الشاعر والناقد المصري الساخر إبراهيم المازني
ولد إبراهيم عبد القادر المازني في القاهرة عام 1890 وتوفي عام 1949م، تخرج في دار المعلمين العالية، وعمل في التعليم ثم في الصافة وانتخب عضوا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة. له عدد من الكتب النقدية والقصص وصدر له ديوان المازني في جزأين عام (1913 ـ 1915م).
من شعره:
مـرَّتْ عشـاءً بـيَ فتّانـةٌ
يا حُسنَها لو أنَّ حسناً يـدومْ
والجوُّ ساجٍ شاحـبٌ بـدرُهُ
كأنّما أضناه طولُ الوجـوم
فقلتُ يـا غـادةُ: أذكرتِنـي
أحلامَ عيشٍ نسختْها الهمـوم
أمثلُ هذا الحسنِ لمّـا يـزلْ
في عالم الشرِّ القديم العميـم؟
ألم يزل (كوبيدُ) ذا صولـةٍ
يرمي فيُدْمي كلَّ قلبٍ سليـم؟
قالتْ: ومَنْ (كوبيدُ) هذا الذي
تذكـره مقترنـاً بالكُلـوم؟
فقلـتُ: هـذا ولـد مولـعٌ
بصيدِ أكبادِ الورى كالغريـم
فتمتمـتْ عائـذةً باسـمِـهِ
من كلِّ شيطانٍ خبيث رجيم!
يا بدرُ هل أبصرتَها مَوْهِناً
بين ذراعيَّ تعدُّ النجـوم ؟
أم كنتَ في ليلة ذاك النعيـمْ
في شُغُل عنا بكحل الغيوم ؟
المازني هو من ابرز الشخصيات المبدعة والنجوم الساطعة في تاريخ الأدب المصري إنه (عبد القادر المازني) الشاعر والروائي والناقد المحلل بل ورسام الشخصيات البارع الذي يجمع بين الواقعية والخيال والسخرية والفكاهة والحزن, لم يعش ببرج عاجي بل اندمج بمجتمعه وعبر عن آماله سواء في إبداعاته الأدبية أو مقالاته الصحفيه تاركَاَ تراثاَ سوف يظل يمجد ذاكراه. ولد إبراهيم عبد القادر المازني في يوم الثلاثاء 19آب 1890م بقرية (كومو مازن) بمحافظة المنوفية وترجع جذوره إلى قبيلة بني مازن بن تميم بن مر وهي من أشهر القبائل العربية بأرض الحجاز, وهاجر فرع من هذه القبيلة إلى مصر واندمج بالسلالة المصرية لتصبح عائلة المازني مصرية تماماَ, فأصبح المازني بذلك مصري الجنسية.
وقد أتم إبراهيم دراسته الابتدائية بالقرية التي كان يقطن بها, ثم التحق بالتعليم الثانوي في التوفيقية الخديوية ثم التحق بكلية الطب ولكنه لم يستطع الاستمرار بها حيث كان مرهف الحس ولم يستطع تحمل مناظر التشريح وما إلى ذلك، وترك كلية الطب والتحق بكلية الحقوق ولكنه تركها أيضاً لأن مصروفاتها كثيرة ثم انتقل إلى مدرسة المعلمين وقد تخرج منها عام 1909م ليعمل في التدريس لمدة عشرة سنوات قضى منها خمسة في مدارس الوزارة وخمساَ في المدارس الخاصة. كان والد عبد القادر المازني مدرساَ للغة العربية ثم عمل محامياً شرعياً كما كان مسؤولاً عن الشؤون الشرعية في القصر الملكي كما كان يتسم بأنه مزواج يعشق النساء وخاصة التركيات لجمالهن, ولأنه كان دائم السفر إلى اسطنبول أتاح له ذلك الزواج من عدد كبير من هؤلاء النساء التركيات وقد توفي الوالد عندما كان إبراهيم في التاسعة من العمر, أما عن والدة إبراهيم فعلى الرغم من أن زوجها توفي وهي تناهز الثلاثين عاماَ إلى أنها رفضت أن تتزوج مرة أخرى وعاشت فترة 32 سنة باقية على ذكرى زوجها والذي آلمها كثيراَ بكثرة زوجاته, وقد كان يصفها المازني كثيراَ بأنها (سيدة الدنيا) حيث أن لها مواقف مشرفة ومؤثرة في حياته فقد أصرت أن يستكمل تعليمه وذلك بعد أن اقترح أخيه الأكبر أن يترك إبراهيم دراسته ليذهب للعمل حيث أن وضعهم المادي كان متأزماً وذلك لأن أخيه الأكبر ورث عن والده حب النساء فبدد ثروة أبيه في أقل من عام لتعيش أسرة المازني على الستر و الكفاف.
جميع ما سبق أثر في شخصية أديبنا حيث تعذب بعد أن بدد (أخوه الأكبر ثروة أبيهم ).. وكان ينظر إلى المرفهين في أسى ويقول (ما ضر لو زادت الدنيا مرفها مدللا آخر.. أكانت تخرب ؟ .. أكان لابد لصلاحها أن أشقى وأتعذب هذا العذاب الغليظ ؟).. ويعترف المازني بأن أستاذه الأول كان الفقر الذي أمده بالقوة والقدرة على الكفاح وعلمه التسامح والرفق والعطف وإيثار الحسنى، كما عوده ضبط النفس وحبب إليه الفقراء.
وكان يقول «لو وسعني أن أملأ الدنيا سروراً واغتباطاً لفعلت، فإني عظيم الرثاء للخلق وأحسب أن هذا تعليل ميلى للفكاهة» وكان حلم حياته أن يربح من الكتابة مبلغاً يكفى لبناء دار لأولاده ولكنه لم يستطع تحقيق هذا الحلم البسيط، وظل طوال الوقت يسكن وسط المقابر في مدافن الإمام الشافعي وذلك طلباً للعزلة ولضيق ذات اليد. وقيل إنه سقط ليلاً في مقبرة مفتوحة فاصطدم بالجثث مما أصابه بحالة من الفزع الرهيب. وقد دفعه الفقر إلى العمل الدائم والدائب حيث يقول «أقوم من النوم لأكتب وآكل وأنا أفكر فيما أكتب فألتهم لقمة وأخط سطراً أو بعض سطر وأنام فأحلم أني اهتديت إلى موضوع وأفتح عيني فإذا بي قد نسيته وأشتاق أن ألاعب أولادي فيصدني أن الوقت ضيق لا ينفسح للعب وأن علي أن أكتب». ولذلك فقد عاش دائم الخوف على نفسه ودائم الخوف من الناس.
يقول النقاد أنه اجتمع الفقر مع إعاقاته الجسدية والنفسية ليجعلوا كتاباته سوداوية حيث لا يرى إلا الجانب القاتم كما كان عدمياً لا تستوقفه غير النهايات؛ حيث كان الموت هو موضوعه الأثير في قصائد ديوانه وفى عناوين كتبه وقد غلف كل هذا بالسخرية والفكاهة لدرجة أنه قد كتب رثاء لنفسه قال فيه:
أيها الزائر قبري اتل ما خـط أمامــك
ها هنا فاعلم عظامي ليتها كانت عظامك
لعبت المرأة دور كبير في حياة المازني بدءاً من والدته والتي كان لها دوراً كبيراً ومؤثراً بحياته حيث كانت صامدة قوية, وقد وضعها في مرتبة (النموذج الأعلى) لما يجب أن تكون عليه المرأة, ونرى أيضاً أن زوجته قد أثرت بحياته وأثرت على ملامح شخصيته حيث أنه تزوج في عام 1910م أي بعد تخرجه بعام واحد وبعد 11 عام رحلت زوجته بشكل مفاجئ وتركت له آلاماً كبيرة وصدمة لا توصف كما تركت له ابنة اسمها (مندورة) كان يحبها إلى درجة العشق والوله وقد تفرغ لرعايتها لمدة سبع سنوات كاملة ثم رحلت هذه البنت بشكل مفاجئ ليدخل الرجل في شرنقة من الحزن والشجن وكتب فى هذه الابنة الراحلة رثاء كثيراً أدمى القلوب وفجر أنهار الدموع.
تزوج المازني بعد رحيل ابنته وتمنى أن ينجب بنتاً أخرى إلى جانب أولاده الذكور، وقد جاءت الابنة بالفعل ولكنها رحلت مثل أختها لتترك قلب أبيها أطلالاً. وكان المازني يؤكد أن المرأة أقوى من الرجل بقوة حيلتها وقوة جمالها وكان يرى الجمال روحاً وليس جسماً ورغم كثرة ما تردد عن غزواته النسائية إلا أنه لم يقل لأي امرأة (أحبك) اعتقاداً منه بأن هذه الكلمة سوف تجعله عبداً للمرأة التي ستسمعها منه. قد كان يستعذب التحدث عن شعوره بالضعف والنقص أمام النساء وكان يستعذب الحط من نفسه وليس هذا على سبيل(الماسوشية) أو (لذة تعذيب الذات) ولكنه كان يفعل ذلك لأنه على ثقة من قدراته.
أما عن الحب في حياة المازني فقد عرف الحب لأول مرة وهو في الثالثة عشرة من عمره مع بنت الجيران في السيدة زينب بعد أن أنقذ لها قطتها من فوق الشجرة وأصيب نتيجة هذه المغامرة ببعض الجروح البسيطة، وكان يجاهر بحب هذه الصبية وسط الأهل والجيران.. وعندما شب عن الطوق راح يكثر من مغامراته النسائية حتى ولو من باب (الصيت ولا الغنى) وذلك كسلاح جديد يؤكد به لنفسه وللآخرين أنه ليس (أقل) من غيره بل إنه يتفوق عليهم.. وقد أحصى العقاد حبيبات المازني ووجد أنهن 17 حبيبة.
يقول:
مـرَّتْ عشـاءً بـيَ فتّانـةٌ
يا حُسنَها لو أنَّ حسناً يـدومْ
والجوُّ ساجٍ شاحـبٌ بـدرُهُ
كأنّما أضناه طولُ الوجـوم
فقلتُ يـا غـادةُ: أذكرتِنـي
أحلامَ عيشٍ نسختْها الهمـوم
أمثلُ هذا الحسنِ لمّـا يـزلْ
في عالم الشرِّ القديم العميـم؟
ألم يزل (كوبيدُ) ذا صولـةٍ
يرمي فيُدْمي كلَّ قلبٍ سليـم؟
قالتْ: ومَنْ (كوبيدُ) هذا الذي
فقلـتُ: هـذا ولـد مولـعٌ
بصيدِ أكبادِ الورى كالغريـم
فتمتمـتْ عائـذةً باسـمِـهِ
من كلِّ شيطانٍ خبيث رجيم !
ومن الطريف بحياة المازني العاطفية مغامرة عجيبة تعرض لها حيث استطاع شاب اسمه عبد الحميد رضا أن يوقع المازني في (فخ عاطفي) عندما أعطاه رسالة ادعى أنها من فتاة اسمها (فاخرة) وقد انطلت الحيلة على المازني وظل يتبادل الرسائل العاطفية الساخنة مع هذه السيدة المزعومة ورغم أنه تشكك بعض الشيء إلا أنه تمادى في هذه المغامرة حتى أخذ عبد الحميد رضا رسائل المازني إلى إحدى المجلات ونشرها وكانت فضيحة مدوية.. ورغم هذا فقد كان المازني يعتبر نفسه )دونجواناً) لا يبارى وقد كتب العقاد قصيدة عن المغامرات العاطفية مطلعها: أنت في مصر دائم التمهيد ... بين حب عفى وحب جديد
أما عن الصداقة بحياة المازني فقد كان له أصدقاء كثيرون أمثاله كتّاب ونقاد ومبدعون وكانت علاقاته بهم متواترة فكان من أصدقائه شوقي والعقاد وعبد الرحمن شكري. وكتب ذات مرة مجموعة من المقالات في جريدة السياسة عن مسرحيات شوقي الشعرية وقد قسا كثيراً على شوقي وقال عنه (قطعة متلكئة من قديم الزمن).. كما اختلف هو والعقاد مع عبد الرحمن شكري وهاجماه بعنف لدرجة أن المازني وصفه بـ (صنم الألاعيب) مما دفع شكري إلى الهرب إلى الإسكندرية ليعيش في عزلة تامة.
كما أنه اشترك مع العقاد سنة1921م في كتاب "الديوان "وهاجم فيه شعر حافظ وشوقي وهاجمه عبد الرحمن شكري في مقدمة الجزء الخامس من ديوانه واتهمه بالاختلاس من الشعراء الغربيين، وعندما أخرج المازني كتاب الديوان مع العقاد هاجمه وكتب فيه فصلين بعنوان "صمم الألاعيب". كان المازني قصير القامة جداَ حيث كان طوله لا يتجاوز 150سم مما جعله أقرب إلى القزم وذلك كما كان غير مستقيم في مشيته بسبب كسر مضاعف أصاب ساقه وترك له عاهة مستديمة جعلته (يعرج) في مشيته مما استلزم (تفصيل حزام) بشكل معين حتى لا يظهر هذا العرج بوضوح, ولهذا لجأ لسلاح آخر وهو السخرية اللاذعة من هذه الأشياء التي يعانى منها, فكان دائم الحديث عن تشويهاته الجسدية في محاولة منه لمنع الآخرين من السخرية منه، ونجده أيضاً يصادق العقاد طويل القامة ويظل يذكر ذلك الوضع المضحك ويسخر منه، فقد كان يصف نفسه بجوار العقاد بالرقم (10), ومع كل هذه السخرية والفكاهة فقد اتسمت كتاباته باليأس والحزن والرومانسية وكان يعزي نفسه بالتأكيد على أن الكاتب والفنان يجب أن يكون على يقين بأنه (ناقص) وسوف يبقى كذلك ومع هذا فقد كانت السخرية الوجه الآخر لروحه القلقة المعذبة .
ورغم أن المازني كان شخصية مرحة ساخرة إلا أنه كان لديه قضيته التي يؤمن بها وهى انتماؤه وحسه الوطني وقد اشترك مع د. محمد حسين هيكل ومحمد عبد الله عنان في وضع كتاب اسمه (السياسة المصرية والانقلاب الدستوري) يهاجمون فيه الحكم الديكتاتوري لصدقي باشا. رغم هذا الحس الوطني الواعي إلا أنه لم ينجح في استثمار السياسة كما أن السياسة لم تخدمه، ففي الوقت الذي اختار العقاد أن يكون وفدياً وأن يصبح كاتب الوفد الأول.
وقف المازني في الجانب الذي لا يربح حيث وقف في خندق الأحرار الدستوريين وهو مليء بكبار المثقفين مثل أحمد لطفي السيد وطه حسين ومحمد حسين هيكل ومحمود عزمي، وغيرهم إضافة إلى أنه لم يشارك في معاركهم السياسية ورغم أنه كتب كثيراً في جريدة (السياسة) لسان حال الأحرار الدستوريين إلا أنه كتب في البلاغ وهي وفدية، ولكن المحصلة أن السياسة لم تخدمه كما خدمت العقاد وطه حسين ورغم هذا فقد كانت بعض آرائه السياسية (سابقة للعصر) حيث كان من أوائل الذين دعوا للوحدة العربية واعتبرها ضرورة محتمة لسلامة الشعوب العربية وأمنها وقد كتب في عام 1935م مقالاً بعنوان (القومية العربية).. ولذلك فإن المازني - عكس كثير من معاصريه - قد استمد شهرته من الأدب والكتابة فقط. كما كان المازني واحداً من أهم أعمدة النهضة الثقافية العربية وأهم الأصوات التي نادت بتجديد الثقافة العربية بتحويلها إلى عملة تنفع الناس.
بدأت إبداعاته بالشعر والصحافة حيث قرر في عام 1919م بالتوقف عن التدريس والتفرغ للعمل بالصحافة.. ولم تكن الصحافة جديدة عليه فقد نشر مقالاته وقصائده في العديد من الصحف منذ أن كان طالباً فى المعلمين. وعندما عمل بالتدريس لم ينقطع عن الصحافة وواصل النشر في صحف كثيرة مثل الدستور، والجريدة، والبيان، وعكاظ الأسبوعية، والأفكار، ووادي النيل، والأهالي، وقد عين محرراَ بجريدة الأخبار ثم محرراَ بجريدة "السياسة الأسبوعية" ثم رئيساً لتحرير جريدة السياسة اليومية ثم رئيساً لتحرير جريدة "الاتحاد" كما انتخب وكيلاَ لمجلس نقابة الصحفيين عام1941م.
وقد علا نجم المازني عندما شارك صديقيه العقاد وعبد الرحمن شكري في الإعلان عند مدرسة الديوان في الشعر؛ تلك المدرسة التي قامت على مهاجمة القديم المتمثل في شعر حافظ وشوقي، وقد ألف المازني والعقاد كتاب (الديوان) لوضع الأسس النظرية لهذه المدرسة التي تعد ثورة في الشعر وتدعو إلى تنوع القوافي لتنوع الموسيقى، كما تدعو إلى أن يكون الشعر تعبيراً عن الشاعر وأن تكون القصيدة ذات وحدة موضوعية بدلاً من وحدة البيت كما يجب ألا تكون القصيدة تقليداً أو معارضة لشاعر قديم مهما كان شأنه.
تأثر المازني كثيراً بأشعار ابن الرومي وعارضه في بعض قصائده كما تأثر كثيراً بعدد من شعراء الغرب مثل شيلى وبيرنز وميلتون وهينى.. وكان دائم التطوير والتجديد في الأفكار والموضوعات مع الالتزام التام بالصدق في التعبير، وذلك على حساب الشكل الفني والأساليب والعبارات، ورغم هذا فقد كان يجد صعوبة فى تطويع الشعر لأفكاره خصوصاً قوافيه التي كانت تضطره إلى استخدام ألفاظ غريبة ومشتقات شاذة مما ألجأه إلى شرحها في ديوانيه الأول والثاني ويرجع ذلك إلى تمسكه باللغة التقليدية في بداية حياته.
إلا أنه كان يرى الشعر ترجمة حميمة عن النفس وكشفاً عن مكنوناتها ورغم أنه قد هجر الشعر في سن السادسة والعشرين وهي سن صغيرة إلا أن (إنجازه الشعري) لا يستهان به ؛ حيث أصدر ديوانه في ثلاثة أجزاء ، صدر الجزء الأول منها عام 1914م كما كتب العديد من الكتب عن الشعر والشعراء مثل (شعر حافظ) ثم حصاد الهشيم وقبض الريح، وفى هذين الكتابين دراسات عن العديد من الشعراء مثل المتنبي وابن الرومي.. وله كتاب عن الشاعر (بشار بن برد).. وفى كل هذه الكتب كان يقدم دراسات نفسية واجتماعية وتاريخية أي أنه كان يقدم العصر بكامله وكان هذا لوناً جديداً في الدراسات الأدبية.
ساهم المازني كثيراً في تحديث الأدب المصري والعربي، وكانت السياسة التي رسمها وآخرون أن يكون الأدب تعبيراً عن الكاتب وتصويراً لما يجول في نفسه وعقله، والأهم أن المازني كان صاحب أسلوب لم يستطع أحد أن يستنسخه بعد أن استطاع أن يجعل من اللهجة المصرية لغة عربية فصيحة؛ حيث وضع علامات الإعراب على حروف هذه اللهجة وجعل من ألفاظها اللينة الجميلة كلمات ناصعة في معجم جديد للغة ليتكلم بها الناس كما كان حريصاً على استخدام الفصحى بعد أن جعل العامية مطية لها وخادماً فى موكبها، وكان أسلوبه خالياً من كل العثرات و(الكلكعة). ورغم تميز وتفرد المازني فيما أبدعه إلا أن بعض النقاد قد اتهموه بسرقة بعض أجزاء روايته "إبراهيم الكاتب" من رواية (سانين) للأديب الروسى (يباشيف) كما اتهمه بعض النقاد بسرقة مسرحيته الوحيدة التي كتبها بعنوان (غريزة امرأة) من مسرحية (الشاردة) للأديب الإنجليزي (جو لسور ذي). ولكن مثل هذه الاتهامات لم تؤثر كثيراً على المحصلة النهائية لإنجاز المازني الذي كان من أبرع كتاب النصف الأول من القرن العشرين خاصة في مقدرته على السخرية من الدنيا ومن الناس ومن نفسه.
كما كان من أوائل الذين قاموا بتعريف الأدب الغربي إلى قراء العربية وذلك نتيجة إجادته الرائعة للترجمة وقد ترجم العديد من الكتب المهمة مثل رباعيات الخيام والآباء والأبناء لتور جنيف وسانين لآرتز يباشيف، كما قدم ملخصات لروائع الأدب العالمي ونشرها في مجلة (الصباح) لصاحبها مصطفى القشاش. وإضافة إلى كل هذا فقد كان صاحب الدعوة إلى إيجاد منهج جديد في دراسة الأدب العربي والدعوة إلى نظرة جديدة إلى الأدب المصري وقد توج دعوته بدراسة الأدب العربي وتاريخه دراسة متأنية بترتيب العصور وذلك عندما كان في الخمسين من عمره.
أخرج المازني أكثر من أربعين كتاباَ في الإبداع والنقد. والغريب أن كل هذا الإبداع لم يشفع للمازني لكي يحصل على أية جائزة!! ومن الواضح أنه كان مستشعراً لهذا الوضع الغريب فكتب يقول «عصرنا عصر تمهيد يقوم أبناؤه بقطع هذه الجبال التي سدت الطريق وتسوية الأرض لمن يأتون بعدهم.. وبعد أن تسوى الطريق يأتي نفر من بعدنا ويسيرون إلى آخره ويقيمون على جانبه القصور شامخة باذخة فيذكرون بقصورهم وننسى نحن الذين شغلوا بالتمهيد عن التشييد. عندما قدمه العقاد لكي يتبوأ مكانه في مجمع اللغة العربية وصفه بالعبقرية في النثر والشعر، كما كان المازني يكتب لأنه يحب الكتابة لذاتها وكان يرى الفن تعبيراً عن الحياة بما فيها من فردية وحرية وإبداع.. وباختصار فقد كان المازني فيلسوف الحياة والفردية والحرية.. وكان يتعامل مع الإنسان على أنه حيوان (فني) يهتم بالجمال إلى جوار المنفعة.
وإذا كان المازني (النموذج) لما يمكن أن تفعله العقد النفسية والجسدية مع المبدع الموهوب إلا أنه قد كسر بعض المسلَّمات في سلوكيات أصحاب هذه العقد حيث كان من سماته الجميلة (التواضع) الشديد فرغم أن الذين يعانون من عقد نفسية لا بد وأن يصيبهم الغرور والتعالي كنوع من التعويض إلا أن المازني كان شديد التواضع، وكان ضد النجومية وشعبوي الهوى ولذلك تحققت له الجماهيرية الواسعة.
بعد رحلة مثيرة من العطاء أصيب المازني في سنواته الأخيرة بهاجس الموت ثم مات بعد انتشار البولينا في الدم .. ورحل في 10 آب عام 1949م عن عمر يناهز التاسعة والخمسين.
كتب يقول ذات مساء:
مات الفتى المازني ثم أتى من مـازن غيره على الأثر، وكان يعني ولادته مرة أخرى بعد اليأس فلا شك أننا بصدد شخصية عظيمة مبدعة تستحق منا كل تقدير وتستحق أن يذكرها التاريخ دوماً.
وسوم: العدد 801