الشيخ المجاهد الشهيد محمد كمال الدين بن محمد السنانيري
(1918- 1981م)
لكم ضاعت من الذاكرة أسماء شهداء عظام لكثرة ما في موسوعة شهدائنا من أسماء، يحفظ الناس اسم جلعاد شاليط، وهو جندي صغير مغمور، ولا يحفظون أسماء عشرات الآلاف من الأسرى وفيهم من دوَّخ العدو وصنع ما يشبه الأساطير.
ففي مثل هذه الأيام قبل خمس وثلاثين سنة (8 نوفمبر 1981)، أنهى التعذيب الرهيب في سجون مبارك، الذي تولى السلطة منذ شهر واحد، حياة محمد كمال الدين السنانيري، فختم بذلك قصة عظيمة من روائع قصص الشهداء.
فمن هو الشهيد كمال الدين السنانيري؟
هو أحد قادة وأعلام جماعة الإخوان المسلمين، وزوج أمينة قطب شقيقة المنظر الإسلامي الشهير سيد قطب.
مولده، ونشأته:
ولد محمد كمال الدين بن محمد السنانيري في القاهرة في 11 مارس 1918م، ونشأ في أسرة مسلمة ملتزمة ميسورة الحال.
الدراسة، والتكوين:
وتلقى تعليمه في المدارس المدنية، وحصل منها على الشهادتين الابتدائية والثانوية، ولم يستكمل تعليمه العالي في الجامعة، وفضل العمل في الحكومة، فالتحق بوزارة الصحة، عقب حصوله على الشهادة الثانوية سنة 1353 هجري/ الموافق 1934 ميلادي.
الوظائف، والمسؤوليات:
وبعد أربع سنوات من العمل الحكومي قدم استقالته من وظيفته، وأعد نفسه للسفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة الصيدلة في إحدى جامعاتها للعمل بعد رجوعه في الصيدلية التي يملكها أبوه، غير أن أحد علماء الدين أقنعه بعدم السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فاستجاب له «السنانيري»، وعدل عن السفر بعد أن أعد عدته، وهيَّأ نفسه لمغادرة البلاد، فتحول إلى البقاء والدعوة.
التحاقه بجماعة الإخوان المسلمين:
في هذه الفترة كانت دعوة جماعة الإخوان المسلمين تلقى نجاحًا بين الناس، ويقبل عليها كثير منهم، وامتد نشاطها إلى أماكن كثيرة في البلاد، وكان لطريقتها في الدعوة وتمسكها بالإسلام دينًا ودُنْيا، خلقًا وسلوكًا، علمًا وعملًا، حركة ونشاطًا، أبلغ الأثر في تعاطف الناس معها، وانضمام كثيرين إلى صفوفها، وكذلك لم يكن غريبًا أن يجد «السنانيري» ضالته في جماعة الإخوان المسلمين، فانضمَّ إليها سنة [1360 هـ الموافق 1941 م]، وعَمِل معها بكل طاقته؛ وظهرت همته وعمله حتى صار من كبار رجال النظام الخاص ومسؤولاً عن واحدة من وحداته، وتقدم الصفوف، وأُوكل إليه القيام بعدد من المهام الدعوية والتنظيمية، ولهذا كان من أوائل من استهدفهم عبد الناصر في 1954، فصدر عليه حكم المؤبد، ولم يخرج إلا بعد عشرين سنة 1974.
ولم تشغله أعماله الدعوية ومسئولياته عن متابعة أسرته، فقد توفي أبوه تاركًا ثلاثةً من الأشقاء وثلاثًا من الشقيقات، فقام على أسرته خير قيام، يسعى لها، ويحرث في حقول الدعوة وميادينها، ويغرس الغراس التي ستؤتي أكلها بعد ذلك.
مصادمات سنة 1954 مع الجيش:
اصطدمت حركة الجيش بجماعة الإخوان سنة [1374 هـ الموافق 1954م] بعد أن فشلت - أي حركة الجيش - في احتوائها وذلك لاختلاف الأهداف بين جماعة عقائدية ومجموعة الضباط الشباب وبدعوى الرغبة في تأسيس وطن قوى مستقل قامت حركة الجيش بحل جماعة الإخوان، واعتقال كثير من المنتمين إليها، غير أن ما حدث أدى إلى قيام الاخوان بتدبير مظاهرةٌ أشرفت عليها جماعة الإخوان المسلمين، واتجهت إلى قصر عابدين، وكان يقود هذه المظاهرة "عبد القادر عودة"، وكان السنانيري واحدًا ممن يشرفون على تنظيم هذه المظاهرة التي اظهرت خطورة وجود تنظيم لا ينتمى ولائه للدولة المركزية ولديه تنظيمه المسلح غير أن ما حدث جعل رجال الجيش يعيدون الكرة للإطاحة بجماعة الإخوان، بعد حادث المنشية المعروف الذي حاولت فيه الجماعة اغتيال جمال عبد الناصر؛ وذلك بهدف القضاء على التنظيم الخاص الذي كان من ابرز أفراده السنانيري الذي اعتقل في سنة [1374 هـ الموافق 1954م]، وقُدِّم لمحاكمة حكَمت عليه بالسجن، فأمضى في السجن عشرين عامًا، حتى خرج سنة [1394 هـ الموافق 1974م ].
حياته في السجن:
وفي أثناء محاكمته تعرض - مثل غيره من الإخوان - إلى تعذيب وحشيٍّ فاق كل خيال، حتى إن والدته لم تتعرف عليه في أثناء حضورها الجلسة الأولى للمحاكمة؛ لشدة ما وقع عليه من عذاب، فقد نحل جسمه، وكسر فكه؛ حتى تغيرت طريقة كلامه، وبلغ من شدة تعذيبه أن شقيق زوجته الأولى - وكان معتقلًا معه - أصيب بالذهول من هول المآسي التي نزلت على السنانيري، ولم تتحمل أعصابه المرهفة آثارالعذاب الوحشية البادية على الجسد الواهن، ففقد عقله، ونقل إلى مستشفى الأمرض العصبيَّة. وظل في السجن لا يلبس إلا الثياب الخشنه، ورفض ارتداء الثياب الداخلية التي كان لكل سجين حق شرائها من مقصف السجن، وعاش سجنه متجردًا من كل ما يعتبره ضابط السجن منحة توهب للسجين ترغيبًا أو يحرم منها ترهيبًا، آثر أن يتجرد من كل ما يمكن أن يحرم منه؛ ليملك من نفسه ما يعجز الآخر أن يملكه منه. وهذا السلوك يجلي نفس «السنانيري» التي ملكها، وجعلها طوع بنانه، وأخلى قلبه من التطلع إلى الدنيا بعد أن ملأه زهدًا وصلاحًا، يصوم النهار، ويقوم الليل، ويأخذ نفسه بالشدة؛ ولذلك لم يكن غريبًا أن يرفض ما يطلبه منه ضباط السجن من تأييد نظام عبد الناصر طلبًا للسلامة، وطريقًا للخروج من جحيم السجن. وفي فترة سجنه طلق زوجته الأولى بعد أن ضغط رجال المباحث على أهلها لتطلب الطلاق، وكان قد خيَّرها من قبل بين البقاء زوجة له أو الطلاق، ولكنها آثرت أن تظل زوجة له، لكن أهلها أجبَروها على الطلاق منه.
ثم عقد قرانه على «أمينة قطب» أخت الشهيد «سيد قطب»، وبنى بها بعد خروجه من السجن، ولم يرزق منها بأطفال.
نشاطه بعد الإفراج عنه:
وبعد خروجه من السجن عاود نشاطه الدعوي، ولم يركن إلى الدعة والراحة بعد المعاناة الطويلة التي تحملها في صبر وثبات، فالدعاة والمصلحون لا يتخلون عن رسالتهم مهما عانوا من تبعاتها. وكان من أبرز نشاطاته دوره في ميدان الجهاد في أفغانستان، التي تعرضت للغزو الروسي، ووقعت في قبضته، وقد بذل السنانيري وقته وجهده في دعم المجاهدين الأفغان، ورأب الصدع بينهم، وإصلاح ذات البين بين قادته الذين أحبوه جميعًا، وعرفوا قدر إخلاصه وحرصه على وحدتهم، ودانوا له بالطاعة والاحترام، فلا يكادون يخالفون له أمرًا في أثناء وجوده معهم.
اعتقاله واغتياله في المعتقل:
وبعد عودته من أفغانستان تعرض للاعتقال مع غيره من أبناء الحركة الإسلامية، وقادة العمل الوطني في مصر، وكان الرئيس السادات قد أصدر- في [ذي القعدة 1401 هـ الموافق سبتمبر 1981 م] - قرارات التحفظ الشهيرة على معارضي سياسته، وألقى بهم في المعتقلات بعد أن اشتدت المعارضة لاتفاقيات الصلح مع العدو الإسرائيلي، وتعرّض السنانيري في أثناء اعتقاله لتعذيب رهيب؛ أملًا في معرفة معلومات عن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين.
أخلاقه، وصفاته:
كان الشهيد مثلاً في حياته وجهاده وزهده وزواجه واستشهاده كذلك، فقد وُلِد لأسرة ميسورة الحال وبالرغم من هذا فقد اعتنق فكرة أن الداعية لا بد له من الزهد والصبر والاحتمال ليتجنب بهذا الفتنة وينزع من يد أعدائه أي وسيلة لإغرائه أو الضغط عليه، وهكذا تبدل حال الرجل من النعيم إلى التقشف.
حدثني من سُجِن مع الشهيد لأيام عنه، فيقول: “هذا لم يكن رجلا عاديا، هذا رجل نزل إلينا من جيل الصحابة والتابعين، كان مدهشا وفوق التصور، ألا يستريح يوما من الصيام؟! ألا يتعب ليلة من القيام؟! لقد عايشته أياما في زنزانة واحدة كأن الله أراد أن يطلعني أن الدنيا بقي فيها أنواع من هؤلاء البشر!”.
نزل به من التعذيب ما استحال معه أن تتعرف عليه أمه حين رأته في أول جلسة من المحاكمة لما صار إليه من النحول والهزال وعلامات التعذيب حيث فقد السمع بإحدى أذنيه وكُسِر فكُّه فصار لا يحسن الكلام، بل إن شقيق زوجته أصابه الذهول لما نزل به من العذاب حتى فقد أعصابه ودخل مستشفى الأمراض العصبية.
وكان قد دخل السجن وهو في السادسة والثلاثين من عمره، ولديه طفلة صغيرة، وعندما صدر عليه حكم المؤبد لم تتحمل زوجته هذا البلاء الطويل، فطلقت منه، ويُقال بل أجبرها أهلها على فراقه، ويقال كذلك: بل ضغطت المباحث والسلطة عليها إلى أن ألجأتها لطلب الطلاق، ثم لم تلبث أن توفيت ابنته الصغرى منها في أول سجنه. فكأن البلاء قد استحكم عليه من كل الجهات!
عُرف بالزهد والعبادة حتى طار صيته في ذلك، كان وفيا لقناعته بضرورة أن يتعود الداعية على المشاق لئلا يتأثر بالفتن، فكان وهو في سجنه الناصري الرهيب لا يلبس ولا يأكل إلا ما يخصصه له السجن، ولا يستعين بمأكل أو ملبس مما قد تأتيه به أسرته من الخارج، يريد ألا يُعطي السجان وسيلة لكسر نفسه أو الضغط عليه، وظل إلى آخر سجنه لم يكتب شيئا في تأييد عبد الناصر أو الاعتذار له رغم جحيم السجن!
وقد بقي في السجن إلى أن لحق بهم سيد قطب فكان رفيقا له في الزنزانة، وفي إحدى الزيارات رأته أمينة قطب شقيقة سيد، فيُقال أنه طلبها للزواج من أخيها، بل ويقال: أعجبها فطلبته هي للزواج من أخيها، وأبدت استعدادها لتنتظره بقية سجنه، فلما خرج منه بعد سبع سنوات من هذا اللقاء بنى بها وهو في الخامسة والخمسين من عمره.. فكانت قصة زواجه من قصص الحب الخالدة في كتاب الحركة الإسلامية1.
ولما خرج وجد تيارا إسلاميا تكون في الجامعات، فسعى إليه سعى الطالب المشتاق، والداعية اليقظ النشيط الذي لم تكسره سنوات السجن وأعوام العذاب، فكان أول من اتصل بممثلي هؤلاء الطلاب فطلب لقاءه، وتحدد الموعد في محل لبيع الأحذية، يملكه واحد من الإخوان، فدار الكلام وكلاهما يصطنعان أنهما يقيسان الأحذية!
يقول عبد المنعم أبو الفتوح: “حين أتذكر لقاءنا الأول لا أتمالك نفسي من البكاء… فقد كان لقاءا مؤثرا وعاطفيا إلى أبعد الحدود، وكان كلامه وروحه وكل ما فيه جديدا بالنسبة لي… كنت أمام رجل قضى من عمره عشرين عاما في السجون ثم خرج وهو ما زال مشغولا بقضية الإسلام والدعوة إلى الله! وكان يتفجر حماسا في شرح فكرته والتأكيد على الاستمرار فيها واستكمال ما بدأته الجماعة… كان لكلامه وقع السحر… وكان بالنسبة لي قدوة عثرت عليها بعدما كدت أفتقدها… كان حضوره في وعيي كحضور هؤلاء الذين كنا نقرأ عنهم في السيرة النبوية، الذين عُذِّبوا وأُوذوا وصبروا على البلاء في سبيل تبليغ دعوة الله”2.
ولولا أن اللقاء الأول كان على هذا الحال، ما كان للمجموعة الصغيرة الباقية من جماعة الإخوان أن تحتوي التيار الشبابي الهادر، فتعيد به تجديد اسمها ومكانها وتجعله مدد بقائها واستمرارها. وبهذا اللقاء تمهدت اللقاءات الأخرى مع التلمساني وعباس السيسي وغيرهم وهو ما انتهى إلى دخول القسم الأكبر من شباب “الجماعة الإسلامية” في الجامعات المصرية تحت اسم وقيادة الإخوان المسلمين.
وما إن تمت هذه المهمة في مصر حتى استأنف مهمة أخرى عالمية، وهي الجهاد في أفغانستان، ولم أجد في المصادر التي تحدثت عنه تفصيل أعماله هناك، إلا أنه فيما يبدو قام بدور مهم وخطير، ذلك أنه وبمجرد عودته إلى مصر ألقي في السجن وصُبَّ عليه العذاب الشديد حتى مات على إثره.
وانطفأ المصباح:
لقد وقع عليه أهوال من العذاب بعد أن تجاوز الستين من عمره، ولم يتحمل جسده الطاهر هذه الأهوال التي تفنن زبانية التعذيب في إلحاقها به، ولم يكن لمن في سنه أن يتحمل هذه الأهوال، ففاضت روحه في 10 من المحرم 1402 هـ/ الموافق 8 من نوفمبر 1981م.
رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.
ولا يختلف أحد ممن أرخوا للشهيد أن قاتله هو فؤاد علام الذي كان مسؤولا عن تعذيبه، وقد أتيح لأحمد رائف أن يسجل حواراً دار بينه وبين فؤاد علام بُعيْد استشهاده، أسوقه هنا مختصراً: “فؤاد علام شخصية غريبة فريدة ذات طابع خاص، يندر أن تجد له نظيراً أو مثيلاً؛ فهو يقتل والبسمة على شفتيه، ويحرق بالنار من خلال نظرة شاردة حالمة، وله في القتل والتشفي والتعذيب متعة وروعة لا تخفى على أحد ممن وقع تحت يديه.
أذكر مرة في أثناء هذه الزيارات التي كنت أتردد عليه فيها ليرفع عني الحظر من السفر أنه أخبرني أن الشهيد كمال السنانيري قد انتحر.
تعجبت، وسألته: وكيف تم الانتحار؟ ونظر نظرة صفراوية، وقال: أنت لا تصدق إذن أنه انتحر؟ وقلت: أنا أسأل كيف تم هذا؟
وانتفخ فوق كرسيه، ووضع ساقا على ساق، ومدَّ يده إلى مسبحة أمامه على المكتب وصار يلعب بحياتها، وانطلق صوته كفحيح الأفعى: ربط عنقه بفوطة، ثم ربطها بكوع الحوض الموجود بالزنزانة وصار يجذب نفسه حتى مات… ثم حدق في عيني بتحد ظاهر. قلت له: ولماذا انتحر؟ ابتسم ابتسامة شيطانية وقال: عندما تقابله في الجنة عليك أن تسأله. قلت له: المنتحرون في العادة لا يذهبون إلى الجنة. وقال ساخرا: يا سيدي هذا مجاهد قديم، وأمضي عمره في السجون والمعتقلات، وهو من أهل بدر، وما يدريك “لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم”.
ولم أستطع أن أجاريه، وخيَّم عليّ صمت حزين على الشهيد فقد كانت هذه هي المرة الأولي التي أسمع فيها خبر استشهاده، وكنت أعرف أنه يُعَذَّب أشد العذاب أملا في معرفة معلومات عن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، فهكذا كانت الشائعات تملأ كل مكان…
قلت له: بطبيعة الحال لا أصدق أنه انتحر، ولا أظن أن هناك من يمكنه تصديق هذا الكلام، وأنت لا تنسي أنني خبير بالأساليب، وقد تم التحقيق معي بمعرفة سيادتكم، وأيامها كانوا (الشهداء تحت التعذيب) يهربون ولا ينتحرون.
وتنهد فؤاد علام حزيناً: وماذا نفعل لموضة الديمقراطية والحرية التي ملأت مصر؟!
قلت له ضاحكاً: تقصد الحرية والديمقراطية التي ملأت الصحف وحفلت بها الخطب.
استمر مستاء حزيناً: نعم.. هذه اللهجة أصبحت لا تسمع لنا بأداء واجبنا على الوجه الأكمل، صرنا نعمل حساباً لصحف المعارضة ولتلك الأحزاب الورقية التي أمرنا بإنشائها السادات، وصار لزاماً علينا أن نطور في الأساليب.
وقلت بعفوية: ولكن ما السبب الحقيقي لقتل كمال السنانيري؟ ونظر إلى نظرة مستنكرة غاضبة، فقلت: أقصد السبب الحقيقي وراء انتحاره.
وملأت الابتسامة وجهه من جديد، وقال: كان يعرف الكثير، ولا يريد البوح به فآثر الموت حفاظاً على إخوانه.
قلت له باسماً، والمرارة تملأ حلقي: كان يسُر كمال السنانيري أن يسمع هذه الشهادة منك.
– هو يسمعها.. أليس الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون؟”.
أصداء الرحيل:
زعمت الحكومة أن الشهيد كمال الدين السنانيري قد مات منتحراً، ومن السخف أنهم لم يحددوا الأداة التي انتحر بها، وكيف وصلت إليه داخل السجن، وحين تسلم الأهل جثة الشهيد رأى جميع من حضر تفسيله آثار التعذيب الوحشية على جسده الشريف فظهر كذبهم.
لذا كان لوفاته أصداء قوية، فقد تحدثت عنه الصحف المصرية باستفاضة، وكتب عنه قادة الجماعة، وأثنوا على أخلاقه.
كمال السنانيري الشهيد الزاهد:
وكتب د. رشاد محمد البيومي عضو مكتب الإرشاد يقول:
كان مثالاً للزهد والتجرد.. نموذجًا فريدًا لصدق الالتزام مع الله.. رائدًا في عزيمة الرجال وصلابة المؤمنين الذين امتلأت قلوبهم بالتقوى والورع؛ فعملوا لدينهم ودعوتهم، ولم تفتُر عزيمتهم ولم يقل جهدهم.
صدق مع الله ومع نفسه ومع إخوانه؛ فاجتباه الله لينضمَّ إلى كتيبة الشهداء، مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾ (الأحزاب).
عرفته معرفةً عابرةً قبيل محنة 54 شابًا وسيمًا، تدلُّ ملامحه ومظهره ومسلكه وزيُّه على كرم المحتد وعراقة الأصل، كان مديرًا لإحدى الشركات، ومع ما يصاحب تلك الوظيفة من مظاهر، فقد كان شديد التواضع، تحس منه روح الأخوة النقية الطاهرة التي إن دلت على شيء فإنما تدل على الصدق وسلامة الصدر.
ودارت بنا الأيام، وجمعتنا سجون عبد الناصر وفي الواحات كان كمال السنانيري أمةً متفردةً وصورةً ليس لها مثيل، ونوعية من الرجال نادرة، كان قد أُصيب في أذنيه من التعذيب في السجون الحربية حتى كاد يفقد السمع، وكان يضع يده خلف أذنه، ويقترب منك حتى يسمع مع ما تقول بصوت عالٍ، وحرر له طبيب السجن تقريرًا طبيًّا رُحل بموجبه إلى سجن مصر (قره ميدان سابقًا)، وحوّل إلى قصر العيني ليعرض على أحد مشاهير طب الأذن (وهو الدكتور إسكندر فاكتشف أن طبلتي الأذنين فيهما ثقب وبحاجة إلى الترقيع، وفعلاً تمت العملية الأولى ليعود كمال وقد تحسن كثيرًا عن ذي قبل، وبعد فترة أجريت له العملية الثانية، ليصبح سمعه أحسن كثيرًا؛ حتى إنه كان لا يحتمل الأصوات العالية، وكان هذا من فضل الله عليه.
أما حياته في السجن، فكانت صورة مضيئة للعابد المتجرد والزاهد، فقد أمضى 20 عامًا من حياته وهو يصوم صيام داود (يصوم يومًا ويفطر يومًا)، لا يمنعه عن ذلك حتى المرض.
أما طعامه فحدث عنه ولا حرج، فقد كان مطعمه الوحيد دونما أية إضافة أو تحسينات هو طعام السجن، وما أدراك ما هو تعيين السجن (كما يسمونه) هو شيء من المجاهيل التي لا يُعرف كنهها أو نوعها أو رائحتها، هو شيء دائمًا ما يكون أخضر اللون.
ولمّا لم نستطع التعرف عليه لجأنا إلى تسميته اسمًا كوديًّا (الزقفيلم)، وكان هذا الطبيخ لا يمكن أكله خصوصًا إذا كان باردًا، لذا كنا نلجأ إلى تحسينه بإضافة بعض التوابل وتسخينه بالطرق المتاحة، أما الأخ كمال فكان يزدرد هذا الطعام على حالته باردًا، ولم يكن هناك من سبب أو مبرر إلا يهذب نفسه على احتمال المشاق زهدًا وتقربًا إلى الله وتعويدها على أن تتقبل وتحتمل ما تلاقيه من صعاب ابتغاء رضوان الله ورحمته.
أما ملبسه، فقد كانت ملابس السجن الخشنة فقط وملابس السجن عبارة عن نسيج بدوي يتم تجهيزه في السجون من خيوط غليظة الملمس سميكة زرقاء اللون للملابس الخارجية وبيضاء اللون للملابس الداخلية وكان يسمح لنا تجاوزًا بلبس الملابس الداخلية العادية فقط؛ ولكن الأخ كمال كان يصر أن تكون ملابسه كلها من نسيج السجن، الداخلية والخارجية.
وحتى عندما أتيح لنا في السنوات الأخيرة لبس ملابس مصنوعة من قماش الدمور؛ رفض أن يشارك في هذا ولو على سبيل الرخصة.
كان دائمًا أبدًا مسئولاً عن النواحي المالية للجماعة داخل السجن، ومع قلة المال (إذ أن الجميع كانوا قد فصلوا عن أعمالهم)، فقد كان الأخ كمال يعمل على أن يكفل لإخوانه ما يستطيع من الضرورات (والقليل من الكماليات)، والعجيب أنه كان يحرم نفسه من كل هذا مكتفيًا بمقررات السجن، وكان دائمًا ما يتفقد إخوانه، محاولاً التعرف على احتياجاتهم ومتطلباتهم ليلاً ونهارًا.
وسارت بنا سفينة الحياة، ورحل الأخ كمال للعلاج في ليمان طرة، وهناك التقى الأستاذ سيد قطب وعاش معه فترة ليست قصيرة، وتفاعل معه انطلاقًا من الولاء لفكر الجماعة والتزامًا بمنهجها، وهناك تمت أول صور التكافل الأسري حيث تم الارتباط بين الأخ كمال والأخت الفاضلة السيدة أمينة قطب شقيقة الأستاذ سيد، وكانت هذه فاتحة خير إذ تطوع عدد من الأخوات قدمن أنفسهن كزوجات المستقبل للإخوان الذين كانوا مسجونين (وذلك دعمًا لهم وتشجيعًا على مواصلة الطريق)، وما أروعها من تضحية ويا له من إيثار قل أن يوجد في زماننا هذا (وقد صبرت الأخت أمينة راضية لمدة اثني عشر عامًا في انتظار الأخ كمال حتى أفرج عنه عام 1974 وبنى فيها الأخ كمال بعد الإفراج وعاشا في شقة بعمارة أمام مبنى مباحث أمن الدولة في لاظوغلي وكانا أسعد زوجين ولم ينجبا).
وعاد كمال إلى سجن الواحات، ثم تفرقنا هو إلى سجن قنا ونحن إلى سجن أسيوط، ثم أفرج عنه، وما أن وطأت قدماه أرض الحرية حتى عمل جاهدًا مجاهدًا عاملاً لتجميع ما تفرق من الإخوان ولم شملهم مشاركًا إخوانه الكرام مصطفى مشهور وصحبه وسافروا إلى كل مكان في مصر بحثًا عن تفرق من الإخوان وحفزًا لهم لمواصلة العمل والجهاد.
ولما حدثت أحداث أفغانستان وتمت المواجهة بين المجاهدين والغزو السوفيتي كان كمال من الطليعة التي سافرت إلى هناك مع إخوانه الكرام (شأنهم ذلك في كل مكان فيه جهاد وفى سبيل الله)، وعمل على جمع كلمة القبائل والفصائل ليكونوا صفًا واحدًا في مواجهة ذلك العدو الغازي وكان لهم (بفضل الله) ما أرادوا.
وجاءت محنة 1981 وقبض على كمال السنانيري مع عدد من الإخوان، وكان هؤلاء الذين لطخت أيديهم بالدماء، أصحاب التاريخ الملوث بسوء السمعة، أبوا إلا أن يمارسوا أبشع أنواع التعذيب على الأخ كمال وبخاصة المدعو (فؤاد علام)، الذي يكن حقدًا ومرارةً تجاه الإخوان وتمادى في تعذيبه، حتى أن أحد الإخوان شاهده خلسة في أحد المرات وقد أدمت الجراح جسده وهزل جسمه وحلقوا له نصف ذقنه (إمعانًا في الإيذاء ومحاولةً للإذلال) وبقي الأخ كمال صابرًا محتسبًا كعادته..
ولكن كَبُر على هؤلاء المجرمين الظلمة أن يظل صامدًا صلبًا فقتلوه شر قتلة..
وللعجب فإنهم أعلنوا أنه مات منتحرًا، كيف هذا قالوا إنه شنق نفسه في كوع حوض دورة المياه، مع العلم أن هذا الحوض يرتفع عن الأرض بـ120 سم والأخ كمال لا يقل طوله عن 170 سم، فكيف ثم هذا؟.
الله شاهد على هذه الجريمة النكراء، ولعليّ أتذكر هنا المقولة "إذا كنت كذوبًا فكن ذكورًا، ولكن الله طمس على بصيرة هؤلاء فلم يجدوا تبريرًا لذلك الفعل المشين إلا هذا الادعاء المنكر..
استشهد كمال السنانيري، تلك الهامة العالية والقمة السامقة، وذهبت روحه إلى رب الأرض والسماء تشكو إليه ظلم الظالمين وجور العتاة المجرمين تاركًا أثرًا غاليًا ومثلاً نادرًا في التجرد والسمو والإخلاص لربه ولدينه ودعوته، فجزاه عما قدم كل الخير، ونسأل الله أن يلحقنا به في الصالحين، ولذكره الأجيال نموذجًا للمجاهد الصابر الزاهد المتجرد، وتلعن هذا التردي الرخيص الذي أودى بحياته لا لجرم إلا أن يقول ربي الله..
هكذا نرى أن صناعة الرجال كانت نهجًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسار الإمام البنا مقتفيًا أثر قائدنا ورائدنا ومعلمنا رسول الله فصنع رجالاً اعتنقوا الفكرة الربانية عقيدةً راسخةً ملأت عليهم نفوسهم فهيأوا النفس لها وللتعامل معها وترجموها سلوكًا فريدًا نادرًا في رخائهم وفي شدتهم فكانوا مثلاً عليا ونماذج يحتذى بها، هذا في زمن اختلطت فيه المعالم حتى أصبح الكثير من المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، بل إنهم وصموا أصحاب الدعوة والعاملين لها بالإرهاب تارة وبالتطرف تارة أخرى بل وتحالفت قوى العلمانية والطغيان في محاولة لتشويه صورة الداعين إلى الله والعاملين لرفع لوائه، وتبدى هذا في أجلى صوره في ذلك الإعلام المأجور الموجه أو الإعلام الأمني في دور فعال لإشعال نار الفتنة بالنيل من كل ما هو جاد مؤثر في المجتمع لحساب التحلل والتفلت من كل القيم والتردي إلى مهاوي الضلال، فهل آن لأمتنا أن تعي وأن تفيق من غفوتها وتواجه هذا الطغيان وهذا العبث بالقيم ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)﴾ (الحديد).
رثاء زوجته له:
عرف الأدب العربي مراثي الأزواج لزوجاتهم، وهي تفيض ألمًا وحزنًا على فراق أحبتهم، ومن الشعراء من خصص ديوانًا كاملًا لرثاء زوجاتهم، مثل «عزيز أباظه» و«عبد الرحمن صدقي» و«محمد رجب البيومي», غير أن رثاء الزوجات لأزواجهن نادر في الشعر العربي، وقد رثت السنانيري زوجته «أمينة قطب» في أكثر من قصيدة، وكان لها في ذكرى وفاته من كل عام قصيدة حزينة مؤثرة، ولو جمعت هذه القصائد في ديوان لكان حدثًا كبيرًا في دنيا الشعر العربي المعاصر.
وقد رثته زوجته الأديبة، بمراثي في غاية الرقة والعذوبة، وكانت لها عادة أن تكتب فيه قصيدة في ذكرى وفاته من كل عام، وطبعت تلك القصائد في ديوان لطيف تحت عنوان رسائل إلى شهيد، وقد نشر في دار الضياء في الأردن.
وبعض تلك القصائد اشتهر، وسار في وجدان الصحوة الإسلامية كما يسري الروح في الجسد، فحفظوا منها:
هل ترانا نلتقي أم أنها .. كانت اللقيا على أرض السراب
ثم ولَّت وتلاشى ظلها .. واستحالت ذكريات للعذاب
هكذا يسأل قلبي كلما .. طالت الأيام من بعد الغياب
فإذا طيفك يرنو باسما .. وكأني في استماع للجواب
ومن تلك القصائد، وهي أول ما رثت بها زوجها قولها:
ما عدت انتظر الرجوع ولا مواعيد المساء
ما عدت أحفل بالقطار يعود موفور الرجاء
ما عاد كلب الحي يزعجني بصوت أو عواء
وأخاف أن يلقاك مهتاجًا يزمجر في غباء
ما عدت انتظر المجيء أو الحديث ولا اللقاء
ما عدت أرقب وقع خطوك مقبلًا بعد انتهاء
وأضيء نور السلم المشتاق يسعد بارتقاء
ما عدت أهرع حين تقبل باسمًا رغم العناء
فلسوف ألقاكم هناك وتختفي دار الشقاء
ونُثاب أياما قضيناها دموعا وابتلاء
وسنحتمي بالخلد لا نخشى فراقا أو فناء
الشهيد محمد كمال السنانيري... في ذكرى استشهاده:
وكتب فضيلة الشيخ: محمد عبد الله الخطيب يقول:
من حق الأخ كمال السنانيري علينا أن نذكره وأن ندعو له، وأن نقف عند شخصيته وقفات فيها التأمل والنظر، فلقد كان فذًّا في حياته، في عبادته، في صومه، في صبره، فبعد سجن استمر تسعة عشر عامًا، وبعد عذاب ومعاناة لم تشهد لها البشرية مثيلاً لا في القديم ولا في الحديث.. خرج الأخ محمد كمال الدين السنانيري، ليواصل جهاده في سبيل الله يواصل جهاده مع إخوانه الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين﴾ (آل عمران: من الآية 146).
خرج من هذه المحن والخطوب ودعوة الإسلام عنده أغلى من روحه فهي كيانه، ومصيرها مصيره، ومستقبلها مستقبله، لقد ربط نفسه بها، إنه- رحمه الله- من العنصر الكريم الأبيِّ الجادِّ، صاحب العزيمة القوية وليس من النوع الذي يعتذر عن مواصلة الطريق إذا رأى شدة العقبات أو قلة السالكين أو كثرة عواء الذئاب، بل يمضي ثابتًا مجاهدًا مهما كانت الظروف، وأخذ- رحمه الله- يجول في كل مكان يجمع الكيان ويوحِّد الصفّ، ويسعى حثيثًا في تقريب وجهات النظر بين الرجال العاملين في كل مكان، وتلك طبيعة الإيمان في المؤمن.
يقول الرافعي فيه وفي أمثاله:
"إن لله عبادًا اختصهم لنفسه، أول علامته فيهم أن الذل تحت أقدامهم، وهم يجيئون في هذه الحياة لإثبات القدرة الإنسانية على حكم طبيعة الشهوات التي هي نفسها طبيعة الذل، فإذا عرض أحدهم عن الشهوات وزهد فيها، واستقام على ذلك في عقد ونية وقوة إرادة، فليس ذلك بالزاهد كما يصفه الناس، ولكن رجل قوي اختارته القدرة ليحمل أسلحة النفس في معاركها الطاحنة".
وما أحسب الأخ كمال السنانيري إلا واحدًا من هؤلاء الربانيين، جاء إلى الدنيا في زمن فترت فيه النفوس، وقلَّ الأوفياء، وخمدت العزائم، فأثبت أن هذه الدعوة وَلُودٌ، وأن القلب الذي تذوَّق حلاوة الإيمان، واطمأنَّ إليها وثبت عليها هو الذي ينطلق صاحبه لتحقيق هذا الخير في واقع الناس، وهو الذي يبذل النفس والنفيس والجاه والمال والوقت في سبيل الحق الذي آمن به.
جوانب من حياته:
هو السهل الممتنع، كان بسيطًا جدًّا في حياته، يصوم يومًا ويفطر يومًا هكذا باستمرار، وهو صوم نبي الله داود، كما أخبرنا المعصوم- صلى الله عليه وسلم- كان يأخذ نفسه بالعزيمة، ويشدِّد على نفسه كثير الحساب لها، بعيدًا عن أعين الناس.
كان يأكل ما يجد ويلبس ما يجد، ولا يتكلَّف ما لا يجد؛ اقتداءً برسول الله- صلى الله عليه وسلم- رأيتُه مرةً وأحدُ الإخوة يهاجمه ويعامله بعنف وهو ساكت لا يتكلَّم، ولما أردتُّ أن أردَّ عنه وأُسكِتَ هذا الذي تجاوز حدوده.. ثار عليَّ وأمرني بعدم الاعتراض على الأخ أو إسكاته، وبعد أن هدأ الأخ وقال كل ما عنده بدأ- رحمه الله- يشرح له المسألة ويبيِّن له حقيقة الموضوع، فإذا بالأخ وأنا معه يتعلَّم منه الدرس ويخرج من عنده وهو راضٍ هادئُ النفس، ولو تركني أردُّ عليه لتطوَّر الأمر أكثر، وضاعت الحقيقة.
خرج من السجن بعد ما يقرب من عشرين سنة، ليذهب في اليوم التالي إلى فضيلة الأستاذ ليقول له: إني كجندي جاهز للعمل لدعوتي من هذه اللحظة ومستعدٌّ للقيام بواجبي.
وُلد الشهيد في 11/3/1918م، وفي عام 1934م، حصل على الثانوية العامة، والتحق بوزارة الصحة في قسم مكافحة الملاريا.
في عام 1938م ترك العملَ في الصحة، وأراد الالتحاقَ بإحدى الجامعات الأمريكية لدراسة الصيدلة للعمل في صيدلية (الاستقلال) التي يملكها والده، إلا أن أحد علماء الدين أقنعه بعدم السفر إلى أمريكا بعد أن هيَّأ حقيبة السفر وباع أثاث بيته واتجه إلى الإسكندرية لركوب الباخرة المتجهة إلى هناك.
في أثناء الحرب العالمية الثانية عمل في ميناء شبه حربي كانت تنزل فيه معداتُ جيوش الحلفاء وتمويناتهم، اسم هذا الميناء (أبو سلطان)، وما زال موجودًا حتى الآن.
بعد وفاة والده أصبح هو المعيل للأسرة التي كانت تضم أخاه الكبير محمد عز الدين الصيدلي "وهو الآن لواء متقاعد" وأخوين أصغر منه، هما محمد سعد الدين ومحمد شوقي "مقدم متقاعد" وأخواته البنات الثلاثة، الكبيرة تُوفيت رحمها الله.
انضمَّ إلى جماعة الإخوان المسلمين في أوائل الأربعينيات، وكان ضمن المعتقلين عام 1954م، "اعتُقل في الشهر العاشر" وحَكمت عليه المحكمة التي أنشأها عبد الناصر بالسجن، الذي أمضى فيه كامل الحكم حتى أفرج عنه في يناير 1973م.
كان قد تزوَّج قبل اعتقاله ورُزق من زوجته بابنة تُوفيت بعد الحكم عليه بأشهر قليلة، أما زوجته فقد عمل أهلُها على تطليقها منه بعد الحكم عليه دون رضاها ودون رضاه، فقد اتفقت زوجتُه معه على انتظاره حتى يخرج من السجن، لكنها وافقت على الطلاق بعد ضغطِ أهلها وتخيير كمال الدين لها.
أصيبت أذنه بأذى من شدة التعذيب فنُقل إلى مستشفى قصر العيني، وكان يحمد الله بعد خروجه من السجن لأنه صار يسمع بأذنه المصابة أفضل مما يسمع بأذنه السليمة.
ومن شدة التعذيب الذي لاقاه الشهيد كمال في السجن أنَّ شقيقًا لزوجته أصيب بالذهول من فظائع التعذيب حتى جنَّ ونقل إلى مستشفى الأمراض العقلية.
في فترة سجنه عقَد قرانَه على شقيقة الشهيد سيد قطب "أمينة" وتزوَّج بها بعد خروجه من السجن في عام 1973م، ولم يُرزَق منها بأطفال.
ولم يكن يميل إلى الاستقرار في مكان واحد، وكان حبه لدعوته يجعله كثير التنقُّل والأسفار، ولهذا لم يقتنِ شقةً وأثاثَ بيت، يقيم أحيانًا عند شقيقته الكبرى الأرمل، التي كانت قلما تبقى في بيتها لزيارتها الأهلَ وأفرادَ الأسرة، وكانت شقة أخته قريبة من إدارة تحرير مجلة (الدعوة) في عابدين.
كان بطبعه لا يحب المظهرية، ويميل إلى البساطة، يرتدي القميص والبنطال، ويطلق لحيته، ويحب البسطاء من الناس، يعظهم ويجمعهم حول عقيدتهم نقيةً من البدع والشوائب.. حلو الحديث، يختار الصفوة من مجتمعه ومن مجالسه ليهيئهم ليكونوا دعاةَ خير ودعاةَ محبة، وكان يأسر الناس بحديثه، أُوكلت إليه عدةُ مهام في المركز العام سابقًا.
من يراه وينظر إليه لا يعطيه هذه السن الكبيرة، فقد كان دائم النشاط كثير الحيوية، يحرص على اجتماعه بكثير من الإخوة من مختلف الأقطار، ولا يدخر جهدًا ولا وقتًا ولا مالاً في سبيل الله ودعوته إليه.
من المواقف التي تشهد بتأثيره في الناس وحبهم له موقفه في مظاهرة الإخوان المسلمين في عابدين أيام كان هناك انشقاق بين أعضاء قيادة الثورة.
فقد كان كمال رحمه الله مسئولاً عن رعاية هذه المظاهرة الشعبية السلمية التي لم يكسر فيها شيء، ولم تتفرق المظاهرة حتى اتصل بالشهيد عبد القادر عودة الذي خرج إلى الشرفة، وأمر الإخوان المتظاهرين بالانصراف إلى منازلهم أو إلى المركز العام، ولعل هذا الموقف هو الذي جعل هيئة المحكمة تحكم عليه بالسجن المؤبد؛ إذ إنها أدركت تأثير هذا الإنسان الورع وحب إخوانه له.
كانت والدته وشقيقته الكبرى (رحمهما الله) تواظبان على حضور جلسات محاكمته في عام 1954م، وفي الجلسة الأولى لم تتعرف عليه والدته، لما أصابه من التعذيب، فسألت ابنتها أين أخوك؟! فقالت لها: هذا الذي في القفص فردَّت عليها الأم "لا يا بنتي أنا "عبيطة" حتى لا أعرفه" وقد ظهر وقد نحف جسمه حتى باتت ثيابه فضفاضةً عليه، وحلقوا شعر رأسه، وكسروا فكَّه حتى تغيَّر كلامه، وبقيت والدته في تلك الجلسة مصرةً على أن هذا ليس ابنها كمال.
وبعد الحكم عليه- وهو في المعتقل- أرادت منه والدته أن يكتب رسالة استعطاف إلى المحكمة، فسافرت إليه حين كان في سجن الواحات، وقد تجاوزت السبعين من عمرها، وصارت تستعطفه ليكتب مثل هذه الرسالة، فرفض رفضًا قاطعًا، وحذَّر من أن يكتب أحدٌ من أهله مثل هذه الرسالة، وقال لأمه: كيف يكون موقفي بين يدي الله إذا أرسلت هذه الرسالة وقبضت الليلة؟! أأموت على الشرك؟!
توحيده لقوى الجهاد الأفغاني ضد السوفيت:
وبعد خروجه مباشرةً انطلق يعمل لدعوته ويجاهد في سبيل الله من أجل جمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم، وأعطى جانبًا كبيرًا من وقته وجهده للجهاد الأفغاني، حتى إنه كان يذهب إلى بيشاور ويلتقي بالمجاهدين، ينصحهم ويحثهم على الوحدة، وعلى الصدق في القول والإخلاص في العمل، وكان من أعماله الطيبة أنه يستيقظ يوميًّا قبل الفجر بساعات وينزل إلى شوارع بيشاور يوقظ الناس لصلاة الفجر وينادي بهذا النداء الطيب يقول:
يا نائمًا مستغرقًا في المنام ... قمِ اذكر الحي الذي لا ينام
إلهك يدعوك لذكره ... وأنت مشغول بطيب المنام
لم يأت عليه يوم من الأيام ضاق بالقيود رغم بشاعتها أو ضاق بالسجون رغم شدتها.. بل كان نموذجًا في الصبر والاحتساب، كما لم يأتِ عليه يوم يشتكي فيه إلا إلى الله، هل صاحب هذه الصفات وهذه الأخلاق وهذه العبادة وهذا العمل للإسلام وهذا الصدق وهذا الوفاء لدعوة الله.. أهل صاحب هذه الخصال.. يموت منتحرًا؟! ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا﴾ (الكهف: من الآية 5).
إن الأخ الأستاذ الشهيد كمال السنانيري قمةٌ من قمم الإسلام، كان يعيش فوق ربوة عالية من الأخلاق والإيمان واليقين، تلحقه بأعظم الشهداء وأكرم الأوفياء لدينهم.. الحقيقة هي التي قالها المولى- تبارك وتعالى- في كتابه العزيز له ولأمثاله من العظماء الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمن من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً، يقول سبحانه: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِين* إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِين﴾ (آل عمران: 139- 141).
إلا أن دم الأخ الشهيد كمال السنانيري صار لعنةٌ على كل مَن شارك في استشهاده، وعلى كل مَن ظلمه إلى يوم الدين.
وبعد استشهاده في الثامن من نوفمبر 1981م سُلمت جثته إلى ذويه، شريطةَ أن يوارَى التراب دون فتح عزاء، ولم يخرج في جنازته سوى أقاربه، شقيقيه الضابطين المحالَين على التقاعد، وابن أخيه، وأصهاره الأربعة، وثلاثة من أولاد أخته.
رحم الله الشهيد محمد كمال الدين السنانيري، وأسكنه فسيح جناته، مع النبيين والصديقين والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
—————————————
مصادر الترجمة:
(1) محمد خير رمضان يوسف، تتمة الأعلام، ط2 (بيروت: دار ابن حزم، 2002م)، 2/211، 212.
(2) حسام تمام، عبد المنعم أبو الفتوح: شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية في مصر، ط2 (القاهرة: دار الشروق، 2012م)، ص75.
(3) أحمد رائف، سراديب الشيطان: صفحات من تاريخ الإخوان المسلمين، ط2 (القاهرة: الزهراء للإعلام العربي، 1990)، ص154 وما بعدها.
(4)“المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”
(5)-محمد الصايم: شهداء الدعوة الإسلامية في القرن العشرين - دار الفضيلة - القاهرة – 1992م.
(6)-عبد الله العقيل: من أعلام الحركة والدعوة الإسلامية المعاصرة - مكتبة المنار الإسلامية - الكويت - 1422 هـ الموافق 2001م.
وسوم: العدد 1052