيدة الفاضلة (فاطمة دلال الهاشمي) أخت صديقه الدكتور محمد علي الهاشمي، ووالدها المرحوم عبد اللطيف هاشمي، ووالدتها المرحومة السيدة نبيهة كبه وار، فكانت له نعم الزوجة الصالحة، نهضت عنه بعبئ البيت، وتربية الأولاد؛ ليتفرغ للدعوة، والعلم الشرعي، ووقفتْ بجانبه في الشدائد، والمحن، والسجن، والغربة، والأمراض، وكانت خير زوجة وأنيس له .
وللشيخ ثلاثة أبناء، وثمان بنات، وهم على التوالي:
1-محمد زاهد (محرم 1372=25/9/1952): أسماه الشيخ على اسم والده وأستاذه، وقد حاز شهادة البكالوريوس في الهندسة المدنية من جامعة الرياض، ثم الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة تورنتو حيثُ يقيمُ الآن في كندا، وله بعض المشاركات في العلم الشرعي والأدب.
وهو متزوج من السيدة نجوى ناصر آغا، ولهما أربعة أبناء أكبرهم عبد الفتاح.
2-السيدة ميمونة: وهي متزوجة من المهندس فاروق أبو طوق المولود في حماة، والذي يعمل مهندساً في مكة المكرمة، ولهما ولد واحد من الذكور هو المهندس أسامة.
3-السيدة عائشة: وهي متزوجة من المهندس صلاح الدين مراد آغا المولود في حماة، والذي يقيم الآن في فانكوفر بكندا، ولهما أربعة أولاد من الذكور، وتحمل شهادة البكالوريوس في اللغة العربية.
4-الدكتور أيمن: المتخصص بأمراض القلب، والذي يعمل طبيباً في مدينة ريجاينا إلى جانب عمله في إدارة المدرسة الإسلامية، وهو متزوج من السيدة منى عبد الحسيب الياسين المولودة في حماة، وله من الأولاد صبيان، وأربع بنات.
5-السيدة فاطمة: ولها أربعة أولاد من الدكتور أحمد البراء الأميري، وهو نجل الأديب الشاعر الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله. وتحمل شهادة البكالوريوس في اللغة العربية.
6-السيدة هالة: المتزوجة من المهندس عبد الله المصري الذي يعمل في ميدان المقاولات بالمملكة العربية السعودية، وتحمل شهادة البكالوريوس في اللغة العربية.
7-السيدة حسناء: وهي متزوجة من الدكتور بشار أبو طوق المولود في حماة، والذي يعمل جراح أطفال في مستشفى الأطفال بالرياض، ولهما أربعة أولاد من الذكور.
8-السيدة لبابة: وهي متزوجة من المهندس عمر عبد الجليل أخرس المولود في حلب، والذي يقيم الآن في تورنتو بكندا، وتحمل شهادة الماجستير في أصول الدين.
9-الشيخ سلمان: وهو متزوج من السيدة نهى غازي شبارق حفيدة السيد عبد الجليل شبارق أحد أحباء الشيخ القدامى في حلب، ولهما ولدان، وبنت، ويحمل الشيخ سلمان شهادة الماجستير في الحديث، ويعمل باحثاً في مجمع الفقه الإسلامي في جدة.
10-السيدة أمامة: وهي متزوجة من الدكتور عبد الله أبو طوق المولود في حماة، والذي يقيم في تقويم الأسنان بجدة، وتحمل شهادة البكالوريوس من كلية الدعوة بجامعة الإمام.
11-السيدة جمانة: وهي متزوجة من المهندس محمد ياسر عبد القادر كعدان المولود في حلب، والذي يعمل مهندساً كيميائياً في مجال تحلية المياه في تورنتو بكندا.
ولزوجة الشيخ أخوان هما:
1-الأديب الداعية الدكتور محمد علي الهاشمي: أستاذ الأدب العربي في جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، والكاتب، والأديب المعروف.
2-الدكتور محمد عادل الهاشمي: أستاذ الأدب الإسلامي في جامعة عجمان، وصاحب المؤلفات المعروفة في هذا المجال.
دراسة الشيخ، ومراحل تعليمه:
شعر جده أن الشيخ سيكون له شأن كبير، ولمس ذكاءه، وتطلعه لطلب العلم، فألحق الشيخ بالمدرسة العربية الإسلامية في حلب، حيثُ درس فيها أربع سنوات، ثم التحق من تلقاء نفسه سنة 1356/1936 بالمدرسة الخسروية التي بناها خسرو باشا أحد ولاة حلب أيام الدولة العثمانية، والتي تعرف الآن باسم الثانوية الشرعية، وتخرج منها سنة 1362/ 1942، ومما يجدر ذكره أن الشيخ عندما تقدم للمدرسة كانت سنه تزيد سنة على السن القانونية، وكان زوج أخته السيد محمد سالم بيرقدار على علاقة طيبة بالأستاذ مجد الدين كيخيا مدير أوقاف حلب آنذاك، فحدثه في أمره، فاستثناه من شرط السنّ.
شيوخه، وأساتذته:
وكان للشيخ عبد الفتاح أبي غدة العديد من الشيوخ الأفاضل الذين تلقى العلم على أياديهم الطاهرة، وقد وصل عددهم إلى / 200 /، وأهم شيوخه في مدينة حلب، هم:
1-الشيخ راغب الطباخ (1293-1370/1877-1951): الذي كان عالماً في الحديث والتاريخ، ألف، ونشر كتباً عديدة من أبرزها "إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء" في سبعة مجلدات.
2-الشيخ أحمد بن محمد الزرقا (1285-1357/1869-1937): العالم ابن العالم، الأصولي الفقيه الحنفي المتفنن، والد فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا -رحمهما الله -.
3-الشيخ عيسى البيانوني: (1290-28 ذي الحجة 1362/1874-26/12/1942): العالم الفقيه الشافعي، كان مسجده يعرف بمسجد أبي ذر - وهو في كتب التاريخ دار سبط ابن العجمي - ويقع في الجبيلة بالقرب من بيت والد الشيخ، فكان الشيخ يتردد عليه قبل طلبه العلم وبعده، وقد تركت تقواه وصلاحه أثرا لا يمحى في نفس الشيخ، وكان ولده الشيخ أحمد المتوفى سنة 1394/1974 من أقرب الأصدقاء للشيخ وألف معه كتاباً أسمياه "قبسات من نور النبوة"، أما أحفاد الشيخ عيسى الأستاذ علي صدر الدين البيانوني، والشيخ الدكتور أبي الفتح البيانوني، والشيخ أبي النصر البيانوني، فقد تتلمذوا على الشيخ في كلية الشريعة بدمشق، وفي الحركة الإسلامية في سورية.
4-الشيخ محمد الحكيم (1323-1400/1904-1980): الفقيه الحنفي، ومفتي الحنفية في حلب.
5-الشيخ أسعد عبجي (1305-1392/1895-1972): الفقيه الشافعي، ومفتي الشافعية بحلب.
6-الشيخ أحمد بن محمد الكردي (1299-1377/1885-1957): العلامة الفقيه الحنفي البارز
7-الشيخ محمد نجيب سراج الدين (1292-1373/1876-1954): العلامة الرباني، الفقيه، المفسر، الواعظ، والد الشيخ عبد الله سراج الدين، زميل الشيخ، والعالم المرموق -رحمه الله تعالى-.
8-الشيخ مصطفى الزرقا (1321-19 ربيع الأول 1420/1901-3/7/1999): ابن العلامة الشيخ أحمد الزرقا، والفقيه الأصولي المتفنن، فقيه عصره، ولا سيما في المعاملات والفقه المقارن، وهو إلى جانب ذلك ضليع باللغة العربية والأدب، تتلمذ على يديه ألوف من المشايخ والحقوقيين خلال تدريسه في جامعة دمشق 1944-1966، ولا يزال كتابه المدخل الفقهي العام مرجعاً أساساً في فهم علم الفقه ودراسته.
- دراسته في الأزهر:
وبعد تخرج الشيخ عبد الفتاح أبي غدة من الثانوية الشرعية، رحل في طلب العلم إلى مصر عام 1364/1944م، للدراسة في الأزهر الشريف، فالتحق بكلية الشريعة، ودرس فيها على يد نخبة من كبار علمائها في القترة ما بين 1364-1368/ 1944-1948، ثم تابع دراسته فتخصص في علم النفس أصول التدريس في كلية اللغة العربية في الأزهر أيضاً، وحاز على شهادتها سنة 1370/1950م.
شيوخه في الأزهر:
1-الشيخ محمد أبو زهرة (1316-1395/1898-1974): العلامة، الأصولي، الفقيه، كتب أكثر من أربعين كتاباً في أصول الفقه وتاريخه ومقارنته، أثنى ثناء عاطراً على الشيخ عبد الفتاح في رسائله إليه.
2-الشيخ محمد الخضر حسين (1292-1377/1876-1958): علامة التفسير والفقه في زمانه لاسيما الفقه المالكي والفقه المقارن، انتهت إليه إمامة الأزهر.
3-الشيخ يوسف الدجوي (1310-1383/1893-1963): الفقيه العلامة.
4-الشيخ عبد المجيد دراز: الفقيه العلامة من مصر.
5-الشيخ أحمد محمد شاكر (1310-1383/1893-1963): المحدث العلامة.
6-الشيخ محمود بن محمد شلتوت (1310-1383/1893-1963): المفسر، والفقيه، وشيخ الجامع الأزهر.
7-الشيخ مصطفى صبري (1286-1373/1869-1954): شيخ الخلافة العثمانية سابقاً، هاجر إلى مصر هرباً من اضطهاد أتاتورك، وعاش عيشة كفاف وكرامة، كان عالماً بالحديث، والأصول، والفقه الحنفي، والفقه المقارن، والفلسفة والسياسة، من أبرز كتبه.
8-الشيخ عبد الحليم محمود (1328-1398/1907-1978): المفسر، الأصولي، الفقيه، المتصوف، الأديب، انتهت إليه إمامة الأزهر.
9-الشيخ عيسى منون (1306- 4 جمادى الثانية 1376/1889-1956): الفقيه الأصولي الشافعي، ولد بفلسطين، وتوفي بالقاهرة.
10-الشيخ زاهد الكوثري (1296-1371/1879-1952): أمين المشيخة في الدولة العثمانية هاجر إلى مصر هرباً من اضطهاد أتاتورك، وعاش عيشة كفاف وكرامة، كان عالماً بالحديث، والأصول، والفقه الحنفي، والفقه المقارن، ورث عنه الشيخ عبد الفتاح معرفته وولعه بالكتب والمخطوطات وأماكنها، حقق، ونشر كثيراً من الكتب والمخطوطات.
11-الشيخ أحمد بن عبد الرحمن البنا الساعاتي (1301-1375/1885-1958): والد الإمام حسن البنا، كان عالماً بالحديث، والفقه الحنبلي.
12-الشيخ عبد الوهاب خلاف (1305-1375/1888-1956): المحدث، الأصولي، الفقيه، الفرائضي ألف، ونشر كثيراً من الكتب، من أبرزها: أصول الفقه.
زملاؤه في الدراسة في مصر:
درس مع الشيخ في مصر لفيف مبارك من علماء الأمة الإسلامية نذكر فيما يلي بعضاً منهم:
1-الشيخ محمد الحامد: العالم التقي الصالح توفي بحماة في سورية
2-الشيخ محمد علي المراد: العالم الفقيه ولد بحماة في سورية توفي بالمدينة المنورة.
3-الشيخ محمد علي مشعل: ولد بحمص في سورية ويعيش بجدة في المملكة العربية السعودية.
4-الشيخ محمود صبحي عبد السلام: من ليبيا، وكان أول أمين عام لجمعية الدعوة الإسلامية العالمية عندما تأسست عام 1972 في ليبيا.
5-الشيخ د. محمد فوزي فيض الله: ولد بحلب، ودرس في كليات الشريعة بجامعتي دمشق والكويت.
6-الشيخ سيد سابق: الفقيه المعروف صاحب كتاب فقه السنة، ولد وتوفي بمصر.
وكان الشيخ عبد الفتاح أبو غدة بشخصيته القوية المتميزة، شخصية العالم المسلم العامل المجاهد، فهو واسع العلم، رحب الاطلاع، يعيش قضايا أمته وعصره، يضع هموم المسلمين نصب عينيه، مدركاً كل الأبعاد التي تحيط بهم وهو مع اتصافه بكل ما تقتضيه شخصيته العلمية، من رزانة وهيبة ووقار، حلو الحديث، رشيق العبارة، قريب إلى قلوب جلسائه، يأسرهم بحسن محاضرته، وطيب حديثه، وبُعد غوره، مع حضور بديهة، وحسن جواب، فلا غرو بعد ذلك أن تلتقي عليه القلوب، وتتعلق به النفوس، وأن يكون موضوع الحب والتقدير والثقة لدى جميع من خالطه من إخوانه وأحبابه، وهو إلى جانب ذلك كان بعيداً عن الغلو والانفعال، يزن الأمور بميزانها الشرعي الدقيق، وقد أخذ بذلك نفسه وتلامذته، ولا أدل على ذلك، من أن يستشهد الإنسان بموقف الشيخ رحمه الله تعالى، من العالم الجليل الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فقد كان الشيخ يدرس، ويعلم في بيئة فيها كثير من التحفظ تجاه الإمام ابن تيمية، وإذا أضفنا إلى ذلك تتلمذ الشيخ على الشيخ محمد زاهد الكوثري رحمه الله، وكان هو الآخر شديد الازورار عن الإمام ابن تيمية، إلا أن كل هذا وذاك لم يمنعا الشيخ عبدالفتاح أن ينصف شيخ الإسلام، وأن يذكره في مجالس علمه في مدينة حلب في الخمسينيات والستينيات، بما هو أهل له، وأن يغرس في نفوس أجيال الشباب من الدعاة والعالمين حبه واحترامه، على أنه العالم المجاهد وأن يفعل الشيء نفسه بالنسبة لتلميذه الإمام ابن القيم رحمه الله غير عابئ بما يجره ذلك من مخالفة من الوسط العلمي، أو مخالفة شيخ له، يحبه ويجله ويرى في ابن تيمية ما لا يراه.
وعلى الصعيد الشخصي كان الشيخ مثالاً لا يجارى في الأخلاق والذوق والكياسة، تأثر به كل من احتك به، كان رفيقا شفيقا يفضل التلميح على التصريح، متأسياً بأخلاق الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكان شامة بين العلماء، ويحب للمسلم أن يكون شامة بين الناس اتباعاً لهدي المصطفى عليه أفضل الصلاة والتسليم، وكان يحبّ اللباس المتوسط النظيف البعيد عن المغالاة، ويحرص على نظافة ملابسه وحذائه، لا يفارقه الطيب في كل أحيانه يشتريه من حلب من محل كرزة، وفتوح، أو ينفحه به محبه الحاج عبد الغني بوادقجي، ومن قرأ كتابه (من أدب الإسلام) أدرك الذوق الرفيع والخلق السامق الذي تمتع به رحمه الله.
كان خط الشيخ مثالاً في الإتقان يعجب به كل من رآه، وكان حريصًا على انتقاء أٌقلامه من أجود الأقلام ليبقى خطه متسقاً منسجماً، وكان يستعمل في أول أمره قلم حبر من صنع ألماني Tropen، ثم استعمل قلم باركر، ثم استعمل في السنين الأخيرة من حياته قلم الحبر الجاهز، وكان -رحمه الله- يرغب في الحبر السائل، ويعرض عن الحبر الجاف، ويستعمل قلم الرصاص للتعليقات والملاحظات السانحة، حيثُ كان لا يفارقه قلم صغير وأوراق يقيد بها الخواطر والأفكار.
عمله في التدريس بسورية:
بعد أن أكمل الشيخ دراسته في مصر، عاد إلى سورية، وتقدم سنة1371/1951م لمسابقة اختيار مدرسي التربية الإسلامية لدى وزارة المعارف، فكان الناجح الأول فيها، ودرّس مادة التربية الإسلامية أحد عشر عاماً في أبرز ثانويات حلب، مثل: مدرسة هنانو، وكان زميله فيها عبد الوهاب الصابوني، وثانوية المأمون، والصنائع، كما شارك في تأليف الكتب المدرسية المقررة لهذه المادة، ودرّس إلى جانب ذلك في المدرسة الشعبانية، وهي مدرسة شرعية أهلية متخصصة بتخريج الأئمة والخطباء، ودرّس في الثانوية الشرعية "الخسروية" التي تخرج فيها.
- ثم انتدب للتدريس في كلية الشريعة في جامعة دمشق، ودرّس فيها لمدة ثلاث سنوات "أصول الفقه" و"الفقه الحنفي" و"الفقه المقارن بين المذاهب".
- وقام بعد ذلك بإدارة موسوعة "معجم فقه المحلى لابن حزم"، وكان قد سبقه للعمل فيه بعض الزملاء فأتمه، وأنهى خدمته، وطبعته جامعة دمشق في ضمن مطبوعاتها في مجلدين كبيرين..
نشاطه الدعوي في سورية:
انخرط الشيخ أبو غدة في العمل الدعوي الحركي منذ شبابه المبكر، حيث كان من مؤسسي دار الأرقم في حلب، إلى جانب القاضي عبد الوهاب ألتونجي، والمحامي عبد القادر السبسي، وعمر بهاء الدين الأميري، والأستاذ عبد الحميد الأصيل، وسامي الأصيل.
وفي مصر تتلمذ على يدي الإمام حسن البنا، وأعجب بفكره ودعوته، فدخل في جماعة الإخوان المسلمين، وترقى في مناصبها، من نصير إلى منتسب إلى عامل، ثم نقيب، وبعدها تحمل أعباء المسؤولية فكان من الدعاة المعدودين في مركز حلب، ثم أصبح نائباً للمراقب العام الشيخ مصطفى السباعي، وبعد أن عاد الشيخ إلى بلده سورية، حمل على عاتقه عبء الدعوة إلى الله تعالى، فكان له نشاطه الدعوي، وتعلق الإخوان بدورهم بالشيخ -رحمه الله تعالى-، ووثقوا به، منذ عودته إلى سورية من مصر، كان الشيخ إلى جانب عمله في التدريس، نشيطاً في الدعوة إلى الله، فنال ثقة العامة والخاصة، واحترام أقرانه، لورعه، وتقواه، وعلمه، ورجاحة عقله وحكمته، فكان مرشداً وسنداً وموئلاً،. بل وكان بشخصيته المتميزة وسلوكه السامق مدرسة دعوية حية متحركة، تتلمذ عليه فيها ثلاثة أجيال أو أكثر من الدعاة العاملين، كلهم يفخر بأنه قد نال شرف الاغتراف من بحر فضيلته- رحمه الله تعالى- وأفسح له في جناته، وكانت دروس مادة التربية الدينية التي يدرسها من أحبّ الدروس للطلبة وموضع إقبالهم واهتمامهم، بعد أن كانوا يعرضون عن أمثالها.
وفي مسجد "الخسروية" حيثُ كان يجتمع أسبوعياً آلاف المصلين لحضور خطبة الجمعة، كان الشيخ يطرح على منبره قضايا الإسلام والمسلمين المعاصرة متصدياً للاستبداد، وللنزعات العلمانية، غير عابئ بما قد يناله من أذى، مردداً بجرأة العالم المسلم المجاهد قولة الصحابي الشهيد خبيب بن عدي:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
أما دروسه فقد كانت تغص بها المساجد، ويتحشد لها المستمعون، وكان للشيخ الأنشطة التالية:
-خطبة الجمعة الأسبوعية، التي كان يلقيها على منبر الجامع الحموي أولاً، ثم جامع الثانوية الشرعية "الخسروية".
-جلسة للتفقه في الدين بعد خطبة الجمعة فيها أسئلة وأجوبة، تغطي حياة المسلمين الخاصة والعامة، يجيب الشيخ فيها عن جميع التساؤلات بمنهج رشيد سديد، يربط الفتوى بدليلها الشرعي، وبالعصر الذي يعيشه المسلمون، ممعناً في الترغيب والترهيب والتوجيه.
-درّس في الحديث والتربية والتهذيب بين مغرب وعشاء يوم الخميس في جامع سيف الدولة.
-درّس في الفقه بين مغرب وعشاء يوم الإثنين في جامع زكي باشا المدرس، بالإسماعيلية حيث كان الشيخ يغمر الحاضرين بواسع علمه، في المقارنة بين المذاهب وذكر الأدلة والترجيح بين الأقوال.
-درس متقطع في السيرة في جامع الصديق بالجميلية.
إلى جانب هذه الدروس كان للشيخ لقاءات دورية مع علماء حلب، ومدرسي التربية الدينية فيها للتشاور فيما يهم المسلمين في المدينة، وما يتعلق بالتعليم فيها، وهو في كل ذلك عمدة الميدان والمشار إليه بالبنان.
التجربة السياسية عند الشيخ عبد الفتاح أبو غدة:
انتخب الشيخ سنة 1382/1961م نائباً عن مدينة حلب، بأكثرية كبيرة، فنال بذلك ثقة مواطنيه، على الرغم من تألب الخصوم عليه من كل الاتجاهات، ومحاولاتهم المستميتة للحيلولة بينه وبين الوصول إلى مجلس النواب.
وفي مجلس النواب السوري، قام الشيخ عبد الفتاح مع إخوانه بنصرة قضايا الإسلام والمسلمين في سورية، وقد أشار الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- في مذكراته لبعض مواقف الشيخ إزاء محاولات من جهات شتى لإغفال الإسلام ديناً للدولة من الدستور السوري، وفي عام 1965 بعد عامين على حل المجلس النيابي، غادر الشيخ سورية؛ ليعمل مدرساً في كلية الشريعة بالرياض.
سجنه، ومحنته:
ولما عاد إلى بلده في صيف 1386/1966 أدخل السجن مع ثلة من رجال العلم، والفكر والسياسة، ومكث في سجن تدمر الصحراوي مدة أحد عشر شهراً، وبعد كارثة الخامس من يونيو/حزيران سنة 1967 م أفرجت الحكومة آنذاك عن جميع المعتقلين السياسيين، وكان الشيخ -رحمه الله- من بينهم.
كانت عضوية الشيخ في جماعة الإخوان المسلمين مبنية على قناعته بضرورة العمل الجماعي لنصرة الإسلام والمسلمين لا جريا وراء المناصب والمسميات، فقد كان التفرغ للعلم والتحقيق الرغبة الدائمة التي رافقته طوال حياته، ومع رغبة الشيخ الملحة في الانصراف بكليته إلى الجانبين العلمي والدعوي، فقد اضطر أكثر من مرة، أن يستجيب لرغبة إخوانه، فيتحمل معهم بعض المسؤوليات التنظيمية، فكان أن تولى – على غير رغبة منه أو سعي - منصب المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية مرتين، ثم تخلى عنه في أقرب فرصة مناسبة متفرغاً للعلم والتأليف.
حياته في السعودية:
وبعد خروج الشيخ عبد الفتاح أبي غدة من السجن انتقل الشيخ ثانية إلى المملكة العربية السعودية، متعاقداً مع جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض حيثُ عمل مدرساً في كلية الشريعة، ثم درّس في المعهد العالي للقضاء الذي أسس حديثاً، وكذلك عمل أستاذاً لطلبة الدراسات العليا، ومشرفاً على الرسائل العلمية العالية، فتخرج به الكثير من الأساتذة والعلماء، وقد شارك خلال هذه الفترة 1385-1408/1965-1988 في وضع خطط جامعة الإمام محمد بن سعود ومناهجها، واختير عضواً في المجلس العلمي فيها، ولقي من إدارة الجامعة ومدرائها فضيلة الشيخ عبد العزيز بن محمد آل الشيخ، والدكتور عبد الله عبد المحسن التركي كلّ تكريم وتقدير، ولقي مثل ذلك من فضيلة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله تعالى- الذي ترجم له الشيخ في كتابه "تراجم ستة من علماء العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر"، كما كان محل احترام وتقدير من وزير المعارف المرحوم حسن بن عبد الله آل الشيخ.
انتدب الشيخ أستاذاً زائراً لجامعة أم درمان الإسلامية في السودان، ولجامعة صنعاء في اليمن، ولمعاهد الهند وجامعاتها، وشارك في الكثير من الندوات، والمؤتمرات الإسلامية العلمية، التي تعقد على مستوى العالم الإسلامي، وكانت له جهود طيبة في جميع هذه المجالات حيث درّس في الأردن، والباكستان، وتركيا، والجزائر، والعراق، وقطر، وعمل فترة في جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض، ثم انتقل للعمل متعاقداً مع جامعة الملك سعود في الرياض، وقبل وفاته بسنوات تفرغ من العمل، وعكف على العلم والتأليف حتى وافته المنية رحمه الله، وأسكنه فسيح جناته.
كذلك اختير الشيخ لتمثيل سورية في المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بعد شغور مقعدها بوفاة الشيخ حسن حبنكة الميداني، فقام بذلك خير قيام مع الأعضاء الآخرين لنشر الدعوة إلى الله، ومتابعة قضايا المسلمين في العالم حتى توفاه الله تعالى.
عودته إلى سورية:
تلقى الشيخ عبد الفتاح في عام 1405/1995 دعوة من الرئيس حافظ الأسد؛ ليعود إلى سورية، حيثُ أعربَ على لسان الشيخ د. محمد سعيد رمضان البوطي أنه يكن احتراما ً كبيراً للشيخ وعلمه، ويرغبُ أن يكون بين أهله وفي بلده، ومبدياً رغبته في الالتقاء بالشيخ، وقد استجاب الشيخ لهذه المبادرة الطيبة آملاً أن تكون بداية لرأب الصدع الذي حصل في سورية في عقد الثمانينيات، فعاد إلى سورية مؤملاً تقريب وجهات النظر وتخفيف المعاناة التي أدت إليها أحداث مؤسفة سابقة أواخر حياته، ولم يقدر أن يلتقي الرئيس بالشيخ الذي كان موضع حفاوة رسمية ممن التقى به من المسئولين، وأتاحت له عودته إلى سورية بعد غياب دام سبعة عشر عاماً أن يرى بلده قبل وفاته، وينعم بفيض الحبّ الغامر من محبيه وعارفي فضله الذين تقاطروا على بيته، والمسجد الذي يصلي فيه، حيث كان الشيخ يصلي الصلوات في جامع الروضة، ويصلي الجمعة في مسجد الرحمة بحي حلب الجديدة، فكان المصلون يهرعون إليه حيثما كان في مشاهد تزدان بالوفاء النادر، والمحبة العامرة في القلوب.
وقد تشرّف بخدمة الشيخ في حلب في هذه الفترة تلميذه الشيخ مجاهد شعبان -رحمه الله- والحاج عدنان قناعة، فكان الأول رهن إشارة الشيخ للتحقيق العلمي، والمذاكرة في أبواب الفقه والأدب، يسجل فوائد يستقيها من الشيخ في دفتر خاص، وكان الحاج عدنان يقوم بقضاء مصالح الشيخ المعيشية، فجزاهما الله خير الجزاء .
وفي هذه الفترة قام الشيخ برحلة إلى قلعة شيزر قرب حماة، وهي قلعة الأمير المجاهد الأديب أسامة بن منقذ الذي كان الشيخ -رحمه الله- معجباً بشخصيته التي تتبدى من مذكراته حول حقبة الحروب الصليبية وتخلف الصليبين الحضاري والعلمي، وكان معه في هذه الرحلة الشيخ مجاهد شعبان، والمهندس محمد خضرو -رحمهما الله-، والشيخ الناشئ محمود نور الدين مجاهد شعبان -وفقه الله-.
ومما ينبغي ذكره أن الشيخ مجاهد قد توفي -رحمه الله- عام 1420/2000 في حادث سيارة، ثم تلاه المهندس محمد خضرو عام 1421/2001 رحمهما الله رحمة واسعة.
- مذهبه:
كان رحمه الله حنفياً، متقناً للمذهب الحنفي الذي نشأ عليه، ودرَسه على عدد من المشايخ ولا سيما الفقيهان الشيخ مصطفى الزرقا والشيخ المفتي أحمد الحجي الكردي الحنفي مفتي الأحناف في حلب، كما كانت له قراءات ومطالعات فردية كثيرة يغوص فيها في أعماق الكتب ويُوَشِّي على صفحاتها ملاحظاته وآراءه.
وكانت له مشاركة قوية واطلاع جيد على المذهب الشافعي، وهما المذهبان السائدان في بلاد الشام.
قال تلميذه الكبير الشيخ محمد عوَّامة حفظه الله في «الاثنينية»: وأحفظ لفضيلته مواقف عديدة كان ينبه فيها السائل إلى فروع دقيقة في زوايا حواشي الفقه الشافعي.
ثم إنه شارك مشاركة قوية في الفقه الإسلامي عامة، ورفد ذلك منه اشتغاله الطويل بتدريس أحاديث الأحكام، ولذلك يرى القريب منه سعةَ صدر في الأحكام، وسماحة، لا تساهلاً في الفتوى والتطبيق، لكنه يكره تتبع الرخص، والأخذ بشواذ الأقوال. اهـ.
قلت: كان الوالد رحمه الله يكره تتبع الرخص والأخذ بشواذ الأقوال كما ذكر الشيخ محمد عوَّامة حفظه الله، كما أنه لم يكن حرفياً متعصباً للمذهب الحنفي، بل كان يكره ذلك جداً ويَعيبُه، وله في ذلك مواقف عديدة في خروجه عن المذهب الحنفي منها ما كان بيني وبينه، ومنها ما حصل أمامي، وقد أخرج رحمه الله في ذلك رسالتين: «رسالة الألفة بين المسلمين» لابن تيمية، و«رسالة الإمامة» لابن حزم، في موضوع الاختلافات الفقهية.
وقد سُئِل رحمه الله في «الاثنينية» السؤال التالي: إن هناك دائماً خلافات بين العلماء على مسائل فقهية، وكل واحد منهم ينتمي إلى مذهب من المذاهب الأربعة، ولا يريد أن يحيد عن فتوى مذهبه إلى درجة التشبث به، مما جعل الأمور الفقهية والفتاوى فيها أكثر تعقيداً، فما رأي فضيلتكم في ذلك؟
فأجاب: أولاً التشبث بالمذاهب الفقهية والتعلق بها، هذا واجب على كل من لم يكن من أهل الاجتهاد والمعرفة التامة بحكم الشريعة وفروعها وأصولها، فهذا ما أوجبه الله عزَّ وجلّ: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}، أما التشبث والتيبس في أمر المذهب الواحد، فهذا ليس بواجب في الشرع، فيسوغ لِيَ أن أتعلم هذه المسألة أو أعمل في هذه المسألة بالمذهب الحنبلي، وإذا وجدت مسألة أخرى أعمل بالمذهب الشافعي، وإذا وجدت في هذه المسألة شدة أو صعوبة في المذهب الحنبلي أن أنتقل وأعمل بها في المذهب الحنفي، كل هذا معناه أَخْذُها بهدي الله عزَّ وجلّ وبهدي نبيّه صلَّى الله عليه وسلَّم وما كان هناك افتراق بين هؤلاء الأئمة، فكل واحد من هؤلاء الأئمة حرص كل الحرص أن يكون اجتهاده أقرب إلى كلام الله وكلام رسوله ما قَدِروا على ذلك، فلذلك نجدهم إذا وصل الواحد منهم إلى حكم من الأحكام في هذا اليوم، ثم وجد الحكم بعد أيام أو شهور أو سنين، ولاح له وجه آخرُ في المسألة ووجد المسألة على وجه آخرَ، يتحول عنها ولا غَضَاضة، وإذا لم يعلمها يقول: لا أعلمها ولا غضاضة، لماذا؟ لأن الشريعة عنده أغلى من وجوده.
فالإمام مالك - رضي الله عنه- جاء إليه رجل من العراق بأربعين مسألة، فقدَّمَها إليه وسأله عنها، فأجابه الإمام مالك رضي الله عنه بست مسائل، فقال له الرجل: يا أبا عبد الله أنا طويت الأرض ومشيتُ الفَيَافيَ والقِفَارَ إليك وأنت عالم المدينة، أريد أن أعرف هذه المسائل كلها، فبماذا أرجع للناس وأقول لهم؟ قال: قل لهم قال مالك: لا أدري! لا يضيره أن يقال عنه: قال: لا أدري، لأن الدين عنده أغلى من أن يخجل في سبيله.
فالتمسك بالمذهب من حيث هو إذا كان على عصبية أو غيرِ معرفة، فهذا من النقص في الإنسان، ولا يصح للإنسان أن يعتقد أنه إذا كان والده حنبلياً ينبغي أن يكون حنبلياً، أو شافعياً أن يكون شافعياً، يمكن أن يكون هكذا وهكذا وهكذا، وهذا من س2عَة الإسلام، لأن اتباع أي مذهب هو اتّباع للكتاب والسنَّة، وهذا الاجتهاد ظني، فيجوز للإنسان أن يأخذ به من قول هذا العالم أو قول هذا العالم، أما التعصب والتحزب فهذا ليس من مبدأ المسلمين، ليس من مبدأ الإسلام وليس من مبدأ الفقه، لذلك الإمام أبو حنيفة رحمه الله خالفه أصحابه ودونوا خلافاتهم بوجوده ولا حرج، لأن هذا دين الله ينبغي الاجتهاد في تحصيل الأصح منه، فلذلك هذا الَّذي يقال فيه تعصب أو تحزب، أو تمسُّك ببعض المذاهب ولا يحيد الإنسان عنها، هذا من النقص النفسي، فينبغي للإنسان أن يعدِل عنه ويكون واسع الصدر، واسع الرأي، واسع القلب، يقدِّر كل إمام بفضله وكرمه وعلمه ومقامه العظيم...، فليس أحد من الأئمة أفضل من الآخر، وكلهم من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مقتبس وملتمس، والله أعلم. اهـ كلامه رحمه الله تعالى.
-تلاميذه:
تلقَّى عن الشيخ جمع غفير من طلبة العلم جلهم من الديار الشامية والنجدية ومن نزل بهما وافداً.
فمن أشهر وأجل تلاميذه بحلب:
1 - الشيخ محمد عوامة.
2 - الشيخ محمود ميرة.
3 - الشيخ ناجي عَجَم.
4 - الشيخ محمد أبو الفتح البيانوني.
5 - الشيخ صلاح الدين الإدلبي.
6 - الشيخ عدنان سرميني.
7 - الشيخ عبد الستار أبو غدة.
8 - الشيخ مجد مكي.
9 - الشيخ عبد الله عزام رحمه الله.
10 - الشيخ تميم العدناني رحمه الله.
ولما درَّس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض قرابة 23 سنة تَلْمَذَ له في كلية الشريعة وكلية أصول الدين طائفة من المشايخ النبهاء الذين هم الآن عمداء علم في كلياتهم الزاهرة، فمن أولئك:
11 الشيخ العلامة صالح الأَطْرَم.
12 الشيخ زاهر عوَّاض الألمعي.
13 الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري.
14 الشيخ فهد بن عبد الرحمن الرُّومي.
15 الشيخ عبد الله الحَكَمي.
16 الشيخ عبد العزيز السُّدَيري.
17 الشيخ عبد الوهاب الطُّرَيْري.
18 الشيخ إبراهيم الصُّبَيْحي.
19 وممن لزم الوالد رحمه الله في آخر سني حياته الأستاذ محمد بن عبد الله الرشيد، فكان تلميذاً محبّاً بارّاً، وألَّف بعد وفاة الوالد رحمه الله ثبتَه «إمداد الفتاح»، وقد أجاد فيه وأبدع وابتكر، فجزاه الله خيراً.
ومن تلاميذه رحمه الله تعالى:
20 - الشيخ العالم المحقق أحمد بن معبد عبد الكريم المصري.
21 -الشيخ عبد الرحيم بن محمد جميل المُلَّا.
22 - الشيخ السيد إبراهيم بن عبد الله الخليفة الهاشمي الحسني، الأحسائيان.
23 - الشيخ العالم محمد رفيع بن محمد شفيع العثماني.
24 - الشيخ العالم محمد تقي بن محمد شفيع العثماني، الباكستانيان.
25 - الشيخ محمد عبد المالك بن محمد شمس الحق الكَمُلَّائي البنغلاديشي.
26 الشيخ سلمان الندوي الحسني.
27 الشيخ محمد عبيد الله الأسعدي الندوي.
28 الشيخ محمد أكرم الندوي، الهنود البررة.
29 الشيخ حسن بن رامز قاطرجي. وهو من كبار تلاميذه.
30 - الشيخ قاسم بن علي سعد.
31 - الشيخ جمال بن حمدي الذهبي.
32 - الشيخ عبد الرحمن بن محمد الحلو.
33 - الشيخ ماجد درويش.
34 - الشيخ مالك الجُدَيْدَة، اللبنانيون.
35 - الشيخ الحسين بن محمد شَوَّاط.
36 - الشيخ محمد شكري اللَّزَّام، التونسيان.
37 - الشيخ محمد طلحة بن بلال مِنْيَار المكي.
38 - الشيخ أحمد بن عبد الملك عاشور المكي.
39 - الشيخ عصام البشير السوداني.
40 - الشيخ جاسم بن مهلهل الياسين.
41 - الشيخ محمد بن ناصر العجمي، الكويتيان.
42 - الشيخ نظام يعقوبي البحريني.... وغيرهم كثير.
- رحلاته:
رحل الشيخ عبد الفتاح - رحمه الله- إلى بلدان عديدة ومدن كثيرة، فبالإضافة إلى مدن بلده الشام، زار الأردن، وفلسطين قبل احتلالها، والعراق، والسعودية، والكويت، وقطر، والإمارات، والبحرين، واليمن، ومصر، والسودان، والصومال، وتونس، والجزائر، والمغرب، وجنوب أفريقيا، وأندونيسيا، وبروناي، والهند، وباكستان، وأفغانستان، وأُزْبَكِستان، وتركيا، وبلدان كثيرة في أوروبا وأمريكا.
ورحلاته هذه إما أن تكون علمية لرؤية المشايخ والالتقاء بالعلماء، وتحصيل العلم، وزيارة المكتبات ودور المخطوطات.
وإما دعوية لحضور المؤتمرات وإلقاء الخطب والمحاضرات والدعوة إلى الله، وكثيراً ما كان يجمع بين الأمرين، رحمه الله وغفر له.
صفاته، وأخلاقه:
إذا كان بعض الأدباء يجعل (مفتاحاً) لكل شخصية يدرسها، ويترجم لها، فإن مفتاح شخصية الشيخ عبد الفتاح أبو غدة - رحمه الله- حبُّه الكمال في كل شؤونه، والترقي من الحسن إلى الأحسن، وخاصة ما يلزم لرفعة المسلمين من سلوك وآداب وتجارة وصناعة وعلم ومعرفة، حتى يكون المسلم أولاً في كل شيء .
فكان -رحمه الله- مجمع الفضائل والشمائل كريماً غاية في الكرم، يحرص على إكرام ضيفه بما يستطيع، ويبذل في ذلك جهده وغايته.
وكان رحمه الله حليماً كثيراً ما يعفو ويصفح.
وكان أديباً خلوقاً لا يؤذي أحداً بكلامه، بل يحترمه ويثني عليه، ويختار في ذلك الألفاظ الراقية.
وكان عاقلاً حصيفاً أريباً لا تخرج الكلمة منه إلَّا بوزن وفي موضعها المناسب، ولا يقوم بأمر إلَّا ويزنه بعقله، وطالما قال لي: استعمل عقلك في كل ما تقوم به.
وكان ظريفاً خفيف الروح يمازح جلساءه بالقدر المناسب، ويضفي على مجلسه العلمي والطبعي روح اللطافة والظرافة، بما يناسب مقام المجلس، ويخفف من وطأة الوقار، لكن في ظل التأدب والاحترام.
وكان ذَوَّاقةً جداً في ملبسِه ومشربِه ومسكنِه، وكُتبه ترتيباً وكتابة وتأليفاً، حتى في صَفِّه لحذائه وتنعله. وهكذا تراه في كل حركة وسَكَنَة عاقلاً ذَوَّاقاً.
وكان عفيف اللسان لا يشتم أحداً، ولا أذكر أني سمعت منه كلمة نابية إلَّا من أندر النادر، وحينما يغضب جداً، وأكثر غضبه لله سبحانه وتعالى.
وكان عفيف النفس لا يطلب من مسؤول أمراً لذاته، وإنما لأحبابه وإخوانه.
وكان صبوراً على الطاعة والابتلاء، حريصاً على الصلاة حرصاً شديداً، مؤدياً لها في أول وقتها، في الحضر والسفر، والتعب والمرض، غارساً ذلك في أولاده وأحفاده، فإذا كان نائماً أو متعباً ونُبِّه إلى الصلاة، انتفض وقام مسرعاً، وطالما ذكر قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وفاته، وقولَه: (لَا حَظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة).
وكان خِدْناً للقرآن، له ورد صباحي يومي، لا يدعه إلَّا مضطراً، مع إكثاره من الأذكار والأوراد، فلا تجده جالساً بدون عمل علمي من تأليف أو تحقيق أو تعليم أو مذاكرة أو إفتاء، إلَّا وجدته يسبح ويحمدل ويهلل ويكبر.
وكان رقيق القلب، سريع الدمعة، كثير العبرة، يفيض دمعه عند قراءة القرآن وذكر الله، وقصص السلف والصالحين، وفي المواقف الروحانية، وعلى مآسي المسلمين وآلامهم، وعندما يُمْدَح، ومن حضر حفل تكريمه عند الشيخ عبد المقصود خوجهْ المسمى «الاثنينية» رآه كيف قطع الحفل كله بالبكاء.
وكان يألم ويحترق على مآسي هذه الأمة وأحوالها، وقد فقد سمعه بأذنه اليمنى بعد أن زاره شخص وحكى له عن مآسي المسلمين في بلد من البلدان، فحزن حزناً شديداً وبات ليلته حزيناً مهموماً، وفي اليوم التالي شعر بدم يسيل من أذنه ثم ذهب سمعه.
وكم وكم أرق الليالي حزناً وتفكيراً بأحوال المسلمين.
ولقد ابتلاه الله بعد فَقْد سمعه في أذنه اليمنى بضعف بصره في عام 1410، فما رأيته شكَى أو تشكَّى، ولا ثناه ذلك عن الإنتاج العلمي، بل تجمَّل بالصبر والتسليم، والمثابرة على التأليف والتحقيق، مخافة أن يدركه الأجل، ولم يخرج ما في صدره من الكتب.
ثم في آخر حياته وقبل أربعة أشهر من وفاته أصيب بانفصال الشبكية في عينه اليمنى، وفَقَد بصره فيها، ثم أُجري لها عملية جراحية لم تكلل بالنجاح، وإنما أعقبته ألماً شديداً في عينه ورأسه، وصَفَه كرمي السِّهام، فما سمعته صرخ أو تأوَّه، وإنما كان يقول إذا اشتد الألم كثيراً جداً: يا الله! لا إلـه إلَّا الله!
وكان جَلْداً على العلم قراءة ومطالعة وتأليفاً لا يغادره القلم والقِمَطْر في حله وسفره وصحته ومرضه، وقد ألَّفَ وأنهى بعض كتبه في أسفاره الكثيرة كما دوّن في مقدمات بعض كتبه، وقبل دخوله المستشفى بيوم كان، وهو يعارك الآلام يضيف في كتابه الماتع «الرسول المُعَلِّم (ص) وأساليبه في التعليم»، كما كان يكثر السؤال، وهو في المستشفى عن كتاب «لسان الميزان»، كما أنه كتب مقدمة «لسان الميزان» قبل عشرين يوماً من وفاته!
وكان قليل النوم يستكثر ساعات نومه مع قلتها، وكان في شبابه يواصل اليوم واليومين، كما ذكر لي عدة مرات.
وهاتان الصفتان الأخيرتان تدلان على صفة أخرى، وهي: حرصه على الوقت، فهو حريص على وقته أشد من حرصه على ماله، كما تدلُّ الأخيرة على نهمه العلمي الشديد.
وكان لا يأمر بأمر إلَّا ويأتيه، ولا ينهى عن شيء إلَّا ويجتنبه.
وكان - رحمه الله- ذكياً ألمعياً ذا حافظة قوية، وذهن متقد مع عمل بالعلم، وعبادة وتقوى وصلاح وورع، وتواضع جمٍّ لطلاّبه وتلاميذه، عوضاً عن مشايخه وعلماء الإسلام، فلا يرى نفسه في جنبهم شيئاً يذكر.
ولما مدحه شاعر طيبة الأستاذ محمد ضياء الدين الصابوني سدده الله في «الاثنينية»، بقوله:
أبو حنيفة في رأي وفي جدلٍ يسمو بهمَّتهِ لأرفع الرُّتبِ
عقَّب على ذلك -رحمه الله- بقوله: وكذلك الإخوة الَّذين تكلموا وتفضلوا بهذه الكلمات عني، فقد أغدقوا، ولكنهم أوسعوا وأرهقوا، حتى دخلت مع أبي حنيفة رضي الله عنه بالمواجهة كما قال أخي الشاعر ضياء الدين الصابوني، فهذا شيء لا يبلغ من قدري أن أكون ذرَّة رمل أو تراب في جنب أبي حنيفة، من أبو حنيفة؟ أبو حنيفة رحمة من رحمات الله عزَّ وجلّ أهداها الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة كما أهدى الإمام مالكاً، والإمام أحمد، والإمام الشافعي رضي الله عنه والإمام ابن جرير...، فهؤلاء الأئمة... فإن صلحت أن أكون رملة صغيرة في جنب هؤلاء فهذا وسام عظيم وفضل كريم، لا أستطيع الشكر عليه، فأعتذر عن مثل هذه الكلمات التي وجهت في جنب الحديث عني، فإنها لا تستطيع نفسي سماعها ولا قَبولها، وإن صدرت من أخ محب صادق في نية حسنة، ولكن الحق أحق أن يتبع. اهـ.
وكانت له نظرة في الرجال وفَرَاسة فما رأيته وصف شخصاً بوصفٍ أو مَدْحٍ أو قَدْحٍ إلَّا وجدتُه فيه ولو بعد حين.
وكذا نَظرتُه في الأمور تجدها مسددة، ولو بعد حين، وظني أنه مسدد بتقواه وعقله، كما كان يصف الإمام حسن البنا رحم الله الجميع.
وكان محبباً إلى زوجه وأولاده وأحفاده، موجِّهاً ومربِّياً لهم باللطف والذوق والحكمة والحُنْكَة، فما رحل عنهم إلَّا وهو عزيز وغالٍ يودون لو يفدونه بأرواحهم وأولادهم وأموالهم.
وهذا حال كثير من محبيه الذين بكوه بكاء الثكالى في أنحاء المعمورة.
أسُكَّانَ بطنِ الأرضِ لو يُقبل الفِدَى فَدَينا، وأعطينا بكم ساكنَ الظَّهْرِ!
فهو كما يقال مجمع الفضائل، ويصدق عليه قول القائل:
تُوجز في قارورة العطر روضةٌ ويُوجَز في كأس الرحيق كرومُ
مرضه، ووفاته:
على إثر تلقيه رسالة سنة 1394/1974 تخبره بوفاة أخيه عبد الغني تأثر الشيخ تأثراً شديداً أصيب على إثره بأزمة قلبية شديدة ألزمته المستشفى بضعة أسابيع، ولكن الله عز وجل عافاه، ورغم أنه مر بشدائد كثيرة فيما بعد إلا أن حالته الصحية فيما يختص بالقلب بقيت مستقرة طوال حياته، وفي عام 1409/1989 أحس الشيخ بقصور في بصره، أدخل على إثره مستشفى الملك خالد للعيون في الرياض حيث تولى علاجه تلميذه الدكتور ظافر وفائي الذي شخص مرضه بتهتك في اللطخة الصفراء في الشبكية تصبح معه الرؤية الأمامية - وكذلك القراءة - متعذرة، والعلاج الوحيد هو إيقاف تقدم المرض بأشعة الليزر دون أن يتمكن المريض من استرجاع ما فقده من إبصار، وقد اعتمد الشيخ بعدها في القراءة على جهاز مكبر أشيه بالتلفاز يحمله حيث ذهب، وأصبح عبء القراءة والمراجعة على زوجته التي تفرغت تماماً لرعايته والعمل معه.
وفي سنة 1412/1992 اشتبه الأطباء بوجود ورم خبيث في كبد الشيخ رحمه الله، وأكدوا على وجوب استئصاله جراحياً، ولو من جانب الحيطة الواجبة، ولكن ما لبث هذا الورم - بفضل الله ووسط دهشة الأطباء - أن انكمش، وعاد الكبد إلى حالته الطبيعية.
وفي شهر شعبان 1417/ديسمبر1996 شعر الشيخ بضعف آخر في نظره، فعاد من حلب إلى الرياض ليتلقى علاجاً آخر لم يكن ناجعاً، ونتج عنه صداع شديد لازم الشيخ طيلة أيامه الباقية، ثم اشتكى الشيخ في أواخر رمضان من ألم في البطن أدخل على إثره مستشفى الملك فيصل التخصصي، وتبين أنه ناتج عن نزيف داخلي بسبب مرض التهابي، وما لبث أن التحق بالرفيق الأعلى فجر يوم الأحد التاسع من شوال 1417ه/ الموافق 16 من فبراير 1997 عن عمر يناهز الثمانين عاماً فرحمه الله رحمة واسعة.
غسل الفقيد ابنه الشيخ سلمان، وتلميذه الملازم له الشيخ محمد الرشيد، وجرت الصلاة عليه عقب صلاة الظهر في الرياض، ثم نقل بطائرة خاصة مع عائلته وأحبابه إلى المدينة المنورة حيث صلي عليه بعد صلاة العشاء، ثم شيعه أحبابه وتلاميذه الذي توافدوا من كل مكان في السعودية إلى مقبرة البقيع، فنال شرف جوار المصفى صلى الله عليه وسلم بعد أن تشرف بخدمة حديثه وسنته الشريفة.
خلفت وفاته أسى عميقاً في قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وعبر الرئيس السوري حافظ الأسد - بواسطة الشيخ د. محمد سعيد رمضان البوطي - عن تأثره العميق لوفاته دون أن تتاح له فرصة الالتقاء به، حيث كان يتطلع إلى لقاء طويل واف معه، ووضع تحت تصرف أهله طائرة خاصة لنقل جثمانه - إن شاؤوا - إلى سورية، وعقد في صالة الغزالي في حلب مجلس للتعزية، حضره إلى جانب المسؤولين أعداد كبيرة من المحزونين، وشارك في تأبين الفقيد الشيخ د. محمد سعيد رمضان البوطي، والدكتور فتحي يكن من لبنان، وتلميذه البار الشيخ مجاهد شعبان -رحمه الله-، والشهيد القائد أمين يكن.
وتدفقت برقيات ورسائل التعزية على أهله من كل أنحاء المعمورة ولا عجب فقد كان عالماً عاملاً فيه عزة الإسلام وتواضع الدعاة، سار على نهج النبوة في خلقه وأخلاقه، فأضاء الله بصيرته وذلّل له مقاليد العلوم، وألقى محبته في قلوب الصالحين من عباده.
طبت حياً وميتاً يا أبا زاهد، وجزاك الله عنا، وعن المسلمين خير ما يجزي به الله عالماً مجاهداً متقناً مخلصاً عن الإسلام، وعن أهله، وأبناء أمته
جهوده العلمية:
يعد الشيخ عبد الفتاح أبو غدة من العلماء الثقات، الذي يفخر بهم العالم الإسلامي في هذا القرن، وقد أحاط بالعلوم الشرعية، وملك زمام اللغة العربية والشعر والتاريخ، وتبحر في علمي الفقه والحديث، حيث أكب منذ بداية حياته العلمية على تحقيق، ونشر الكتب النفيسة في هذين الفنين وغيرهما.
1-وأول كتاب نشره الشيخ هو (الرفع والتكميل في الجرح والتعديل) للإمام عبد الحي اللكنوي، وقد طبعه في حلب عند مطبعة الأصيل التي كان صاحبها الأستاذ سامي الأصيل من أصدقائه، فصبر على دقة الشيخ في التصحيح وإتقانه في إخراج كتبه، بتعاون المحبّ، وتفهم الساعي للكمال، وقد أصبحت كتبه بعد ذلك – في إخراجها – مدرسة للعلماء والباحثين من بعده، ينهجون نهجها وينسجون على منوالها، وقد قام بطبع أغلب كتب الشيخ الأستاذ المهندس رمزي دمشقية صاحب دار البشائر الإسلامية في بيروت رحمه الله تعالى، وكانت دائماً غنية بمضمونها، راقية في شكلها، تنم على إحساس عال لدى الشيخ في تكريم الكتاب، وعلى ذوق رفيع في طريقة إخراجه.
ويمتاز تحقيق الشيخ عبد الفتاح، بأنه يُقَدِّم مع الكتاب المحقق، كتاباً آخر، مليئاً بالفوائد النادرة والتوضيحات النافعة، التي توضح الغامض، وتسدد، وتصوِّب، وتُرَجِّح، وتُقّرب العلم إلى طالبه، وتحببه إليه.
وللشيخ رحمه الله تعالى، ولع شديد بكتب العلم، يتتبعها في مظانها، مطبوعة ومخطوطة، ويصرف وقته وجهده وماله، في سبيل اقتنائها وخدمتها، فتجمعت لديه مكتبة من أمهات المكاتب فيها الأعلاق النفيسة والنسخ النادرة من الكتب، وذهب جلها في الأحداث الأليمة التي طالت سورية في أعوام 1978-1982، وأعادت الحكومة السورية ما تبقى منها للشيخ عند عودته إلى سورية في عام 1995.
وكان منهج الشيخ في التحقيق والتأليف منهج المتأني الحريص على خدمة الكتاب من حيث الشكل والمضمون، فلم يكن يهدف إلى ربح مادي أو شهرة معنوية، ولذا كان الكتاب يبقى لديه حبيس التأليف والتحقيق سنين طويلة حتى إذا اطمأن إلى أنه قد قارب الاكتمال والحد المرضي من الجودة، أرسل به إلى المطبعة، وعكف شخصياً على مراجعة تجاربه المرة تلو المرة، وكانت زوجة الشيخ في كل هذه المراحل إلى جانبه عوناً وسنداً ومعاوناً لا يفتر، وبخاصة بعد أن تأثر بصره، فما توقف إنتاجه العلمي حتى آخر أيام حياته فجزاها الله أفضل الجزاء.
مؤلفات الشيخ عبد الفتاح أبو غدة:
أولاً- المحققة وفقاً لترتيبها في النشر:
1- الرفع والتكميل في الجرح والتعديل- للإمام عبد الحي اللكنوي، وطبع 3 طبعات أولها سنة 1383-1963 بحلب.
2- الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة- للإمام اللكنوي، وطبع 3 طبعات أولها سنة 1384-1964 بحلب.
3- رسالة المسترشدين- للإمام الحارث المحاسبي، وطبع 8 طبعات أولها سنة 1384-1964 بحلب، وترجم إلى اللغة التركية.
4- التصريح بما تواتر في نزول المسيح لمحمد أنور الكشميري، وطبع 5 طبعات أولها سنة 1385-1965 بحلب.
5- إقامة الحجة على أن الإكثار من التعبد ليس ببدعة للإمام اللكنوي طبع بحلب سنة 1966-1386
6- الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، وتصرفات القاضي، والإمام للإمام القرافي، وطبع طبعتان أولاهما سنة 1387-1967 بحلب.
7- فتح باب العناية بشرح كتاب النقاية في الفقه الحنفي للملا علي القاري الهروي المكي، طبع الجزء الأول بحلب محققاً سنة 1387-1967، ولم يقدر للشيخ أن يتمه تحقيقاً، ثم طبع في لبنان دون تحقيق.
8- قاعدة في الجرح والتعديل للحافظ تاج الدين السبكي، وطبع 5 طبعات أولها ببيروت سنة 1388-1968م.
9- المنار المنيف في الصحيح والضعيف للإمام ابن قيم الجوزية، وطبع 5 طبعات أولها سنة 1389-1969 في بيروت
10- المصنوع في معرفة الحديث الموضوع للإمام ملا علي القاري، وطبع 3 طبعات أولها سنة 1389-1969 بحلب
11- فقه أهل العراق وحديثهم للأستاذ محمد زاهد الكوثري و طبع ببيروت سنة 1390-1970
12- خلاصة تهذيب الكمال في أسماء الرجال للحافظ الخزرجي طبع مصوراً أربع مرات أولها ببيروت سنة 1390-1970 مع مقدمة ضافية وتصحيح أغلاط وتحريفات كثيرة .
13- قواعد في علوم الحديث لمولانا ظفر الله التهانوي، وطبع 6 طبعات أولها ببيروت سنة 1392-1972 وترجم بعضه إلى التركية
14- المتكلمون في الرجال للحافظ السخاوي، وطبع 4 طبعات أولها ببيروت سنة 1400-1980
15- ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل للحافظ الذهبي، وطبع 4 طبعات أولها ببيروت سنة 1400-1980
16- قصيدة عنوان الحكم: لأبي الفتاح البستي، أولها ببيروت سنة 1404-1984
17- الموقظة في علم مصطلح الحديث: للحافظ الذهبي، وطبع 3 طبعات أولها ببيروت سنة 1405-1985
18- سنن الإمام النسائي: طبعه الشيخ مصوراً ومفهرساً، وطبع 3 طبعات أولها ببيروت سنة 1406-1986
19- الترقيم وعلاماته: للعلامة أحمد زكي باشا، وطبع طبعتان أولاهما سنة 1407-1987 ببيروت
20- سباحة الفكر بالجهر بالذكر: للإمام عبد الحي اللكنوي، وطبع 3 طبعات أولها ببيروت سنة 1408-1988
21- قفو الأثر في صفو علم الأثر: ابن الحنبلي، وطبع طبعتان أولاهما ببيروت سنة 1408-1988
22- بلغة الأريب في مصطلح آثار الحبيب: للحافظ الزبيدي، وطبع ببيروت سنة 1408-1988
23- جواب الحافظ المنذري عن أسئلة في الجرح والتعديل، وطبع ببيروت سنة 1411-1991م.
24- التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن: للعلامة الشيخ طاهر الجزائري الدمشقي، وقد طبع ببيروت سنة 1412-1992
25- تحفة الأخيار بإحياء سنة سيد الأبرار ومعه حاشيته نخبة الأنظار على تحفة الأخبار للإمام عبد الحي اللكنوي، وطبع ببيروت سنة 1412-1992م.
26- التحرير الوجيز فيما يبتغيه المستجيز: للشيخ زاهد الكوثري، وطبع ببيروت سنة 1413-1994م.
27- تصحيح الكتب وصنع الفهارس المعجمة: للعلامة أحمد شاكر، وطبع ببيروت سنة 1414-1994م.
28- تحفة النساك في فضل السواك: للعلامة الميداني، وطبع ببيروت سنة 1414-1993
29- كشف الالتباس عما أورده الإمام البخاري على بعض الناس: للعلامة عبد الغني الميداني، وطبع ببيروت سنة 1414-1993
30- العقيدة الإسلامية التي ينشأ عليها الصغار: للإمام ابن أبي زيد القيرواني، وطبع طبعتان أولاها ببيروت سنة 1414-1993م.
31- الحث على التجارة والصناعة والعمل: للإمام أبي بكر الخلال الحنبلي، وطبع ببيروت سنة 1415-1995م.
32- توجيه النظر إلى أصول الأثر: تأليف الشيخ طاهر الجزائري، وطبع ببيروت سنة 1416-1995م.
33- ظفر الأماني في شرح مختصر الجرجاني: للإمام عبد الحي اللكنوي، وطبع ببيروت سنة 1416-1995
34- رسالة الألفة بين المسلمين: للإمام ابن تيمية، ومعها رسالة في الإمامة للإمام ابن حزم الظاهري، وطبع ببيروت سنة 1417-1996
35- مكانة الإمام أبي حنيفة في الحديث: للشيخ العلامة المحدث محمد عبد الرشيد النعماني، وطبع ببيروت سنة 1416-1996م.
36- الحلال والحرام وبعض قواعدهما في المعاملات المالية: لشيخ الإسلام ابن تيمية، وطبع ببيروت سنة 1416-1996م.
37- شروط الأئمة الخمسة: للحازمي، وقد صدر بعد وفاة الشيخ سنة 1417-1997م.
38- شروط الأئمة الستة: للحافظ ابن طاهر المقدسي، وقد صدر بعد وفاة الشيخ سنة 1417-1997م.
39- كتاب الكسب: للإمام محمد بن الحسن الشيباني، وقد ألحق الشيخ به رسالة الحلال والحرام، وبعض قواعدهما، وقد صدر بعد وفاة الشيخ سنة 1417-1997م.
40- ثلاث رسائل في استحباب الدعاء ورفع اليدين بعد الصلوات المكتوبة، وقد صدر بعد وفاة الشيخ سنة 1417-1997م.
41- الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء: للإمام ابن عبد البر، وقد صدر بعد وفاة الشيخ سنة 1417-1997
42- خطبة الحاجة ليست سنة في مستهل الكتب والمؤلفات كما قال الشيخ ناصر الألباني، وهذه الرسالة نشرت بعد وفاة الشيخ ضمن مجلة مركز بحوث السنة والسيرة بجامعة قطر .
ثانياً: المؤلفات وفقاً لترتيبها في النشر:
1- مسألة خلق القرآن وأثرها في صفوف الرواة والمحدثين وكتب الجرح والتعديل، وطبع ببيروت سنة 1971-1391
2- صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل، وطبع 4 طبعات أولها ببيروت سنة 1391-1971، وقد ترجم إلى اللغتين التركية والأردية
3- كلمات في كشف أباطيل وافتراءات، وقد طبعه الشيخ سنة 1394-1974 رداً على أباطيل ناصر الألباني وصاحبه سابقاُ زهير الشاويش ومؤازريهما، وكان الشيخ يقدمها لبعض العلماء الذين يطلبونها، ولم تعرض للبيع في المكتبات حتى عام 1411-1991 حين طبعت ضمن رسالة جواب الحافظ المنذري
4- العلماء العزاب الذين آثروا العلم على الزواج، وطبع 4 طبعات أولها ببيروت سنة 1402-1982م.
5- قيمة الزمن عند العلماء، وطبع 6 طبعات أولها ببيروت سنة 1404-1984، وترجم إلى التركية ويترجم إلى الإنجليزية
6- لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث، وطبع 4 طبعات أولها ببيروت سنة 1404-1984م.
7- أمراء المؤمنين في الحديث، وطبع ببيروت سنة 1411-1991
8- من أدب الإسلام، وطبع عدة مرات أولها ببيروت سنة 1412-1992، وقد ترجم إلى الإنجليزية والأردية والتركية والصينية.
9- الإسناد من الدين ومعه: صفحة مشرقة من تاريخ سماعات الحديث عند المحدثين، وطبع ببيروت سنة 1412-1992م.
10- منهج السلف في السؤال عن العلم وفي تعلم ما يقع، وما لم يقع، وطبع ببيروت سنة 1412-1992
11- السنة النبوية وبيان مدلولها الشرعي والتعريف بحال سنن الدارقطني، وطبع ببيروت سنة 1413-1993م.
12- تحقيق اسمي الصحيحين واسم جامع الترمذي وطبع ببيروت سنة 1414-1993
13- الرسول المعلم وأساليبه في التعليم، وطبع ببيروت سنة 1417-1996م.
14- نماذج من رسائل أئمة السلف وأدبهم العلمي، وطبع ببيروت سنة 1417-1996م.
15- تراجم ستة من فقهاء العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر وآثارهم الفقهية، وقد صدر بعد وفاة الشيخ سنة 1417-1997م.
16- رسالة الإمام أبي داود إلى أهل مكة في وصف سننه، وقد صدر بعد وفاة الشيخ سنة 1417-1997م.
وقد ترك الشيخ مؤلفات ومحققات وأبحاث عديدة تنتظر النشر بعون الله تعالى.
الجوائز، والأوسمة:
وتتوجت حياة الشيخ العلمية عندما قام مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية في لندن بتكريم الشيخ، فاختاره لنيل أول جائزة علمية تحمل اسم سلطان بروناي حسن بلقيه في حفل كبير في لندن في صيف عام 1415/1995 تقديراً لجهوده في التعريف بالإسلام ومساهماته القيمة في خدمة الحديث النبوي الشريف، وقد حضر الحفل سلطان بروناي، ووزير التعليم فيها (داتو عبد العزيز بن عمر) الذي كان يحب الشيخ، ويجله، كما حضره عدد كبير من الدبلوماسيين والعلماء، وعلى رأسهم فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي، كما حضر الحفل السفير السعودي الدكتور غازي القصيبي، والسفير السوري محمد خضر الذي تقدم مع أركان السفارة السورية بلندن من الشيخ في نهاية الحفل وشد على يده مهنئاً وقائلاً له: لقد رفعت رأس سورية عالياً، و إننا نفتخر بك وبأمثالك من العلماء.
وقد وجّه السلطان الدعوة للشيخ لزيارة بروناي في العام القادم لحضور حفل تقديم الجائزة لباحثين في علوم القرآن – قدر الله أن يكون أولهما من حلب، والثاني من دمشق - هما د. أحمد خراط ود. محمد عدنان زرزور، وقد حضر الحفل ولي العهد، ثم قابل السلطان العلماء في قصره تكريماً لهم، وزار الشيخ خلال الزيارة جامعة بروناي، ومفتي السلطنة، ودار تحفيظ القرآن الكريم.
ثناء العلماء والدعاة عليه:
شيخ الدعوة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة:
والشيخ حسن عبد الحميد يقول: ( جمعت جماعة الإخوان بين جنباتها شتى الأطياف، ومختلف الثقافات، فترى الطبيب والمحامي والقاضي، وترى الأستاذ الجامعي والأمي، لا يختلفون على مبدأ ولا غاية، فقد جمعتهم فكرة واحدة، ومنهج واحد، وغاية واحدة
تربوا على التجرد لله، والعمل في شتى المجالات لدين الله، وتحملوا في سبيل ذلك شتى أنواع الأذى، وضربوا أروع الأمثلة في الصبر والثبات على تحمل الصعاب من أجل هذه المبادئ، وتحملوا في سبيلها الكثير
لم يكن هدفهم هو الدنيا، أو التمكن لجماعة بعينها، لكن كان هدفهم وغايتهم هو الله، والدفاع عن دينه القويم، ونشر تعاليمه السمحة في شتى بقاع الأرض.
كان الشيخ عبد الفتاح أبو غدة أحد الذين بايعوا على نصرة دين الله، والدفاع عن سنة رسول الله عليه السلام، حنفي المذهب، لكنه يكره تتبع الرخص، والأخذ بشواذ الأقوال والتعصب لمذهب.
التقى الشيخ أبو غدة بالإمام حسن البنا وقت أن كان يدرس في الأزهر الشريف وتعرف عليه وأعجب به، وصاحبه في لقاءاته، وانطوى تحت لواءه، وقد أطلق على الإمام البنا اسم ( الأستاذ الناصح الراشد المرشد).
وعاد إلى حلب، وسار مع إخوانه الدعاة يرفعون راية الإسلام، ويخوضون كل ميدان من أجل نشر الوعي الإسلامي وتربية الجيل على منهج الإسلام، وتحرير البلاد الإسلامية من سلطان الاجنبي، والتصدي لموجة التغريب العلماني، والفكر الماركسي، والهجمة الصليبية الصهيونية.
كان موقعه في حلب كموقع الشيخ محمد الحامد في حماة، والدكتور مصطفى السباعي في دمشق، والشيخ محمد علي مشعل في حمص.
حمل الشيخ أبو غدة على عاتقه عبء الدعوة الى الله فكان له نشاطه الدعوي، وتعلق الاخوان بدورهم بالشيخ، ووثقوا به، فنال ثقة العامة والخاصة واحترام أقرانه، لورعه وتقواه وعلمه، ورجاحة عقله وحكمته، فكان مرشداً وسنداً وموئلاً .
كان مدرسة دعوية حية متحركة، تتلمذ على يديه ثلاثة أجيال أو أكثر من الدعاة العاملين، كلهم يفخر بأنه قد نال شرف الاغتراف من بحر هديه رحمه الله، فتراه في دار الأرقم مرشداً ومربياً ومعلماً وهادياً، حضر مع الشباب رياضة الحركات السويدية صباح عيد الأضحى المبارك، في مركز الجماعة قرب باب النصر، مع أطفال وشباب، نزع العمامة، وخلع الجبة، وشارك الشباب نشاطهم الرياضي.
انتخب الشيخ نائباً عن مدينة حلب عام ١٩٦١ بأكثرية كبيرة فنال ثقة مواطنيه، على الرغم من تألب الخصوم عليه من كل الاتجاهات ومحاولاتهم المستميتة للحيلولة بينه وبين الوصول إلى مجلس النواب، فأقيم له حفل انتخابي ضخم أمام جامع التوحيد الآن حضره آلاف الشباب وكان فيه نصارى فكان الهتاف يا رب فاشهد عيسى أخو أحمد.
في مجلس النواب قام الشيخ مع إخوانه بنصرة قضايا الإسلام والمسلمين في سوريا.
عام ٦٥ غادر الشيخ حلب ليعمل مدرساً في كلية الشريعة بالرياض وذلك بعد عامين على حل المجلس النيابي
عاد لبلده صيف ٦٦ فأدخل السجن مع ثلة من رجال الفكر والعلم والسياسة ، ومكث في سجن تدمر الصحراوي أحد عشر شهرا ، وبعد كارثة الخامس من حزيران ٦٧ أفرجت الحكومة عن جميع المعتقلين السياسيين ، وكان الشيخ رحمه الله من بينهم
كانت عضوية الشيخ في جماعة الإخوان مبنية على قناعته بضرورة العمل الجماعي لنصرة الإسلام والمسلمين لا جريا وراء المناصب والمسميات لكنه اضطر أكثر من مرة أن يستجيب لرغبة إخوانه فيتحمل معهم بعض المسؤوليات التنظيمية، فكان أن تولى على غير رغبة منه أو سعي منصب المراقب العام للإخوان في سوريا مرتين، ثم تخلى عنه في أقرب فرصة مناسبة متفرغا للعلم والتأليف
يعد الشيخ من العلماء الثقات الذين يفخر بهم العالم الاسلامي في هذا القرن، فقد أحاط بالعلوم الشرعية، وملك زمام اللغة العربية والشعر والتاريخ، وتبحر في علمي الفقه والحديث، حيث انكب على تحقيق ونشر الكتب النفيسة في هذين الفنين وغيرهما
يمتاز تحقيق الشيخ بأنه يقدم مع الكتاب المحقق كتاباً آخر مليئاً بالفوائد النادرة والتوضيحات النافعة تسدد وتصوب وترجح وتقرب العلم إلى طالبه
له رحمه الله ولع شديد بكتب العلم فكان يصرف وقته وجهده وماله في سبيل اقتنائها وخدمتها، فتجمعت لديه مكتبة تعد من أمهات المكتبات ذهبت جلها في الأحداث الأليمة في طالت الوطن في أعوام ٧٨ / ٨٢
لم يكن الشيخ في التحقيق والتأليف يهدف إلى ربح مادي، أو شهرة معنوية، لذا كان الكتاب يبقى لديه حبيس التأليف والتحقيق سنين طويلة يعكف على مراجعته المرة تلو المرة
ألفّ وحقق حوالي مائة كتاب طبع منها أكثر من ستين كتابا، علا بنفسه عن سفاسف الحياة، وعلا بالعلم الذي بين جنبيه عن سوق التسول والاتجار
بهي الطلعة، عذب الروح، حلو الشمائل، سريع الدمعة، كثير العبرة، كريم غاية الكرم، أديب خلوق، ظريف لماح.
توجت جهوده العلمية، فاختاره مركز اكسفورد للدراسات الإسلامية في لندن لتكريمه فنال جائزة علمية تحمل اسم سلطان بروناي، في حفل كبير في لندن صيف ١٩٩٥ تقديراً لجهوده في التعريف بالإسلام، ومساهماته القيمة في خدمة الحديث النبوي الشريف
انتدب الشيخ رحمه الله أستاذاً زائراً لجامعة أم درمان الإسلامية في السودان، ولجامعة صنعاء في اليمن، ولمعاهد الهند وجامعاتها، وشارك في الكثير من الندوات والمؤتمرات، وطاف العالم الإسلامي بحثاً عن المخطوطات.
درّس في الأردن والباكستان وتركيا والجزائر والعراق وقطر، وعمل في جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض، ثم انتقل إلى جامعة الملك سعود بالرياض.
اختير الشيخ لتمثيل سوريا في المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، بعد وفاة الشيخ حسن حبنكة الميداني الذي كان يشغل المقعد رحمه الله.
تلقى الشيخ دعوة في عام 19٩٥م ليعود إلى وطنه، واستجاب الشيخ لهذه المبادرة آملاً أن تكون بداية لرأب الصدع وللإفراج عن المعتقلين، فعاد إلى سوريا، ولم يلتق الشيخ بالرئيس حافظ الأسد طيلة هذه الفترة.
عام ١٩٩٦ شعر الشيخ بضعف في بصره، فعاد إلى الرياض ليتلقى العلاج، واشتكى في أواخر رمضان من ألم في بطنه، ادخل على اثره مشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض، وما لبث أن التحق بالرفيق الأعلى فجر يوم الأحد ٩/ شوال / ١٤١٧ هجرية ( ١٩٩٧) عن عمر يناهز الثمانين عاماً .
عرفته رحمه الله مراكز الدعوة الإسلامية، ففقدت بقده داعياً ومعلماً ومرشداً، بكته القلوب قبل العيون، لأنها فقدت بموته العالم الثبت المحقق الصدوق.
نقل في اليوم الثاني إلى المدينة المنورة حسب رغبته، وصلي عليه عقب صلاة العشاء، ودفن في البقيع.
رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه المولى فسيح جناته مع النبين، والصديقين، والشهداء وحسن أولئك رفيقاً .
العلاّمة الشيخ عبد الفتّاح أبو غُدّة قلَّ نظيره في علمه وأدبه:
وكتب الشيخ حسن قاطرجي يقول: ( بادىءَ ذي بَدْء أعتذر من الله ـ جلّ جلالُه ـ عن الحديث أو الكتابة عن سيدي الشيخ رحمه الله، وما أصدق كلمة الإمام الحُجّة البحر أحد القُرّاء السبعة أبي عَمْرو بنِ العلاء البَصْري ـ مع أنه من التابعين ـ: "ما نحن فيمن كان قَبْلنا إلا كبَقْلٍ في أصول نَخْل طِوال" والتي سمعتُها من الشيخ رحمه الله أكثر من مرة في سياق المقارنة بين العلماء في العصور المتأخرة وبين علماء السلف الصالح. وأنا أحقّ بها وأجدر في مقامي من سيدي الشيخ تغمّده الله برضوانه وأنزل عليه شآبيب رحمته.
أولاً أكتب بعضَ ما أعرفه عن شيخنا رحمه الله وفي النفس حَسْرةٌ جامحة على جسامة الخسارة التي ألمّت بالعِلم وبالعالم الإسلامي وليس ذلك من باب التوقّف في قبول قضاء الله تعالى، معاذَ الله، ولكنه أولاً للشعور الطبيعي عند فَقْد الأعزّاء وثانياً لأن خسارته ليست خسارة شخصية ولكنها خسارة عامة سرعانَ ما يحتاج الخاطرَ بحلولها ظلالُ نبوءات الرسول صلى الله عليه وسلّم: "... حتى إذا لم يبقَ عالمٌ اتخذ الناسُ رؤساءَ جُهّالاً فسُئلوا فأفتَوْا بغير علم فضلّوا وأضلّوا"، و"بين يدي الساعة سنون خَدّاعة ... يتكلّم فيها الرُّوْيَبِضة: التافه يتكلَّم في أمر العامّة".
إنني أستطيع أن أقول من خلال صلتي المباشرة بالشيخ والتلمذة عليه ومرافقتي له وصحبتي لشخصه الكريم طيلة ثلاث سنوات أثناء دراستي في كلية أصول الدين ـ قسم السُّنة وعلومها، بالرياض، فضلاً عن صلة المراسلة والتعلّق بكتبه منذ ما يزيد عن (15) سنة، أستطيع أن أقول: لئن كان الشيخ رحمه الله يشاركه غيره من أهل العلم والدعاة في بعض الخصال بل ربما تميَّز عنه بعضهم ببعض الجوانب العلمية أو الدعوية أو القيادية أو السياسية إلا أن سيدي الشيخ في تقديري قلّ نظيره في تعلُّقه بالعلم واحتراقه في تحصيله والحرص على إتقان تحقيقه وفي حرصه على الأوقات بل اللحظات لئلا تضيع في غير العلم، كما أنه رحمه الله قلّ نظيره في أدبه حتى إن المعاشر له ليتعلم من أدبه تماماً كما يتعلّم من علمه. وفي هذين الجانبين سأحصر كلامي عنه رحمةُ الله عليه مع الحاجة الملحّة إلى ترجمة شاملة لحياته، واستعراض عام لمراحل سيرته، ودراسة تقويمية معمّقة للجوانب الأخرى من نشاطه في المجالات الدعوية والاجتماعية والسياسية، مما يتطلّب تضافر جهود عدد من عارفيه وإخوانه وأقاربه وتلامذته. وسيظل هذا الجهد أمانةً ثقيلة في أعناقهم لا يُعفيهم منها إلا أداؤها.
شواهد تفوّقه في العلم:
ومما يشهد لقوّة تعلّقه بالعلم وتفوّقه في تحصيله كثرةُ شيوخه الذين تلقى عنهم فقد بلغوا (180) شيخ على ما أحصاه الأخ الشيد محمد الرشيد النَّجْدي ـ أحد خواصّ تلاميذ الشيخ ـ في كتابه "إمداد الفَتّاح بأسانيد ومرويّات الشيخ عبد الفتاح"، علماً أنهم يتوزعون على مساحة جغرافية مترامية الأطراف من بلاد الشام إلى مصر إلى الحجاز واليمن والهند وباكستان والمغرب، وهذا نادر جداً في عصرنا.
كما أنه يشهد لذلك كثرة الكتب التي خلّفها ـ ما بين تحقيق وتأليف ـ فقد بلغت حوالَيْ 70 كتاباً من العلم المصفّى المحقَّق الموثّق وليست مجرد كتب إنشاء، وحتى في رسائله الصغيرة مثل "السنّة النبوية وبيان مدلولها الشرعي" أو "منهج السلف في السؤال عن العلم وفي تعلّم ما يقع وما لا يقع" أو في مقدماته لكتب غيره مثل مقدمته الحافلة لكتاب "التعليق الممجَّد" أو مقدمته لكتاب "شرح القواعد الفقهية" لا يأتي إلا بالممتع النافع مع التحقيق والتدقيق والإتقان. ولا يخفى على المتتبع لكتبه أنه خصّ عدداً غير قليل منها في موضوعات العلم وتراجم العلماء مما يترجم أصدق ترجمة أحساسيسَه نحو العلم وشدة تعلّقه به وحُرقته على تحصيله، وهي: 1 ـ "صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل"، 2 ـ و"العلماء العُزّاب الذين آثروا العلم على الزواج"، 3 ـ و"قيمة الزمن عند العلماء" والذي ذكر في مقدمته أنه حصيلة (20) سنة من المطالعة والتجميع والانتخاب وأصله كلمة لمدة عشر دقائق ضمن محاضرة مشتركة دعت إليها كلية الشريعة بالرياض!!، 4 ـ و"منهج السلف في السؤال عن العلم"، 5 ـ و"الرسول المعلِّم صلى الله عليه وسلّم وأساليبه في التعليم"، 6 ـ و"تراجم ستّةٍ من فقهاء العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر الهجري".
ويلمس كلُّ من يعاشر الشيخ أن له حرقةً نادرة قلما نجدها عند كثير من العلماء فضلاً عن طلبة العلم على اقتناء الكتب مما جعله أحد المراجع الهامة في العالم الإسلامي في معرفة الكتب مخطوطِها ومطبوعها، ولقد رافقته في بعض الزيارات إلى بعض المعارض وعاينتُ بنفسي نَهَمَه على اقتناء الكتب حتى ولو كانت عنده إذا اختلفت طبعاتها. والجدير ذكره أنه يحرص على اقتناء الكتب في مختلف فروع الثقافة الإسلامية والعامة، ومن يقرأ في مقدمة كتابه "صفحات من صبر العلماء" كلامَه عن عجائب المخلوقات والكتب المؤلفة في ذلك والأخبار التي التقطها من مصادر شتى يدهش لهذا التنوّع والغزارة والتتبُّع عنده رحمه الله ونفع بعلمه. كما أن له قصة من أطراف القصص وأغربها وأدلّها على ولعه بكتب العلم مع كتاب "فتح باب العناية" سَجَّلها في مقدمة تحقيقه للجزء الأول منه كما سَجَّلها الدكتور السباعي رحمه الله في الجزء الثاني من كتابه "القلائد من فرائد الفوائد" جديرٌ بكل طالب علم أن يقرأ خبرها لعلها تكون مِهْمازاً له.
وبهذه الحرقة وهذه النَّهْمة تكوّنت للشيخ مكتبة ضخمة قلّ أن يملك مثلَها أفرادٌ، وقد ذكر أحد أعرف تلاميذه به فضيلة شيخنا الأستاذ محمد عوّامة ـ فيما كتبه عن الجانب العلمي في حياة الشيخ رحمه الله وأرسله إليّ مشكوراً ـ أن إذاعة الرياض أجرت معه رحمه الله قبل نحو عشرين سنة مقابلة، سئل فيها عن مكتبته فصرّح بعد إلحاحٍ أنها تضمّ عشرين ألف مجلد!!. هذا في ذلك الوقت فكم يُقَدِّر حجمُها الآن؟!
ومما يتصل بحب الشيخ للعلم وتفوُّقه في تحصيله حرصُه على تحقيق مسائله وإتقان البحث فيها والتدقيق في تجليتها وضبطها مما يُهمله كثير من العلماء في عصرنا ـ للأسف الشديد ـ ثم لا تقف ظاهرة الإهمال هذه عند حدّ التهاون في ضبط الكلمة وتحقيق معناها بل تتعدّاها إلى التهاون في الفتاوى وتحقيق الحكم الشرعي فيقع الناس في الخبط وتكثر الفوضى في العلم. أما سيدي الشيخ رحمه الله فيكتب صفحات طويلة مثلاً ـ وهي عندي بخط يده الجميل المنسَّق المرتَّب ـ في الفرق بين الوَهْم والوَهَم، وكذلك كتب صفحات طويلة في كتابه "الإسناد من الدين" من ص 51 إلى ص 74 من أجل تتبُّع التحريف الذي وقع في كلمة واحدة فقط من عبارة للإمام عبد الله بن المبارك في فضل الإسناد، ونجد هذا النَّفَس في الاستقصاء والتتبُّع فيما كتبه ابتداءً في تعليقةٍ ثم أخرجه في رسالة حول مسألة خلق القرآن وأثرها في صفوف الرواة والمحدثين وكتب الجرح والتعديل.
ولقد شهدت هذه الحادثة الدالّة على علوّ همّته وتحسّسه لأمانة العلم وهي أنه رحمه الله أثناء حضورنا عليه قراءة كتاب "شرح ألفية العراقي" غاب مرتين متتاليتين بسبب السفر ثم حضر في المرة الثالثة فأخبرنا رحمه الله ـ وهو من هو في علم المصطلح!! ـ أنّه حضّر الدرس قبل مجيئه إلينا للمرة الثالثة!! وما كان للشيخ رحمه الله تعالى ـ في ظني ـ لِيَتَأتّى له ذلك كلُّه لولا توفيقُ الله الذي هو مفتاح الخير كلِّه ثم حرصُه البالغ على استثمار الوقت، وهو ما يفسِّر نبوغَه وتفوُّقَه وكثرةَ إنتاجه، مع الأخذ بالاعتبار مشاغل الشيخ الدعوية ومسؤولياته التنظيمية في العمل الإسلامي مما لا نجده عند السّواد الأعظم من المشتغلين بالعلم حيث يعتزلون العمل الدعوي ويتخفِّفون من حمل هموم المسلمين للأسف الشديد، بل لقد كان رحمه الله صارماً في استثمار وقته صرامة وصيّة الشاعر:
كن صارماً كالوقت فالمقتُ في (عسى) وإياك (علاّ) فهي أخطر علّة
وحياته رحمه الله ترجمة صادقة لما كتبه في كتابه النافع الماتع: "قيمة الزمن عنده العلماء" الذي يجدر بكل عالم وطالب علم أن ينكبّ على قراءته والتمعُّن فيه مرة بعد مرة، كما يجدر بكل مسلم اقتناؤه وقراءتُه ليتعرّف على سرّ عظمة الحضارة الإسلامية وليفهم لُغْز تفوّق علماء السلف وفضلهم على الخلف. والشيخ في مجال استفادته من وقته في الانكباب على العلم نادرٌ عُجَاب، فما دخلت عليه مرة إلا كان موضوعَ الجلسة (العلم) قراءةً أو مناقشةً أو مذاكرة، وكثيراً ما كنت أدخل إلى غرفته والكتب التي يشتغل بها مفتوحة مفروشة مملوءة بها الغرفة، ولقد حدثني الأخ المحامي الطبيب الدكتور فؤاد العريس أنه قبل سنوات وكان لا يزال يتخصص في الطب في باريس جاء الشيخ رحمه الله إليها للمعالجة في عيونه وكان معه أستاذه العلاّمة الفقيه الشيخ مصطفى الزرقاء، فكان الأخ يرافق الشيخ أحياناً إلى المركز الطبي وفي السيارة يُخرج الشيخ كتاباً ويسلّمه إياه ويطلب منه أن يقرأ له بسبب ضعف بصره، بل أعجب من ذلك أنه أثناء معاينته للجهاز الذي كان يبحث عنه لاقتنائه ـ وكان من مزاياه أنه تُدخَل فيه الورقة فيُكبِّر حروف كلماتها أضعافاً مضاعفة ـ كان رحمه الله ينتهز الفرصة كلما واتت فيُخرج الكتاب ويُدخله في الجهاز ويستفيد ولو من لحظات للقراءة فيه.
ولا يسعني أن أدع الكلام عن عِلم هذا العَلَم رحمه الله للكلام عن أدبه وهو طويل الذيل واسع الأطراف مما لا تتحمله صفحات هذا العدد من المجلة مما سيضطرّني إلى إرجائه إلى العدد القادم، لا يسعني ذلك إلا بعد وقفة مع مزايا علم الشيخ رحمه الله تعالى.
مزايا علمه:
المزية الأولى: سَعَته وتنوّعه ولقد جاء في ثنايا كلامي ما يدل عليها.
المزية الثانية: حرصه على التحقيق والإتقان فيه ولقد ذكرت العديد من الأمثلة على ذلك.
المزية الثالثة: تفوّقه في علم مصطلح الحديث وتجديده، فلقد كان للشيخ رحمه الله اهتمامٌ خاص بهذا العلم ذلّل صعابه وخاض في عويص مسائله وحلّ معضلاته، وما تهيَّب من تحقيق أصعب المسائل فيه. ولقد عشت حوالَيْ شهر مع آخر كتاب حققه الشيخ رحمه الله في هذا العلم ونشره العام الماضي وهو من أوسع كتب المصطلح وهو كتاب "ظفر الأماني" للإمام اللَّكْنَوِي وقبله كتاب العلاّمة طاهر الجزائري "توجيه النظر إلى أصول الأثر" حيث كلفني الشيخ بقراءتهما قبل دفعهما للطباعة فأتى الشيخ فيهما بكل ظريف طريف وضمّنهما تحقيقات ماتعة رائعة مُدهشة تشهد لرسوخه في هذا العلم وإتقانه له. ومما يدل على ذلك أيضاً أنه حقق (12) كتاباً من كتب هذا العلم و(12) رسالة، كما ألّف هو في بعض مباحثه كتاب "لمحات من تاريخ السُّنّة وعلوم الحديث" بالإضافة إلى أربع رسائل متنوّعة في علوم الحديث.
المزية الرابعة: إنصافه واستفادته من الجميع، فهو غير متعصِّب إلا لما يراه صواباً ويحرص على أن يدور مع الحق والدليل حسبما يرى، ولذلك أخذ من شيوخ متعدِّدي المشارب العلمية. ولكنه مع إنصافه لإيجابي في دين الله ولكنْ بأدب جمّ وتواضع مع شيوخه وإخوانه وكالأسد الهصور مع أعداء الدين. فنجده يخالف شيخه العلاّمة مصطفى الزرقاء في بعض الفتاوى مع أنه شديد الاعتداد به والإعجاب بعقليته، ونجده يخالف شيخه العلاّمة محمد زاهد الكوثري في جفوته لابن تيمية وابن القيّم ويحقّق رسالتين للأول وكتاباً للثاني بإعجابٍ بهما وثناء وترحُّم عليهما مع أنه يخالفهما في عدد من المسائل في الأصول والفروع، ولا تخفى منزلة الكوثري رحمه الله عنده وأثره فيه، وحدثني مراراً عن تساهلات القرضاوي في فتاويه وأنه في أحد المؤتمرات ردّ عليه علناً في مسألة مصافحة المرأة حيث يُجيزها ـ مخطئاً ـ القرضاوي مع أنهما من مدرسة فكرية وحركية واحدة. كما نجد أنه في سياق إشادته بشيخه العلاّمة المحدّث أحمد شاكر في مقدمة تحقيقه لكتاب "تصحيح الكتب وصنع الفهارس" يبيِّن في التعليقة أن شيخه مجانب للصواب في كتابه "نظام الطلاق في الإسلام".
وفي المقابل يكتب بلغة صارمة ضد مفسدي الدين وأعدائه فيتحدث ـ مثلاً ـ في كتابه "لمحات" عن المتملِّقين للحكام بالباطل في كل عصر ومِصْر وأنهم مرض وخيم في جسم الأمة وبلاء عظيم في حياتها وقال فيهم: فاقدو الذمة، في دينهم رِقّةٌ وضَعْف، يحبون دنياهم ويؤثرونها على دينهم... ويقدمون لهم ـ بحسب ذمتهم ـ من النصوص الشرعية ما يؤيدهم فيما هم عليه من ظلم أو لهو أو بطالة أو فساد.
وفي ثنايا ترجمته الحافلة الواسعة لعبقريّ الزمان والمدافع عن الإسلام في وجه الكمالية العلمانية: سعيد النُّوْرْسي، وذلك في كتابه "العلماء العُزّاب" رمى رحمه الله سهامَه الحادّة صوب صدر الطّاغوت آتاتورك ـ كما وصفه ـ والكماليين والعلمانيين. فجزاه الله عن أدبه وإنصافه خيراً وعوّضه عن غَيْرته وكفاحه من ثواب المجاهدين ذُخراً.
وبعد الكلام عن علم شيخنا ـ رحمه الله وأثابه رضاه ـ في العدد السابق أتحدّث في هذا العدد عن أدبه الجمّ الذي يستذكر به جليسُه سِيَرَ وأخلاقَ الصالحين من السلف الكرام رضي الله تعالى عنهم. وأنا لا أتحدث عن مستوىً من الأدب الذي لا بد أن يتوفّر في العلماء والدعاة
وإنما أتحدث عن مستوى متفوِّقٍ فريدٍ قلّ نظيره بين علماء عصرنا ـ فيما أعلم ولا أزكي على الله أحداً ـ إلى الحدّ الذي يأسر به الشيخ رحمة الله عليه جليسَه ويأخذ بمجامع إعجابه فيِنتقل إلى عالَمٍ آخرَ لا نعهده حتى في مجالس كثير من العلماء فضلاً عن مجالس مشايخ السوء الذين لا همّ لهم إلا النفاق والتزلُّف ولا حديث لهم إلا في المناصب والمكاسب.
وينطبق على سيدي الشيخ رحمه الله ما كتبه هو في إحدى تعليقاته الحافلة المغذِّية المحفِّزة على "رسالة المسترشدين" للإمام المحاسبي ـ ص 102 من الطبعة الثامنة ـ حيث يقول: "ورؤية الرجل الصالح القدوة إنما تذكِّر بالله، لما يُرى عليه من النور والإشراق، والأُنس والطمأنينة، والمحبة والسكينة، في سَمْته وهيئته وخَشْعته، في نُطقه وصمته وإطراقه وحركته وسكونه وكل شؤونه، فلا ينظره ناظر إلا كان نظرُهُ إليه مذكِّراً له بالله وكانت صورته موجِّهة له للإقبال على الله، أولئك الذين إذا رُؤُوا ذُكر الله".
وكل من رأى الشيخ رحمه الله عليه يعرف أنه مَهيبُ الطلعة، ناهضُ القامة، منوَّر الوجه، كساه الشَّيْب إشراقاً ووقاراً، وانعكس اشتغاله بذكر الله وإجلاله وتعظيمه على وجهه صفاءً واستبشاراً، ولا أبالغ إذا قلت: إنه رحمه الله تُذكِّر بالله رؤيتُه ويَنْهض بجليسه حالُه ومقالُه.
اعتناؤه التامّ بالأدب تعليماً وتطبيقاً:
ولقد تأتّى للشيخ رحمه الله ذلك من اعتنائه التامّ بالأدب حتى لكأنّ (الأدب) يتقاطر منه، وليس هذا الكلام من قبيل المبالغات والمجازفات فلست ـ بفضل الله تعالى ـ ممن يحبّ المبالغات في حق الشيوخ ولا ممن يقدِّسونهم بل أذكر ذلك وأرى أنّ هذه النظرة من قِبَل بعض طلاب العلم وتلاميذ الشيوخ انحراف عن سَنن التربية الإسلامية، ومؤشِّر للتخلُّف وللجمود والانهزامية، يستغلّها تجارُ المَشْيَخة أبشع استغلال في تعظيم ذواتهم أو الانحراف بتلاميذهم في الولاء للباطل وتمجيد الطواغيت.
واعتناؤه التامّ بالأدب يظهر فيما بثّه في كتبه العديدة من الإشادة بأدب السلف وسرد حكايات أدبهم، ومن يلحظ هذا الجانب من اهتمام الشيخ رحمه الله يشهد لبراعته ومهارته في انتقاء روائع أخبار أدب العلماء والصالحين.
فالشيخ رحمه الله كتب رسالةً ماتعة ممتعة بعنوان (من أدب الإسلام) ضمّنها جملة من الآداب، وقال في أوائلها: "وهذه الآداب المذكورة هنا من لُباب الشريعة ومقاصدها، فليس معنى تسميتها (آداباً) أنها على طَرَف الحياة والسلوك يُخَيَّر الإنسانُ في فعلها وتركها،أو الأَوْلى فعلُها. قال الإمام القَرَافي في كتابه "الفروق" وهو يتحدث عن موقع الأدب من العمل وبيان أنه مقدَّم في الرتبة عليه: واعلم أن قليل الأدب خير من كثير من العمل، ولذلك قال رُوَيْم ـ العالمُ الصالحُ ـ لابنه: يا بُنَيَ اجعلْ عملَك مِلْحاً وأدبكَ دقيقاً. أي استكثر من الأدب حتى تكونَ نسبته في الكثرة نسبةَ الدقيق إلى الملح في العجين".
فأين هذا مما عليه أهل الأهواء المنافقون الذين ينسُبُون أنفسهم إلى العلم ويتظاهرون بالحرص على نشر العلم الضروري (!!) وهم محرومون من بهاء العبادة وبركة الالتزام بالسُّنّة وفقه (الولاء والبَرَاء) ولا أدب عندهم مع العلماء، بل دأبهم التطاول عليهم وتكفير أهل السابقة منهم في مَيْدان الجهاد وقول الحق وجرأة المناداة بتحكيم الشريعة الإسلامية؟!!
وكذلك له ـ رحمه الله ـ كنوز منثورة من حكايات الأدب الرفيع والخُلُق النبيل عن الصالحين والعلماء الربانيين تطفح بها تعليقاته على "رسالة المسترشدين" للإمام المربِّي الحارث المحاسبي، بالإضافة إلى اعتنائه بنشر قصيدة (عنوان الحِكَم) لأبي الفتح البُسْتي وهي من غُرَر القصائد في الآداب والأخلاق والنصائح الحكيمة الغالية. هذا كله من حيث الاعتناء بالتعليم، أما التطبيق فيظهر في شخصية الشيخ في مختلف جوانبها:
1 ـ أدبه مع الله تعالى:
في كثرة ذكره له سبحانه وتعالى، حتى إنني أتذكر الآن أثناء كتابتي هذه السطور تلك الأوقات المباركة التي كنتُ أقضيها معه أثناء اصطحابه رحمه الله تعالى في بعض الأحيان بسيّارتي من (الدُّخنة) إلى مكان الدرس في (العُلَيّا) في الرياض أثناء حضوري عليه قراءة: (ترجمة الإمام مسلم) من سِيَر أعلام النُّبَلاء للإمام الذهبي، ثم (مقدمة صحيح مسلم)، ثم (مقدمة ابن الصلاح)، ثم (شرح ألفية العراقي)، فكان ـ رحمه الله وأغدق عليه رضوانه ـ إذا لم نتباحث بالعلم يلهج لسانُه بالأذكار ولا يَفْتُر عن الثناء على الله وتعظيمه. وتعبيراً عن حرصه على الأدب عند ذكر الله تعالى كتب تعليقة طويلة على "رسالة المسترشدين" ـ ابتداءً من الصفحة 112 من الطبعة الثامنة ـ حول أدب ذكر الله والتحذير من بِدَع الذكر والتي منها بدعة أولئك الذين "يذكرون اسم الله سبحانه، في أوّلِ دَوَرانِ حلقاتهم بلفظٍ هادىء مفهوم ثم يُسرعون بالذكر والخَلْع والوثب حتى لا يُفْهَم عنهم ما يقولون! فما هي إلا أصوات تنخفض وترتفع، وأنفاس مبهورة تشتدّ وتندفع، وترتفع، وأنفاس مبهورة تشتدّ وتندفع، وهمهمة تتردَّد، وحركات تتجدّد، ويَعُدّون ذلك ذكراً لله! فإنا لله ـ من قلة الأدب مع الله ـ وإن إليه راجعون" كما قال بالحرف رحمه الله.
بالإضافة إلى بكائه إذا ذُكِّر بالله أو غَيْرة على حرمات الله أو إذا سمع كلماتِ مدح وثناء. والذي يعرف الشيخ رحمه الله تعالى لا يستغرب وصفى له بأنه (بكّاء سريع الدَّمعة)، وفي ذاكرتي العديد من الذكريات ولكن أقتصر هنا على قصتين:
الأولى: عندما حضرت شريط فيديو تكريمه الذي حصل في (اثنينية) السَّرِي السعودي عبد المقصود خوجة بتاريخ 14/11/1414 في جُدّة استمعت إلى قصيدة لشاعر المدينة المنوّرة ـ لحلبيّ الأصل ـ محمد ضياء الدين الصّابوني يُعدِّد فيها مزايا الشيخ ويُثني عليه وعلى مقامه العلمي الرفيع حتى شبّهه بالإمام أبي حنيفة فما كان من الشيخ رحمه الله إلا أن انفعل وغضب وأبدى بعد إلقاء القصيدة عدم رضاه عن هذا التشبيه وأنه دون ذلك بكثير واغرورقت عيناه بالدمع ـ لا مسَّتْهما النار إن شاء الله، اللهم آمين ـ.
والثانية: ما قرأته في الحوار الذي أجرته مجلة المجتمع معه قبل وفاته ـ طيّب الله ثراه وجعل الجنة متقلَّبَهُ ومَثْواه ـ، ثم نَشَرَتْه في 25 شوال/1417 هـ، العدد 1240، حيث نقل محاوِرُه كلامَه رحمه الله عن أحد الحُكّام الصالحين وهو الملك نور الدين الذي كان يُدني العلماء من مجلسه كلَّ يوم ويُقْرَأ الحديث فيه، ولمّا حُوصرت مدينة (دِمْياط) من قِبَل الفرنج وكان في مجلسه صديقُه العالم المحدّث عمر بن بدر المَوْصلي رحمه الله، فقرأ عليه الحديث المسلسل بالتبسُّم ـ أي كل من رواه من الرواة تبسَّم فصار مُسَلْسَلاً بالتبسُّم ـ وطلب هذا العالم من الملك أن يبتسم حتى يستمرّ تسلسلُ التبسُّم في الحديث قال له الملك: لا أتبسّم! فسأله: لماذا؟ قال: كيف أتبسّم و(دمياط) مُحاصَرَة من الفرنج؟!
هنا قال محاوِرُه الصحفي: تأثّر الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله بموقف الرواية وسال دمعه!! فسبحان الله! ما أندر هؤلاء العلماء الصالحين الغياري على دين الله! وما أفدح خسارتهم! أما مَوْتى القلوب وعبيد المناصب الذين لا ينبض منكم عِرْق غَيْرةً على دين الله فما أحراكم بالاستيقاظ من غفلتكم وأما أنت يا سيدي الشيخ فطِبْ مُقاماً في مثواك المبارك قريرَ العين.
ومن شواهد أدبه مع الله تحرِّيه الشديد في العبادات التي تُقال في جَنْب الله عزّ وعلا، حتى كتب مقالةً مشهورةً منشورةً في مجلّة الأمّة القطرية بعنوان (تعبيرات خاطئة في جنب الله) تتبّع فيها بعض الأخطاء الشائعة في كتابات بعض العلماء والكُتّاب مما لا يليق بالله تعالى، كما أنّ له فتوى مشهورة ـ ألحقها بكتاب رسالة المسترشدين ـ في عدم مشروعية قول الذاكر: "الحمد لله حمداً يُوافي نِعَمَه ويُكافىء مزيده" لأنه لم يثبت نقلاً ولا يصح معنىً إذ ليس أحد من الناس يكون حَمْدُه بالغاً نِعَم الله عليه ولا مكافئاً لمزيد فضله إليه. وبالمناسبة ونصيحة للقراء والقارئات أنبِّه إلى أنه لا يجوز قول: العصمة لله، وإنما نقول: الكمال لله، أما العصمة فهي للأنبياء، ولا يجوز قول: عدد كمال لله، كما أفتى بذلك عدد من كبار محقّقي العلماء، وكذلك لا يجوز قول: أعشق الله أو رسول الله، علماً أن (العشق) لم يَرِد في القرآن ولا في كتب الحديث الستة ولا في مسند الإمام أحمد إلا في موضع واحد فيه في حقّ العابد الذي عشق امرأة.
2 ـ أدبه مع العلماء:
والشيخ مؤدَّب غاية الأدب مع العلماء وعلى رأسهم سيِّدُ العلماء سيِّدُنا محمد صلى الله عليه وسلّم ثم أصحابه السادة العلماء ثم علماء السلف رضي الله عنهم، وما أروع ما كتبه وقرّره في رِفْعة مقام النَّبيّ صلى الله عليه وسلّم وشَرَف منزلته وعدالة صحابته وتأثرهم بتربيته في تعليقه على "رسالة المسترشدين" ـ ص 18 و19 ـ وأسهب فيه في كتابه "لمحات من تاريخ السّنة وعلوم الحديث" ـ من ص 33 إلى ص 55 من طبعة دار البشائر الإسلامية الرابعة الجديدة ـ، فليُقْرَأ فإنه من العلم النافع والتحقيق النادر. ويقول رحمه الله في تعليله اكتساب الصحابة الكرام الصلاح والأدب والتقوى من جرّاء صحبة النَّبيّ صلى الله عليه وسلّم: "إذا رأى أحدُنا في هذه الأزمنة المتأخّرة عالماً صالحاً تقياً صارت رؤيتُه له ـ ولو لحظةً أو دقائقَ معدودةً ـ غِذاءً يتطعّمُهُ يتمطَّق بطعمه طول حياته، ويدفَعُه إلى الخير والطاعة كلما ذكره، فكيف برؤية سيّد الخلق والأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلّم فِداه أبي وأمّي. وإنما أطلتُ بعضَ الشيء في بيان فضل (الصُّحبة الشريفة) لأن هذا الموضوع ـ بتكدُّر العقول والقلوب بالأفكار الضالّة ـ صار ضامراً في أذهان بعض الناس اليوم فاقتضى مني الإطالة" انتهى كلامه رحمه الله. وكتابه الطّريف "الرسول المعلِّم صلى الله عليه وسلّم وأساليبه في التعليم" مرآة صافية لأدبه العالي الرفيع مع جناب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
ومن شواهد أدبه مع السلف الصالح وغَيْرته عليهم أنه لمّا خشي أن يظن القارىء مما أورده من أخبار العلماء الفحول في سَعَة علمهم وكثرة مؤلَّفاتهم في كتابه "قيمة الزمن عند العلماء" أنهم أعلم من السلف، كتبَ أكثر من صفحتين ـ ابتداءً من ص 90 من الطبعة الخامسة ـ في بيان أفضلية السلف وأعلميتّهم. أما أدبه مع شيوخه فعَجبٌ عُجاب، إذ لا يذكرهم إلا مع الترحُّم عليهم والدعاء لهم مطبِّقاً وصية الإمام الفقيه العابد العلاّمة أبي محمد رِزق الله التميمي الحنبلي المتوفَّى عام 488 هـ حيث يقول: (يَقْبُحُ بكم أن تستفيدوا منا ثم تذكرونا ولا تترحّموا علينا).
فمثلاً من دقائق أدبه مع شيوخه ما حدثني به الأخ الأثير، الداعية الطبيب، الدكتور فؤاد العريس من أن الشيخ رحمه الله عندما جاء إلى باريس طلباً للعلاج ـ كما في القصة التي نقلتُها عنه حفظه الله في العدد السابق ـ كان بصحبة شيخه العلاّمة فقيه العصر مصطفى الزَّرقاء، وكانا ينزلان في أحد فناق باريس، فكان يزورهما الأخ في غرفتهما فيرى من أدب الشيخ رحمه الله ولُطفه مع شيخه وخدمته له ما يُدهش!! ومن ذلك أنه كان يسابق شيخه للإتيان بنعليه وصَفِّهما قرب سريره مع أنه كان في سنّ يقارب الخامسة والسبعين.
ولا يُسْرِعَنّ إلى ذهن القارىء أن الشيخ الزرقاء من أولئك مُمْتَهِني المشيخة الذين يستذلّون تلاميذهم في خدمتهم أو مدّ يدهم لتقبيلها ولو قبل قدوم أحدهم بُعْد أمتار أو مدّ رجلَيْهم لخلع الحذاء أو إلباس الجَوْرَبَيْن... ولا سيِّدي الشيخ من أولئك السُّذّج المخدَّرين... كل ما هنالك: أدب من التلميذ بمبادرةٍ منه للإكرام والوفاء بالجميل مع تحفُّظ العالِم وامتناعه وخَجَله. بل أقول: إن شيخنا ـ يَشْهَدُ اللهُ ـ كان إذا ما أقدم أحِدُنا بعد غياب طويل عنه ليقبّل يده ـ علماً أنه بالنسبة لنا كالجَدّ ـ جذبها ممتنعاً بشدّة.
ومن شواهد أدبه أيضاً أنه كان يُقْبل بلهفة لتقبيل يد من يعرف فيهم العلم والفضل والصلاح كما رأيت بعينَيَّ في إحدى المرات ـ على ما أذكر ـ في مشهد من أروع مشاهد الأدب والتواضع إقبالَه بشَغَف عندما قابل في أحد ممرات كلية أصول الدين شيخنا العلامة الصالح المنوّر عضو جماعة كبار العلماء في مصر الشيخ محمد عبد الوهاب البُحَيْري ليقبّل يده، رحمة الله عليهما ونوّر مرقَدَيْهما. ولشدة اهتمام الشيخ رحمه الله بضرورة الاعتناء بالأدب مع الشيوخ كتب صفحات طويلةً في تقدمته الثانية لرسالة المسترشدين، فيها غُرَر من الفوائد وروائعُ من الحكايات والفوائد، فلْتُقْرَأ فإنها من الغنائم. ولكن أذكر من هذه الروائع واحدةً مما انتقاه الشيخ رحمه الله تعالى وهي قصة الإمام الجليل إمام أهل السنة أحمد بنِ حنبل عندما كان متّكئاً من مرضٍ ولما ذُكر عنده إبراهيم بن طَهْمان ـ أحد العلماء الصُّلَحاء ـ استوى جالساً وقال: (لا ينبغي أن يُذكر الصالحون ونحن متّكئون).
3 ـ متفرّقات من أدبه المُدْهش:
وبما أن صفحات أدب الشيخ رحمه الله هي سِجِلُّ حياته كلِّها لا يتّسع المقام لسردها جميعها، فضلاً عن أنّ ما أعرفه نقطة من بحر ما يعرفه عنه عارفوه ممن أطالوا صحبته وعلى رأسهم تلميذه الأجلّ شيخنا العلاّمة محمد عوّامة الذي تمتّد صلتُه به واستفادته منه حوالَيْ أربعين سنة وأخي الغالي الأثير العالِم الداعية الشيخ مجد مكي والأخ الشيخ محمد الرشيد، بالإضافة إلى سائر عارفيه وخاصة أهله، مما يستحقُّ أن يُجمع لإحياء خُلُق (الأدب) المفقود في حياة أكثر المسلمين اليوم. فما أكثر العقوقَ حتى مع الآباء والأمهات! وما أبشعَ الخياناتِ حتى مع الأصدقاء والأقرباء! وما أوسعَ انتشارَ الكذب حتى في صفوف المتصدِّرين للدعوة! وما أسهلَ على كثير من المتديِّنين وأصحاب العمائم التفريطَ حتى بأمانة الكلمة وأمانة الموعد وأمانة المال فضلاً عن أمانة نشر العلم وإقامة الدين والدعوة إلى الله! فإلى الله المشتكي وأعوذ بالله من الحَوْر بعد الكَوْر، ومن الخيانة بعد الاستقامة، ومن الخذلان بعد السداد.
وإذا كان ما لا يُدرك كله لا يُترك كله فإنني أختم الكلام عن أدبه الجمّ بهذه الأخبار المُدْهشات:
القصة الثالثة التي حَدّثنيها الأخ الطبيب فؤاد العريس، وهي أنه أثناء صحبته للشيخ رحمه الله في باريس طلب شيخنا معرفةَ مكان إقامة الدكتور العلاّمة محمد حميد الله الهندي الذي يَعرف عنه أنه مقيم في باريس وبعد لأي ومشقّة وطول سؤال اهتدَى الشيخ رحمه ومن معه من الشباب إلى منزل هذا العالِم الهندي الذي يُؤثر العُزْلة ويُقيم مع كتبه للبحث العلمي في منزلٍ متواضع جداً على سطح مبنى قديم رقم 6 في شارع لوكسمور في باريس، فصعِدوا إليه فإذا به يعيش حياةً زُهدٍ وتَقَشُّف يشغل وقته في العلم والعبادة، ولوحظ أن الدكتور حميد الله سَمْعَه ضعيفٌ جداً ومن جهته الشيخ رحمه الله يعاني من ضعف بصره فصارا يتخاطبان بصعوبة ويستعين الشيخ بالإشارات وإذا بالأخ يُدرك أن الشيخ رحمه الله ما تكبّد هذه المشقات وألحّ على السؤال عن مكان إقامة هذا العالم الهندي إلا ليشكره على خدمةٍ أسداها إليه قبل أكثر من عشر سنوات تتعلّق بإحدى المخطوطات. ولما لم يكن الأخ الدكتور ضابطاً لتفاصيل الموضوع إذ مضى على الحادثة أكثر من ستّ سنوات وأنا عالق في ذهني أن الشيخ رحمه الله سَجّل هذه الخدمة في أحد كتبه رجعتُ إلى عددٍ منها أقلِّب صفحاتها حتى عثرتُ على الخبر في مقدمته لكتاب "الموقظة" للإمام الذهبي رحمه الله حيث يقول عن نسخة الكتاب الموجودة في المكتبة الوطنية بباريس ما يلي: (وكنتُ رجوتُ من الصديق المفضال العلاّمة الدكتور محمد حميد الله، المقيم في باريس حفظه الله تعالى ورعاه، أن يتكرّم فيصوِّرها لي، فوجد أمر التصوير يتأخّر قليلاً، فتفضّل بنسخها لي بقلمه وخطّه ثم قابلها بالأصل، وأثبتَ عليها ما على حواشي الأصل من تعليقات وبعث بها إليّ مشكوراً متكرّماً في 18 ذي الحجّة 1399، فله أجزل الشكر والثناء والتقدير على هذه المساعدة العلمية الكريمة). هذا ما كتبه في مقدمة الكتاب مؤرَّخاً في 23 من شوال 1404 هـ. ومشتملاً على الشكر، ومع ذلك وبعد حوالَيْ اثنَتَيْ عَشْرة سنة ينتهز فرصة وجوده في باريس ويُلح على مقابلة الدكتور حميد الله ولو تكبّد المشاق وعلى كِبَر سنّه وانشغاله بالعلاج، فقط ليُسدي له الشكر. الله أكبر ما أندر هذا الوفاء! وما أعزّ هذه الأخلاق! وما أقسى قلوب كثير منا بطغيان حب الدنيا والجاه وغلَبَة الحسد عليها حتى من أناس نعيش معهم سنوات طويلة ونظنّهم من المقرَّبين ومن أخصّ المحبِّين فإذا بالحقيقة تتكشف ويفتضح فيهم خُلُق التعامل بوجهين وتكشف الأيام عن انطواء قلوبهم على داء الحسد المقيت فلا يراعون ليس فقط وُدّ لحظة ـ كما يَفترض الإمام الشافعي في أخلاق الأحرار ـ بل وُدّ سنوات ورفقة عمر في العلم أو في طريق الدعوة. فإلى الله المشتكى.
قصة أخرى تدلّ على تواضعه وهضم نفسه. فقد دعوتُه مرة إلى الطعام في منزلي في الرياض في السكن الجامعي للمتزوِّجين في (الدخنة)، وهو الحيّ الذي كان يسكن هو فيه أيضاً، فدق الباب بمنتهى اللطف وسألَتْ أهلي: من؟ فإذا صوت الشيخ الرقيق: عبد الفتّاح. هكذا وحسب، من دون ألقاب ولا فخفخات.
فأسرعتُ إلى الباب وفتحتُه فدُهشت أنه وحده لا خادم ولا مرافق، وهو مَن هو في علمه ومكانته القيادية في العمل الإسلامي!!
ومقابل هذا الأدب الجمّ والتواضع الرائع كم يستاء أحدنا عندما يشاهد في أوساط طلاب العلم المتبدئين وبعض المعمَّمين الذين هم في العلم لا في العِير ولا في النَّفير كما يُقال: إسراعَهم في لُبْس زِيّ المشيخة الرسمي (الجُبّة والطربوش الأحمر تلفّه العِمامة) ثم إذا عرّفك أحدهم عن نفسه على الهاتف أو فيما يكتب إليك فلا بد من أن يذكر (الشيخ) فلان!! بل أحياناً (فضيلة الشيخ) فلان، وإنني لتتملَكني الدهشة من أدب الشيخ رحمه الله وتواضعه أنه طوال سنوات تعرُّفي عليه وفي كل رسائله إليّ ومكالماتِهِ الهاتفية لم أسمع منه ولم يكتب إليّ ولا مرة (الشيخ عبد الفتاح).
بل لما كتب إليه شيخه العلاّمة العالم الصالح أحد أئمة العصر مفتي مصر سابقاً ـ أيام كان يتولى منصب الإفتاء فيها الأئمة العلماء الصالحون!! ـ فضيلة الشيخ حَسَنَيْن مخلوف تقريظاً لخدمته رسالة المسترشدين وافتتحه بقوله: (إلى أخي وصديقي الأستاذ العلاّمة المحقق الشيخ عبد الفتاح أبي غدة أدام الله توفيقه)، فإذا بسيدي الشيخ رحمه الله يعلّق أسفل الصفحة: (قال عبد الفتّاح: هذا من تواضع شيخنا وسُمُوِّ أخلاقه العالية الرفيعة فإني منه بمنزلة الوليد من الجَدّ المجيد...) فرَحَمات الله عليه ما أروع أدبَه!!
وبعد، فهذا غيض من فيضِ أدب الشيخ، ولا أدري إن كنتُ نجحتُ في التعريف بنزرٍ من أدبه الرفيع وفي تمكين القراء والقارئات الذين لم يتشرفوا بصحبة الشيخ رحمه الله من تخيُّل طَيْفٍ من هذه الشخصية العظيمة في جانبها العلمي وجانبها الأدبي، وإن كان لا يزال عندي كلام كثير ـ لا تتّسع له الصفحات المخصَّصة من هذه المجلة ـ في جانب مهم من أدب الشيخ رحمه الله وهو ذوقه الرفيع وحسُّه الرقيق الرفيق في النظافة والضيافة، وفي الترتيب واختيار الألوان وتناسق الأشياء، وفي عنايته الفنية والجمالية بكتبه، وفي اهتمامه بالكتاب وأدبه معه مما لا أعرفه إلا عند شيخٍ آخر من شيوخي رحمهم الله: شيخ القُراء في لبنان العلاّمة حسن دمشقية، وفي مَلْبسه وأناقته من دون اختيال ولا بطر، وفي مخاطباته ورسائله، مما لا يَسَع العارف بذلك كلِّه إلا أن يعترف أنه فضل الله وتوفيقه وآية من آيات عظمة دينه الذي يطبع الصادق المخلص فيه بهذا الطابَع النموذجي الفريد الذي يرفع الرأس ويُظهر عظمة الإسلام ويكشف سرَّ دخول الناس في تاريخنا المجيد أفواجاً في دين الله.
فاللهم أعظِمْ لشيخنا ثوابَه، ولا تحرمنا أجره، ولا تفتنّا بعدَه، وأخلُفْنا مثلَه، إنك وليُّ ذلك والقادرُ عليه، اللهم آمين.
وكتب الشيخ العلامة د. يوسف القرضاوي يقول:
عبد الفتاح أبو غدة: علامة الحديث والفقه واللغة والدعوة
(1336 – 1417هـ = 1917 – 1997م)
بداية التعرف على الشيخ أبي غدة:
عرفت الشيخ الجليل عبد الفتاح أبا غُدَّة قبل أن ألقاه بسنين، من خلال ما كنت أسمعه عنه من الإخوة السوريين عامة، والحلبيِّين خاصة، مثل العلامة مصطفى الزرقا، والشاعر المفكر عمر بهاء الدين الأميري، والشيخ عبد الله علوان، والشيخ عدنان سرميني. وقد حببوه إليَّ بما وصفوه به من تمكُّن في العلم، وحرص على التعبُّد، وورع في التعامل، وغِيرَة على الدين، وحمل للدعوة، ووعي بهموم الأمة، فهو من رجال العلم المحقِّقين، ورجال الدعوة العاملين. ولا غرو أن أحببته قبل أن أراه، والأذن تعشق قبل العين أحيانًا.
عرفت ذلك من الإخوة السوريين الذين كانوا يدرسون في مصر في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، وقد كنتُ مكلَّفًا باللقاء معهم من قبل قسم الاتصال بالعالم الإسلامي في المركز العام للإخوان المسلمين، الذي كان يرأسه الأستاذ عبد الحفيظ الصيفي رحمه الله.
ثم عرفتُ عنه أكثر من الإخوة السوريين في قطر، أوائل ذهابي إليها في أوائل الستينيات، وبعد وصولي بقليل، أمثال الإخوة الأستاذة: عادل كنعان، ومصطفى الصيرفي، وعدنان سعد الدين، وهاني طايع، وسعيد المبيض وغيرهم.
معرفتي له عن طريق القراءة لكتبه:
ثم عرفتُه قارئًا له فيما بدأ بنشره من كتب بتحقيقه، فوجدت نفَسًا جديدًا، وروحًا جديدة، في التحقيق والشرح والتعليق، ووجدت الرجل يتمتع بفهم دقيق، وحِسٍّ رقيق، وإيمان عميق، وعلم وثيق، ينمُّ عن سعة اطلاع على علوم الحديث ومصادره، رواية ودراية، وعلى علم بالفقه- وبخاصة الفقه الحنفي- وعلم بكتب اللغة وعلومها من فقه اللغة والنحو والصرف والبلاغة، وكتب الأدب والتاريخ.
كما أنه يتصف بالأناة والتثبُّت والتحري فيما يصدره من أحكام، معتمدًا في الغالب على أئمة هذا الشأن، وقد يناقشهم، ويضيفُ إليهم، ولكن هيهاتَ أن يخالفهم.
وقد بدأ نشاطه التأليفي ببعض ما كلفه به مشايخه وإخوانه من علماء الشام، مثل الإسهام في عمل موسوعة لفقه الإمام ابن حزم الظاهري، مستنبطة من كتاب (المُحَلَّى) المطبوع في أحد عشر جزءًا.
كما بدأ يمارس بعض الأنشطة مثل عمل معجم لأحاديث النسائي في كتابه (المجتبى) أو (سنن النسائي الصغرى). وقد اهتم بعض العلماء بـ(سنن أبي داود)، وبعضهم (سنن الترمذي)، وبقي النسائي مع أهميته، فانتدب الشيخ ليقدم له خدمه بهذه الفهرسة، التي يسرت الانتفاع به للعلماء والباحثين.
العناية بنشر تراث العلامة اللكنوي الهندي:
ثم كان أول ما بدأ به الشيخ: العناية بتراث العلامة الهندي المحدِّث الشيخ محمد عبد الحي الحسني اللكنوي، القريب العهد، الذي خلَّف جملة من الكتب في الحديث وعلومه، فريدة في بابها، ثرية في مضمونها، موثقة بمصادرها، متينة في بنيانها، وكانت هذه الكتب قد طُبعت طباعة قديمة، بأعداد محدودة، فأصبحتْ شِبْه مهجورة، أو مقبورة، فأراد الشيخ أن يعيد طباعتها وإحياءها ونشرها، محققة معلقة الحواشي، مفهرسة فهرسة حديثة، تعين على استيعابها وفهمها، والاستفادة منها، على أكمل وجه ممكن، وبذلك تحيا من موات وتستيقظ من سبات.
ومما يجمع بين العلامة اللكنوي والعلامة أبي غدة: أن كلا منهما حنفي المذهب، وأن كلًّا منهما معنيٌّ بالحديث النبوي، ويأخذه من أصوله، على المنهج الذي اعتمده أئمة السُّنَّة الربانيون.
والإمام عبد الحي اللكنوي الهندي نادرة المحققين المتأخرين، عاش 39 سنة وأربعة أشهر، وترك من المؤلفات أكثر من 115 مؤلَّفًا في علوم متعددة، وفي دقائق العلم ومباحثه العصيبة، وُلد سنة 1264هـ، وتوفي أول سنة 1304هـ. وكلُّ كتبه ورسائله تتميز بالتحقيق والإفادات الغالية، وهكذا قدر لهذا الرجل العبقري أن يموت شابًّا، لم يكد يكمل الأربعين بالسنين الهجرية.
كتب الإمام اللكنوي التي حققها الشيخ أبو غدة:
كان أول هذه الكتب: كتاب (الرفع والتكميل في الجرح والتعديل).
1- كتاب (الرفع والتكميل في الجرح والتعديل):
وهو أول كتاب أُلِّف في موضوعه الهام، وأدَّى خدمة عظيمة لدارسي الحديث الشريف ورجاله، وبخاصة معرفة قواعد الجرح والتعديل، فكان هذا الكتاب رائدًا فريدًا في بابه، وكانت حاشيته الضافية الوافية المتنوعة؛ مجمع النفائس والفرائد والتحقيقات، وقد كان أصله في نحو 20 صفحة، فخرج بعد خدمة الشيخ أبو غدة له وتعليقه عليه في طبعته الأولى في 272 صفحة، وفي طبعته الثانية 394 صفحة، وفي طبعته الثالثة والرابعة 564 صفحة، وهو المرجع الرائد في موضوعه على كثرة ما تلاحق من التآليف بعده في موضوعه.
2- كتاب (الأجوبة الفاضلة للأسئلة العاشرة الكاملة) للإمام اللكنوي، تضمن هذا الكتاب النفيس مباحث شائكة ومسائل صعبة، تقدم بالسؤال عنها أحد كبار علماء الهند المعاصرين للِّكنوي، فأجاب عنها الشيخ اللكنوي بما شفى وكفى، وزاد على الغاية، وكان أصل هذا الكتاب صغيرًا في نحو 20 صفحة، فغدا بعد تعليق الشيخ أبي غدة رحمة الله عليه في 302 صفحة، وطبع خمس طبعات في حلب والقاهرة وبيروت، وللشيخ عليه زيادات وتنقيحات وتصحيحات تصدر لاحقًا (بإشراف ابنه سلمان وفقه الله) في طبعة سادسة مزيدة.
3- ومن كتب اللكنوي التي حققها أيضًا: كتاب (إقامة الحجة على أن الإكثار في التعبد ليس ببدعة) للإمام اللكنوي. أورد فيه اللكنوي جملة كبيرة من الأحاديث، وخرج- بعد تخريج أحاديثه وآثاره والإضافة إليه- في 195 صفحة.
4- كتاب (سباحة الفِكْر في الجهر بالذِّكْر) للإمام اللكنوي، وتضمَّن عددًا من الأحاديث النبوية للاستدلال على موضوعه، فحقَّقه الشيخ رحمه الله وخرَّج أحاديثه باختصار.
كتب حديثية أخرى للشيخ أبو غدة:
5- (السنة النبوية وبيان مدلولها الشرعي، والتعريف بحال سنن الدارقطني)، وهي رسالة في نحو 50 صفحة، نبَّه فيها الشيخ إلى أخطاء سارية في فهم لفظ السنة الوارد في الأحاديث والآثار، وقع فيها بعض العلماء، كما عرَّف فيها بحال (سنن الدارقطني)، وبيَّن المفارقات بينها وبين السنن الأربعة: سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجَهْ.
6- (صفحة مشرقة من تاريخ سماع المحدثين عند المحدثين)، درَس الشيخ رحمه الله فيها نموذجًا من الأسانيد الحديثية للحافظ ابن الصلاح، واستوعب فيها كلَّ ما يتصل بهذا الموضوع، مع التراجم والفهارس، حتى غَدَتْ كتابًا يُعرِّف الخلف بعناية السلف، في نقل الكلمة العلمية وحفظها وضبطها وحِيَاطتها من التصحيف والتحريف، وطبع في 145 صفحة.
7- (تحقيق اسمي الصحيحين واسم جامع الترمذي)، وهو موضوع له أهميته البالغة في كشف معالم هذه الكتب العظيمة والمصادر المعتبرة في رواية الحديث، وما أُسست عليه في تدوينها وتأليفها ومقاصدها، ودفع عنها أوهامًا تسربت إلى بعض العلماء بسبب الغَفْلة عن أسمائها الكاملة الدقيقة وما اشتملت عليه، وطبع في بيروت.
8- (الإسناد من الدين)، بيَّن فيه الشيخ رحمه الله فضل الإسناد واهتمام العلماء به في تلقي الحديث الشريف وغيره من العلوم.
وهذا الكتاب في حقيقته منافحةٌ وذبٌّ عن حياض الإسلام، فإن الدين الإسلامي شُرِّف وامتاز دون سائر الأديان بخصيصة الإسناد. وقد طبع في 81 صفحة.
كتب أخرى لعلماء الحديث بالهند عني بها الشيخ:
وقد كان للشيخ اهتمام إلى جانب ما تقدم بعلم رجال الحديث وكتب رجال الحديث، فأخرج:
9- ومن كتب الحديث المهمة التي اعتنى بها: كتاب (قواعد في علوم الحديث) للعلامة الجليل الشيخ ظَفَر أحمد التهانوي الهندي ثم الباكستاني (ت 1394هـ - 1974م)، وهو مقدمة لكتابه (إعلاء السنن) في عشرين جزءًا من القطع الكبير، تكفَّل فيه بجمع أدلة المذهب الحنفي في كافة أبواب الفقه، ردًّا على بعض المتعصبين الهنود، الرامين المذهب الحنفي بالفقر من أدلة الكتاب والسنة، وجاء الكتاب بعد طبعه بتحقيق الشيخ أبي غدة غفر الله له وتعليقاته في 553 صفحة.
10- كتاب (خلاصة تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال) للحافظ الخزرجي اليمني، وهذا الكتاب من أفضل الكتب المختصرة في معرفة الرجال، كما بيَّن ذلك الشيخ رحمه الله في مقدمته له التي بلغت 40 صفحة، وبيَّن مزاياه على مزايا (التقريب) للحافظ ابن حجر، سوى ذكر الحُكْم على الراوي بتعيين حاله ضعفًا وقوة.
وكان هذا الكتاب مجهولًا تاريخ مؤلِّفه، وتاريخ مُحشِّيه، فاهتدى الشيخ إلى ترجمة المؤلف بالإجمال، وإلى تعيين بلده، وإلى ترجمة مُحشِّيه والمعلِّق عليه باستيفاء، وترجم لهما في مقدمته للكتاب، وأتحف القراء بتصحيح أغلاط وتحريفات كثيرة وقعت في طبعة الكتاب البولاقية، فذكر صفحات طوالًا في بيانها، وكشف تحريفها دون قصد استيفائها. وطبع الكتب أربع مرات في بيروت.
الاهتمام بعلوم الحديث:
كما قد خدم الشيخ طيَّب الله ثراه علم مصطلح الحديث خدمة جُلَّى، فنشر وحقق جملة واسعة من كتبه الهامة المتميزة، مع تحقيقات وتعليقات وحواشٍ محرِّرة مبصِّرة،
ومنها:
11- كتاب (الموقظة) في علم مصطلح الحديث، للحافظ الذهبي، حقَّقه رحمه الله اعتمادًا على مخطوطتين، وعلَّق عليه، وضبطه، وأوفاه حقه، وألحق بآخره خمس تتمَّات تتصل بمباحثه، جاء فيها بالنافع المبارك المفيد، وبخاصة ما يتعلق بكتاب (صحيح مسلم) وشَرْط مسلم فيه، وردِّ مسلم على مَنْ خالفه في شرطه، وبيان اسمه، وأثر هذا الاختلاف، وبيان وجاهة مذهب مسلم، وبخاصة مسألة تكفير أهل البدع والأهواء، وخرج الكتاب في 220 صفحة. وطبع في بيروت أربع مرات.
12- كتاب (قفو الأثر في صفو علوم الأثر) للإمام العلامة ابن الحنبلي الحلبي الحنفي، في 140 صفحة، وهو كتاب استخلص فيه مؤلفه كتب المصطلح التي دوِّنت قبله، وحرَّرها باختصار غير مُخِلٍّ، وباستيعاب غير مُمِلٍّ.
13- كتاب (بُلْغة الأريب في مصطلح آثار الحبيب) للإمام الحافظ المرتضى الزَّبيدي شارح (القاموس) و(الإحياء)، ترجم فيه الشيخ رحمه الله للمؤلف ترجمة وافية، وضَبَط نصوص الكتاب، وخدمه بعناية كاملة وإخراج جميل، وطبعه مع كتاب (قَفْو الأثر) في مجلد واحد. وطبع في بيروت في نحو 100 صفحة.
14- (جواب الحافظ المنذري عن أسئلة في الجرح والتعديل)، وهي أسئلة مُشْكِلة، وجَّهها بعض كبار المحدِّثين من معاصري الحافظ المنذري له، ورغب في إجابته عنها، فأجاب عنها بأوفى بيان.
وقد اعتنى الشيخ رحمه الله بهذه الأجوبة، ووشَّاها بتعليقات نافعة، وطبع في 100 صفحة. ومعه:
15- (رسالة أمراء المؤمنين في الحديث)، جمع فيها الشيخ رحمه الله تعالى أسماء من لُقِّبوا بلقب أمير المؤمنين في الحديث، من أول القرن الثاني إلى ما بعد القرن العاشر، فبلغوا 26 عالمًا، وذكر فيه أيضًا أمراء المؤمنين في الفقه والعربية، فكان تحفة طريفة، طبع في بيروت في أكثر من 50 صفحة.
16- كتاب (لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث)، من تأليف الشيخ رحمه الله، وهو كتاب من 252 صفحة، حوى مباحث من علوم الحديث في تاريخ بدء وضع الحديث، وأسبابه، ونتائجه، وكيف عالجه العلماء المحدِّثون، ونبه إلى ما بذلوا في مقاومته من جهود.
الاهتمام بالأحاديث الموضوعة:
17- كتاب (المصنوع في معرفة الحديث الموضوع) للعلامة الشيخ المُلَّا علي القاري الهروي ثم المكي (ت. 1014 هـ / 1606 م)، وقد تولى الشيخ تحقيق أحاديثه وبيان درجتها، وذكر ما يغني من الحديث الصحيح عن الحديث الموضوع فيها، وقدَّم له بمقدِّمة واسعة حافلة بلغت 42 صفحة، قرر فيها ضوابط وقواعد، ونبَّه في تعليقاته على أغاليط وأوهام وقعت لبعض العلماء، من الاعتماد في تصحيح الأحاديث على الكشف الذي يقول به بعض الصوفية، وطُبع الكتاب عدة مرات في أكثر من 340 صفحة.
العناية بالحديث الضعيف وبمكانة ابن القيم في الحديث:
18- كتاب (المنار المنيف في الصحيح والضعيف) للإمام ابن القيم، وهو كتاب أراد مؤلفه حياطة السنة المطهرة من الأحاديث الموضوعة، وأكاذيب القصاص والوعاظ، وقد تميَّز هذا الكتاب بذكر قواعد وضوابط ترشد العالم إلى معرفة الحديث الموضوع والخبر المكذوب والأساطير المفتعلة. ويظهر في هذا الكتاب- كما في غيره- منزلة ابن القيم في خدمة السُّنَّة النبوية والدفاع عنها، كما بدا ذلك في كتب عدة منها تعليقه على سنن أبي داود. وقد طبع أربع مرات في 224 صفحة.
التوسع في معرفة كل ما يتعلق بالحديث:
19- كتاب (ظَفَر الأماني في شرح مختصر السيد الشريف الجرجاني) للإمام عبد الحي اللكنوي، وهذا الكتاب تميَّز في علم مصطلح الحديث بالنقاش والمراجحة بين الأقوال في المسائل المعضِلة؛ كمسألة (العمل بالحديث الضعيف)، و(الحديث الحسن)، و(الحديث المرسل)، و(الحديث المنكر)، وسواها من أبحاث المصطلح، التي لها صلة بأصول الفقه، والتي جرى فيها خلاف بين المحدثين والفقهاء، كما أن فيه تعقُّباتٍ دقيقة للحفاظ الجهابذة الكبار، كالعراقي وابن حجر والسخاوي وغيرهم.
اعتنى الشيخ رحمه الله بخدمته وتحقيقه، وضبط نصوصه، وتقويم تحريفاته الواقعة في الأصل، وعلَّق عليه، وبلغ هذا الكتاب بفهارسه العامة 620 صفحة.
20- كتاب (توجيه النظر إلى أصول الأثر) للعلامة الشيخ طاهر الجزائري الدمشقي، عُنِي الشيخ رحمه الله بخدمته، واعتنى به، ففصَّل مقاطعَه وجُمَله، وضبط ألفاظه وعباراته، وعلَّق عليه، وربط بين نصوصه وإحالاته، ووضع له الفهارس العامة، وألحق به رسالة الحافظ ابن الصلاح في وصل البلاغات الأربعة في موطأ الإمام مالك، فخرج في مجلدين كبيرين، بأكثر من ألف صفحة بفهارسه العامة.
21- رسالة الحافظ الذهبي: (ذِكر من يُعتمد قولُه في الجرح والتعديل)، ذكر فيها ما يزيد على 715 عالمًا تكلموا في جرح الرواة وتعديلهم، من صدر الإسلام إلى عصر الذهبي، وقد اعتنى بها الشيخ رحمه الله، وضبط الأسماء والألقاب والكنى فيها. وطبعت في 150 صفحة.
22- كتاب (المتكلمون في الرجال) للحافظ السخاوي، وهو في موضوع رسالة الحافظ الذهبي، اقتصر فيه السخاوي على أشهر علماء الجرح والتعديل من صدر الإسلام إلى عصره، فبلغوا نحو 210 عالمٍ. فترجم الشيخ رحمه الله لهؤلاء العلماء بتراجم متوسطة عرَّفت بهم وبآثارهم الحديثية. وطبع في 70 صفحة.
23- (قاعدة في الجرح والتعديل، وقاعدة في المؤرخين) للحافظ تاج الدين السبكي، شرح فيهما شروط الجرح والتعديل وما يُقبل منهما وما لا يُقبل، حقَّقها الشيخ، وعلَّق عليها. وطبعت في 80 صفحة.
24- (شروط الأئمة الخمسة) للحازمي، وهو من المراجع الهامة لمعرفة شروط البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي والترمذي.
25- (شروط الأئمة الستة) للحافظ ابن طاهر المقدسي، وهو من باب الكتاب السابق، وعلى منواله، وكلاهما خدمهما الشيخ رحمه الله بالتحقيق والتعليق والمقابلة بأصول موثقة، وصدرا في نحو 150 صفحة.
26- (رسالة الإمام أبي داود إلى أهل مكة في وصف سننه)، وهي رسالة مهمة لا يستغني عنها قارئ السنن، قابلها الشيخ رحمه الله بأكثر من أصل مخطوط، وعلَّق عليها.
وقد صدرت هذه الرسائل الثلاثة الأخيرة بعد وفاة الشيخ رحمه الله، في مجلد واحد بعنوان: ثلاث رسائل في علم مصطلح الحديث.
كما صدر بعد وفاته رحمه الله:
27- كتاب (الإمام ابن ماجَهْ وكتابه السنن) للشيخ العلامة المحدِّث محمد عبد الرشيد النعماني الهندي رحمه الله (ت 1420ه)، قدَّم له مؤلفه مقدمة هامة حول تدوين الحديث وتاريخه في القرون الثلاثة الأول، مع تعرضه لشروط الأئمة الأربعة المجتهدين والأئمة الحفاظ أصحاب الكتب الستة، وأبرز عناية العلماء بسنن ابن ماجه، ومؤلفاتهم فيه، وأضاف عليه الشيخ رحمه الله تحقيقات وتعليقات نافعة جدًا، وقد طبع في 290 صفحة.
28- (مبادئ علم الحديث وأصوله) للعلامة المحقق شَبِّير أحمد العثماني الهندي ثم الباكستاني (ت. 1369 هـ / 1949 م)، مؤلف الكتاب الممتع الغني بالتحقيق (فتح المُلْهِم بشرح صحيح مسلم) وهذا الكتاب مقدمة هذا الشرح الجليل، اعتنى به الشيخ رحمه الله عناية بالغة، وصدر في أكثر من 500 صفحة. وقد أكمله شرحًا مع العناية بالأحكام والحياة المعاصرة: أخونا وصديقنا العلامة الشيخ محمد تقي عثماني، نفع الله به.
29- (مقدمة كتاب التمهيد) للحافظ ابن عبد البر الأندلسي، قام عليها الشيخ بتعليق وافٍ على موضوعاته ومسائله، وهو من أقدم ما كُتِب في علم مصطلح الحديث، وطبع في 120 صفحة.
ومن الكتب التي حققها وعُني بها أيضًا:
كتاب (التصريح بما تواتر في نزل المسيح):
30- كتاب (التصريح بما تواتر في نزول المسيح) لمحدث العصر في الهند الكبرى الشيخ محمد أنور شاه الكشميري، الذي سد بالتواتر الطريق على من يريدون باسم العقل الحر أن يردوا على ما ورد في موضوع نزول المسيح من أحاديث، بحجة أنها أحاديث آحاد، فبين الشيخ تواترها، بما أورد من أربعين حديثًا صحيحة أو حسنة.
وكان أصل هذا الكتاب في نحو (20) صفحة، فخرج بعد خدمته الوافية وتخريج أحاديثه وآثاره في نحو (373) صفحة، وأدَّى هذا الكتاب خدمة جُلَّى في تجلية حَقِّية هذا الموضوع – وبخاصة زمن طبعته الأولى-، في الوقت الذي كان ينكره أو يتردد فيه طائفة من كبار العلماء، وخرج الكتاب نافعًا للخواصِّ والعوام، ومصحِّحًا لأفكار الواهمين والمنكرين. وطبع أكثر من خمس مرات.
ترشيحي للشيخ أبي غدة لجائزة سلطان بروناي في الحديث:
ومما أذكره هنا في كلامي عن الشيخ أبي غدة: رسالتي التي أرسلتُ بها إلى الأخ الكريم الدكتور/ فرحان أحمد نظامي مدير (مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية)، بمناسبة ترشيحي للشيخ أبي غدة لجائزة سلطان بروناي في علم الحديث، وكان مما كتبته في هذه الرسالة:
بالإشارة إلى رسالتكم المؤرخة في 28/4/1415هـ والخاصة بالإعلان عن جائزة السلطان حسن البلقية– سلطان بروناي- العالمية، والتي يقوم بتنسيقها أمانة في مركزكم الموقر.
وبما أنكم أعلنتم عن موضوع الجائزة لعام 1995م، وهو: (الحديث النبوي الشريف وعلومه).
فيسرُّني باسم مركز دراسات السنة والسيرة بجامعة قطر أن أرشِّح لهذه الجائزة أحد أعلام الحديث النبوي وعلومه في عصرنا، الذي خدمه طوالَ عمره المبارك بالتدريس والتأليف والتحقيق والمشاركة في وضع المناهج وغيرها، وهو العلامة المعروف في العالم الإسلامي: الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، حفظه الله ونفع المسلمين بعلمه.
لهذا العلَّامة أكثر من (50) خمسين كتابًا في الدراسات المختلفة، ما بين علوم قرآن، وعلوم حديث، وفقه، وتربية وتاريخ، جُلُّها في خدمة السنة المشرفة.
ومن قرأ هذه الكتب، سواء كانت محقَّقة أو مؤلفة– وأمعن فيها النظر، عرف منها بوضوح مكانة التكوين العلمي للشيخ حفظه الله، وسعة أفقه، ورسوخ قدمه في علوم المقاصد، وهي علوم الشريعة المعروفة، من القرآن وعلومه، والحديث وعلومه، والفقه وأصوله، وعلوم العقيدة والسلوك، وفي علوم الوسائل كذلك، وهي علوم اللغة والنحو والصرف والبلاغة والأدب. كما دلت على ذلك تعليقاته العلمية الضافية، وحواشيه الرائقة الصافية.
ورغم أنه يختار للتحقيق الكتبَ القيمة النافعة، فإن تحقيقاته وتعليقاته الأنيقة الممتعة أضافت إليها قيمة مضاعفة.
هذا مع اعتدال في التوجه، وانصاف للمخالِف، وتقدير للرأي الآخر، ومراعاة لأدب الخلاف والحوار، وعفة اللسان والقلم، في تناول الأشخاص والمذاهب والفرق والجماعات، شأن العلماء الراسخين المربِّين أبدًا.
وكما أن الشيخ معروف بعلمه وفقهه وحسن درايته، في الأوساط العلمية والإسلامية، فهو معروف كذلك بورعه وتقواه وحسن خلقه، يشهد بذلك كل من اقترب منه، ويلمسه لمسَ اليدِ كلُّ من عايشه وعاشره، زميلًا أو تلميذًا، فهو من الربانيين القلائل، أو (الخَلَف العُدُول) الذين يحملون علم النبوة للأجيال، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، نحسبه كذلك والله حسيبه، ولا نزكِّيه على الله تعالى.
وهذه الخصال المعروفة عنه، من الورع والتحرِّي والمراقبة، لم تحجب ما في شخصيته المُحبَّبة من الظُّرف واللطف وحسن المعشر، والدعابة المهذَّبة، والمشاركة في المُلَح والطُّرَف، التي تسمعها العذراء فلا تخجل منها.
هذا ما حفل به تاريخه المشرق من غيرة على الإسلام، ومشاركة إيجابية في بعث أمته، ونشر دعوته، وتحكيم شريعته، وإن جرَّ عليه ذلك ما جرَّ من أذًى ومحنة وهجرة في سبيل الله، فهو أحد الدعاة الصادقين، والعاملين لنصرة هذا الدين، نسأل الله أن يتقبل جهاده وجهوده اهـ.
تقويمنا للشيخ أبي غدة:
الشيخ عبد الفتاح رجل صالح، قوي الإيمان، مستقيم الخلق، راسخ القدم، يأوي إلى ركن وثيق من العلوم الشرعية الإسلامية، متمكِّن من علوم الحديث، دارس لها في مصادرها وكتبها الأصلية والفرعية، والقديمة والحديثة، دارس في الفقه على مذهب أبي حنيفة النعمان، كمعظم علماء أهل بلده، ولذا تتلمذ على علامة زمانه الشيخ مصطفى الزرقا، وعلى غيره من العلماء، ملم بمعرفة بعض المذاهب الأخرى، كمذهب الشافعي، والمذهب الحنبلي.
حنفي غير متعصب لمذهبه:
ولكنه مع هذا لم يكن متعصِّبًا للمذهب الحنفي، حتى إن خالف الحديث الصحيح، ككثير من الأحناف من مشايخه ومن زملائه، ومن تلاميذه.
وهو وإن كان حنفيًّا ملتزمًا بمذهبه، لم يذم المذاهب الثلاثة السنية الأخرى: مذهب مالك، والشافعي، وابن حنبل، ويرى أن جميعهم، يمضون على منهج واحد، هو الأخذ بالمعايير الأربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والرأي، أو القياس.
وكلهم من رسول الله ملتمس غرفًا من البحر أو رشْفًا من الدِّيَم
ولذلك أثنى على هؤلاء الأئمة المتبوعين المقلِّدين، كما أثنى على أئمة مجتهدين آخرين، ظلوا مقلِّدين مدة من الزمن، ثم اختفوا. مثل الإمام الأوزاعي (157هـ) والإمام سفيان الثوري (161هـ) والإمام الطبري (310هـ)، وهذا موقف أتباع المذاهب كلهم من المذاهب الستة المتبوعة، وكذلك كان موقف الشيخ أبي غدة من المذهب الحنبلي وأئمته مثل ابن الجوزي، وابن قدامة، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل، وآل تيمية، الجد والأب والحفيد شيخ الإسلام ابن تيمية الحبر البحر الزخار، الذي لا يدرك له قرار، ولا تُسبر له أغوار، وتلميذه الكبير الإمام ابن القيم، ومَن بعدَهم من أئمة الحنابلة، مثل ابن رجب، وابن مفلح، وغيرهما.
أبو غدة محب لابن تيمية:
كان أبو غدة من المحبِّين لابن تيمية، ومن المطَّلِعين على سعة علمه وتنوعه، وأن عنده من أنواع العلم ومفاتيحه ما ليس عند غيره، ولذلك كان موقفه من المذهب الحنبلي موقف كل المتَّبعين للمذاهب المالكية والشافعية والحنفية، بل كثيرًا ما أثنى على هذا المذهب وعلى أدلته، وعلى الأئمة الكبار فيه مثل الذين ذكرناهم من قبل.
وكان موقفه من ابن تيمية في غاية الوضوح، فهو رأس وإمام، وعَلَم من كبار الأعلام، وشيخ الإسلام، وأحيانًا يذكره بلفظ شيخ الإسلام، وأحيانا يقول: الشيخ ابن تيمية، وهذه لا تعد تنقصًا من الإمام، ولا تقليلا من قيمته، بل هو ما يقتضيه المقام من الاختصار والاقتصار.
ولكن لأن الشيخ تحيط به أشواك وضعها من حوله الوضَّاعون، وُضعت فيه أقاويل بثَّها فيه المتقولون على الناس بالباطل، والمزايدون والمتملقون والكائدون والمخاصمون، والآخذون بالظنون البعيدة، والدعاوى المردودة، وكل ما ليس بحق، وقد قال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس:32].
تتلمذ أبي غدة على الكوثري، وعدم تعصبه له:
كان الشيخ عبد الفتاح أبو غدة من علماء الأحناف، ومن علماء الأشعرية أو الماتريدية، ومن المحدِّثين على طريقة الإمام الطحاوي، والزيلعي صاحب (نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية)، ومثله في ذلك مثل الكثيرين من العلماء الأحناف في الهند وباكستان وأفغانستان وغيرهم، ولكنه كان تلميذًا نجيبًا للشيخ التركي الكبير العلامة محمد زاهد الكوثري، وهو من رجال الحديث، والعلماء الكبار عند الأتراك ومن عارفيهم، بل كان الشيخ أبو غدة هو أعظم تلاميذ الكوثري، وأغزرهم علمًا، وأوثقهم حجة.
وكان للكوثري مواقف من الحنابلة- أو قل: من السلفيين أو من الوهابيين- وله كلام فيهم، وفي أهل الحديث عامة، لا يرضاه أهل العدل والإنصاف، كرده على كتاب العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر (نظام الطلاق في الإسلام) الذي رد فيه على المتمسكين بالمذاهب، الذين يوقعون الطلاق لأدنى شيء، ولو في حالة الغضب والمزاح والإكراه، فينشئ الكوثري كتابًا في الرد على شاكر سمَّاه: (الإشفاق على أحكام الطلاق).
وللشيخ الكوثري رد عنيف على ابن تيمية، واتهام له في دينه، وهو يرفض كل اجتهادات ابن تيمية الرائعة، والمحرِّرة للمسلمين من الالتزام والتقيد بالفقه المذهبي في كل شيء، وإن أدى إلى هدم الأسر وخراب البيوت، وضياع الأبناء والبنات، فالكوثري يرجح مذهبه في كل هذه الاجتهادات، مهما تكن نتائجه، وابن تيمية ومدرسته يحاولون من خلال الفقه الإسلامي نفسه، والرجوع إلى المصادر الأصلية، وإلى تراث الأمة، ومناقشة الأدلة والترجيح بين الآراء إنقاذ الأسرة المسلمة مما انتهت إليه من مهاوي الطلاق، الذي أدى إلى كوارث أسرية واجتماعية ودينية.
وكان للشيخ الكوثري موقفه من الذهبي، واتهمه بالتعصب ضد الأشاعرة، وعدم إعطائهم حقوقهم كما ينبغي من التوقير والاحترام والدفاع في الترجمة لهم في كتبه، وخصوصا: سير أعلام النبلاء، وأنه إذا جاء واحد ممن يهش له الذهبي رحب به وأطيب وبشَّر وكبَّر، وزاد وأفاض، على حين يقبض يده، ويغلق فمه عندما يتحدث عن الأشاعرة وغير الحنابلة.
وأنا أقول بصراحة: إن هذا كله ظلم للحنابلة وللسلفيين- أو الوهابيين- وخروج عن حد الإنصاف والعدل في الخصومة، وقد سألت شيخنا الشيخ عبد الفتاح أبا غدة بصراحة: هل تتبنى هذه الأقاويل التي يقولها شيخك الكوثري؟ قال لي: لا والله، لا أتبناها، ولا أروِّجها، ولا أدعو إليها. هذا ما قاله الشيخ أبو غدة بصريح كلامه، وأنا أسجِّل هذا للشيخ، وأبرئه من أن يتحمَّل كل ما قاله شيخُه في هذه الأمور.
الحنابلة من أعظم أتباع المذاهب:
وأنا أقول: إن الحنابلة هم من أعظم أهل المذاهب الذين نفعوا الإسلام، ونفعوا المسلمين، ولهم في فقه مذهبهم وعرضه والتدليل عليه، ومناقشة خصومه، من روائع المؤلفات والشروح والحواشي ما لا مزيد عليه، وها نحن نرى كتبهم، ونطَّلع فيها على الروائع والعجائب والكنوز، ما قد يفوق كثيرًا من المذاهب الأخرى، وأحيانًا عليها كلها، وخصوصا اجتهادات شيخ الإسلام وتلميذه العلاقة ابن القيم، التي شرَّقت في عصرنا وغرَّبت، ووجد الناس فيها خلاصًا للأسرة المسلمة من تعقيدات المذاهب السابقة، ومنها المذهب الحنبلي نفسه، ولهذا قال الشاعر العراقي معروف الرصافي حين أفتاه مفت تيمي (أي ينتمي إلى مذهب ابن تيمية) بجواز عودة زوجته إليه، وقد طلقها أهل مذهبه الحنفية ثلاثًا لا رجعة فيها، حتى تنكح زوجًا غيره. فقال الشاعر يمدح هذا الرأي، ويمدح الإمام ابن القيم الذي انتصر لهذا الرأي، وقواه، وساق الأدلة عليه، خاصة في كتابه (إعلام الموقعين):
ألا قل في الطلاق لمُوقِعيه بما في الشرع ليس له وجوب
غلوتم في ديانتكم غلوًّا يضيق ببعضه الشرع الرحيب
أراد الله تيسيرًا وأنتم من التعسير عندكم ضروب
وقد حلت بأمتكم كروب لكم فيهن لا لهمُ الذنوب
وَهَى حبلُ الزواج ورقَّ حتى يكاد إذا نَفَخْتَ له يذوبُ
كخيطٍ من لعابِ الشمسِ أدلت به في الجو هاجرةٌ حلوب
يمزِّقه من الأفواه نفث ويقطعه من النَّسْم الهبوب
فدى (ابنَ القيم) الفقهاءُ كم قد دعاهم للصواب فلم يجيبوا
ففي (إعلامه) للناس رشدٌ ومزدجر لمن هو مستريب
ولقد رأيت الإمام الذهبي ينصف كل الفئات المختلفة، حتى المعتزلة، يقول عن الزمخشري، وعن القاضي عبد الجبار، وعن الجاحظ والعلَّاف والنظَّام، بل عن اليهود والنصارى، بل عن الملاحدة من الفلاسفة وأمثالهم، من الكلمات ما لا يقوله إلا رجل عالم منصف، يعطي كل إنسان ما يستحقه، مهما يكن له من الآراء ما لا يقبله.
ربما يعيب الشيخَ أبا غدة بعضُ الإخوة من السعوديين المتشددين، ومن كان على مذهبهم ومنهجهم؛ لأنه لم يكتب ضد شيخه فيما كتبه! فهل يلزمه أن يكتب ضد ما كتبه، أم يلزمه ألا يتبعه، وألا يحبذه، وألا يدعو الشباب إليه؟
وقد قالوا لي: إن أخانا وصديقنا العالم السلفي الفقيه الأديب الدكتور الشيخ بكر أبو زيد، رئيس مجمع الفقه الدولي، كتب رسالة ضد الشيخ عبد الفتاح وهاجمه هجومًا قويَّا في رسالته، ولم يُتَح لي أن أطلع عليها( ).
رد الشيخ أبي غدة على من ادعى عليه تكفيره لأئمة السلفية:
اتهم بعض الشانئين للشيخ من المتعصبين أنه ألف بعض الكتب والرسائل بأسماء مستعارة ينال فيها من الإمامين الجليلين ابن تيمية وابن القيم ومن الإمام محمد بن عبد الوهاب، فألف الشيخ رسالته (كلمات في كشف أباطيل وافتراءات) وكان مما قال فيها:
(رَمَتْنِيْ بدائها وانسلّت...:
قد نسبوا إليَّ في المقدمة المنحولة لكتاب (المقابلة بين الهدى والضلال) باسم المحقِّق الموهوم، فزعموا في ص4 و5 منها: (أني ألَّفتُ كتبًا بأسماءٍ مستعارة، مثل (أبي حامد) و(أرشد) و(الدكتور)، أو غيرِ اسم أصلًا مثل (التعقيب المفيد) و(براءَة الأشعريين)... إلى آخر ما قالوه من البهتان.
وبيانًا للحقيقة: أُعلِمُ كلَّ من ينشد الحقَّ: أَني لستُ من أَهل هذا الخُلُق، والحمد لله، والكائدون يعرفون ذلك عني حقَّ المعرفة، ولا داعي بي أن أَختفي– على طريقتهم وصنيعهم- وراءَ أسماءٍ مستعارة، وكتبٍ لمجهولين، فهذا صنيعُ أمثالهم الذين استمرؤوا التزويرَ في كتب الناس، فسهُل عليهم نَحْلُ الكتب لغير أهلها، وتحت يدي الوثائقُ الناطقة بذلك عليهم، وهم إنما يفعلون ذلك لفِتَنٍ ومآرب، لا تَخفى على كل ذي بصيرة، ولا تغيب عن كل عامل في ميدان الدعوة الإسلامية.
اتهام الشيخ بتكفير ابن عبد الوهاب وابن تيمية وابن القيم:
ونسبوا إليَّ في تلك المقدمة المنحولة في ص5 و8 أني قلت بكفر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخ ابن تيمية، والشيخ ابن القيم. هذا قولهم.
وهو من أكذب الكذب، وأرخص الدس والتزوير، فليس تكفير الناس- فضلًا عن العلماءِ- من شيمتي، ولا خُلقي، والحمد لله، فقد حفظني الله تعالى بما أَكرمني به من عقل، وما أدَّبني به من أَدب الإسلام: أَن أَقع في هذه المكفِّرات والموبقات، فإنه من كفَّر مؤمنًا فقد كفر.
وهؤلاءِ أَئمة أَعلام، من خيار المؤمنين العالمين العاملين الداعين إِلى الله تعالى، ومن أَراد أن يُحكم عليه بالسَّفَه والعَتَه، فليكفر أَئمةَ الإسلام، وهؤلاءِ السادة الأعلام.
وهَبْني قُلت: هذا الصُّبْح ليلٌ أَيَعمى العالَمون عن الضياءِ؟!
وأَرى من المفيد جدًّا أن أَنقل نَصَّ عبارتهم في المقدمة المنحولة للكتاب المذكور، ليَشهد القارئ الكريم: الدَّسَّ الذي سلكوه، والافتراءَ الذي صنعوه، وليكون ذلك نموذجًا سادسًا من الافتعالات والأكاذيب.
قالوا في المقدمة المذكورة في ص4-5 ما نصه بالحرف الواحد أَضعه بين هلالين: ((لقد قام عبد الفتاح أَبو غدة بحملات باسمه الصريح فيما يَطبع من الكتب حينًا، وأَحيانًا تحت أَسماءٍ مستعارة، مثل (أَبي حامد) و(أرشد) و(الدكتور)، أَو غيرِ اسم أَصلًا، كما فعل أَبو غدة نفسه فيما سماه (التعقيب المفيد) و(براءَة الأشعريين)، وغيرِ ذلك من نشرات ورسائل، وتقاريرَ إلى مختلِفِ الجهات( )، وإليك مطلع كتابه الأَول، قال أَبو غدة متسترًا: فهذه خلاصة علمية في عقائد محمد بن عبد الوهاب ومقلِّديه، جمعت أكثر دررها المنقولة والمعقولة من تحقيق علماءِ الإسلام، وقد رَدَّ بعض أَتباع الأئمة الأربعة عليه (محمد بن عبد الوهاب) وعلى مقلِّديه، بتآليف كثيرة جيدة. - كذا-
وتنحصر أمهات عقائد محمد بن عبد الوهاب ومقلِّديه في أربع:
- في تشبيه الله بخلقه.
- وتوحيد الألوهية والربوبية.
- وعدم توقيرهم النبي.
4- وتكفير المسلمين - كذا-
وهو مقلِّدٌ فيها ابنَ تيمية، وهو مخترع توحيد الألوهية والربوبية، الذي تفرَّعَ عنه عدَمُ توقيرهم للنبي، وتكفيرُهم المسلمين.. إلخ ما كَذَبَ به.
وهكذا استمر بهذه الأباطيل والأكاذيب.
تسميته: الإمام بن تيمية بـ(الكافر، المفتون، الشاذ، الضال ...)، وتسمية العلامة ابن القيم بـ(المتعصب، الشاذّ، المعتوه، الوَقِح، المزوِّر...)، انظر (التعقيب المفيد)، وتهجمه على الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأكثر من هذه الألفاظ، وأخفُّها: الجهلُ، والكفرُ، وأَتبعَ ذلك على كل من سَبَق هؤلاءِ من الأئمة ممن قال بما قالوا، وعلى من جاءَ بعدهم كذلك). انتهى كلامهم بالحرف تمامًا.
وهذا– والله– هو البهتان الصريح بعينه، يُساق بأسلوب ملفوف مُلفَّق محشُوٍّ بالكذب والافتراء، لإثارة علماءِ هذه الديار المقدسة وتأليبهم عليَّ؛ إذ من المعلوم أَن لهؤلاءِ الأعلام الثلاثة الشيخ ابن تيمية، والشيخ ابن القيم والشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله تعالى- مكانةً عظيمة في قلوب علماءِ هذه البلاد، فافتعل أولئك: هذا البهتان عليَّ ليثيروهم نحوي، رجاءَ أَن يبلغوا تحقيق مآربهم.
والله يشهد أَنهم يعلمون من أَنفسهم أَني بريءٌ من هذا وأَنهم مفترون.
الحق لا يُخفى:
ولستُ بحاجة إلى أن أَرد هذه التهم، وأَدفع هذه الأباطيل، فهي تكشف عن نفسها بنفسها، على أَني أتحدَّى أَيَّ إنسانٍ أن يُثبِتَ أَني قلتُ شيئًا– من هذا الذي ادَّعوه عليَّ زورًا وبهتانًا– في كتبي أَو دروسي، أَو فيما حقَّقتُ أو أَلَّفتُ، ولقد مضى عليَّ في هذه المملكة الكريمة نحوُ عشرِ سنوات، سمعني المئات من الطلاب، وعاشرني عشرات من الزملاءِ والأساتذة، وخالطت الكثيرين من العلماءِ والناس وخالطوني، فأين من سمع مني شيئًا من هذه الدعاوي الباطلة؟ ولو كنتُ أُضمر شيئًا من هذا لظهر واستبان، وتبدَّى لِلعِيان، وقديمًا قالوا: ما فِيك، ظهر على فِيك، فالحقُّ أَبلج، والباطل لجلج، وسُلوكي مكشوف، وخُلُقي معروف، والحمد لله.
قل هاتوا برهانكم:
أَما قولُ الناحلين تلك الكتب إليَّ في المقدمة المذكورة: (وإليك مطلع كتابه الأول قال أبو غدة متسترًا...) إلى آخر ما نقلته من كلامهم قريبًا، فهذا بهتان واضح، واتهام ساقط، فأين الكتاب الذي قلتُ فيه هذه الافتراءات، ويَحمل اسمي ومسؤوليتي عما فيه؟ أَمَّا أَن يَنحلوا اسمي كتابًا أو كتبًا مزوَّرة بأسماءٍ يقولون: إِني صاحبها، فما أَهونَ هذه الدعوى؟ وأَهونُ منها: سُقوطها وإسقاطُها إلى الأرض! "ولو يُعطَى الناس بدعواهم، لادَّعى رجالٌ دِماءَ قوم وأموالَهم...".
وقد رَسَمَ الله تعالى طريقَ ثبوت الدعوى فقال: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]. فليتبصَّر القراءُ الذين يقرؤون تلك الأباطيل: هذه الطريقَ التي رسمها الله تعالى لقبول الادِّعاءَات والتَّقوُّلات، ولْيعلموا أَنَّ وراءَ ذلك الدّسِّ والتزويرِ غاياتٍ سيئةً معروفة.
كشف الأباطيل:
وفوق هذا السقوط المكشوف لدعاويهم الباطلة، أَسوق بعض الدليل على كذبهم وافترائهم، مع أَنه أَمر مكشوف لكل من يقرأُ كلامهم بتمهل وأَناة، فأَقول:
أما دعواهم أَني مؤلف هذه الكتب، فأَقول في وجهها: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16]. وهذا البهتان العظيم ينخرط في رقابهم حتى يقيموا الدليل على مُدَّعاهم الباطل، وما هم ببالغين ذلك إلا بحبْلٍ جديد من أكاذيب جديدة، يُلقون بها للقراءِ على طريقتهم التي عُرفت بالدس والتزوير، وأصبحتْ لا تسري على الناس العارفين بهم. وهم الذين أَلَّفوا بأَسماءٍ مستعارة، ودَسُّوا في كتب الناس ما لا يعلمون ولا يرضون، كما تقدمت الإشارة إلى بعضه في أَوائل هذه (الكلمات)، فليعُد القارئ الكريم إليه.
وأَما دعواهم أَني كفرت الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخ ابن تيمية، والشيخ ابن القيم. فهي دعوى باطلة لا تحتاج إلى دليل.
ابن عبد الوهَّاب إمام الدعوة:
فأَما الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-، فهو إِمام الدعوة غيرَ منازًع، وقد كان داعيةً إلى الله تعالى، وقام بالدعوة بحاله ومقاله وعلمه وقلمه، وما كنتُ في كل حين إلا مقدِّرًا فضله وعلمه، وقيامه بالدعوة إلى الله تعالى، تلك الدعوة التي أَعطت أَطيب الثمرات في إِعلاء كلمة الله تعالى، وتصفية العقيدة من الشوائب والخرافات، والتي تتجلَّى آثارها في نشر العلم وكثرة العلماء، وانتشار المعاهد العلمية التي هي أَثر من آثار دعوته الخيِّرة، كما تتجلَّى آثارها في مؤازرةِ الإسلام في كل بلد.
وأَتحدَّى أَن يُثبِتَ أحدٌ أَني ذكرته في كتاب من كتبي بإساءَة أَو انتقاص. ودعوى أولئك التي زعموا فيها أَني كفَّرتُه: ساقطة إلى الأرض، ولم تَصْدر إِلا منهم، يَكذبون على الناس، ويَنحلون الكتبَ لغير أًصحابها، ثم يَرمون غيرَهم بالبهتان والأباطيل، ويَنْسَوْن: أَنَّ لعنة الله على الكاذبين.
ابن تيمية شيخ الإسلام:
وأَما الشيخ ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، فهو شيخ الإسلام، وإمام من كبار أَئمة الدين. ودعوى أُولئك الكائدين أَيضًا أَني كفَّرتُه، يَرُدُّها على كاذبيها ومُصدِّريها: ما شَحَنْتُ به كتبي وتعليقاتي من النقول الكثيرة عنه، مع وصفي له بالإمامة والتكريم والإجلال، والاعتداد بأقواله وآرائِه، مع الترحُّم عليه عند ذكره، ودِفاعي عنه عند من أَخطأَ في التعبير عن مقامه العلمي، وإيرادي لذكره في بعض كتبي على أَنه النموذج الذي جدَّدَ سِيرَة السلف الصالح بسيرته الفذَّة. وكلُّ هذا موجود في كتبي المطبوعة المنتشرة، بين أَيدي القراءِ في داخل المملكة وخارجها، قبلَ شَنّ أولئك الكائدين هذه الحملةَ المدخولة عليّ بسنوات.
وأَنا أحيل القارئ الكريم إِلى بعض كتبي، لينظر فيها ذكري لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بما ذكرتُه آنفًا، فلينظر القارئ تعليقي على كتاب (الأجوبة الفاضلة عن الأسئلة العشرة الكاملة) للشيخ محمد عبد الحي اللكنوي الهندي، وهو مطبوع بحلب من عشر سنوات سنة 1384، فلينظر منه الصفحات التالية، وفيها تعليقاتي واستشهاداتي بكلام شيخ الإسلام، مع الإجلال والتوقير والترحم عليه كما هو الشأن في الأدب مع كل عالم وإمام، وتلك الصفحات هي: 47، 92، 96، 97، 98، 100، 101، 102، 103، 109، 111، 113، 120.
ولينظر القارئ الكريم أيضًا تعليقاتي على كتاب (المنار المنيف في الصحيح والضعيف) للإمام ابن القيم تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله تعالى، وقد حقَّقتُه وخدمتُه وفَرَغْتُ منه في 12 من رجب سنة 1389، وتمَّ طبعه سنة 1390 في بيروت، وهو في أَيدي طلاب العلم في مكة والمدينة والرياض وغيرها من مدن المملكة يباع ويُوزَّع، فلينظر القارئ الكريم منه ما ذكرته عن شيخ الإسلام ابن تيمية في ترجمةِ مؤلفه الإمام ابن القيم، ولينظر منه أيضًا الصفحات التالية، ص 58، 59، 105، 124، 135.
ولينظر القارئ الكريم أيضًا تعليقاتي على كتاب (قواعد في علوم الحديث) للعلامة الشيخ ظَفَر أحمد التَّهَانَوِي، وهو مطبْوع في بيروت، وقد بُدئ بطبعه سنة 1390 وفُرغ منه أوائل سنة 1392، فلينظر القارئ فيه المواطن التالية ص 100، 101، 103، 106، 108، 113، 141، 168، 223، 354، 440، 441.
وأَكتفي بهذه الإحالات إِلى مواطِن ذكرِ شيخ الإسلام ابن تيمية مُبَجَّلًا معظمًا مقتدًى به، في الكتب الثلاثة السابقة الذكر من كتبي الكثيرة دفعًا للإطالة.
نص من تعليقات الشيخ وثباته على ابن تيمية:
وقد ذكر الشيخ هنا نصين من انتصاره لابن تيمية ودفاعًا عنه، نكتفي هنا بذكر ثانيهما. قال رحمه الله:
النص الثاني من تعليقاتي وثنائي على شيخ الإسلام ابن تيمية، أَنقلُه من كتابي المطبوع المتداول أيضًا من سنوات عديدة، وهو (رسالة المسترشدين) للمحاسبي في طبعته الثانية سنة 1391 في بيروت، فقد قال المحاسبي في رسالته المذكورة في ص 102-103، وهو يتحدث عن صفات المؤمن العالم العاقل المخلِص، المختشي من الله تعالى، الصادقِ مع الله تعالى في السَّلَف المتقين، ما يلي:
(وعلامة ذَلِكَ فِي الصادق: إِذَا نَظَر اعتَبَر، وإِذَا صَمَتَ تَفَكَّر، وإِذَا تَكلم ذَكَر، وإِذَا مُنِع صَبَر، وإِذَا أُعطِيَ شَكَر، وإِذَا ابتُلِيَ استَرْجَع، وإِذَا جُهِلَ عَلَيْهِ حلُم، وإِذَا عَلِم تواضع، وإِذَا علَّم رَفَق، وإِذَا سُئِل بَذَل، شِفاءٌ للقاصد، وعَوْنٌ للمسترشِد، حليفُ صِدق، وكهفُ بِرٍّ، قريبُ الرِّضَا فِي حق نَفْسه، بعيد الهمة فِي حق الله تعالى.
نيتُه أفضلُ من عمله، وعمَلُه أبلغُ من قوله، موطِنُه الحق، ومَعقِلُه الحياء، ومعلومُه الورع، وشاهِدُه الثِّقَة، لَهُ بصائرُ من النور يُبصِرُ بِهَا، وحقائقُ من العلم يَنْطِق منها، ودلائل من اليقين يُعبِّر عنها). انتهى كلام الحارث المحاسبي في (رسالة المسترشدين). وقد علَّقتُ عليها ما يلي بالحرف:
((ما أجملَ هذه الصفات وأَجلَّها؟ وما أعظمها مجتمعةً متحققة في العبد المسلم؟ وقد كان في سلفنا الصالح من هذا النوع النفيس أَعدادٌ لا تُحصى.
ورحم الله تعالى شيخَ الإسلام ابنَ تيمية، إذ جَدَّد بعظيم سيرته تاريخ الأَسلاف في هذه الصفات، فإنه لما نَزَلَتْ به المِحنة، وحُبِس في قلعة دمشق، وقُطِع عن الناس، وسُجن معه تلميذه ابن القيم منفردًا عنه حتى مات الشيخ في السجن: كانت حالُه في ارتياح وسُرور، ورضًا غامر، وكان كما قال المؤلف رحمه الله تعالى: ((... له بصائر من النور يُبْصِرُ بها، وحقائقُ من العلم يَنْطِق منها، ودلائلُ من اليقين يُعبِّر عنها))، فكان السجن له خلوة، وكان يشكر الله على ذلك شكرًا عظيمًا...
يصف ابنُ القيم في كتابه (الوابل الصيب) ص 66-67 حالَ الشيخ وحالَ نفسه آنذاك فيقول: ((قال لي مرة: ما يَصنَعُ أعدائي بي؟ أَنا جَنَّتي وبُستاني في صدري– يعني بذلك إيمانَه وعِلمَه-، أين رُحتُ فهي معي لا تفارقني. إنَّ حَبْسي خلوة، وقَتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سِياحة. وكان يقول في مَحْبِسه في القلعة: لو بَذَلْتُ مِلءَ هذه القلعة ذهبًا ما عَدَل عندي شُكرَ هذه النعمة، أَو قال: ما جزيتُهم على ما تَسبَّبوا لي فيه من الخير.
وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أَعِنِّي على ذكرك وشكرك وحُسنِ عبادتك ما شاء الله– أي كثيرًا جدًا-.
وقال لي مرة: المحبوسُ من حُبِس قلبُه عن ربه تعالى، والمأسورُ من أَسَرَه هواه. ولما دخل القلعة وصار من داخل سُورها، نَظَر إليه فقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13].
وعَلِم الله: ما رأيتُ أحدًا أطيبَ عيشًا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخِلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدهما، ومع ما كان فيه من الحَبْس والتهديد والإرْجَاف، وهو مع ذلك من أَطيب الناس عيشًا، وأَشرحهم صدرًا، وأَقواهم قلبًا، وأَسَرِّهم نفسًا، تلوحُ نَضرةُ النعيم على وجهه.
وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءَت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض، أَتيناه، فما هو إلا أَن نراه ونَسمَع كلامه، فَيَذهَب عنا ذلك كُلُّه، وينقلبَ انشراحًا وقوةً ويقينًا وطمأنينة، وكان يقول: إِنَّ في الدنيا جنة من لم يَدخلها لا يَدخل جنة الآخرة.
فسبحان من أَشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح له أَبوابها في دار العمل، فأَتاهم من رَوْحِها ونسيمها وطيبها ما استَفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها). انتهى النص الثاني الذي أَشرت إليه وعلقته على (رسالة المسترشدين) للمحاسبي المطبوعة من أَربع سنوات، وقد سُقْت هذا النص لبيان صفات السلف التي تحدث عنها المحاسبي، وجدَّدها شيخ الإسلام ابن تيمية في سيرته رحمه الله تعالى. فأَين دعوى أولئك الكائدين أني أكفِّره؟ حاشاه من هذا ورحمه الله تعالى، ورزقنا التأسِّيَ به فيما يُلِمُّ من مِحَن وابتلاءٍ واعتداء وافتراء.
الإمام ابن القيم:
وأَما الشيخ ابن القيم رحمه الله تعالى، فهو إمام من أَجلَّةِ أَئمة المسلمين، ودعوى أُولئك الحانقين أَني كفَّرتُه، يَرُدُّها عليهم أَسوأَ ردٍّ: نُقُولي الكثيرةُ عنه في تعليقاتي وكتبي، وقيامي بخدمة كتابه (المنار المنيف في الصحيح والضعيف)، وإبرازُه بالمظهر اللائق به، وترجمتي له الترجمة الكريمة الطافحة بالإجلال والتقدير والمحبة والاحترام.
وسأشير إلى مواطِن تلك التعليقات التي نقلتُها عن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في بعض كتبي، بعد أَن أَنقل هنا نصَّ الترجمة التي كتبتُها وقدمت بها لكتابه (المنار المنيف)، وهو مطبوع في بيروت سنة 1390، فقد قلت في ص 7، 8، 9، ما يلي بالحرف الواحد:
أقوال أبي غدة في ابن القيم:
(ترجمةُ المؤلف: هو الإمام المحقِّق البارع الفَذُّ المُتْقِن المتفنِّن، ذو الذهن الوقاد، والقريحة السيالة، والقلم العذب البليغ المِطواع، والبيانِ المشرق الحيِّ الأخَّاذ، والروحانيةِ الفياضة؛ الشيخُ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي، المشهور بابن قيم الجوزية، الدمشقي الحنبلي رحمه الله تعالى ورضي عنه. واشتهر بابن قيم الجوزية، لِمَا أنَّ والده– وهو عالم مشهور بعلم الفرائض– كان قَيِّمًا للمدرسة الجَوْزية الكائنة اليوم في سُوق البُزُورية بدمشق، فعُرف الشيخ (بابن قيم الجوزية).
وترجمة هذا الإمام باستيفاءٍ تَخرج في مجلَّد كبير، وهو جدير أَن تُخرَج عنه دراسة شاملة: في حياته وإمامته وآرائه وفتاواه وانفراداته وتلامذته ومؤلفاته، وأَثره الفكري الحيِّ في صفوف أَهل العلم من زمنه إلى يومنا هذا، فلقد كان أَبو عبد الله مقتدًى به على الأجيال المتعاقبة، وقَبَسًا من نور شيخه الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله تعالى.
وأنا سأجتزئ بسطور من ترجمته، بقدر ما يتسع المقام فأقول: وُلِد هذا الإمامُ سنة 691هـ في قرية زُرَع، من قرى حَوْران قرب دمشق، وتلقَّى العلمَ عن مشايخ تلك الديار في عصره، فسَمِع الحديث من الشهاب النابلسي العابر، والقاضي تقي الدين بن سليمان، وعيسى المُطعِم، وأَبي بكر بن عبد الدائم، وإسماعيل بن مكتوم، وفاطمة بنت جوهر، وغيرهم. وقرأ العربية على أبي الفتح والمجد التونسي، وقرأَ الفقه على المجد الحَرَّاني، وأَخذ الأُصول عن الصفيِّ الهندي، وأَخذ علم الفرائض عن أَبيه وكانت له يَدٌ باسطةٌ في هذا العلم.
وقرأَ على الشيخ تقي الدين بن تيمية شيخِ الإسلام، ولازَمَه ستَّ عشرةَ سنة، منذ عاد الشيخ من مصر سنة 712هـ إلى وفاته سنة 728هـ، وكان الشيخ ابن القيم إذ ذاك في ريعان شبابه، وذِروة قوَّته ونشاطِهِ، واكتمالِ مَداركه، فقد كانت سِنُّهُ حينَ عودة الشيخ إلى الديار الشامية 21 سنة، مع الاستعداد الفِطري العلمي الكامِل الذي مَنَحَهُ الله إياه، والحافظةِ القوية العجيبة، والقُدرْةِ الباهرة على هَضْمِ المشكلات العلمية وتذليلها، وتحرير مواضعِ النزاع منها، وحُسْنِ الفَصل فيها.
ولا ريب أَنه ازداد من ذلك وتَقوَّى فيه من ملازمته للشيخ ملازمةَ الظل الشاخص 16 سنة، يَنْهَلُ ويَعُلُّ من غزير علومه، ويتضلَّع ويَتروَّى من عظيم مَداركه وفهومه، حتى صار لسانَ حاله، والمعروفَ بالتلمذة عليه من بين العديد الكثير من سائر تلامذته، وهو الذي هذَّب كتبه، ونَشَر علمه. ولمَّا حُبِسَ الشيخ في المرة الأخيرة في قلعة دمشق، حُبِس معه، منفردًا عنه، ولقي من الشدائد والمِحَن الشيء الكثير، ولم يُفرَج عنه إلا بعد وفاة شيخه رحمهما الله تعالى.
وقد تلقَّى العلمَ عن ابن القيم ناسٌ كثيرون في حياة شيخه، وإلى أَن مات، وانتفعوا به، وغَدَا من شيوخ مِصْرِه وعَصْرِه، وممن تلقَّى عنه الحافظُ ابنُ رجب الحنبلي، وقد ترجم له في كتابه (ذيل طبقات الحنابلة) ترجمة واسعة كريمة 2/447-452، وحكى من فنون فضائله وعظيم إمامته وكثير عبادته: الشيءَ الكثير، وعدَّد من مؤلَّفاته قرابة خمسين مؤلَّفًا– بل قد قاربت مؤلفاته المائةَ في التفسير والحديث، والفقه والأصول، والعقائد والديانات، والطب والنحو والعربية والأدب والتصوف، والأخلاق والقضاءِ والفروسية وغيرها من العلوم والفنون.
وقد طُبع كثير من مؤلَّفاته، وكلُّها شاهدُ صدق بِسعة باعه، وعظيمِ اطلاعه، ورسوخِ إمامته في العلوم التي أَلَّف فيها، وما تَرَى له كتابًا في علم، إلا وتجد له فيه مزيَّةً بارزة على من ألَّف في ذلك العلم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء).
هذا ما ترجمت به للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، في أَول كتابه (المنار المنيف) على سبيل الاختصار، وهذا الكتاب قد فرغتُ من خدمته وتحقيقه في يوم الأحد 12 من رجب سنة 1389هـ بالرياض، كما هو مطبوع في آخر مقدمتي له في ص18، وهو مطبوع في بيروت سنة 1390هـ كما أسلفت.
فأَين دعوى أُولئك أَني كفَّرته- رحمه الله تعالى-؟ وكيف يُجمع بين التكفير لمثل هذا الإمام والترحُّم عليه والترضِّي عنه، وذكر مَحاسنه ومزاياه واحترامه وإجلالِه؟! وحُقَّ لكل قارئ بصير عندما يقرأُ افتراءَهم بأَني كفَّرتُه أَن يقول: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}.
وهذا الكلام الذي سُقته الآن في ترجمة الشيخ الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، صَدَر مني قبل نحو ست سنوات كما يدل على ذلك تاريخ الفراغ للمقدمة كما سلف ذكره آنفًا، ولم أُنشئه الآن حديثًا ليمكن أَن يقال من قِبَلهم أو قِبَل غيرهم: إني قلتُه تصنُّعًا أو تكلُّفًا، فهذا تاريخُ كتابته وطبِعه ينطق عليهم بالحق.
بقي عليَّ بعد هذا أَن أُشير إلى مواطن نُقُولي الكثيرة عن الشيخ ابن القيم في كتبي التي خدمتها وحققتها أو أَلَّفتها، ونظرًا لطول ذلك وكثرته، فإني أَرى أَن أقتصر على الإشارة إلى ذلك في ثلاثة كتب من كتبي:
أحدها: (رسالة المسترشدين) للمحاسبي، فأَرجو القارئ الكريم أَن ينظر تعليقاتي الطويلة العديدة على هذا الكتاب في طبعتِهِ الأُولى بحلب سنة 1384، أَو طبعتِهِ الثانية في بيروت سنة 1391، ليشهد منها منزلة الإمام ابن القيم في نفس كاتب هذه (الكلمات)، وأَكتفي بالإحالة هنا إلى الطبعة الثانية لوجودها وشيوعها في المملكة، فلينظر القارئ منها المواطن التالية ص45، 46، 50، 52، 53، 62، 64، 65، 81، 82، 101، 103، 111، 128، 129، 136، 139، 155، 158، 181.
وأَذكر من تعليقاتي ونُقُولي عن الشيخ ابن القيم في (رسالة المسترشدين) نموذجين اثنين، فقد قلت في تعليقي عليها من عشر سنوات، في ص46 من الطبعة الثانية ما يلي بالحرف الواحد:
(وللشيخ الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى كلامٌ في الخَطْرة والفِكرة وما إِليهما، في غاية الدقة والنفاسة، وما أَصدقه وما أَحقَّه! كأَنه خَرج من مِشكاة النُّبوَّة، وأَنا ناقله لك– على طوله– راجيًا منك أن تتدبَّره، ففيه الخيرُ لك في دينك ودنياك، قال رحمه الله تعالى في كتابه (الفوائد) ص31 و173-174 (دافِع الخَطْرة، فإن لم تفعل صارت شهوة...). إلى آخر ما نقلته هناك نحو صفحتين.
وقلتُ في تعليقي عليها أيضًا من عشر سنوات، في ص52 من الطبعة الثانية: (قال الشيخ ابن القيم رحمه الله تعالى في (الفوائد) ص32: ((من خلقه الله للجنة، لم تَزل هداياها تأتيه من المكاره، ومن خلقه الله للنار، لم تزل هداياها تأتيه من الشهوات). ثم نقلتُ عن كتابه (إعلام الموقعين) أكثر من صفحتين. وهكذا سائر تعليقاتي عنه رحمه الله تعالى)( ).
مكتب الشيخ في بيروت هو مكتبة الشيخ زهير الشاويش!
كان الشيخ أبو غدة في السنوات التي لا يستطيع فيها العودة إلى سورية وإلى حلب، يذهب إلى بيروت، كما كنا كلنا نذهب إليها، وخصوصًا إخواننا السوريين، الذين حُرِّمَت عليهم العودة إلى أوطانهم، ما دام ذلك الحكم النصيري البعثي، (الأسد وأولاده وعصابته البعثية).
كان الشيخ الزرقا والأساتذة علي الطنطاوي والمبارك والأميري، يذهبون كلهم إلى بيروت، حتى من سكن في سوق الغرب أو بحمدون أو حمانا وقرنايل، حتى من ذهب إلى طرابلس وما حولها، وكان كثيرٌ من هؤلاء يلتقون في مكتب الشيخ زهير الشاويش، صاحب المكتب الإسلامي، الذي كان أولًا في سورية، ثم لما تغيرت سورية من الداخل، وأصبح كل من فيها مضيَّقًا عليهم، رحل أخونا زهير رحمه الله إلى بيروت، واختار منزله وحديقته ومكتبه في حي الحازمية، وكان يأوي إليه كل إخواننا المغضوب عليهم من النظام السوري أو من النظام المصري، وخصوصا الذين يعملون مع الكتب التي يحتاج إليها من يعمل في التأليف أو الشرح أو التحقيق، مثل الشيخ عبد الفتاح والشيخ الألباني ومثلي، وكانت مكتبة الشيخ الشاويش تضم كل الذين لا يشبعون من الكتب، مهما توسعوا فيها، ولهذا كثيرا ما اجتمعنا في مكتب الشيخ زهير، أو قل: في منزله، فمكتبه ما هو إلا جزء من منزله الكبير والجميل الواقع على الشارع الذي يوصل الراكب إلى سوق الغرب وإلى عالية وبحمدون.
لقاء الشيخين الألباني وأبي غدة في منزل الشاويش:
وقد راجعت ما كتبت في مذكراتي عن الشيخين: الألباني وأبي غدة، فوجدت هذه النواة:
(مما أذكره من أيام بيروت: أني لقيتُ فيها الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، المحدث الشهير للمرة الثانية. فقد كنتُ لقِيتُه أولَ مرة في المدينة المنورة، في حجتي الثانية في صيف سنة 1964م، وتناقشنا في قضية التصوير الفوتوغرافي، حيث أخذ عليَّ أني أبيحه، كما أباحه العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي، مفتي الديار المصرية في عصره، وغيره من العلماء، والشيخ الألباني يحرمه تحريمًا قاطعًا، وقد ذكرت له الأحاديث الصحيحة التي استثنت من الصور "ما كان رقمًا في ثوب"( ). وبيان العلة في التصوير: أنه "مضاهاة خلق الله"( ). وهذا التصوير لا يضاهي خلق الله، بل هو خلق الله نفسه، انعكس على الورق، كما تنعكس الصورة في المرآة، ولا غرو أن يسميه أهل الخليج (عكسًا)، ويسمون المصوِّر (العكَّاس)، والصور (العُكُوس).
ولكن الشيخ أصرَّ على رأيه، ولم يتزحزح قِيدَ شعرة.
واليوم ألقى الشيخ مرة أخرى، أظن ذلك كان سنة 1969م، وكان ذلك في منزل صديقنا وصديقه الشيخ زهير الشاويش، المحقق المعروف، وصاحب المكتب الإسلامي في دمشق وبيروت. وأظنه كان قد انتهى من تخريج أحاديث كتابي (الحلال والحرام في الإسلام) و(مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام). وقد حييتُه على جهوده في خدمة السُّنَّة، ولا سيما في مجال التخريج والتصحيح والتضعيف، وتحقيق المصادر، ثم شكرته على عنايته بتخريج أحاديث كتبي. وقلت له: إنني ممن يدعون إلى ضرورة إيجاد قنطرة بين أهل الفقه وأهل الحديث، ليكونا معًا في خدمة العلم ونصرة الشريعة بالحق، وقد كان بعض السلف يقولون: لو كان الأمر بأيدينا لضربنا بالجريد كل فقيه لا يشتغل بالحديث، وكل محدِّث لا يشتغل بالفقه.
وكان من تفضُّله ولطفه: أن رحب بالتعاون بينه وبيني، باعتباره محدِّثًا مشهورًا، وباعتباري من المشتغلين بالفقه، ومن الدارسين للحديث.
كما تعرفت في منزل الشيخ الشاويش على علَّامة حلب الشيخ عبد الفتاح أبي غدة، الذي سمعت عنه قبل أن أراه، بوصفه من العلماء المضلعين في الفقه والحديث واللغة، وغير ذلك من علوم الشرع واللغة.
ولكل من الشيخين مشربٌ يخالف مشربَ الآخر، فالألبانيُّ سلفيٌّ قُحٌّ متعصِّب لسلفيَّته، لا يجيز التأويل في العقيدة، ولا التمذهب في الفقه، إلى غير ذلك مما يتميز به الاتجاه السلفي، الذي يطلق عليه بعض الناس (الوهَّابي) نسبة إلى مجدد التوحيد في الجزيرة العربية الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
وأبو غدة حنفيٌّ معروف بانتسابه إلى مذهب أبي حنيفة، أشعريٌّ معروف بانتمائه إلى مذهب أبي الحسن الأشعري، معتزٌّ بتتلمذه على علامة الأتراك الشيخ محمد زاهد الكوثري، وكيل مشيخة الإسلام في تركيَّة في عصر الخلافة، قبل أن يلغيها أتاتورك.
وقد قال لي الأخ الشيخ زهير الشاويش: إن أبا غدة أعلم تلاميذ الكوثري، وأرسخهم قدمًا.
ومن المعروف: أن الكوثريَّ عدوُّ السلفية، وعدوُّ ابنِ تيمية، وله كلامٌ شديد في ابن تيمية، تجاوز فيه الحد، ولا يوافقه عليه منصِف.
اجتمع الشيخان في منزل الشيخ زهير بمنطقة الحازمية في لبنان، أو قل: في مكتبته العامرة. وبدأ بينهما نقاشٌ خفيف حول مسألة حديثية، لكنه يُخفي وراءه مخزونًا من المرارة والحِدَّة، لم تظهر في ذلك الوقت، لكنها ظهرت واشتدت واحتدت وتطورت بعد ذلك.
كان البادئ هو الشيخ أبا غدة، إذ قال للشيخ الألباني: نرى في كتب فضيلتك بعضَ أشياء لا نعرف وجهها؟
قال الألباني: مثل ماذا؟
قال أبو غدة: مثل تعقيبك على حديث رواه البخاري بقولك: صحيح، أولَا يكفي أن يكون رواه البخاري في صحيحه الذي تلقته الأمة بالقبول، حتى تعقِّب عليه بالتصحيح؟
وهنا تدخلت أنا محاولًا أن ألتمس وجها لتصحيح الشيخ، وقلت: لعله يريد بقوله: صحيح: أن الحديث ليس من الأحاديث التي انتُقِدت على البخاري!
وهنا قال الألباني: لا، ليس هذا ما أقصده. بل هذا منهج لي، التزمته، ومضيتُ عليه: أن أعقِّبَ على كل حديث بالتصحيح أو التحسين أو التضعيف.
قال أبو غدة: تعقِّب على البخاري؟ أصح كتاب بعد كتاب الله؟ ألا تخشى أن يفهم القارئ من ذلك: أن جامع البخاري فيه الصحيح والضعيف، ولا بد من التمييز بينهما، كما في سائر الكتب التي جمعت بين الصحيح والضعيف؟
إلى هنا توقفت المناقشة على ما أذكر، ولكنها احتدمت، بل اشتعلت بعد ذلك في تقريرٍ كَتَبَه الشيخ أبو غدة على تخريج الألباني لشرح عقيدة الطحاوي، ورُفِعَ إلى جامعة الإمام محمد بن سعود.
ثم في رد الشيخ الألباني الشديد على هذا التقرير.
ثم في رد الشيخ أبي غدة على الرد.
ثم في التعليق على هذه المعركة من الشيخ الشاويش بـ(كلمات) من عنده، وقد كان هواه مع الألباني، باعتبارهما من مشرب واحد، ولا سيما قبل أن يختلفا، ويشتد بينهما الخلاف في أمور غير فكرية ولا علمية.
لقد كانت معركة بين أهل العلم بعضهم وبعض، لا لزوم لها، أثارت غُبارًا ودُخانًا زكم أنوفَ الفريقَيْن، وأصاب كلًّا منهما بأضرار وآثار، كان بالإمكان تفاديها، لو كان حسن الظن، والتسامح، والجدال بالتي هي أحسن: شعار الفريقين.
وإذا كان الله تعالى قد نهانا أن لا نجادل أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، وهم لا يؤمنون بديننا ولا بكتابنا، ولا بنبينا، فكيف بجدالنا مع أهل الإسلام، وكيف إذا كانوا من أهل العلم وحملة كتاب الله، وخدام سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!!
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]).
أثر زيارته لمركز بحوث السنة والسيرة:
وقد وجهت إلى الشيخ أبي غدة الدعوة بوصفي مديرًا لمركز بحوث السنة والسيرة، لنسعد به بيننا فصلًا أو أكثر، فرحب الشيخ، ففرحنا به، كما يفرح المؤمن بلقاء أخيه المؤمن.
وقد كان لوجود الشيخ أثر في أبنائنا وبناتنا الموظفين والموظفات في المركز، فقد أعطاهم دروسًا منهجية في الحديث وعلومه، ولا سيما في تخريج الحديث، وفي اللغة والنحو، وقد أحبَّه طلابه، وانتفعوا بعلمه الغزير، وبتجربته الثرية، وبأدبه الرفيع، ولا سيما أننا لم نُوَفَّق في توظيف أساتذة للمركز، كما طلبنا وتمنَّينا، ووقف الروتين عائقًا دون ذلك، وظلَّ أخونا العالم الأزهري الجليل الشيخ الدكتور موسى شاهين لاشين، هو الأستاذ والخبير الوحيد في المركز، لم يهيئ لنا الروتين الإداري الصارم أن نُعزِّزه بثان، فضلًا عن ثالث ورابع، ولم يستطع وحده أن يفعل شيئًا ذا بال، ومن هنا انتدب لتدريس الحديث في كلية الشريعة.
استجازتي من الشيخ عبد الفتاح أبي غدة
وقد انتهزت وجود الشيخ أبو غدة في الدوحة، فطلبت منه أن يجيزني في علم الحديث، على طريقة أسلافنا في ذلك، وكنت قد أخذت إجازة قديمة من المحدِّث المغربي المعروف الشيخ أحمد بن الصدِّيق الغُماري، حين زار مصر أيام عبد الناصر حوالي سنة 1957م( ).
والحقيقة أني لم أُعْنَ من قبل بطلب الإجازات من العلماء، وإلا لكنت أخذتُ من عدد من المحدِّثين الكبار الذين لقيتهم، مثل الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا (الساعاتي)، والشيخ أحمد محمد شاكر، والشيخ حبيب الرحمن الأعظمي، وغيرهم.
ولكنِّي رأيت في إجازة الشيخ أبي غدة شرفًا وبركةً، لما أعتقده فيه من فضل وخير وصدق، وقد رفض أول الأمر، وقال: مثلُك يُجيز ولا يُجاز، أنا الذي أطلب منك..
وهذا من تواضعه رحمه الله، ولكني أصررت على طلبي، وقلت: أنا أتبرَّك وأتشرَّف بهذه الإجازة، فلا تحرمني منها، فكتب لي هذه الإجازة بخطه، تقبَّله الله في العلماء الربانيين الصادقين:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى تابعيهم بإحسان من العلماء العاملين، من الفقهاء والمحدثين، وسائر أهل العلم المتقين.
أما بعد، فيقول العبد الضعيف: عبد الفتاح بن محمد أبو غدة، الحلبي منشأً ودارًا، تاب الله عليه، وغفر له ولوالديه: قد طلب مني الإجازة في الحديث الشريف وعلومه أخي وصديقي العلامة الدرَّاكة الداعية الجليل، والمحدِّث الفقيه الحاذق النبيل، الأستاذ المفضال الشيخ جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن عبد الله القَرَضاوي، الغني عن التعريف، حفظه الله تعالى ورعاه، ونفع به العباد والبلاد وأولاه، وهو صاحب التصانيف المفيدة الرائقة، والآثار النافعة الفائقة، الشاعر المفكر الإسلامي، الموهوب المحبوب، وهو غني عما طلب، بما آتاه الله تعالى من العلوم الواسعة، والمواهب العالية الساطعة، فامتنعت أول الأمر من تلبيته، إجلالًا وتقديرًا لفضله ومنزلته، متى استقت البحار من الركايا؟ ولكنه أصر واستمر، فأجبته إلى طَلِبته، فأقول:
أجزت أخي العلامة الجليل الشيخ يوسف القرضاوي، بما أجازني به شيوخي الأجلة رحماتُ الله عليهم، في بلاد الشام ومصر والحرمين الشريفين والهند وباكستان والمغرب واليمن والعراق وغيرها من البلدان، ليكون ذلك اتصالًا منه بساداتنا المحدثين الكبار، وعلمائنا الأفاضل الأخيار، والإجازةُ لمستحقيها وأهليها سنة أولئك الأئمة الأبرار.
فأجيزه بما أجازوني به، وبكل ما صح لي وعنِّي روايته وكتابته، ليتصل سنده بسندهم، ويكون في سلك قافلتهم، وتنالني دعواته الصالحة، وأوصيه ونفسي– كما أوصاني به شيوخي وأساتذتي- بتقوى الله تعالى في السر والعلن، والتوقير لأهل العلم والدين، والسلف الصالحين، وأن يكون خير معلِّم لمن يتعلم من العلم والدين، رحمةً وشفقةً، وأمانة وورعًا، وإتقانًا في التوقيع عن رب العالمين، والله ولي المتقين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتبه الفقير إلى الله تعالى عبد الفتاح أبو غدة
في الدوحة من قطر يوم الثلاثاء 4 من ذي الحجة سنة 1413ه.
شخصية الشيخ العلامة المحدث عبد الفتاح أبو غدة في الشعر الإسلامي المعاصر .
إن شخصية الشيخ العلامة المحدث عبد الفتاح أبو غدة شخصية أثيرة محببة لدى الجميع لذا لقي نبأ وفاته صدى واسعاً من ردود الفعل، وقد رثاه عدد من أحبابه وطلابه بقصائد عذبة رائقة رقيقة حزينة، أورد بعضها هنا:
فضيلة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة:
وكتب الشيخ ضياء الدين الصابوني (شاعر طيبة) هذه القصيدة الشعرية التالية - مشاركةً منه في الاحتفاء بالدكتور أبي غدة في الاثنينية- التي كان يقيمها الشيخ عبد المقصود خوجة -رحمه الله- في داره، فقال:
إن أردت العلم فاقصد حلبا فالنجوم الزهر فاقوا الشهبا
إن شيخي طيب من طيب ينفحُ الطيِّب دوماً طيبا
هذا (أبو غدةٍ) في علمه علَم فإنَّه مَنْهَلٌ للظامئ السَّغب
هذا (أبو زاهدٍ) إن كنتَ تجهلُه فما أتى مثلُه في سالف الحِقَب
مَنْ مثلُ (شيخي) في فهمٍ ومعرفةٍ مَنْ مثلُه في فنونِ العلمِ والأدب؟
فيا رعى اللهُ أيَّاماً بصحبتِه مـرتْ بنـا كوميضِ البرقِ فـي السحب!
عرفتُه فعرفتُ الفضلَ شيمتَه علاَّمةُ (الشـام) شيـخُ العلـمِ والكتـب
(أبو حنيفةَ) في رأي وفي جدلٍ يسمو بهمتِه لأرفع الرُّتَب
يأتيكَ بالرأي جَزْلاً دونما حصَر ورأيه الصدق ما في ذاكَ من رِيَب
تسمو البلادُ بأبناءٍ جَهَابِذَةٍ وإنما العلمُ والآدابُ في (حلب)
مدينةُ العلم كمْ باهى الزمانُ بها مدينة الشعر والفرسان والطرب!
فأين مني (سيف الدين) قائدُها مَنْ قاومَ الرومَ لم يَضْرَب ولم يُعَب
(ستين) معركةً قدْ خاضها وقضى على القياصر أهلِ الجوْر والصُّلُب
هذا (عليٌّ) وما أحلى مجالسَه! وتلكَ دولتُه تزهو على الشُّهب
وذاكَ (أحمدُ) رَبُّ الشعر، نافَسَهُ (أبو فراس) أميرُ الشعر والحرَب
يشدو فمُ الدهر ألحاناً موقّعةً (ملاحماً) خطَّها في الساحِ لا الكتب
كَمْ أنجبتْ مـن رجـالٍ كالنجـوم عُـلا وكم سَمتْ برجالٍ قادة نُجُبْ!
قومٌ إذا غَضِبُوا ضجَّتْ لغضبتهم جحافلُ الكفـرِ بيـن القَصْـفِ واللَّهـب
شُمُّ العرانين، أبطالٌ جحاجحة بيضُ الوجـوه كِـرامُ الأصـل والنَّسـب
وتلك (قَلْعتُها) الشَّماءُ ناطقةٌ شابَ الزمانُ فلـم تَضْعُـفْ ولـم تَشِـب
يفنى الزمانُ ولا تفنى مآثرُها وليس في أرضِها رِجْلٌ لمغتَصِب
يا أيها (المحتفِي) بالشيخ تكرمةً هذا الفخارُ، وهذا غايةُ الأرب
كرمتمُ العلمَ والإخلاصَ في رجل سما بهمته العلياء للشُهُب
العالِمُ العاملُ المحمود سيرتُهُ ربُّ البيانِ، إمامُ الفقهِ والأدب
يجزيكَ ربُّك في تكريم (عالِمنا) فأنتَ للعلما كالوالِد الحدِب
كرمتَ كلَّ أبيٍّ مخلص عَلَمٍ مثل (الدواليبي) و(الزرقـا) ذوي النسـب
ثلاثةٌ في سَما (الشهباء) لامعةٌ مثلَ النجوم تراءتْ دونما حُجُب
قد طاولوا النجمَ لم تَفْتُر عزائمهم وزاحموا الناسَ في التحصيلِ بالرُّكب
فإن طلبتَ من العلياء منزلةً فالمجدُ بالعلمِ، ليس المجدُ بالنشب
العلمُ نورٌ وكمْ من أمةٍ نهضتْ بعالِم فسمتْ فيه إلى الشُّهُب
إذا رأيتَ عناءاً في مسالِكِه فسوف تجنِي ثمارَ الجُهْدِ والنَّصَب
الله يَشْهَدُ أني لا أجامِلُه هي الحقيقةُ، ما في ذاكَ من رِيَب
يقضي الليالي في بحثٍ وفي طلب محافظاً وقته يأتيكَ بالعجب
الوقتُ أَنفَسُ شيءٍ أنت ذاخِرُه أغلـى مـن الذهـب الإبريز والنَّشَـب
أجهدتَ نفسَك في العلياء تخطبها كالشمس ساطعةً في برجها الذهبي
مَحَبَّةٌ (لرسولِ الله) صادقةٌ إن المحبَّ لخيرِ الخلْقِ لم يَخِب
قد قال (شاعرُنا) ويا لحكمَتِه بنتُ التجارب والتفكير والدأَبِ
(بَصُرت بالراحةِ الكبرى فلم ترها تُنالُ إلاَّ على جِسْرٍ من التعب)
والله أسألُ عزَّ المسلمينَ به فإنَّه أملُ الإِسلام والعَرب
صلى الإلهُ على الهادي وعترتِه ما غَنَّتِ الـوُرقُ في رَوْضٍ علـى عَذَب
من سلسة في سجل الخالدين:
وكتب الشاعر (شريف قاسم) قصيدة يرثي فيها فضيلة الشيخ المجاهد الفقيه المحقق عبد الفتاح أبو غده يرحمه الله يقول فيها:
هــــو شــجــوُ الـقـلـوبِ يـا شـهـباءُ...فــــاضَ دمــعًــا فـعـيـنُـنا ســحَّــاءُ
وبــصــدري مــــن الــرزيَّــةِ جــمـرٌ ...أوقـــدَتْـــهُ بــبــوحِـهـا الـــورقــاءُ
ووجــــومٌ ألــقـتْ عـلـيـه الـمـنـايا ... ثـكـلَ قــومٍ فــي حـيـن عـزَّ الـلقاءُ
كــانَ يــومُ الـفـراقِ مـوقفَ صِـدقٍ ... لـــيــس فـــيــه لِــمُـوجَـعٍ إخــفــاءُ
يـا دلـيلَ الأخـيارِ إذ دلـهمَ الـخطبُ... وهــاجــــتْ بـــريــحِــهــا الأرزاءُ
لــم تـجـدْ ثـلـمةً وتـسـمو سـجاياك ... سُــــمُــــوًّا عــيــونُــهـا الأعـداءُ
طـبْـتَ حـيًّـا وطـبْتَ مـيتًا ومَـدَّتْ... لــــكَ رضــوانَـهـا الــعـلـى الــغــرَّاءُ
يـاأميرَ الأفـذاذِ فـي مـوكبِ الـحقِّ ... وتــنــأى عــــن فــضـلِـك الأهـــواءُ
عـشـتَ صـنـوَ الـتُّـقى وربُّـك أدرى ...أيــــن مــنـك الـمـديـحُ والإطـــراءُ
ورضـــا اللهِ وحـــده هـو مـنـحى ... مـــا تـمـنَّتْ فــي عـيـشِها الأتـقـياءُ
أَوَتَـــنْــأى وفــــي الــجـوانـحِ روحٌ ...سـابَـقَـتْـهـا الــمـسـيـرةُ الـحـسـنـاءُ
أيُّــهـا الـعـالِـمُ الـجـلـيلُ اسـتـنارتْ... بــفــيـوضـاتِ عــلــمِــكَ الــعـلـمـاءُ
عـشْـتَـهـا ربَّــانــيَّ قــلــبٍ مَــداهـا...فـي جــهــادٍ وســيــرةٍ لا تُــســاءُ
* * * ... * *
أيُّــهــا الــراحـلُ الـحـبـيبُ وداعًـــا... لكَ مـــنَّــا وفـــاؤُنــا والــدعــاءُ
فـعـلى الــدربِ لـمحُ هِـمَّتِكَ الـيومَ ... سـيـبـقـى عــلى ســنــاهُ الــعَــزاءُ
ويـمـوتُ الأحـيـاءُ مـن غـير مـوتٍ... إنـمــا الــعـيـشُ أهــلُــه الـفـقـهـاءُ
لــحـيـاةِ الــشـعـوبِ أنــتــم مــنــارٌ ... وبــأيــديــكُـمُ يــرفُ الــــلواءُ
ذهــبــوا ويــحـنـا لـمـنـزلِ صـــدقٍ ...عـــنـــدِ ربٍّ ســكــانُــه الأنــبــيــاءُ
حـــســنُ الــبــنـا سِــفــرُه بـيـديـنـا... والـسِّـبـاعي والـصَّـفـوةُ الـشـهـداءُ
وأبــــو الأعــلـى والـفـرائـدُ تُـنْـمَـى...لـعـلاهُـم، ولــيـس تـخـفـى ذُكــاءُ
جلَّ ربِّي ، وكيف تُحصى المجراتُ...وهــــاهـم أقــمــارُهــا والــبــهــاءُ
ورثـــوا الـعـلـمَ عــن نَـبِـيٍّ حـبـيبٍ ... فـــبـــآفــاقِ زهــــوِهـــا الـــلألاءُ
عــلــمــاءٌ وفــضــلُـهُـم يــتـسـامـى ... لـيـت شـعري ولـيس يـوفي الـثَّناءُ
بـذلـوا الـعـمرَ دونَ أغـلـى الـمثاني ...والأحـــاديـــثِ إنَّـــهـــم أوفـــيــاءُ
لـم يـبالوا بـسطوةِ الـظلمِ ، والـكفرُ ... فَـــحَـــدِّثْ عــجــاجــةٌ هـــوجـــاءُ
قـــامَ فـــي وجــهِـه الـفـقـيدُ أبـيًّـا ...والــشـيـوخُ الأفــاضــلُ الأولــيــاءُ
جــــدَّدوا دعــــوةَ الــنـبـيِّ بـعـصـرٍ ...إذ عــلــيــهـا تــكــالــبَ الأعـــداءُ
إنَّ مَــن لــم يـجـاهدِ الـكـفرَ أو لــم...يــدفــعِ الـظـلـمَ مـا بـكـتْهُ الـسـمـاءُ
فــســنــامُ الإســلامِ ما كــان إلا ... فــــي جــهــادٍ، وأهــلُـه الـسُّـعـداءُ
لـــم يـهـابـوا بـــه مـقـارعةَ الـظـلمِ ... فــصــالوا، ولــلــجـهـادِ مـضــاءُ
بَـسَـمُـوا والـنُّـطـوعُ تـجـري دمــاء ...إنــــه الــفـخـرُ بــالـفـدا و الــولاءُ
مـاتـنـاسى الـتـاريخُ سـيِّـدَ قـطـبٍ ...أو تــنـاسـتْ فـرسـانَـهـا الـهـيـجـاءُ
حـيثُ شـاءَ الـطاغوتُ مـا شاءَ لكنْ لـيـس لـلـكفرِ فــي الـهدى مـا يشاءُ
* * * ... * *
أَوَ تُـجـدي الـشـآمُ واحـسرةَ الـقلبِ ...الــشَّـكـاوى والأدمعُ الــخـرسـاءُ
قــد تـلـوَّتْ عـلـى الـمصابِ تـعاني...وتــبــاكــتْ أحــداقُــهــا الــدكــنـاءُ
جــمـرُ آهٍ وزفـــرةٌ فـــي الـمـغاني... والــــرَّزِيَّـــةُ الــثـقـيـلـةُ الـــرَّبـــداءُ
فــرشَـتْ أربُـــعَ الــعـزاءِ وأخوت ... تــخــنـقُ الـزَّهــوَ فــوقَـهـا الأرزاءُ
مــاتَ ! مَــن مــاتَ ؟ عـالِمٌ تـتجلَّى... فـي مُــحَــيَّـاهُ هـــالــةٌ زهـــــراءُ
هـــو عـبـدُالـفتاحِ قــطـبُ رحــاهـا...ثــوبُـه الـطُّـهـرُ والــنَّـدى والـنَّـقـاءُ
يـــتــهــادى ولــلـجـبـيـنِ ضـــيـــاءٌ... زادُه الــعــلــمُ رفـــعــةً و الإبـاءُ
رَجُــــلُ الـعـلـمِ والـجـهـادِ فَـدَعْـهـا ... تـتـحـدَّثْ عـن فـضـلِـه الأصداءُ
طـافَ فـي الأرضِ داعيًا فاشرأبَّتْ...لــــنـــداءاتِ نهــجِــه الــعــقــلاءُ
يـحـمـلُ الآيَ بــيـنَ جـنـبيْهِ روحًــا... ولـه من نَــسْـجِ الـحـديـثِ رداءُ
عـاشَ جـذمورَ صحوةٍ هزَّتِ البغيَ... تَــــوَلَّـــتْـــهُ مـلَّــــةٌ جـــــوفــــاءُ
هـي نـورٌ يُـضيءُ في عتمةِ الكربِ... فَــيُـطْـوَى عـلى ســنــاهُ افــتـراءُ
وهـــو الـشـيـخُ مـاتـوانـى فـأبـلـى ...والــثـمـانـيـنُ عـزَّةٌ و ارتـــقـــاءُ
* * * ... * *
فــاضَ دمـعـي وكـيـفَ لـم تـتأججْ ... لـفـراقِ الأحبـــةِ الأحـنـــاءُ
كان فـيـنـا الـمـعـلمَ الـبَـلـجَ ردَّادًا ... ولم يُــلـوَ فـــي الـبـيـانِ الــنِّـداءُ
فَـقَـدَتْـهُ الـشـهباءُ وجـهًـا سـمـوحًا...وكـــمــيًّــا مــــاضـــرَّه الــسُّــفـهـاءُ
وبــكـتْـه الــبــلادُ شــرقًــا وغــربًــا ... وَنَـــعَـــتْــهُ للأمَّــــةِ الــعــلــيـاءُ
بـــردى والـفـراتُ مـاجـا وضـجَّـتْ...بــالـتـهـالـيـلِ جـــلَّـــقُ الــفــيـحـاءُ
وأكـــبَّــتْ يــــومَ الــــوداعِ عــلـيـه ... واسـتُـثـيـرَتْ لـشـجـوِها الـــلأواءُ
وبـــنــوهُ الأبــرارُ خــيــرُ رجــــالٍ ... ولـــهــم مـــــن أبــيــهـمُ ســيــمـاءُ
حـمـلـوا الــدعـوةَ الـكـريمةَ جـنـدًا ... لــلــمـثـانـي فــنــعــمـت الأبـــنـــاءُ
يــذهــلُ الــمــرءُ غــيــرَ أنَّ قـلـوبًـا... قـــد حـبـاهـا مـــن دلـــوِه الـسَّـقَّاءُ
ســيــدرُ الــربـيـعُ مـنـهـا وتـسـقـي ...مـن يــنـابـيـعِ بِـــــرِّه الأحـــيــاءُ
ونــجـاواهُ فـــي الـمـجـامعِ طـيـفٌ..لـيـس يُـطـوَى فـلـلحضورِ انـجـلاءُ
إيـهِ يـاشـيـخَنا الـجـلـيلَ ونـرجـو... عــنـد مـولاكَ أن يـطـيـبَ الـلـقـاءُ
ولــكَ الـخـلـدُ فـــي مُـبَـوَّأ صدقٍ ...فـــي جِــنـانٍ سـكـانُـها الأصـفـيـاءُ
ولــعـلَّ الـمـولـى يُـعَـوِّضُـنا الــيـومَ...فـــــإنَّا يـــا ربَّـــنـــا ضـــعـــفـــاءُ
ســيـعـودُ الإســــلام ديــنـا لـدنـيـا ...وتــعـودُ الـمـنـى، ويـنـأى الـشَّـقاءُ
لــبــلادِ الــشــآمِ الــعـزيـزةِ مــجـدٌ... يــتــثـنَّـى ولــلـمـثـانـي الــــــرُّواءُ
* * * ... * *
ردِّدَي لــلأنــامِ وابـتـهـجي الــدهـرَ... فــمــجــدٌ ذكـــراهُـــمُ واحــتــفــاءُ
ردِّدِيــهـا قـــد صـاغـهـا ذاتَ يومٍ ... شــاهِــدَاهــا والــلــيـلـةُ الــقــمـراءُ
ســيــرةٌ عَــذْبــةُ الـمـراحـلِ تـهـفـو ...لِــمُــحَـيَّـا افــتــرارِهــا الــشــعــراءُ
زيَّـنَـتْ خـطـوَها الـجـميلَ الـمثاني... والأحـــاديــثُ زهـــوُهــا والــثَّـنـاءُ
إنَّ مَـــن عـــاشَ لـلـشـريعةِ تــدنـو ...مــــن مــراقــي نـبـوغِـه الــجـوزاءُ
مـــا عـــنــاهُ تَـــلَـــفُّــتٌ لــلــدنــايــا...أو تـــولَّـــتْـــهُ فـــتـــنــةٌ بـــلـــهــاءُ
رَكَـــلَ الـزيـفَ فـانـثنى، وتـلاشـى... بــيــنَ عَــيْـنَـيْ إيــمـانِـه الإغــــراءُ
فـرفـيفُ الآيـاتِ فـي ظـلمةِ الـليلِ ...غــــــــذاءٌ لــــروحِــــه وشِــــفـــاءُ
ورحــيـقُ الأذكــارِ يــروي الـحـنايا... مــــن طــيـوبٍ، والـسُّـنَّـةُ الــغـرَّاءُ
تــلـك مـــن ربَّـانـيَّـةِ الـقـلبِ تُـلـفَى .. فـــي مـحـاريـبِ أهـلِـهـا الأصــداءُ
فَــهُـمُ الـصَّـالحون تـغـشى ربـاهـم ... رَحَـــــــمَــــــاتٌ وهــــــالــــــةٌ لألاءُ
لــم يُـلـينُوا يـومًـا مـناكبَهم لـلظلمِ ...حــــاشــــا أو تُــثْــنِــهِـمْ بــــأســـاءُ
قــارعُــوا صــولـةَ الـطـغـاةِ و ردُّوا... مــاتَـمَـنَّـتْـهُ الــحِــقـبـةُ الـــســوداءُ
والأعــادي إلــى الـجحيمِ فـبِئسَتْ... حـــقــبٌ فـــــي ربــوعِـنـا ربــــداءُ
فَـضَـحَـتْهَا ألــبـابُ جـمـهرةِ الـحـقِّ...فــطــاشــتْ أوراقُـــهـــا الــعـمـيـاءُ
والــمــلــمـاتُ لــلــرجــالِ ولـــكـــنْ ...أوهَــنَــتْــهَـا رجـــالُــنــا الأكـــفـــاءُ
مَــــن رأى اللهَ قــــادرًا و بــصـيـرًا...مـــــا أخــافَــتْـهُ هــجـمـةٌ رعــنــاءُ
والـطـواغـيتُ عــنـدَ ربِّـــك هـانـوا ... ولــهــم مــوعــدٌ وفــيــه الـقـضـاءُ
أَنَـسِـيْتَ الـفـرعونَ بــاتَ مُـسَـجَّى ... ثــوبُـه الــويـلُ والـلـظى والـشَّـقاءُ
أم نَـسِيْتَ الـنمرودَ ويـحك تـغشى .. جــلــدَه الــيــومَ نــارُهـا الـحـمـراءُ
لا يَـــغُـــرَّنَّــكَ الـــعــتــاةُ إذا مـا... حَـمَـلَـتْـهُـمْ إلـــــى الأذى كــبــريـاءُ
يـــوزعُ الـظـالـمون صــفًّـا فَـصَـفًّا... لـيُـسـاقوا، ولـــن يـطـيـبَ الـلـقـاءُ
زخــرفُ الـعـيشِ والـمـباهجُ ولَّــتْ...كـــســرابٍ ولــــن يــكــونَ هــنــاءُ
سُــنَّـةُ اللهِ فــي الـخـلائقِ فـاصـبرْ...إنَّ دلـــــوَ الأثــيــمِ مــافـيـه مــــاءُ
هـــكــذا يُـــذكــرُ الــجُــنـاةُ فَــتَـبًّـا ... لــلــجـنـاةِ اجْــتَـالَـتْـهُـمُ الأهـــــواءُ
وتــهــادى بــالـفـوزِ ركـبٌ كــريـمٌ ... أهـلُــه الــصِّـدِّيـقـون والأتــقــيـاءُ
فَــهُـمُ الـخـيـرةُ الـحـفـيَّةُ بـالـخـيرِ... فــهـل فـــي الــورى لـهـم نـظـراءُ !
الأجــلاءُ والـــمــآثــرُ تُـــــــروَى ...فـــــي الــبــرايـا كــأنَّــهـم أحــيــاءُ
ولــهــم يُــذعـنُ الـعـنـيدُ انـكـسـارًا...إن تـــنـــادَوا فــلـلـعـنـادِ انـــــزواءُ
عِـشْـتَ يـا شـيخُ شـامخًا بـالسَّجايا... والــمُــحَـيَّـا تـــواضُـــعٌ وحَـــيـــاءُ
وَسُـــمُـــوٌّ بــالــنـفـسِ لا تــتــدانـى ...مــــن مــتــاعٍ تـشـتـاقُه الـحـوبـاءُ
وإبــــاءٌ فــــي وجــــهِ كـــلِّ أثــيـمٍ... لـــم تُــرَوِّضْـهُ الـشِّـرعـةُ الـسَّـمحاءُ
هـــو وجـــهُ الـجـهـادِ يــومَ تَـغَـنَّتْ...بــالــمــزايـا لأهـلِــهــا الــهــيـجـاءُ
فـــزْتَ يـا شـيـخُ فـالـمـحامدُ كُــثْـرٌ... والــمـآتـي ومـــن يــديْـكَ الـحِـبـاءُ
عـشْـتَـهـا لــلـهِ الـعـظـيمِ فـعـاشَـتْ ... نــفـسُـكَ الــمـجـدَ مــالــه إخــفــاءُ
لــم تــزلْ بـالـصِّدقِ الأثـيرِ شـغوفًا...فــلــيـالـيـكَ رِفـــعـــةٌ وارتـــقـــاءُ
ولـــــكَ الــعــلـمُ بـالـشَّـريـعـةِ روَّى...حــيــثُ طــلابُـك الــكـرامُ ظِــمـاءُ
وبــنـورِ الإيــمـانِ عــاشـت قـلـوبٌ ...أهــلُــهـا بــالـهـدى هــــم الــعـقـلاءُ
أنـــتَ أوقـــدْتَ جــذوةً فـأضـاءتْ ...وعــلــى نــورِهـا مــشـى الـنُّـجـباءُ
هــيـضَ مـنـها جـنـاحُ أعـدائِـهم إذ... خــضـدَ الـصَّـبـرُ بـأسَـهم والـرجـاءُ
وبـها الـخيرُ فاضَ في كنفِ الأبرارِ...فــاخــضَــرَّتْ حـــولـــه الأرجـــــاءُ
بــوركــتْ فــــي رحــابِــه عــلـمـاءٌ... لــيـس تُـحـصـى لِـعَـدِّهـم أســمـاءُ
فـلـهُـم قـربُـهـم مــن اللهِ يـخـتصُّ ...بــــه مــــن عــبــادِه مَــــن يــشــاءُ
أَلِــــفَ الــنـاسُ وجـهَـهُـم وأحــبُّـوا...مـالـديهم مــن الـهـدى مــا شــاؤوا
وَجَـفَـوْا وجــهَ كــلِّ مَـن قـد تَـرَدَّى...يــــوم أغــوَتْــهُ نــفـسُـه الـخـرقـاءُ
فـتـعـامى ولــم يــزلْ فــي خـنـوعٍ ... مُـــسْــتَــذَلا يــبــيـعُـه الــسُّــفـهـاءُ
كَـــبُــرَ الإثـــــمُ إنْ تَــمَـلَّـقَ شــيــخٌ ... لــطــغــاةٍ، فــلـلـطـغـاةِ انــقــضـاءُ
بــئــسَ مَــــن ذلَّ لــلأثـيـمِ نـفـاقًـا... مُـــسْــتَــفَــزًّا كــــأنَّــــه حِــــربــــاءُ
أَوَلــــــم يــعــلـمِ الــمـنـافـقُ لـــمَّــا...عــاشَ خِـبًّا مـاذا يـكون الـجزاءُ ؟!
ومن أولئك الشعراء الذين أسرعوا في رثاء الشيخ صهره وتلميذه الدكتور الفاضل الشاعر ابن الشاعر: أحمد البراء بن عمر بهاء الدين الأميري حفظه الله، وهي بعنوان: « حَنَانَيْكَ لا تَرْحلْ »; يقول في مطلعها:
حنانيكَ، لا ترحلْ، فجُرحيَ لم يزلْ *** سخيّاً، ونارُ الفَقدِ فيه تَضَرَّمُ
ولا تطعَنِ القَرحَ الذي نزَّ مِنْ دمي *** ولا تُنطقِ الحُزنَ الذي هو أبْكمُ
ففقدي لأحبابي يَهيجُ مواجعي *** ويُخرِسُ أشعاري التي تترنَّمُ
فإن رُمتُ بيتاً يَنْدُبُ الحِبَّ خانني *** بياني، وظلَّ الدمعُ في العين يَسْجُمُ
فأَنْظِمُ دمعي في دُجايَ قصائداً *** فيُشرقُ ليلٌ في فؤاديَ مُظْلمُ
يتحدث الشاعر في مطلع قصيدته عن تعلقه بالشيخ الحبيب، ويطلب منه عدم الرحيل، ويشعر بالعجز عن الوفاء بحق الشيخ، فجراح القلب تمنعه من الاسترسال في نظم الشعر وتجويده، ثم يقول:
وتشهَقُ أنّاتي، وتزفِرُ أضلُعي، *** وتُقبلُ أحزاني عليَّ تُسَلِّمُ
فأفتحُ صدري، للفؤادِ أضمُّها *** فتسكنُ في أرجائِه، وتُخيِّمُ
حنانيكَ، لا ترحلْ، فقد كنتَ آسياً*** فمَنْ لجراحي اليومَ يأسو ويرحَمُ؟
وكنتُ إذا ما الهمُّ آدَ تصبُّري *** وأزرى بآمالي العِطاشِ تجهُّمُ
أزوركَ والأنواءُ تصفَعُ مُهجتي *** عَصْفُ الرّياحِ الهُوْجِ يعوي ويحطِمُ
فما هو إلَّا أنْ أراكَ مُرَحِّباً *** بوجهٍ كنورِ الصُّبح، والعينُ تبسِمُ
فأنسى صَبَابَاتي، وترتاحُ مُهجتي *** وتَسْكُنُ آلامي، وبالدّفءِ أنعَمُ
لقد كان الشاعر الأميري على علاقة طيبة مع الشيخ الإمام; وكلما أحس بالهموم تجثم على صدره يهرع إلى الشيخ وحين يراه متهللا متبسما ومرحبا تنفرج تلك الهموم ويشعر بالسكينة.
ويعجب الأميري من رحيل الشيخ من دون وداع; فيقول:
فما لَكَ تمضي اليومَ غَيْرَ مُودِّعٍ *** تُفَطِّرُ أكباداً لنا، وتُيتِّمُ
وتسكبُ فوقَ الجُرحِ في قلبِنا لظىً*يَوجُّ، ويَسْري في العروق، ويُؤلِمُ
رحلتَ وخلَّفْتَ المحبِّينَ: مُقْصَدٌ *** بسَهْمِ النّوى، أو والِهٌ يترحَّمُ
رفيقةُ دربِ العُمرِ قد لفَّها الجَوى *** وأذهلَها فَقدٌ وجيعٌ مُئَيِّمُ
تغشَّتْ بمثلِ اللَّيلِ ثوباً سوادُهُ *** أشدُّ سواداً منه حُزن مُتَيِّمُ
أَمِنْ بعدِ عُمْرٍ بالمحبَّةِ عامرٍ *** وَوُدِّ كوقْعِ الطَّلِّ، بلْ هُوَ أَنْعَمُ
تخلِّفُها في وحشةِ الدَّربِ وَحْدَها *** داري ضَنىً في قلبِها، وتُكَتِّمُ
لقد خلف رحيل الشيخ في القلب غصة وفي العين دمعة وفي النفس حرقة; وكانت فجيعة الأمة به لا تقل عن فجيعة الأهل والأولاد والبنات والأحفاد بفراق الشيخ المحبوب...
وربّاتُ طهرٍ قد أحَطْنَ بوالدٍ *** يودِّعْنَهُ، والقلبُ في الصَّدرِ يُكْلَمُ
ذوى منه وجهٌ كان بالنُّور مُشْرقاً *** وعينٌ خبا فيها الضِّيا والتبسُّمُ
تلفَّفْنَ بالصَّبرِ الجميلِ فلا ترى *** سوى مَدْمعٍ يَهمي، وثغرٍ يُتمتِمُ
نماهُنَّ للتقوى حَياءٌ، ووالدٌ *** أعزُّ من النُّعمى، وأوفى، وأرحَمُ
وأبناءُ بِرٍّ كالبُدور تحلَّقوا *** وأوجهُهُم فيها الضَّراعةُ تُرسَمُ
أحقّاً أبا الإخلاص والفضلِ والتّقى ***تُغادِرُنا، والوعدُ في الغيبِ مُبْرَمُ؟
تركتَ لنا بَيْتاً من العِزِّ شامخاً *** وذِكْراً هو الكنزُ المَصونُ وأكرمُ
فأنَّى رَحَلْنا قيل: أبناءُ سيِّدٍ *** وأنّى التفتنا قيل: نِعْمَ المعلِّمُ!
رحلتَ، ففي دارِ الخلافةِ نادبٌ ***وفي الهندِ محزونٌ، وفي مصرَ مُغْرَمُ
وفي المغربِ الأقصى وجومٌ وحسْرةٌ ***وفي القُدسِ والأُرْدُنِّ حُزن مُخيِّمُ
وفي الشَّام إخوانٌ همُ الصِّدقُ والوفا *** يُضحُّونَ بالاغلى لو اُنكَ تسلَمُ
فجيعتُهُم في فقدِكَ اليومَ غُصَّةٌ *** تُحدِّرُها عين، ويَزْفِرُها فَمُ
وفي كلِّ صُقْعٍ زُرتَه وسقيتَهُ *** علومُكَ نَبْتٌ طيِّبُ النَّفحِ يفْغَمُ
يُعزَّى بكَ المرءُ الذي لم يكن رأى *** مُحَيّاك لكن طِيْبُ ذكرِكَ يَنْسِمُ
ففي الشّرقِ أحزان عليكَ ومأتمٌ *** وفي الغربِ أحزانٌ عليكَ ومأْتمُ.
لقد حزنت الأمة الإسلامية على الشيخ الراحل; فبكى عليه الجميع; وأقاموا على روحه مجالس العزاء.
وداعاً أبا الإخلاصِ والذَّوقِ والحِجَا *** أخا العلمِ يَهدي للّتي هيَ أقْوَمُ
هنيئاً لكَ المثوى النّديُّ بطَيْبةٍ *** فيا حُسْنها بُشرى تَجِلُّ وَتَكْرُمُ!
ومن أولئك الشعراء الذين ندبوا الشيخ الجليل ابنه وبِكْره المهندس محمد زاهد أبو غدة حفظه الله، وهي بعنوان: « رَحل الحبيبُ» يقول فيها:
أحقاً أنّه رحل الحبيبُ *** وأنَّ الشمسَ أدرَكها المغيبُ
وأنِّي صرتُ بين الناس فَرْداً *** وحيداً لو تداهِمُني الخُطوبُ
أحقاً إنْ وردتُ أريدُ رِيّاً *** ورأياً سوف يُصدرِني اللُّغوبُ
فلا «نعمُ» لها جرسٌ أثيرٌ *** له نفسي إذا حنَّتْ تَذُوبُ
وأينَ بهاوه في النفس يسري *** وأين حديثُه شهدٌ وطيبُ
ولي دعواتُه بالخير تَتْرى *** وإثرَ دعائه غيثٌ سَكُوبُ
يقول لي الفؤادُ: مُحَالُ يمضي *** وكيف تزول شمسٌ لا تغيبُ؟
وكيف وما تزال لديهِ كتبٌ *** يحقِّقها ورأيٌ لا يخيبُ
أبيْ قُمْ «فالعِنَايَة» في انتظارٍ *** لها من راحتيك كِسَاً قشيبُ
أبيْ قُمْ فالمنابر باكيات *** ذا ذكَرتكَ يعرُوها الوَجِيبُ
أبيْ قُمْ فالمشايخُ في انتظارٍ *** قد اجتمعوا وطالِعُكَ النقيبُ
وأسأل طِبَّه: هل من علاجٍ؟ *** فيبكي حين أسأله الطبيبُ
أتى أمرُ الإلـه فكُلُّ أمرٍ *** سواه لا يُفيد ولا يُصيبُ
إذا اختار العليمُ فلا خِيارَ *** وبالتسليم يرتاح اللبيبُ
وحولَك مؤمناتٌ ضارعاتٌ *** بآي الذكر مَبْسَمُهُنْ رطيبُ
ينازِلن الفجيعةَ صابراتٍ *** ولولا اللَّهُ لارتفع النحيبُ
فيا أمَّاه صبراً ثم صبراً *** على الَّلأْواءِ واللَّهُ الحسيبُ
حملتِ العبأَ صبراً واحتساباً *** ولم تهزُزْكِ ضرَّاءٌ قَطوبُ
وكنتِ له على الأيام عوناً *** إذا ما يشتكي أنتِ الحَدوبُ
فيا رباه أجزلْ كلَّ خيرٍ *** فأنتَ اللَّهُ أفضلُ من يُثيبُ
مضى شيخ الشيوخ تُقَىً وفضلاً *** وملءُ إهابه علمٌ رحيبُ
فؤادٌ عامرٌ بالله ذِكراً *** وإلهامٌ له يعنو النجيبُ
ووجهٌ طافحٌ بالنور بِشراً *** وتقوىً، تنجلي فيه القلوبُ
ودمعٌ كم ترقرق في الليالي *** على الإسلام تنهشه النُّيُوبُ
تتابعتِ النوائبُ والرزايا *** يحار إزاءها الفَطِنُ اللبيبُ
جراحٌ أثخنت، والركبُ أعمى *** ورأيك في النوازل لا يخيبُ
حملتَ همومَ أمتنا جميعاً *** وهمٌ واحدٌ منها يُذيبُ
وكنتَ النور في دَيْجُور جيلِ *** تَحارُ به المسالك والدروبُ
كشفتَ له العَوارَ فذا يمينٌ *** يجيعُكمو لتمتلئ الجيوبُ
وذاك يريدُ من (لينينَ) رشداً *** يزخرف قولَه وهو الكذوبُ
دعوتهمو إلى أمرٍ سواءٍ *** به الدنيا إذا اتَّبعوا تطيبُ
بلادُ الشامِ تسأل مَنْ أتاها *** أحقاً ذلك النبأُ الرهيبُ
أغيَّبتِ البقيعُ إمامَ علم *** له العلماء إنْ حاروا يؤوبوا
بكتكَ دمشقُ والشهباءُ ثكلى *** وأهل الدين جمعهمو كئيبُ
فيا لكِ فرحةً دامت قليلاً *** دهانا بعدها أمرٌ مهيبُ
قلوبٌ بالمحبة طافحاتٌ *** أراها اليوم أحبطها الشُّحُوبُ
وخاف المسلمون بكل أرضٍ *** أَنبعُ العلم حلَّ به النُّضُوبُ؟
بكتك الهندُ حَبْراً لا يجارى *** وقَوَّاماً إذا هجعتْ جُنوبُ
وصلى الجمعُ في استانبولَ غيباً *** كم اجتمعوا وأنت بهم خطيبُ!
قضيتَ العمرَ في تحصيل علم *** ولم يوهِنْكَ ضعفٌ أو مشيبُ
أتيتَ ربوعَه والقحطُ بادٍ *** ويعلو فيه للبُوم النَّعِيبُ
غذوتَ له من العلماء رهطاً *** تولَّوا زرعه فهو الخصيبُ
وكم من مِعضَلٍ ثابرتَ فيه *** ولم تعيا فأنتَ له دؤوبُ
كشفتَ غموضَه وأبنتَ فيه *** فوائدَ لم يلاحظها الأريبُ
أفي مرضٍ وقد دَنتِ المنايا *** تُنقّي عن كتابِكَ ما يعيبُ
إذا أَسَرَتكَ أوجاعٌ ثِقالٌ *** فذهنُكَ في مسائِلِهِ يجوبُ
أيا أرضَ البقيعِ سُقيتِ غيثاً *** به يخضرُّ تُربك والسُّهوبُ
لقد أودعتُ فيكِ أبي وحِبِّي *** ومَنْ ذكراه في قلبي لَهيبُ
وددتُ فداءَه نفسي ومالي *** ولو أنِّي قضيتُ ولا يغيبُ
سألهجُ ما حييتُ بما غَذَاني *** من الدِّين القويم فلا أحوبُ
حَبَاني ذَوقُه لطفاً وفضلاً *** وشجَّعني لينطلق الأديبُ
سأذكرُه الحَياةَ فإن مضينا *** لغايتنا وموعدنا قريبُ
فإن الملتقى جناتُ عدنٍ *** بفضل الله والله المجيبُ
فلي السلوى بأنك في جوارٍ *** شفاعتُه تزول بها الذنوبُ
نشرتَ حديثَه وذببتَ عنهُ *** فنلتَ جوارَه وهو الحبيبُ
ومن أولئك الشعراء محبه الفاضل الأستاذ ياسين مرزا أكرمه الله، وهي بعنوان: « في ذمة الله أبا زاهد ».
يا قلبُ حانَ من الحبيبِ فراقُ *** كَمْ طَابَ من ذاكَ الحبيبِ عناقُ
قمْ للحبيبِ مودّعاً ومشيّعاً *** ودعِ الدموعَ مع الوداعِ تراقُ
والله لا ينسى المودّة صادقٌ *** لا يعتري قلبَ الصدوقِ نفاقُ
في ذمّة الله العظيمِ ممجَدٌ *** قدْ شعّ منه النورُ والإشراقُ
قدْ كان للإسلام بدراً في الدّجى *** لم يعتريه الخسفُ والإمحاقُ
لم يَحْنِ هَاماً لم يقدِّمْ ذِلَّةً *** طَوْدٌ عظيمٌ إنّه العملاقُ
صاغَ العلومَ بحكمةٍ ومهارةٍ *** فكساهُ إجلالاً بها الخلاّقُ
في مشرقِ الأرضِ الرحيب وغربها *** راحتْ ترددُ علمَه الآفاقُ
كالسلسبيلِ مباركٌ يَهنى به *** صادٍ يروّي قلبَهُ الرقراقُ
كالغيث يهطل في البلاد عميمُهُ *** كانتْ تنادي باسمِه العشاقُ
(حلبٌ) تنهّل من مَعينِ صفائِه *** بل و (الرياض) أصابَها التِّرْيَاقُ
بحرٌ يروّي كلّ صُقْع في الدُّنى *** بحرٌ يفيضُ وماؤه الدفَّاقُ
ما كنتُ أحسبني أعيشُ لكي أرى *** بحرَ العلوم تحوطُه الأعناقُ
أحببتَ (طيبةَ) في الحياةِ وإنَّها *** نِعْمَ المقرُّ هَنئتَ يا مشتاقُ
جارٌ لخير الخلق أحمدَ إنَّها *** نِعَمٌ يقسّمها لنا الرّزاقُ
كم قد وقفتَ على (البقيع) مسلِّماً *** والدّمعُ قد جادت به الأحداقُ
والقلبُ يخفِقُ بالحنين لصحبةٍ *** يا ليتهم يوم الزِّحَام رفاقُ
قدْ كان ما تدعوه فاهنأ إنّهم *** فيهم ملاذٌ فيهمُ الإشفاقُ
فاهنأ بروضِك في (البقيع) فإنّه *** روضٌ يفوحُ وعطرُه العبّاقُ
إنّا على العهد القديم ويا له *** للحقِّ للدين القويمِ وثاقُ
لا لن نبدّل منهجاً سرنا به *** إنْ عمَّ إظلامٌ بهِ الإطباقُ
وها هو محبه الفاضل الشاعر سليم عبد القادر زنجير، يكتب قصيدة في رثائه، وهي بعنوان: « نجمٌ أَفَل »، جاء فيها:
غادرَ الأرضَ، من أحبَّ السماءَ *** ورأى رحلةَ الحياةِ ابتلاءَ
ورأى العمرَ لمحةً، ليس إلَّا *** فليكنْ كوكباً بها وضّاءَ
هكذا مرَّ كالشِّهابِ بهيّاً *** يسكُبُ النورَ هادئاً والصّفاءَ
خافقاً مشرقاً إذا ذُكِرَ اللَّهُ *** ووجهاً يبكي تُقىً ورجاءَ
ثاقبَ الفكرِ، حاذقَ الفهمِ، بحراً *** من علومٍ، ولتسألوا العلماءَ
رَبَّ ذوقٍ، لله ما أعذبَ، ما *** أرقى، يشِفُّ عِطْراً نقاءَ
إنه شيخُنا الكبيرُ، ألا فليبكِ *** من شاءَ، أو يُخَلِّ البُكاءَ
من بكى، إنما بكى العلمَ والإخـ*ـباتَ، والطُّهرَ، والنُّهى، والحياءَ
من بكى، إنما على النفس يبكي *** وعلى أمّةٍ تعاني الخَوَاءَ
وبكى راضياً بصيراً بأمرِ *** اللَّهِ حُكماً وحِكمَةً وقَضاءَ
من أبى ليس قسوةً، بل لأنّ *** اللَّهَ أولى بالأصفياءِ لقاءَ
إنه شيخُنا الجليلُ، سواءٌ *** عنده قولُ قائلٍ ما شاءَ
نال من مُهجةِ الزمانِ مكاناً *** فانْسَ نجمَ الزمانِ والجوزاءَ
أتعبَ الحاسدين، وَهْو رحيمٌ *** حين نال العُلا، وحاز الثَّناءَ
عاش لله، إنّ ذلك يكفي *** ثم أعطى ما ينفعُ الأحياءَ
في ظلالِ الرسولِ أدرك *** ما أدرك، علماً، ورِفعةً، وإباءَ
زارعاً في الحياةِ نَبْتاً زكيّاً *** ربما كان للحياة دواءَ
ومضى راحلاً إلى اللَّهِ حُبّاً *** مثلما يشتهي المحبُّ النداءَ
فلتطِبْ نفسُه بجنةِ خُلدٍ *** ضمّتِ المتقين والأنبياءَ
لا غُلُوّاً، بل حُسْنَ ظنٍّ بعبدٍ *** مؤمنٍ، ربُّه يُحِبُّ العطاءَ
ولنسمع إلى تلميذه الفاضل الصالح الشيخ محمد مجاهد شعبان رحمه الله، وهي بعنوان: «وداعاً شيخي الحبيب».
أهلي ومالي والفؤادُ فِدَاكَ *** أنا طولَ عُمْري ما مللتُ هَوَاكَ
يا بحرَ علمٍ زاخرٍ يا طودَ فكــ *** ــرٍ راسِخٍ أنَّى يُطالُ عُلاكَ
مَنْ بعدَ ثغْرِك للعلوم يَبُثُّها *** بلْ مَنْ لإسنادِ الحديثِ سواكَ
تبكيكَ عينُ محبٍّ فيكَ ساهرةٌ *** ضَلَّ الطريقَ وهَدْيَهُ لولاكَ
لو كان أمرُ الموتِ يُدْفَعُ بالفِدى *** دَفَع الكَثيرَ وللعدا أَبقاكَ
أو كانَ يُرجِعُه البُكا لبكيتُه *** بغزيرِ دمع يُغْرِقُ الأفلاكَ
الشوقُ يحملني إليْك بطيْبَةٍ *** فأشَمُّ في تُرْبِ البقيعِ شَذاكَ
اللَّهُ ضَمَّك في جوارِ محمدٍ *** فاهنأ هنيئاً فالجِوارَ حَباكَ
اللَّهُ يوليكَ الشفاعةَ مِنَّةً *** ويجيبُ فيكَ دُعاءَ من حَيَّاكَ
وفي ختام هذه الترجمة العاطرة الناهضة أسوق أبياتاً شفافة رقيقة للأديب الكبير محمد سعيد دفتردار (1322 1392) بتصرف يسير، يرثي بها ابن خالته الشيخ العلامة الفقيه الأديب عمر بن إبراهيم البَرِّي رحمه الله تعالى (1309 1378) حبث يقول:
بيني وبينك يا أبي *** هالوا الترابَ الغَرْقديّا
سأجوزُه يوماً إليكَ *** موسَّداً نعشاً سويّا
فإذا أتيتُكَ هل أرا *** كَ كما عهدتُكَ بي حفيّا؟
أبكيكَ لو تُطفي دمو *** عي ذلكَ اللهبَ الوَرِيّا
أسقي به هذا الثرى *** حتى يعودَ به نَدِيّا
ما ضرَّني لو قد فَدَ *** يْتُك يا أبـيْ وبقيتَ حيّا
تروي حديث المصطفى *** وتذيعُه عطراً سنيّا
والفقه أين الفقهُ بعــ *** ــدك ناضراً غضّاً طريّا
فانعم بأطْيبِ مرقدٍ *** واطْعَمْ به واشرب هنيّا
رحم الله الشيخ العلامة المحدث عبد الفتاح أبو غدة، وجزاه الله خيراً جزاء ما قدم لدعوته وأمته، وأسكنه الله فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
مصادر الترجمة:
1-رابطة أدباء الشام - وسوم: العدد 850 .
2-ترجمة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة – الشيخ مجد مكي، رابطة العلماء السوريين.
3- مقالة الشيخ حسن قاطرجي، رابطة العلماء السوريين.
4- رابطة أدباء الشام.
5- رثاء الشيخ رسالة من الشاعر شريف قاسم حفظه الله.
6- قصيدة الصابوني في موقع الاثنينية التي يشرف عليه عبد المقصود خوجة.
7-موقع الشيخ عبد الفتاح أبو غدة.
8- مقدمة صفحات من صبر العلماء – بقلم د. الشيخ سلمان أبو غدة.
9- رابطة أدباء الشام - وسوم: العدد 866
10- رسالة من ولده د. الشيخ سلمان أبو غدة.
11- مواقع إلكترونية أخرى.
وسوم: العدد 1044