الأديب الداعية الدكتور عمر عبد الله فرُّوخ

sdfbhhh1065.jpg

(1322- 1408 هـ/ 1906- 1987م)

هو باحث، مؤرخ، وكاتب، أديب، ومعلم مربٍّ، ومحقق، ومترجم لبناني.

كان من أشد المدافعين عن اللغة العربية الفصحى، ونادى بأن تكون لغةَ الخطابة والإذاعة والصِّحافة.

وهو عضو في مجمع اللغة العربية بدمشق.

له أكثرُ من مئة كتاب مطبوع، تنوَّعت بين الفلسفة والتاريخ والأدب، منها: تاريخ الأدب العربي (6 مجلدات)، تاريخ الفكر العربي، التبشير والاستعمار، الأسرة في الشرع الإسلامي، تجديد في المسلمين لا في الإسلام، العرب في حضارتهم وثقافتهم، التصوف في الإسلام، عبقرية اللغة العربية، العرب والفلسفة اليونانية، الإسلام والتاريخ، وكتب كثيرة في التراجم، وكتب مدرسية للمرحلة الابتدائية وأُخرى للمرحلة الثانوية في اللغة العربية والفلسفة والتاريخ.

المولد، والنشأة:

ولد د. عمر بن عبد الله بن عبد الرحمن فروخ في بيروت عام 1904، لأسرة مسلمة، متدينة، متواضعة، متعلمة.

يقول عمر مفتخرا بأسلافه:

«أنا عمر فروخ، أنظر إلى الثقافة من جانبها الإنساني، وأدرك أن قومي المسلمين قد أدوا في تاريخ الحضارة قسطا عظيما، دينا ولغة وعلما وفلسفة وسياسة. وأنا مؤمن أن المجد الذي بلغ إليه العرب بالإسلام هو مجد أسلافي.».

الدراسة، والتكوين:

درس في مدارس أهلية ورسمية وتخرج من الجامعة الأميركية في بيروت عام 1924، وكان خطيب حفل التخرج. 

ثم تابع دراسته في ألمانيا، في جامعتي برلين وأرلنغن نورنبرغ، وحاز درجة الدكتوراه في الفلسفة، ولموضوع أطروحته حكاية:

اقترح عمر على أستاذه يوسف هل مواضيع عديدة، استحسنها ثم قال له أستاذه: إن نفرًا من المستشرقين يعتقدون أن الإسلام لم يكن له نفوذ أول الأمر وأن هذا النفوذ الديني المشهور للإسلام هو من صنع المؤرخين العباسيين، وأن الشعر العربي المعاصر للدعوة الإسلامية لا ينكشف على أثر للإسلام بين العرب. 

فهل تستطيع يا عمر، نقض هذا الرأي؟

راح فروخ يجمع الشواهد، حتى اجتمع لديه منها الكثير، فضيق نطاق بحثه حتى خرج بموضوع لأطروحته: «الإسلام كما يظهر من الشعر العربي من الهجرة إلى موت الخليفة عمر بن الخطاب». 

لم يقرب عمر الفواحش، حتى في أثناء دراسته في ألمانيا. كان متدينًا مستقيمًا، وعالمًا ذكيًّا حازمًا، ودقيقًا في حياته وفي مؤلفاته وفي فكره.

عمل عمر فروخ في التدريس، ولم يفضل عليها مهنة أخرى، فدرس في مدارس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت، ومدرسة الثانوية العاملية في بيروت، وفي دار المعلمين في بغداد وفي بومباي وكان عضوًا في جمعيات ثقافية خيرية، لكنه آثر الابتعاد عن السياسة فلم ينغمس فيها بل لم يتكلم فيها أبدًا.

أتقن عمر إلى جانب العربية: الفرنسية والألمانية والإنجليزية، وألم بالفارسية والتركية. وكان يؤمن بضرورة الكتابة عن الأعلام وكشف أسرار التاريخ؛ كان يكتب عن الأعلام مستنطقًا أحداث حياتهم، موردًا آراءهم بألسنتهم دون أن يكون محاميًا عن أحد منهم. شغلته الكتب الإسلامية كثيرًا، وحرَصَ في أعماله ومؤلفاته على خدمة الإسلام ولغة القرآن.

كتب في مقدمة كتابه التبشير والاستعمار الذي استغرق سنوات طويلة في وضعه: «إلى كل شاب مسلم وإلى كل شاب مسيحي، وإلى كل شاب وشابة في الشرق، نقدم هذا الكتاب لنبسط لهم فيه وسائل المبشرين في بلادنا العزيزة وأنهم لم يرموا من وراء تبشيرهم إلا خدمة الاستعمار الغربي». وحين سئل عن النتائج التي وصل إليها المبشرون أجاب: «... منها ضعف اللغة العربية، وضعف التفكير العربي، وضعف الشعور الديني، وضعف الشعور القومي والوطني».

وفي كتابه عن الأسرة والتشريع الإسلامي، أظهر ان التشريع بني أول الأمر على الأخلاق والعقل والفائدة الاجتماعية، ولم يكن أداة استعباد للمسلمين. وحاول في كتابه جمع أقوال اصحاب المذاهب كلها ما أمكنه، لاعتقاده ان المذاهب «أبواب اجتهاد» وأكد في كتابه أن التشريع لم يكن من حق الحاكم بل من حق العلماء، وأن التشريع الفردي هو ما أدى إلى الاستبداد.

كان عمر يرى أن الإسلام ليس بحاجة إلى تجديد بل «هم المسلمون وعدد كبير من فقهائهم». 

مبينًا في كتابه: «تجديد في المسلمين لا في الإسلام» أن عمل المصلح في الدين هو أن يقرب التعاليم من أذهان الناس لا أن يجعل من الدين نفسه حقلَ اختبار ولا أن ينشر كل يوم على الناس دينًا جديدًا.

والتجديد إنما يكون في المعاملات التي تتغير مع الإنسان بتغير الزمن. 

أما العبادات فإن الدين نفسه جعل لها نوعًا من الرخص، والعقائد هي الأسس التي تجعل كل دين يختلف عن دين آخر، والإسلام في هذا أيسر الأديان وأقربها إلى العقول وإلى الحياة.

مؤلفاته:

تاريخ الأدب العربي.

تاريخ الجاهلية.

الملوك والأمراء في الجاهلية.

العصر العدناني. نهضة ثقافية وعسكرية.

الحضارة الإنسانية وقسط العرب فيها.

تاريخ العلوم عند العرب.

الصحابة في تاريخ الزهري. مطبعة الكشاف - بيروت 1944م

صخر بن حرب، مكتبة منيمنة، بيروت - 1949م

خالد بن الوليد، حياته قبل الإسلام، أولاده وذريته.المكتبة العلمية والمكتبة العصرية - بيروت - 1951

سهيل بن عمرو، مكتبة منيمنة - بيروت - 1949م

أحد العمرين، عمر بن أبي ربيعة، مطبعة الكشاف، بيروت، 1944م

تاريخ اليهود في شبه الجزيرة العربية. مطبعة الكشاف، بيروت، 1944م

المرويات المدسوسة في التاريخ الإسلامي.مطبعة الكشاف - بيروت 1945م

تجديد التاريخ في تعليله وتدوينه، إعادة النظر في التاريخ.

تاريخ الإسلام المصور.

أبو تمام شاعر الخليفة محمد المعتصم بالله.

سلسلة دراسات قصيرة في الأدب والتاريخ والفلسفة.

غبار السنين، لمحات من حياتي بين 1916_1982 .

تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون.

هذا الشعر الحديث.

أبو العلاء المعري، الشاعر الحكيم.

سلسلة وثائق ودراسات لبنانية .

دفاعا عن العلم دفاعا عن الوطن .

العرب والإسلام في الحوض الغربي من البحر الأبيض المتوسط .

العرب والإسلام في الحوض الشرقي من البحر الأبيض المتوسط.

العرب في حضارتهم وثقافتهم إلى آخر العصر الأموي.

عبقرية اللغة العربية.

التبشير والاستعمار في البلاد العربية.

تاريخ صدر الإسلام والدولة الأموية.

حكيم المعرة أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري .

التصوف في الإسلام.

الفلسفة اليونانية في طريقها إلى العرب.

إخوان الصفا: درس، عرض، تحليل.

نهج البلاغة للإمام علي كرم الله وجهه.

أربعة أدباء معاصرون: اليازجي، يكن، المنفلوطي، البستاني.

الفارابيان الفارابي وابن سينا.

أثر الفلسفة الإسلامية في الفلسفة الأوروبية.

ابن الرومي، علي بن العباس بن جريج.

الرسائل والمقامات: عبد الحميد الكاتب، بديع الزمان، الحريري.

الأسرة في الشرع الإسلامي.

شاعران معاصران: إبراهيم طوقان وأبو القاسم الشابي.

تحقيقاته:

تاريخ ابن شهاب الزهري .

مغازي عروة بن الزبير.

السيرة النبوية لابن عفان.

المغازي والسيرة لموسى بن عقبة.

ترجماته:

الإسلام على مفترق الطرق لمحمد أسد.

الإسلام منهج حياة لفيليب حتي.

أسرته:

تزوَّج عمر فروخ أواخرَ عام 1940 امرأةً بيروتية هي آمنةُ بنت أمين حِلمي، كانت معلِّمةً في إحدى مدارس المقاصد، ثم تفرَّغت لشؤون الأسرة بعد الزواج. وصفَها بأنها واسعةُ الثقافة، هادئة الطبع، شديدة التنظيم، دقيقةٌ في أعمالها. 

ورُزِقا خمسةَ أولاد: أسامةَ (ولد 1944)، ومروانَ (ولد 1946)، ومازنًا (ولد 1948)، ولينةَ، ولميسَ.

وتابع أبناؤه الثلاثة الدراسةَ في مصرَ، ثم في المملكة المتحدة (بريطانيا) والولايات المتحدة (أمريكا)، وأودَت الحربُ الأهلية اللبنانية بولده الأصغر مازن في عام 1987.

وبعد أن حصل الأشقاءُ الثلاثة على أعلى الشهادات، آثرَ الكبيران أسامة ومروان البقاءَ في بلاد الغرب والعمل فيها، فإنَّ ظروفَ الحرب الأهلية في لبنان لا تشجِّع على العودة، وفضَّل الأخُ الأصغر مازن أن يكون قريبًا من والدَيه، فعاد إلى بيروت أستاذًا للفيزياء النووية، وعلوم الذرَّة في الجامعة اللبنانية، مع نشاط دائب في الدعوة إلى الله، والإسلام الحق.

وفي مساء اليوم الأول من يناير (كانون الثاني) 1987م اجتاحت بيروتَ نوبةٌ من حُمَّى تبادل النار بين رجال الأحزاب المتقاتلين، وشاء الله أن تنفجرَ قنبلةٌ على القُرب من مازن فروخ، وأن تصيبه شظيةٌ تُرديه قتيلًا.

وذكرت صحيفة الأهرام أن عمر فروخ قام من الليل حزينًا وخطَّ على وُرَيقة رسالةً إلى ولده الشهيد جاء فيها:

إلى مازن، أوَيتُ إلى فِراشي بعد دفنك (3/ 1/ 1987) فلم تألَفْ عيناي النوم، ولمَّا انتصفَ الليلُ كتبتُ أبياتًا لعلَّها تُرضِيكَ في مَقامك الأبدي، حيثُ لا يسمع أحدٌ أصواتَ الرصاص الطائش، ولا يرى آثارًا لقنابلَ لا يُعلم من يُطلقها، ولا من أين يُطلقها، ولا لماذا يُطلقها!

يا وَلَدي يا وَلَدي. يا قِطعةً من كَبِدي

يا فرحةَ الدُّنيا التي. لَألاؤُها لم يَخمُدِ

ياطَلعةً طافَتْ على. عَوالمٍ مِن عَسْجَدِ

يا لمحةً قد بَقِيَت. مِن أمَلٍ مُبَدَّدِ

قد كنتُ أرجو مُسْعِدًا. آوِي إليهِ في غَدِي

لكنَّنِي، يا أسَفي. كفَّنتُ أمسِي بيَدي

يا ليتَني رَضِيتُ أن. تهجُرَ هَجرَ الأبَدِ

ولا تموتَ مِيتةً. سَرَّتْ عُيونَ الحُسَّدِ

ما مازنٌ إلا الهَوى قد غابَ في دَمعِي النَّدِي

وفاته:

توفي عمر فروخ في بيروت يوم الأحد 17 ربيع الأول 1408 هـ الموافق 8 نوفمبر (تشرين الثاني) 1987 م.

وأفرد سيرته الأستاذ المؤرِّخ أحمد العلاونة في كتابه (عمر فروخ في خدمة الإسلام) الصادر ضمن سلسلة كتاب الأمَّة، عن وِزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر.

الملاحظات:

 يوسف هل (بالألمانية: Joseph Hell) مستعرب ألماني (1875-1950)، تخرج باللغات الشرقية على فريتز هوميل من جامعة أرلنجن، ثم عين أستاذا فيها.

أصداء الرحيل:

كتب عمر عبيد حسنة مدير تحرير مجلة الأمة الصادرة في قطر ..

الحمد لله القائل:

( أولئك الذين هـدى الله فبهداهم اقتده ) (الأنعام:90) ،

ذلك أن دراسة النماذج التي تجسد القيم في حياة الناس، وتقدم الدليل على الخروج بها من المثالية إلى الواقعية وإمكانية التنفيذ، وأنها إنما تقع بوسع البشر، وتمنح الناس الإرادة والأمل، وتشحذ عزائمهم، وتحرك روح المنافسة والاستباق في حياتهم، تعتبر من أهم وأرقى وسائل التربية النظرية والعملية والنفسية والاجتماعية، وتدفع إلى محاولة المقاربة والمحاكاة والتقليد وتخصيب الخيال، والارتقاء بالطاقة، وعلى الأخص بالنسبة للأجيال القادمة على طريق المستقبل.

كما أنها تحمي من السقوط في مركب عقدة النقص، وتخلق مناخا ثقافيا تنشأ فيه الأجيال، وميدانا للتدريب على المعاني التي تشكل النسيج الذهني لأبناء الأمة.

إضافة إلى أنها تشكل لونا مؤثرا من الضبط الاجتماعي وإشاعة الأعراف الحميدة، بحيث تقوم الفروع على الأصول؛ إضافة إلى ما تمنحه من الاعتزاز بالأمة وإنجازها التاريخي، والقدرة على التجاوز لحالات السقوط، والعمل على استئناف النهوض. [ ص: 5 ] من ذلك، كان الأنموذج ضروريا، حتى للأنبياء، محل الاقتداء،

قال تعالى: ( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل (الأحقاف:35) .

إن دراسة السير أمر ضروري للمقاربة والمقارنة والاعتبار، واكتشاف السنن، والإفادة من تجارب الأمم والأفراد،

قال تعالى: ( لقد كان في قصصهم عبرة ) (يوسف:111) ،

( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ) (هود:120) .

والصلاة والسلام على الرسول الخاتم، الرحمة المهداة، الذي كان محل الأسوة والاقتداء، دون غيره من سائر الخلق؛ لأنه مؤيد بالوحي ومسدد به، فإذا اجتهد وأخطأ صوب له الوحي، وإن اجتهد وأصاب أقره الوحي، فكل ما وردنا عنه بطريقة صحيحة هـو حق ومحل اقتداء،

قال تعالى: ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) (الأحزاب:21) ؛

أما غيره من سائر البشر فيجري عليهم الخطأ والصواب، وكل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد إلا المعصوم، أو كما قال الإمام مالك ، رحمه الله.. فأفعال البشر وأقوالهم واجتهاداتهم تبقى دائما محل تقويم ومراجعة وتصويب بقيم الوحي المعصومة، في الكتاب والسنة.

ومن هـنا نقول: إن تاريخ سير الأعلام -والسير بشكل عام- هـي محل عبرة ودرس، وليس مصدر تشريع، وإنها محكوم عليها بقيم الكتاب والسنة، لتبين خطئها من صوابها، على عكس السيرة النبوية الصحيحة وقيم الكتاب والسنة، فهي الحاكم على أفعال الناس وأنشطتهم، وفي ذلك حماية للإنسان من الوثنيات الجديدة والكهانات التي يمكن أن تتسرب لنفسه، أيا كانت. [ ص: 6 ]

وبعد:

فهذا كتاب الأمة الثاني بعد المائة: « عمر فروخ (رحمه الله) .. في خدمة الإسلام» للأستاذ أحمد العلاونة ، في سلسلة «كتاب الأمة»، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة قطر ، في محاولاته المستمرة لتصويب الاقتداء وإعادة التشكيل الثقافي، واكتشاف مواطن الخلل، في معادلة الأمة، وبيان أسباب الفشل والإخفاق وعدم بلوغ الأهداف، ومحاولة تنهيج ذهنية العاملين للإسلام بالمنهج السنني، والتأكيد أن سنن الله في الأنفس والآفاق هـي الأقدار التي فطر سبحانه وتعالى الحياة عليها، وسيرها بها، اهتداء بقوله تعالى:

( سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا ) (الأحزاب:38) ،

والتيقن من أن سنن الله لا تتبدل ولا تتغير، وأنها لا تحابي أحدا:

- ( فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا ) (فاطر:43) ،

وأن الله لم يخلـق الحياة عبثا وإنما أخضعها لنظم وقوانين؛ وأن المعجزات هـي دليل، من بعض الوجوه، على اطراد السنن؛ وأنه لا يمكن تحليل ظواهر الحياة وتفسيرها وتحديد كيفية العلاقة بها والتعامل معها واكتشاف سيرورتها وتعثرها إلا من خلال اكتشاف هـذه القوانين، التي تحكمها، ذلك أن الله جعـل لكل شيء سـببا، وأن أي إنجاز أو تصويب لا بد له من اتباع تلك الأسباب؛ وأن هـذه الأقدار لا تورث العطالة وتلغي الحرية والاختيار وإنما تمنح القدرة والفهم والاستيعاب وحسن التفسير والتقدير، ودقة الاختيار، بعيدا عن الخوارق والمجازفات. [ ص: 7 ] إن رحلة البحث العلمي وما بلغته اليوم لم تتحقق إلا بعد اكتشاف قوانين الحياة في الأنفس والآفاق، وحسن تسخيـرها، وعدم الاصطدام بها، أو إبقاء العقل دون فهمها، أو إدراكها، والعجز أمامها، وتفسيرها بقوى غيبية؛ فلولا فهم تلك السنن والقوانين لما أمكن تحصيل هـذا الإنجاز العلمي، الذي نتج من التفكير بآفاق وفضاءات كبيرة جدا لكيفية مغالبة هـذه القوانين بقوانين أخرى.. فلولا اكتشاف قانون الجاذبية لما أمكن توظيفه علميا ومن ثم امتلاك القدرة على التعامل معه وتجاوزه إلى ارتياد آفاق الكون.

ومن هـنا ندرك مدلول " قول بعض الصحابة، رضي الله عنهم : نفر من قدر الله إلى قدر الله. " ، وأن مغالبة قدر بقدر هـي جدلية الحياة ووسيلة الكشف العلمي، كما ندرك قولة الإمام « ابن قيم الجوزيه »: ليس المسلم الذي يستسلم للقدر، وإنما المسلم الحق هـو الذي يغالب القدر بقدر أحب إلى الله.. وفي كل الأحوال يبقى المسلم يتقلب بين أقدار الله، ولا يخرج منها.

ولا شك عندنا أن إدراك فاعلية المنهج السنني، على مستوى الأنفس والآفاق، هـو الذي يؤدي إلى التنمية والتمكين والقدرة على التسخير والتحكم،

يقول تعالى: ( إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا فأتبع سببا ) (الكهف:84-85) ،

ذلك أن اتباع الأسباب هـو سبيل التمكين -كما أسلفنا- وسبيل الوقاية من الإصابات.

وقد تكون الإشكالية أن إدراك المنهج السنني في الأمور المادية والعلوم التجريبية أمر ميسور وملموس؛ لأن مرده الملاحظة والتجربة والاختبار، [ ص: 8 ] وكلها تقع تحت الحواس، ولا تتطلب نتائجه في الغالب عمرا مديدا حتى تظهر خصائصه، فيراه الإنسان، ويحسه، ويسهل إدراكه، ومن ثم نقله وتطبيقه.. أما المنهج السنني في الدراسـات الاجتمـاعية والإنسانية فغالبا ما يبقى عصيا عن الإحساس، ذلك أن عمره مديد، وعواقبه بعيدة، فقد تقتضي جيلا أو أجيالا، إضافة إلى أن موضوعه الإنسان، بكل مكوناته وتقلباته، وتكيفه، وخصائصه، وصفاته، وتحيزاته، والتطور الذي يطرأ عليه في مراحل نموه، ونضجه ورشده.. وليس الإنسان موضوعه فقط، وإنما وسيلته أيضا.

فالمعادلة الصعبة: أن الإنسان في العلوم الإنسانية والاجتماعية هـو الموضوع وهو الوسيلة معا، لذلك كان التاريخ البعيد هـو المختبر الحقيقي للفعل الإنساني، والقانون الاجتماعي.. وليس غريبا القول: بأن التاريخ هـو أبو العلوم الاجتماعية، ومصدر إدراك قوانين الحركة الاجتماعية، وأن محاولات تطبيق منهج العلوم التجريبية على العلوم الإنسـانية والاجتماعية هـو نوع من المجازفات والإسقاط للكثير من الحقائق العلمية.

وعلى الرغم من سهولة إدراك التجارب العلمية نسبيا، والإحاطة بعلمها ونتائجها، فإن الأمر مختلف تماما في العـلوم الاجتمـاعية والإنسانية -كما أسلفنا- التي تحتاج إلى كثير من دقة النظر؛ لأن الإنسان متحيز بطبعه وخلقه، وهو موضوع تلك العلوم ووسيلتها، لذلك تبقى إشكالية العلوم الاجتماعية والإنسانية في دقة معايير التقويم والقياس، ذلك أن تحديد القيم والمعايير تختلف وتتباين من إنسان لآخر، حتى أنها تتباين عند الإنسان الواحد في مراحل عمره المتعددة وحالاته المتقلبة، وقد تتعدد وجهاتها [ ص: 9 ]

ومذاهبها ومناهجها بتعدد علمائها، لذلك كان لا بد من معايرتها بقيم ثابتة دقيقة صحيحة (معصومة) مستمدة من خارج الذات، أي من مصدر خارج عن الإنسان، عالم به وبتقلباته ومكوناته وتطوراته، من طريق الوحي المعصوم، حيث لا بد أن تسبق بإيمان ويقين بأن الله الخالق هو العدل المطلق، المنـزه عن التحيز، العالم بمن خلق.

وكون القيم ومعايير القياس متأتية من الوحي، من خارج الإنسان، فسوف تكون صحيحة وموضوعية ومجردة عن التحيز، ولا يمكن أن تتخذ وسيلة لتسلط الإنسان على الإنسان.

لذلك نقول: إن النص الصحيح الوارد من معرفة الوحي، في نطاق العلوم الاجتماعية والإنسانية، هو علمي ويقيني، ويمكن أن يعتبر بمثابة نتائج التجربة المخبرية في العلوم التجريبية.

وقد تكون إشكالية الذهنية المسلمة في عصور التخلف والتقهقر والتراجع والانحطاط في عدم الإدراك الكامل للعلاقة بين القدر والحرية، بين القدر والإرادة، ذلك أن من قدر الله أنه أراد إلينا أن نريد، وأن ندرك السنن التي تقوم عليها الحياة، وأن تسخير السنن وعمارة الأرض من السنن، وهذا لا يتأتى إلا بإدراك السنن وتفسير الظواهر وتحليلها في ضوء تلك السنن، وأن مغالبة القدر من التكليف أيضا.

وهذه المغالبة لا تكون إلا بعد الإحاطة بعلم السنن والقوانين واكتشافها، وقد دعانا القرآن لذلك، وكشف لنا من السنن والنواميس [ ص: 10 ] الأساسية في الحياة لإدراك أن الحياة ليست عبثا، ولتكون في الوقت نفسه وسيلة تحريض، ودليل هـداية لمزيد من الكشف والاكتشاف.

ولعل من الإصابات الكبيرة، التي لحقت بتشكيلنا الذهني، والتي يطلب من الرواد التنبه والتنبيه إليها، أن التكيف الشرعي للقيام بأعباء الاستخلاف الإنساني وعمارة الأرض يتطلب إدراك السنن في الأنفس لبناء الإنسان الصالح، وإدراك السنن الكونية والعلمية التجريبية في الآفاق لعمارة الأرض، والإيمان بأن إدراكها من الدين، ومن متطلبات الحضارة؛ أما بعض الفهوم المعوجة التي انتهت إلى تشطير الإنسان، والاقتصار على بذل بعض الجهود -بزعمها- في الحقل الإنساني والاجتماعي فقط، فلم تثمر إنسانا ولا حضارة.

 إن استيعاب معرفة الوحي وبناء الإنسان بشكل سليم، يدفع هـذا الإنسان إلى بناء الحضارة لا إلى التفسير المتخلف للحياة بأننا ننصرف لتعلم الأحكام الشرعية ونتفرغ لممارسة العبادة، بمفهومها الحسير، والله يهيئ لنا من الكفار من يخدمنا بمثل تلك العلوم، ولا غرابة في ذلك إذا علمنا أن ذلك من إفرازات ذهنية التخلف، وقيادات التخلف، ورواد تكريس التخلف.

ولعل من مظاهر التخلف المفجعة: الالتباس بين الذات والقيمة؛ ذلك أن ذهنية التخلف يصعب عليها التجريد، والقدرة على إدراك المعيار والمقياس الثابت، الذي يقاس به الأشخاص والأفعال، ويحكم من خلاله على الفعل الإنساني.. فذهنية التخلف لا تستطيع الانفكاك عن التجسيد المادي، لذلك فهي عاجزة عن التمييز بين الذات والقيمة، الشخص والحق، [ ص: 11 ] لأنـها تعاني من طفولة بشرية، لا تبصـر إلا الأشـياء، وتعجز عن إبصار الأفكار والقيم.

لذلك تشكل هـذه الذهنية مناخا مناسبا لانتشار الكهانات؛ لأنها تستدعي الوثنيات بطبيعتها؛ أما أن تعرف الحق لتعرف أهله فهذه المعرفة عمليا تعتبر إشكالية كبيرة؛ أن تقيس الرجال والفعل بالحق ولا تقيس الحق بالرجال؛ أن تنظر إلى الحق وتختبره بمعيار الوحي، من أي شخص أتى، وأن تأخذ الحكمة من أي وعاء جاءت؛ وأن تنظر إلى طبيعة المشار إليه قبل الحكم على المشير؛ فهذه هـي معادلة التخلف الصعبة.

إن تلبس الذات بالقيمة يؤدي إلى تعطيل معيارية القيم، ويصبغها بالصبغة الشخصية (الشخصانية) وبذلك تفتقد القيم، التي مصدرها الوحي، في واقع الناس تميزها في كونـها مستمدة من مصدر خارج عن الإنسان، ولم يبق هـناك كبير فارق بين القيم الإسلامية المستمدة من الوحي المعصوم وبين القيم الوضعية التي ينشئها الإنسان ويتلبس بها، فيكون هـو موضوع النظر، وهو وسيلة النظر، في الوقت نفسه؛ ولعل هـذا من أخطر آفات التدين، حيث يحصل الارتكاس، فيعرف الحق بالرجال، وتكون القيم تبعا لفهمنا وهوانا، ( والرسول يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هـواه تبعا لما جئت به ) لا ما جئت به تبعا لهواه، وبذلك يؤصل لحالة الكهانة.

إن التحول من المجسد المحسوس إلى المجرد المعقول يشكل مرحلة من مراحل الرشد الإنساني، ذلك أن التجريد من حدود الزمان والمكان [ ص: 12 ] والشخصيات يمكن من التوليد والامتداد وتنـزيل المعنى على كل الحالات المشابهة، وعدم الانحباس ضـمن إطار الصـورة المحسوسـة وأسوارها، وإنما تجاوزها إلى الحقيقة التي يمكن أن تبصر في كل صورة مثيلة.

من هـنا نقول: بأن معجزات الأنبياء، قبل النبوة الخاتمة وبلوغ البشرية رشدها، جاءت مجسدة مرتبطة بأشخاص الأنبياء، عليهم السلام، وجدت بوجودهم وانتهت بموتهم؛ والإيمان بها بالنسبة للعصور المتتابعة هـو إيمان بالغيب، عن طريق الخبر الصادق؛ أما معجزة الرسالة الخاتمة فهي معجزة مجردة عن حدود الزمان والمكان والأشخاص، موجهة لكل إنسان في كل زمان، ومن هـنا تأتى لها الخلود والإعجاز في كل زمان ومكان، تماما كما كان الحال في عصر صاحب المعجزة وحياته وبعد موته، عليه الصلاة والسلام .

هذا التجريد شكل منهجا في النظر والتفكير، لذلك اتجهت الحضارة الإسلامية إلى تعظيم المعاني والأعمال، لا الأشخاص، وجاء التعظيم للبطولة دون حصرها في إطار البطل، لتكون دراسة الأبطال والأعلام مرقاة للجميع، تمنحهم الإرادة في المحاولة والاقتداء، على عكس الحضارات الأخرى التي حصرت البطولة في شخص البطل، وانصرف التعظيم والتقديس للبطل بالدرجة الأولى، وليس للبطولة والعمل.

من هـنا نقول: إن دراسة الأعلام والرواد في المنهج الإسلامي تتركز على أعمالهم وإنجازهم، فنحن نعرف الكثير عن أعمال وإنجازات الأعلام ولا نعرف إلا القليل عن صفاتهم الخلقية؛ لأن الأشكال والأطوال والألوان أمور قسرية ليست بمستطاعة. [ ص: 13 ]

فإذا ذكر سيدنا عمر ، رضي الله عنه ، ذكر العدل والجرأة في الحق، وإذا ذكر خالد بن الوليد ، رضي الله عنه ، ذكرت الشجاعة والتخطيط... وهكذا.. حتى عقيدة الألوهية ، المنطلق، هـي غاية في التجريد ارتقت إلى مستوى التنـزيه، وأن الإله في التصور الإسـلام ليس كمثله شيء، وكل ما خطر ببالك فالله غير ذلك، للحيلولة دون الحلول والتجسيد؛ أما في العقائد الأخرى فلم يستطيعوا تصور الإله الخالق إلا مجسدا، الأمر الذي جعلهم يخلعون عليه صفات البشر المخلوق.

إن دراسة الأعلام وحركات التغيير تتطلب الكثير من الحيادية والموضوعية وامتلاك المعايير السليمة للقياس والتقويم، والتسليم ابتداء بأن الحركات والأشـخاص والجماعات يرد عليها الخطأ والصواب، وأن الحب لا يجوز أن يخرج عن الحق، وأن ذهنية التخلف عاجزة عن التوازن وضبط النسب في التقويم؛ لأنها ذهنية عامية ثقافيا، حتى ولو تعلمت الأبجدية؛ مصابة بعمى الألوان، لا تبصر إلا لونا واحدا، لذلك تختزل كسب الأشخاص والجماعات والهيئات في موقف، وتسقط تاريخها كله، الأمر المفزع حقيقة، بحيث أصبحت الشهادات حزبية، والوظائف حزبية، والمعاهد حزبية، والعلاقات والصلات حزبية، والألقاب والوجاهات والكيانات والزعامات حزبية أيضا، فلا نعرف الحق إلا بالأشخاص.

فالعقلية الحزبية، بالمعنى الواسع، لم تعد تقتصر على أنظمة الحكم، ومن يدور في فلكها، وإنما باتت وباء اجتماعيا لحق بالمعارضة للأنظمة، وحتى وصل [ ص: 14 ] إلى مؤسسات هـي بطبيعتها تنأى عن الحزبية مثل التربية والتعليم والمجتمع المدني ، الأمر الذي جعل المدافعة بين ظلم وظلم، فانتهى إلى الظلام والتخلف.

فكم من موهبة وطاقة وقابلية وقدرة ومؤهل غمطتها الحزبية ، وأسقطها التعصب؟ وكم من الزعامات الحزبية غير المؤهله قادت الأمة إلى مهالك، إلى معارك فادحة الخسارة، وهدرت طاقات خيرة، وفرطت بطاقات وتضحيات في المعارك الخطأ؛ نسأل الله أن يتقبل أصحابها على نياتهم؟ وكم من الكبار حزبيا هـم صغار في حقيقة الأمر، أو هـم الصغار، والذي حماهم وسمح بامتدادهم الأسوار والسراديب الحزبية والسريات، ومع ذلك نقرأ جميعا بألسنتنا قوله تعالى: ( ويل للمطففين ) (المطففين:1) .

وقد تكون القضية الأخطر عدم وجود الشجاعة الكافية للاعتراف بالخطأ، والتوبة الفكرية والعملية عنه، وإنما ديدننا دائما التنكر للخطأ، وعدم إدانة أتباعه الذين وقعوا بالخطأ بسبب الريادة الحزبية الفاشلة، التي تأبى الاعتراف بالفشل، ولو حتى لمرة واحدة.

فكيف والحالة هـذه، والمناخ هـذا، نكون موضوعيين في دراستنا لحركات التغيير، ورواد التغيير والإصلاح، وامتلاك القدرة على تحديد مواطن الخلل والإخفاق في بلوغ الأهداف، لتجنبها وأخذ الخبرة والإفادة من التجربة، ومواطن النجاح لاستصحابها وإضافتها إلى عقولنا وأعمارنا، بحيث نبدأ من حيث انتهوا وليس من حيث بدأوا، حتى لا نستمر في نقض غزلنا بسبب من العمى الحزبي؟ [ ص: 15 ] وليس التحزب كله سياسيا، فالتعصب دوافعه وألوانه شتى، من قومية، وعرقية، ومذهبية، ولونية، وجنسية، وحتى علمية:

( وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ) (آل عمران:19) ..

فكم من الحقائق طمست، وكم من المواهب حوصرت، وكم من الطاقات أهدرت، وكم من المواقع عطلت، وكم من الصغائر كبرت، وكم من الكبائر صغرت، وكم من الشخصيات حوربت وحرمت الأمة من عطائها، لافتقارها إلى الهوية الحزبية، بكل مفهوماتها التي أسلفنا؟ فأنى لأمة هـذا حالها -يصادر حتى حلمها وأملها وتحاصر طاقاتها حزبيا- أن تستطيع أن تضطلع بدورها، وأن يتمتع أفرادها بتكافؤ الفرص؟!

لذلك سوف نرى عجبا يوم الحساب، يوم الواقعة، التي من أبرز صفاتها أنها خافضة رافعة، فكم من أصحاب المقامات والألقاب المزورة في الدنيا يخفضون، وكم من المحرومين المظلومين يرفعون، فتعرية المزيفين وخفضهم ووقوعهم هـو أول مظاهر العدل يوم القيامة.. فهل نعتبر !؟

من هـنا تتأكد الحاجة إلى دراسات تقويمية موضوعية نقدية، بعيدة عن التحيز أو الشخصانية، تهتدي بهداية الوحي، وتلتزم معاييره، وتستشعر المسئولية على فعلها، وتعزم على الخلاص من هـذا التخلف والسقوط الحضاري، والعودة إلى قيمنا ومبادئنا، التي كانت ولا تزال سبب نهضتنا وسبيل معاودة النهوض. [ ص: 16 ]

ونحن على طريق إعادة التشكيل الثقافي والارتكاز الحضاري ومعاودة النهوض، لا بد لنا من تقويم تجارب ودراسات من حركات التغيير والإصلاح، وتقديم رؤى ونماذج لرواد الإصلاح؛ لأن ذلك يغني تجربتنا، ويثري رؤيتنا، ويضيف عقولا إلى عقولنا، وعلوما إلى علمنا، ويختصر علينا الزمن، ويمنحنا خلاصة التجارب، ويحمينا من العثار، ويجنبنا الخطأ.

والأمر الذي لا بد من تأكيده باستمرار، أن التجارب البشرية جميعا يعتريها النقص والخطأ، وأن اكتشاف الخطأ في كثير من الأحيان قد يكون أكثر فائدة من معرفة الصواب، شأننا في ذلك شأن الصحابي الذي كان يسأل الرسول عن الشر، مخافة أن يقع فيه، في الوقت الذي كان الصحابة يسألون عن الخير ليفعلوه.. فإذا كان ذلك في عهد النبوة، فكيف سيكون حالنا والشرور تحيط بنا من كل جانب؟

ونعتقد أن الاقتصار على الجوانب الإيجابية في الدراسة والنقد، على أهميته وفوائده التربوية، إلا أنه لا يقدم الصورة كاملة ولا صحيحة؛ وفي الحياة الخيـر والشر، والخطأ والصواب، ولسنا في مجتمع ملائكة مبرمجين على فعل الخير، لذلك تبقى الحاجة قائمة لتقديـم الجانب السلبي من الأنموذج، وذلك لمعرفة كيفية تعامل النماذج مع الأمور السلبية، وأسباب الوقوع فيها، لأننا في نهاية المطاف، كأفراد وجماعات، بشر يجري عليهم الخطأ، فلا يعقل أن كل ما فعلنا صواب معصوم، في الوقت الذي يلاحقنا الفشل من كل جانب! [ ص: 17 ] ونخشى أن نقول: إن السكوت عن الجوانب السلبية في حياة النماذج وحركات التغيير والإصلاح سوف يحمل الكثير من التغرير والغش الثقافي للأجيال في واقع الحال، حتى ولو خلصت النوايا.. فالعمل الحسن هـو الذي يتكون من النية الصالحة (الإخلاص) ومن الخطة النضيجة الراجحة (الصواب) فمجرد الإخلاص إذا لم يؤد إلى الصواب يمكن تصنيفه في خانة الأماني والرغبات.

ولعل من النماذج الفريدة، التي تشكل ظاهرة قائمة بذاتها، تستحق الدراسة والتحليل، من خلال الظروف التي وجدت فيها، والمجاهدات التي اضطلعت بها، شخصية الدكتور عمر فروخ ، رحمه الله، الذي يذكر بجيل الموسوعيين من الأعلام والراود، الذين جمعوا بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الغربية.

فلقد كان شخصية فذة من أولى خصائصها أنها كانت بعيدة عن الانتماء الحزبي، فأفاد منه الجميع، لذلك كان يتمتع بالطلاقة والرحابة والحرية في النظر، بدون قيود مسبقة، على الرغم من اعتزازه بالعروبة وإيمانه بالإسلام، ودوره في بناء الأمة وإخراجها وإسهامها في الحضارة الإنسانية، والارتقاء بلغتها ونقلها إلى مصاف اللغات العلمية والعالمية.

ارتكز إلى التربية والتعليم، وانطلق منه كانطلاقة الإسلام الأولى، أول ما نزل من الوحي ( اقرأ ) ، واعتبره طريق النهوض الذي لا طريق سواه.. فالمعرفة هـي القوة، وهي النور، وهي الحضارة، وهي الشخصية؛ ويمكن وصفه إلى حد بعيد بأنه رجل معلم. [ ص: 18 ] وعلى الرغم من أنه كان متنوع الاهتمامات، إلا أن ذلك لم يبعثر شخصيته ويفكك هـمته أو يفل عزمه.. اشتغل في الأدب، وإليه يعود الفضل في وضع كتاب عن (تاريخ الأدب العربي) بعد أن كان العرب والمسلمون يعيشون عالة على المصدر الأجنبي.

وكان له نظرات في اللغة، والفلسفة، والاجتماع، والتاريخ، والتشريع، فالثقافة عنده هـي الشخصية والبوصلة والدليل للعقل الإنساني.

كان شخصية جادة ومأنوسة، وكان بعيدا عن المهاترات بطبعه، لذلك لم تشغله الشحناء، ولم يجر وراء الخصومات والعداوات، ولم تنل منه.

كان بحق شاهد القرن المملوء بالأحداث الكبرى؛ فلقد سقطت الخلافة الإسلامية، وقامت الحروب العالمية، الأولى والثانية، وحصلت فيه النكبات للكثير من بلاد المسلمين، وجاء الاستعمار الحديث إلى معظم بلاد المسلمين مسبوقا بالغزو الفكري الذي اتخذ التبشير غطاء له؛ وبالإمكان القول: إن كتابه (التبشير والاستعمار) الذي شكل ثقافة جيل بل أجيال، ووقاية جيل بل أجيال، ما يزال حتى اليوم مرجعا للمكتبة العربية والإسلامية؛ والكثير ممن يشتغلون بهذه القضايا ما يزالون مرابطين عند كتابه، على الرغم من تطور الأساليب وتغير المواجهات.

لقد واجه عمر فروخ ، رحمه الله، الكثير من الثغور المفتوحة في الجسم الإسلامي، فعند أيها يرابط؟

كان يمثل صيحة النذير؛ ينبه إلى المخاطر، ويقرع طبول الإنذار بالخطر، ويستنهض الأمة، ويصوب رؤيتها، ويبصرها بتراثها. [ ص: 19 ]

لكن على الرغم من صعوبة المواجهة وشراسة العدو كان بطبعه أنيسا واثقا من منهجه، ذو شخصية محببة، قادرة على التعايش، أفاد من تكوين بلده لبنان سمات التنوع الثقافي والقدرة على التعايش، والمرونة، وإجادة الحوار بشكل هـادئ ورزين، دون أن يعطي الدنية في دينه.

والكتاب الذي نقدمه يمكن أن يشكل زاوية للرؤية، نطل من خلالها على مواقع متنوعة لرجل موسوعي، حمل هـموم أمته، وكانت مرآته صافية، قادرة على الاستشعار المبكر، وتجاوز الصور إلى الحقائق، لم تخدعه طروحات التبشير وشعاراته الإنسانية؛ لأنه كان يعلم أنه ملغم بالنوايا السيئة، وأنه يشكل طليعة من طلائع الاستعمار، يهيئ له قابليات الشعوب، كما يؤهلها لتقبله.. ولو لم يكن للدكتور عمر فروخ، رحمه الله، إلا كتاب (تاريخ الأدب العربي) الذي أدى فيه أحد فروض الكفاية عن الأمة، وكتاب (التبشير والاستعمار) الذي نمى فيه حاسة الاستشعار المبكر للأنواء والنوايا السيئة المحيطة بالأمة، والتنبه إلى كثير من الثغور المفتوحة، لكفاه.

ولا نزعم أن الكتاب الذي نقدمه أعطاه بعض حقه، وإنما هـي حزمة ضوء أو أضواء على شخصيته واهتماماته، لعله يكون رائدا للجيل القادم، ودليلا على أن الأمة المسلمة خالدة بخلود رسالتها، وقادرة على الإنتاج في كل مكان وزمان.

والحمد لله رب العالمين. [ ص: 20 ]

العلامة الراحل الدكتور عمر فروخ ( 1906ـ 1987م ) 

لمن لا يعرفه هو عالم لبناني موسوعي يعتبر من آخر الموسوعيين العرب ، ألف أكثر من 100 كتاب، منها تاريخ الأدب العربي (6 مجلدات) تاريخ الفكر العربي ـ التبشير والاستعمار ـ الأسرة في الشرع الإسلامي ـ تجديد في المسلمين لا في الإسلام ـ العرب في حضارتهم وثقافتهم ـ التصوف في الإسلام ـ عبقرية اللغة العربية ـ العرب والفلسفة اليونانية ـ الإسلام والتاريخ ـ وكتب كثيرة في التراجم، وكتب مدرسية للمرحلة الابتدائية وأخرى للمرحلة الثانوية، في اللغة العربية والفلسفة والتاريخ.

درس في المدارس والجامعات اللبنانية والعربية أكثر من نصف قرن حيث عمل عمر فروخ في التدريس، ولم يفضل عليها مهنة أخرى، فدرس في مدارس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت، ومدرسة الثانوية العالمية في بيروت، وفي دار المعلمين في بغداد وفي بومباي وكان عضوا في جمعيات ثقافية خيرية . 

فضلا عن انشطته في مجامع اللغة العربية وفي الصحافة ، حيث ظل يكتب في الصحف والمجلات حتى قبيل وفاته ، كما أصدر مجلة " الأمالي " وهي مجلة ثقافية متنوعة توقفت بعد سنوات من صدورها فقد أثرت على عمله في مجال التعليم مما دفعه لإيقافها ؛ فقد أولى الدكتور عمر فروخ التعليم جل اهتمامه ما جعله يرفض تولي المناصب في الدولة ويبتعد عن السياسة ، فلم ينغمس فيها بل لم يتكلم فيها أبداً. وعن هذا الأمر كتب يقول: 

ـ سألني نفر من أصدقائي فقالوا : لماذا لا تكتب في السياسة ؟ فقلت لهم : اثنان لا يتكلمان في السياسة : الذي لا يعرف شيئاً في السياسة والذي يعرف كل شيء من السياسة . والواقع أن السياسي الحق يعمل ولا يتكلم . فإذا ه أراد أن يتكلم ، عمد إلى تدوين عدد من الحقائق في أراق ثم ترك تلك الأوراق لتنشر بعد وفاته . 

  • ناظر المستشرقين وأبهرهم : 

بعد حصوله على البكالوريا من الجامعة الأمريكية في بيروت سافر إلى ألمانيا للدراسة فيها ، وقد ألتقى بعدد من المستشرقين وحاورهم وأبهرهم ، كما رأى المستشرق بروكلمان وراسل الكثير من المستشرقين ، وطاف معظم مدن ومناطق ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية وشاهد هتلر عن قرب وأستمع إلى خطاباته وكان في إحداها قريب من منصة الخطاب وله آراء عن ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية حيث أعجب بالنظام الدقيق فيها وسوف نعرض في مذكراته بعض من آرائه في مقال قادم .

اقترح عمر على أستاذه المستشرق يوسف هال موضوعات عديدة، استحسنها ثم قال له استاذه: إن نفرا من المستشرقين يعتقدون أن الإسلام لم يكن له نفوذ أول الأمر وان هذا النفوذ الديني المشهور للإسلام هو من صنع المؤرخين العباسيين، وان الشعر العربي المعاصر للدعوة الإسلامية لا ينكشف على أثر للإسلام بين العرب. فهل تستطيع، يا عمر، نقض هذا الرأي؟

فراح عمر يجمع الشواهد، حتى تكون لديه منها الكثير، فضيق نطاق بحثه حتى خرج بموضوع لأطروحته: «الإسلام كما يظهر من الشعر العربي من الهجرة إلى موت الخليفة عمر بن الخطاب».

أتقن عمر إلى جانب العربية: الفرنسية والألمانية والإنجليزية، وألم بالفارسية والتركية. وكان يؤمن بضرورة الكتابة عن الإعلام وكشف أسرار التاريخ. كان يكتب عن الإعلام مستنطقا أحداث حياتهم موردا آراءهم بألسنتهم دون أن يكون محاميا عن أحد منهم. إلا ان الكتب الإسلامية شغلته كثيرا، فمن خلال عمله ومؤلفاته خدم الإسلام ولغة القرآن.

  • شهادة رائعة عن جهوده :

يقول عنه الدكتور عمر عبيد حسنة في مقدمة كتاب " عمر فروخ في خدمة الإسلام " لمؤلفه الأستاذ أحمد العلاونة والصادر في سلسلة كتاب الأمة : ( ولعل من النماذج الفريدة، التي تشكل ظاهرة قائمة بذاتها، تستحق الدراسة والتحليل، من خلال الظروف التي وجدت فيها، والمجاهدات التي اضطلعت بها، شخصية الدكتور عمر فروخ ، رحمه الله، الذي يذكر بجيل الموسوعيين من الأعلام والرواد ، الذين جمعوا بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الغربية.

فلقد كان شخصية فذة من أولى خصائصها أنها كانت بعيدة عن الانتماء الحزبي، فأفاد منه الجميع، لذلك كان يتمتع بالطلاقة والرحابة والحرية في النظر، بدون قيود مسبقة، على الرغم من اعتزازه بالعروبة وإيمانه بالإسلام، ودوره في بناء الأمة وإخراجها وإسهامها في الحضارة الإنسانية، والارتقاء بلغتها ونقلها إلى مصاف اللغات العلمية والعالمية.

ارتكز إلى التربية والتعليم، وانطلق منه كانطلاقة الإسلام الأولى، أول ما نزل من الوحي ( اقرأ ) ، واعتبره طريق النهوض الذي لا طريق سواه.. 

فالمعرفة هـي القوة، وهي النور، وهي الحضارة، وهي الشخصية؛ ويمكن وصفه إلى حد بعيد بأنه رجل معلم. 

وعلى الرغم من أنه كان متنوع الاهتمامات، إلا أن ذلك لم يبعثر شخصيته ويفكك هـمته أو يفل عزمه.. اشتغل في الأدب، وإليه يعود الفضل في وضع كتاب عن (تاريخ الأدب العربي) بعد أن كان العرب والمسلمون يعيشون عالة على المصدر الأجنبي.

 وكان له نظرات في اللغة، والفلسفة، والاجتماع، والتاريخ، والتشريع، فالثقافة عنده هـي الشخصية والبوصلة والدليل للعقل الإنساني.

كان شخصية جادة ومأنوسة، وكان بعيدا عن المهاترات بطبعه، لذلك لم تشغله الشحناء، ولم يجر وراء الخصومات والعداوات، ولم تنل منه.

كان بحق شاهد القرن المملوء بالأحداث الكبرى؛ فلقد سقطت الخلافة الإسلامية، وقامت الحروب العالمية، الأولى والثانية، وحصلت فيه النكبات للكثير من بلاد المسلمين، وجاء الاستعمار الحديث إلى معظم بلاد المسلمين مسبوقا بالغزو الفكري الذي اتخذ التبشير غطاء له؛ وبالإمكان القول: إن كتابه (التبشير والاستعمار) الذي شكل ثقافة جيل بل أجيال، ووقاية جيل بل أجيال، ما يزال حتى اليوم مرجعا للمكتبة العربية والإسلامية؛ والكثير ممن يشتغلون بهذه القضايا ما يزالون مرابطين عند كتابه، على الرغم من تطور الأساليب وتغير المواجهات.

لقد واجه عمر فروخ، رحمه الله، الكثير من الثغور المفتوحة في الجسم الإسلامي، فعند أيها يرابط ؟

كان يمثل صيحة النذير؛ ينبه إلى المخاطر، ويقرع طبول الإنذار بالخطر، ويستنهض الأمة، ويصوب رؤيتها، ويبصرها بتراثها. 

لكن على الرغم من صعوبة المواجهة وشراسة العدو كان بطبعه أنيسا واثقا من منهجه، ذو شخصية محببة، قادرة على التعايش، أفاد من تكوين بلده لبنان سمات التنوع الثقافي والقدرة على التعايش، والمرونة، وإجادة الحوار بشكل هـادئ ورزين، دون أن يعطي الدنية في دينه ).

قرات مؤخرا مذكراته " غبار السنين " فأعجبت بها وتمنيت لو أنها 3 ألف الصفحات لروعتها وجمال ما فيها من قصص ومعلومات وفوائد ..

وسوف أعرض لكم نماذج منها في مقال قادم بإذن الله ..

محمد مصطفى العمراني

أصداء الرحيل:

مجلة شهرية - العدد (566) | نوفمبر 2023 م.

العلامة عمر فروخ بين الأدب والصحافة

هالني ما وصل إليه إنتاج الأديب العربي الكبير الدكتور عمر فروخ (1324 - 1408 هـ/ 1906 - 1988م) الذي ظل على مدى عمره الزاخر بالعطاء يقدم للمكتبة العربية مؤلفاً تلو مؤلف دون أن ينظر إلى وهج آلة الإعلام لتبرزه أو ينتظر جائزة تعلي من قدره، ولقد علا من شأنه عندي وحسنه في نفسي ما كان يلهج بذكره دوماً أخي الناقد الأستاذ حسين بافقيه مبرزاً قيمته الثقافية ودوره الريادي في حركة أدبنا العربي المعاصر، وإن كانت مكتبتي تضم شيئاً من نتاجه مما توافر لي في مكتبات جدة في تلك الأعوام.

وحين تأملت دور هذا العلم وجدت أنه من أهل التحصيل النافع والعلم الواسع ولا جرم أنه كان من فحول عصره تضلع من العلم واستبحر، فلا مشاحة أن يكون من ثقات الأدب واللغة بحذق ومهارة، وانبرى للكتابة والتأليف بصمت، لا هم له فيها إلا أن يسهم في شأن الآداب والعلوم والحضارة العربية بهمة عالية وإتقان وتجويد فائقين فما من فرع من فروع العلوم والأدب إلا وله سهمة باذخة فيه فقد حبّر فروخ ودبج في الدراسات الأدبية برؤية ناقد فذ وروح فنان أصيل لكونه بصير بمذاهب الشعر وقرضه، خبير بمواضع النقد وتياراته، فأخرج قراءات متينة عن شعر عمر بن أبي ربيعة وبشار بن برد وأبي تمام وأبي العلاء المعري وابن زيدون بل وقف أمام شخصية ابن حزم كعالم فقيه وما يحمله من متناقضات، كونه مفكر ناضج وفيلسوف له جملة من الآراء الجريئة ناهيك أنه أرسى قواعد مذهبه ونشره بين الأندلسيين، بل درس أيضاً فلسفة ابن الطفيل معتمداً على النصوص من مظانها في مصادر الثقافة العربية.

وحين خرج الشعر العربي عن مساره التليد بتقاليد تلامس بنى النصوص وموسيقاها التي ألِفها شعر العرب أخرج لقارئه كتابه المهم (هذا الشعر الحديث) حلل فيه ظاهرة التجديد برؤية ناقد استوعب تراث أمته ونظر ملياً في الآداب الأوروبية وتقصى ظهور هذا الشعر ومن نشر فيه من عمالقته وأقزامه بل بحث عن أسباب نشأته ومدى قيمته في التراث الإنساني، كما تعلق فروخ بلغة الضاد حد العشق وتجلى ذلك في كتابه الماتع (عبقرية اللغة العربية) الذي ينهض على جمهرة من فصول ومباحث ألقاها في مجمع اللغة العربية بالقاهرة يؤكد لنا فيها أن لغتنا مازالت تتمتع بخصائصها من ألفاظ وتراكيب ونحو وصرف وخيال وتشبيه وقدرتها على احتواء العلوم المختلفة منذ العصر الجاهلي حتى اليوم، وهذا يذكرني بعضويته في مجامع اللغة العربية في كل من دمشق والقاهرة وبغداد، ولما ألمت بالإسلام مطاعن بعض المستشرقين وتعالت صيحاتهم الحاقدة وقف أمامهم بكتاباته النفيسة التي أجْلَت مآربهم فأخرج: (تجديد في المسلمين لا في الإسلام) الذي بين من خلال صفحاته أن الدين الإسلامي نظام شامل جامع لا يقتصر على الإيمان به فقط بل هو شامل لكل مناحي الحياة، ولو تأملت ما جاء في كتابه (العرب والإسلام في حوض البحر المتوسط) لوجدته كتاباً مفصلاً في تاريخ بلاد المغرب والأندلس وما جرى فيهما من أحداث جسام، ونافح بعلم راسخ عن شخصية رئيسة في تاريخ علماء المسلمين، ألا وهو شيخ الإسلام ابن تيمية عبر كتابه (ابن تيمية المجتهد) ومرد تأليف الدكتور فروخ لهذا السفر أن صديقه السعودي مشعان المنصور قد أهداه كتابين لابن تيمية هما: (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول) و(الاجتهادات الفقهية) فقرأهما بتمعن وتمحيص وخطر له بعد فهمه لابن تيمية أن يترجم كتابه (السياسة الشرعية في الراعي والرعية) إلى اللغة الإنجليزية وتم له ذلك عام 1966م ثم عكف على إخراج هذا المصنف السابق الذكر الذي صدر قبل وفاته بعام واحد وقد وفق في استنطاق ابن تيمية وإن أورد آراءه بكلامه هو، كما سيجد فيه القارئ آراًء وأقوالاً أكثر دقة وأكثر تفصيلاً وأكثر ربطاً بابن تيمية نفسه، وحين تتابع جهده الكبير في إبراز دور العرب العلمي فإنه قد وفق في إبراز الدور الحضاري الذي عاشه المسلمون خلال قرون طويلة من خلال صفحات كتابه (تاريخ العلوم عند العرب) لأنه أوضح منزلتها في الحضارة ومن صفحات هذا الكتاب تناول تطورها وعرض تاريخها عرضاً واضحاً وهو بذلك قد أنصف أمته من دعاوى المستشرقين الذين ما فتئوا يقللون من فضل العرب على الحضارة الإنسانية، ومن أمتع كتبه وأنفعها تصنيفه المهم لتاريخ (الأدب العربي) عبر مجلداته الستة لنفاسته واستقصائه الحريص وتأنيه لتدوين تاريخ هذا الفرع من علوم العرب وفنونهم، وللحقيقة كان الدكتور فروخ في هذا المصنف يقدم تاريخاً ناصعاً وموثقاً للأدب العربي وهذا ديدنه في كل مصنفاته، وقد ذكر في معرض مقدمته المبسوطة: أن الذي دعاه إلى وضع هذا المصنف هما حافزان أساسيان أحدهما أن يكون فيه منهاج عربي خالص، لا يأخذ من المنهاج الإفرنجي إلا ما نقص من المنهاج العربي، والحافز الآخر تعمده الإيجاز في استنطاق المصادر، وقد نهض هذا الكتاب على مقدمة لكل عصر مستعرضاً لرؤوس الأحداث وفي شأن ترجمته لصاحب المنتوج يذكر حياة الأديب وخصائصه والمختار من آثاره مع شرحها شرحاً وافياً علماً أنه يتقيد عادة بالروايات القديمة ثم يختم بالمراجع والمصادر لدراسته، ناهيك عما ألفه من كتب مدرسية للطلاب وهو حينذاك في شرخ الشباب بل لم يتجاوز عمره الخامسة والعشرين ربيعاً.

هذا هو الأديب اللبناني عمر بن عبدالله بن عبدالرحمن فروخ المولود في بيروت والتي فيها درس، وفي الجامعة الأمريكية تخرج، ومن ألمانيا نال الشهادة العالية (الدكتوراه) وبقي لسنوات طوال نافت عن ثلاث وخمسين سنة معلماً في مدارس بيروت وكلية النجاح بنابلس وجمعية المقاصد الإسلامية، ثم عمل أستاذاً في الجامعة اللبنانية، وجامعة بيروت العربية، وأستاذاً زائراً لمادة تاريخ المغرب والأندلس في جامعة دمشق، وهو دوماً يحث طلابه على النهوض والمثابرة ليتحقق لهم النفع الواسع وذلك من التقصي الدقيق في الروايات التاريخية والمقارنة بينها وبين الروايات الضعيفة والموضوعة، وكذلك تنمية ملكة البحث العلمي بالمقارنة والتبحر في فروع العلوم.

ولعل الكثيرين لا يعرفون أن الدكتور فروخ له نصيب وافر من ديوان العرب فقد دوزن قصائد كُثر ظهرت فيها قريحة فياضة تحمل المعاني العميقة والألفاظ الرشيقة وبرزت فيها عاطفة جياشة ما جعله يخرجها في ديوان مستقل تحت عنوان (فجر وشفق) ولك أن تتأمل معي أيها القارئ هذه الأبيات:

قالوا: عشقت فقلت: كلا!

ليس من حسبي وديني

نفسي تعاف لدى الهوى

أن تستبد بها قريني

لما بَسَفْن من عن الصبا

ورمين عن سحر العيون

وأذبن كل حشاشة

وأسلن ماء الشؤون

وأنا امرؤ لاق الحيا

ة مجملاً ثبت اليقين

والقصيدة أنشأها، وهو لم يتجاوز السابعة والعشرين من عمره، ولك - إن أردت - أن تنصت معي إلى أبيات أُخرى تؤكد لك صدق قريحته فقد نظمها في ميعة الصبا (وعمره عشرون عاماً):

أقبل الدهر فامتلأت شباباً

ومضى الدهر لم يمر ببالي

فكأن الزمان ليلة صيف

وكأْن الشباب طيْف خيال

ضافني الدهر في الشباب رحيقاً

تُنْكِرُ النفس مزجه بزُلال

ودعاني الهوى فكنت مطيعاً

ومطيعُ الهوى بعيُد الضلال

غير أنّي نَعِمْتُ بالحب حتى

وقف الدهر بالمشيب حيالي

خَفَتَ النايُ وانقضت شِرة الحـ

ـب وبتّ الزمان حبل الوصال

وتراءت لي الليالي الخوالي

ولَكَمَ تُذكر الليالي الخوالي

إيه، دهري - هَبْهُ يُصْغي لصوتي-

أَتَراهُ يُعيدُ تلك الليالي؟

إلا أنّ أديبنا عمر فروخ قد أراد أن يوثق لكثير من أيامه ولياليه مع الحرف والكلمة والصحافة وتحصيليه العلمي في كتاب يسلكها في نظام واحد قدْر ما سمحت له الذاكرة أن يتذكر، مثله مثل مجايليه فأخرج قبل رحيله سيرته الموسومة (غبار السنين) أورد فيها لمحات من حياته ضمت تجاربه في الحياة سواء كان مع أسرته أو خلال تلقيه العلم في بيروت أو حين أزمع السفر لألمانيا وعاش بها ثلاث سنوات، وتَكَشَف في هذه السيرة الصدق، وظهرت فيها العصامية، وبرزت على صفحاتها حياة المتبتل في محراب العلم. ومن أجمل وأنفع ما كتب تجربته مع الصحافة التي ولع بها منذ يفاعته فدلفها حين دلفها على مهنة خادم (صبي) دون أن يكذب أو يماري بل إنه يقول: ذهبت مع ابن عمتي إلى جريدة (الحقيقة) لصاحبها أحمد عباس الأزهري، لنعمل موزعين للجريدة، فكانوا يعطوننا في كل يوم نحو عشرين عدداً نوزعها في منطقة المرفأ مقابل ثلاث ليرات في الشهر.

بقي الفتى عمر فروخ متعلقاً بمهنة المتاعب، ففي صيف 1919 ذهب مع عمه حسين لجريدة (لا سيري) الفرنسية لصاحبها جورج فيسيه ولكن هذه المرة عمل بالصحيفة عملاً ليس له علاقة بالصحافة البتة حيث عهد إليه بتنظيف حمامات الجريدة، وفي اليوم التالي كأن مدير الإدارة الفرنسي جورج فاليري الذي كان على معرفة بحسين فروخ قد شعر بالخجل لما قام به هذا الصبي، فسأله: أتعرف الفرنسية؟ فأجاب الفتى: نعم، رغم أن عمر لا يعرف منها غير بضع كلمات، فأوكل إليه جورج فاليري إعداد لفائف المشتركين تحمل عناوينهم لترسل إليهم، فنهض عمر بهذه المهمة خير قيام واستمر في عمله حتى بعد فترة الصيف، إلا أن هذا الفتى قد تحققت له الكتابة في الصحافة حين طلب منه أستاذ اللغة العربية في المدرسة نجيب نصار كتابة نص إنشائي عن الطيران فما كان من التلميذ عمر إلا أن احتشد ودبج موضوعه بكل عناية، الأمر الذي دفع بأستاذه بعد أن استحسن إنشاء تلميذه أن يفاجئه فينشره له على صفحات جريدة (الأحوال) فكانت هذه المقالة أولى خطواته في الصحافة، فثنى له أستاذه نصار نشر موضوع آخر في نفس الجريدة وكانت المقالة هذه المرة عن الحرير إلا أن المفاجأة هذه المرة أن المقالة نشرت في صدر الصفحة الأولى من الجريدة، كانت هاتان المحاولتان قد أوحتا لعمر فروخ أن يخوض غمار الكتابة في عالم الصحافة فأخذ يكتب في عدد من الصحف اللبنانية مثل: (الرأي العام) و(البيان) و(المعرض)، ثم انتقل الشاب عمر بقلمه إلى صحيفة (الأحرار) وبدأ يسطر عليها مقالاته تارة يوقعها بإمضائه وتارة أخرى يوقعها باسم صريع الغواني، وقد نشر بها سلسلة من مقالاته عن تطور الغزل في الشعر العربي، وبعد أن علا صوت هذا الشاب ودوى بين أركان الصحف اتجه صوب صحيفة (الحضارة) البغدادية التي كانت تطبع في بيروت ليترجم فيها المقالات إضافة لكتابة مقالاته ونظم أشعاره، لكن عام 1938 كان عاماً فاصلاً في حياة الكاتب والأديب عمر فروخ حيث استأنس في نفسه القدرة لتأسيس مجلة أدبية أسبوعية عرفت باسم (الأمالي) بشراكة صديقيه؛ عبدالله المشنوق، وزكي النقاش، فراجت المجلة ثقافياً وتناولتها الأيدي، واستحسنها محبو الأدب إلا أن شح الورق وارتفاع أسعاره إبان الحرب العالمية الثانية دفعه لأن يغلقها ويمضي نحو تأليف الكتب في أغلب مناحي المعرفة.

فلاريب أن هذه التجربة الطويلة مع العلم والثقافة والصحافة قد جعلت الكثيرين ينبهرون بصاحبها ويُجلون مكانته السامقة بين مجايليه، فتوجته بلاده بمنحه وسام الأرز الوطني، ومنحته كلية الإمام الأوزاعي الدكتوراه الفخرية في الدراسات الإسلامية، ثم منحته بلاده بعد سنوات وسام الأرز الوطني من رتبة ضابط مرة أخرى، ولعل طريقة رحيل فروخ عن دنيانا لها علاقة وثيقة بعشقه للمعرفة، فقد انتقل إلى جوار ربه وهو يضرب على الآلة الكاتبة إحدى مقالاته، فكأني به اختار لنفسه أن يودع هذه البسيطة وهو بين كتبه وأوراقه التي عاش لها ردحاً من الزمن.

رحم الله الأديب الكبير الدكتور عمر فروخ رحمة واسعة فقد عرفه القارئ العربي قلماً صادقاً غيوراً أبياً لا يقول إلا ما يعتقد ولا يكتب إلا ما يرضي ضميره.

المصادر:

١_ الموسوعة التاريخية الحرة.

٢_ موقع إخوان أون لاين.

٣_ الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين في مصر.

٤_ مواقع إلكترونية أخرى.

وسوم: العدد 1065