علي عجام طائر السعد البحري
كاظم فنجان الحمامي
طائر بابلي وديع, شرَّقتْ به الرياح وغرَّبتْ, من دون أن يكون له أي علم بتقلباتها, التي رسمتها له الأقدار, لم يخطر بباله أنه سينطلق من مدينة (الحلة) ليحلق فوق الأعظمية, ثم يمكث ثماني سنوات ونصف السنة في ألمانيا, ليعود إلى التحليق ثانية فوق فناراتنا البحرية الجنوبية, ولم يخطر بباله أنه سيكون طرفاً فاعلا في تأسيس المدرسة المهنية البحرية, التي لعبت دوراً محورياً في رفد السفن العراقية بالطواقم الفتية المؤهلة, وأنه سيكون طائراً مغرداً يحمل في منقاره قطرات السعد, فيسقي بها جذور أكاديمية الخليج العربي للدراسات البحرية, فنمت شجرتها ونضجت وازدهرت, ثم تسامقت أغصانها على ضفاف شط العرب ليلوذ بفيئها الأسطول العراقي بكل تفرعاته وتشعباته الملاحية والهندسية والتقنية, ولم يخطر بباله أنه سيكون طرفاً في إعداد ومناقشة مسودة قانون الخدمة البحرية المدنية رقم (201) لسنة 1975, وعنصراً مؤثراً في تحسين أداء شركة ناقلات النفط العراقية في عصرها الذهبي, وممثلا نشطاً للعراق في اجتماعات الشركة العربية لبناء وإصلاح السفن (أسري), والنائب الثاني لرئيس مجلس إدارة تلك الشركة في البحرين, وعضواً في مجلس إدارة أكاديمية الخليج العربي في البصرة, وممثلاً للعراق وعضواً لمجلس الإدارة في الأكاديمية العربية للنقل البحري في الإسكندرية, وسكرتيراً للمجلس الأعلى للشؤون البحرية, وممثلاً للعراق في مجلس إدارة الشركة العربية البحرية لنقل البترول في الكويت.
طائر جميل رفرف بأجنحته لعقدين من الزمن على مسطحاتنا البحرية, لكنه وعلى الرغم من قصر المدة ترك بصماته الطيبة هنا وهناك, ثم رحل بعيداً نحو الغرب, فعبر المحيط الأطلسي وأستقر على ضفاف السواحل الكندية.
لقد كانت للمساته الإيجابية الدور الأروع في تصحيح مسارات مؤسساتنا البحرية نحو الأفضل, فكان هو طائر السعد, الذي اختفى بلمح البصر, قبل أن تعصف بأساطيلنا الحروب التدميرية المتعاقبة, وقبل أن تنعق غربان المارينز فوق أرصفتنا وموانئنا. .
البدايات الأولى
ولد الأستاذ علي حسين محمد علي عجام في مركز مدينة بابل (الحلة) في منطقة يقال لها (جيران) في الرابع من شهر آذار عام 1942, التحق بمدرسة الشرقية الابتدائية, وأكمل دراسته فيها لغاية المرحلة الخامسة, ثم انتقل مع عائلته إلى مدينة الأعظمية ببغداد, فالتحق بمدرسة النعمان الابتدائية, وأكمل المتوسطة والثانوية في إعدادية الأعظمية, فتخرج فيها عام 1959, وكان من المتفوقين على أقرانه.
حصل على بعثة دراسية إلى الاتحاد السوفيتي لدراسة الهندسة المعمارية, لكنه حوّل قبوله من روسيا إلى ألمانيا الغربية لدراسة الهندسة الميكانيكية, وصل إلى ألمانيا في شتاء العام نفسه, وباشر على الفور بدراسة اللغة الألمانية لمدة ستة أشهر, التحق بعدها بدورة جامعية تأهيلية لمدة ستة أشهر أخرى لاكتساب متطلبات القبول في الجامعة, ثم دخل الكلية التحضيرية لمدة سنة, فاجتازها بنجاح, وأصبح مؤهلاً لمواصلة دراساته العليا لنيل شهادة البكالوريوس ثم الماجستير بموجب الشروط السارية في ألمانيا الغربية.
عاد إلى العراق مع زوجته العراقية التي ارتبط بها في المراحل الجامعية النهائية, وحصل على التعيين في المؤسسة العامة لموانئ العراق بدرجة معاون مهندس في شعبة الميكانيك بالمسفن البحري, كان في بداية تعيينه موظفاً على الأجور اليومية اعتباراً من ربيع عام 1968, ثم جرى تثبيته بعد ستة أشهر على الملاك الدائم في العام نفسه, وتدرج في السلم الإداري للموانئ, وكان في طليعة المهندسين الواعدين.
ظل يعمل في شعبة الميكانيك لسنوات, حتى جاء اليوم الذي كلفه فيه المدير العام (عدنان القصّاب) بمتابعة مشروع بناء وإصلاح السفن, فسجَّل نجاحا ملحوظاً, ثم توالت عليها الإيفادات والطلبات والترشيحات, وكان هو المهندس الناجح المعوّل عليه في حسم الأمور, وهو الرجل الموهوب الذي اجتمعت عليه الآراء المختلفة.
وما أن حلَّ عام 1974 حتى كان ذلك العام بالنسبة له هو النافذة التي حملت له المزيد من فرص الارتقاء والتألق, وكما يقول الشاعر: إذا هَبَّتْ رياحُكَ فاغتَنمها فعُقبى كلِّ خافِقَةٍ سُكونُ, فانتقل في تلك السنة للعمل في المؤسسة العامة للتصميم والإنشاء الصناعي بدرجة مهندس, ثم أنتقل في السنة نفسها إلى الشركة العامة للحديد والصلب, وكان هو المدير المتفجر بالطاقات, ثم حملته الرياح مرة أخرى في شهر آب من عام 1975 إلى أسطول شركة ناقلات النفط العراقية ليعمل بوظيفة (معاون المدير العام), وأصبح فيما بعد وكيلاً لمديرها العام.
قفزات غير متوقعة
أبدى رئيس المهندسين (علي عجام) تفانياً واجتهاداً استثنائياً في تفعيل أنشطته الميدانية والمكتبية, ولطالما ربط نفسه بأكثر من مهمة بحرية أو مينائية, فكرس جهوده كلها في أكثر من مشروع من المشاريع التطويرية المفيدة.
كان يشعر وهو في موقعه القيادي في المجلس الأعلى للشؤون البحرية, أنه مطالب باستنفار طاقات المؤسسات البحرية المتآلفة تحت قبة المجلس, ومطالب بتوظيفها بالاتجاه الذي ينفع الناس ويوفر الدعم والإسناد لأسطولنا الوطني والعاملين عليه, وكان لحرصه الشديد واهتماماته الصادقة بمعالجة مشاكل طواقم السفن, ولخشيته الدائمة من تسرب أصحاب المؤهلات البحرية, وخوفه من عزوفهم عن العمل في مؤسساتنا البحرية, كان لهذه الهواجس الوطنية الحقيقية الأثر الواضح في رسم سياسته الرامية إلى تحقيق المزيد من المكاسب المالية والمعنوية لطواقم السفن, فكان من أوائل الداعين لكتابة مسودة قانون الخدمة البحرية المدنية, الذي ظهرت مواده إلى حيز التطبيق والتنفيذ عام 1975, وحمل في طياته البشرى للعاملين في عرض البحر, ولسنا مغالين إذا قلنا أن هذا القانون كان في حينه هو المفاجأة المذهلة, التي حققت الزيادات الكبيرة في الرواتب والحوافز والمخصصات البحرية, بينما نرى اليوم القانون نفسه معطلاً ومشلولاً, ولا يتزامن مع المتغيرات المتحققة على الأرض بعد مضي أكثر من ربع قرن على صدوره. وهو الآن مركون على الرف, بعد أن عجزت أحكامه المتحجرة عن تقديم الحد الأدنى من الدعم لطواقمنا, وبعد أن غاب صاحب الخطوة الأولى, ولم يأت من يحل محله في التصدي لمشاكلنا المتفاقمة.
شتان ما قام به (علي عجام) عام 1975, وبين ما قام به الذين شتتوا طواقمنا بعد عام 2003, فزجوا بالربابنة والمهندسين البحريين في الأعمال المتناقضة مع تحصيلهم العلمي, المتنافرة مع مهاراتهم المهنية, وخبراتهم البحرية المكتسبة, فتحول الملّاح إلى فلّاح, والربان إلى بستاني, والمهندس البحري إلى موظف في الري.
كان (أطال الله بعمره) وطنياً مثابراً, لم ييأس ولم يتراجع عن مواصلة المطالبة بحقوق الطواقم البحرية, فنحج في نهاية المطاف بتوحيد فعاليات أساطيلنا البحرية الوطنية, وسعى نحو تعزيز تكاملها, وتنسيق أنشطتها.
لقد اختار السير في هذا المسار الوعر حتى نجح بإصراره وعناده في جعل الأساطيل العربية كلها وحدة متكاملة في مواجهة شركات التأمين, وربما قاده نجاحه هذا نحو توحيد صيغة البيوع والعقود لجميع الأساطيل العربية, سواء أكانت في مجال التزود بالوقود, أو بزيوت التزييت, أو الأصباغ البحرية, أو أجور التسفين المترتبة على استحقاقات أحواض الصيانة العالمية, حتى صارت الأساطيل العربية كلها تعمل بنمط موحد بالتنسيق والتواصل مع بعضها البعض, بينما نشهد اليوم تقلصاً مخيفاً لأسطولنا البائس, وتقوقعاً مريعاً لسفنه القليلة في مكان واحد, في الوقت الذي انقرضت فيه سفن شركة ناقلات المنتجات النفطية, وتبخرت فيه سفن ناقلات المنتجات البتروكيماوية, واختفت فيه سفن شركة صيد الأسماك العراقية, واختزلت سفن وناقلات النفط العراقية من ثلاثين ناقلة إلى أربع ناقلات فقط, واختزلت معها سفن شركة النقل البحري, وتوقفت سفن القطاع الخاص عن الحركة, فانزوت داخل أخاديد مياهنا الداخلية, ولم تعاد تمارس أنشطتها السابقة.
مدارس ومعاهد وكليات بحرية
شارك الأستاذ علي عجام في إعداد الدراسة التمهيدية المثمرة, التي أسفرت عن تأسيس نواة المدرسة المهنية البحرية, وكان مخططاً لها أن يكون تأسيسها بإشراف أحد الخبراء الألمان, فاشترك مع الكابتن مثنى عيسى القرطاس, الذي يجيد اللغة الألمانية, اشتركا في وضع الأسس المنهجية لهذه المدرسة, وأسهم الكابتن عصام عمسو والكابتن طارق عبد الصمد النجم في إكمال مناهجها ومقرراتها التعليمية, ساعدهم في عملهم هذا الكابتن ماجد عبد القادر نصيف, والكابتن سمير الركابي, والكابتن وفاء الجنابي, والكابتن جبار حسون, والكابتن هاشم فاضل عبد علي, ورئيس المهندسين يشار رفيق خورشيد, والمهندس علي ناصر العيداني, وكنت أنا من تلاميذ دورتها الأولى, وكان ترتيبي الأول, فتدرجت في المهن البحرية حتى أصبحت المرشد البحري الأقدم في عموم الموانئ البحرية العراقية.
لقد تدفقت ينابيع هذه المدرسة بعطائها الثر, فواصلت تأهيل وإعداد الكوادر التشغيلية, حتى تخرجت فيها أربع دفعات, ثم توقفت تماماً بعد اكتمال تأسيس أكاديمية الخليج العربي للدراسات البحرية, التي كان اسمها في بداية التأسيس (أكاديمية البكر), وكان الأستاذ علي عجام عضواً في مجلس إدارتها, بموجب التخويل الرسمي الصادر من المجلس الأعلى للشؤون البحرية المرقم (مجلس / ش /ب/ 9) بتاريخ 16/2/1976, ومن نافلة القول نذكر أن مجلس البحرية الأعلى كان يضم في عضويته كل من وزير النفط, ووزير النقل, ووزير الزراعة والإصلاح الزراعي, ورئيس مجلس إدارة شركة النفط الوطنية, وقائد القوة البحرية والدفاع الساحلي, والمدير المفوض لشركة ناقلات النفط العراقية, ومدير عام مصلحة الموانئ العراقية, ومدير عام الشركة العامة لصيد الأسماك, ومدير عام شركة النقل البحري, ومدير عام دائرة النقل والمواصلات في وزارة التخطيط. أما سكرتير المجلس فكان السيد علي عجام نفسه.
رحلاته سندبادية مكوكية
أنطلق الأستاذ علي عجام في رحلته الأولى إلى ألمانيا الديمقراطية للحصول على مقاعد وزمالات دراسية لتأهيل طواقمنا البحرية المكلفة بتشغيل ناقلات النفط العراقية, وزار ألمانيا الديمقراطية في رحلته الثانية لمتابعة مراحل بناء معمل إصلاح السفن المؤمل ترحيله بعد اكتماله إلى البصرة, وقام بزيارات مكوكية لألمانيا الديمقراطية للغرض نفسه, ثم رحل إلى اليابان وقام برحلة استطلاعية زار فيها أكثر من عشرة أحواض لصيانة السفن, ثم رحل إلى أسبانيا للتباحث في موضوع بناء مجموعة من سفن الصيد على غرار السفن (روبيان, ونكرور, وهامور, ونويبي وأخواتهما), ثم زار أحواض بناء السفن في بولندا, عاد بعدها إلى اليابان لمناقشة الأفكار المقترحة لبناء حوض جديد لبناء السفن في العراق, وعاد مرة أخرى إلى اليابان لمشاهدة المراحل التجريبية للناقلة العراقية العملاقة (اليرموك), ثم قام بجولة شاملة زار فيها الجزائر وإيران والبحرين والبرتغال ولندن, وكان يحرص أشد الحرص على اصطحاب أكفأ المهندسين في رحلاته البحرية الاستقصائية, نذكر منها اصطحابه للمهندس الشاب (سعد خليل طلال) المعروف بمهاراته الهندسية في المضمار البحري, فتوصلا معاً إلى إعداد دراسة مستفيضة بخصوص المفاضلة بين مسافن إصلاح الناقلات, التي عكست الفوائد الاقتصادية والفنية, وحققت الوفورات المالية في تسفين الناقلتين (خانقين وجمبور) في حوض كيبل السنغافوري, فحصلا معاً على الشكر والتقدير بالكتاب المرقم ( ن ق 3/103/12/2 في 19/5/1977.
المحطة الأخيرة
قبل أن نصل إلى حدود المحطة الأخيرة لابد من التطرق لبعض المحطات القديمة المجهولة في حياة الأستاذ علي عجام, نذكر منها محطته العابرة عام 1976, ففي تلك السنة وعلى وجه التحديد في الخامس عسر من الشهر الأول صدر قانون النقل رقم (60). وتضمن استحداث ثلاث مؤسسات ضمن تشكيلات وزارة النقل, من ضمنها المؤسسة العامة للنقل المائي, ولحاجتها إلى الكفاءات البحرية القادرة على إدارة شؤونها, رشحت رئيس المهندسين (علي عجام) بكتابها (ذ/273) في 8/3/1976 للقيام بمهمة مدير عام المؤسسة, كان في حينها معاوناً لمدير عام لشركة ناقلات النفط العراقية, لكنه لم يستطع الإفلات من قبضة وزارة النفط التي تمسكت به, ورفضت التخلي عنه, باعتباره من أبرز القادة الذين لا يمكن الاستغناء عنهم بسهولة.
ومحطة أخرى كان فيها الأستاذ علي عجام هو المرشح الأول في المفاضلة التي تكللت لصالحه بقرار المؤتمر الاستثنائي المنعقد في طرابلس لترشيح السكرتير العام للمركز العربي للتنسيق والاستشارات البحرية, ففاز الأستاذ علي عجام على السيد أحمد عمر من شركة بتروشيب السعودية, والدكتور أبو حضرة من الشركة الليبية الوطنية, وذلك بالقرار المؤرخ في 4/5/1977.
ومحطة أخرى كان فيها هو العضو الأصيل لاجتماعات مجلس إدارة الشركة العربية البحرية لنقل البترول, بينما كان الأستاذ عبد الصاحب القطب هو المرشح البديل.
لقد ركزت في تحقيقي هذا على الأنشطة البحرية التي تألق فيها الأستاذ علي عجام, وأهملت الأنشطة الأخرى, التي كان فيها نجما من نجوم الفضاءات النفطية الزاخرة بالانجازات, فقد اقتصر حديثي عنه على الجوانب البحرية, وتركت الجوانب النفطية على أمل التطرق إليها لاحقاً, لكنني وبمناسبة الإشارة إلى المحطات, نذكر أنه عند عودته من الكويت بعد انتهاء مهمته في المركز العربي للتنسيق والاستشارات البحرية, انتقل إلى العمل في مركز وزارة النفط, وواصل عطاءه في مسار آخر من المسارات النفطية المرتبطة بالأنشطة الاقتصادية, فشغل بعض المواقع القيادية, نذكر منها: مدير عام شركة المشاريع النفطية, ومدير عام شركة توزيع المنتوجات النفطية والغاز, وشارك في العديد من المشاريع والمفاوضات الدولية, واستمر في عطائه لحين تقدمه بطلب إحالته إلى التقاعد عام 1992.
أما المحطة الأخيرة فكانت محطة التنائي والتغريب والاغتراب خارج حدود العراق, بل خارج حدود الوطن العربي كله, وشاءت الأقدار أن يكون ملاذ هذا الرجل المصلح, وملاذ أسرته الكريمة في القارة الأمريكية الشمالية, فاعتكف هناك في بيته الكندي البسيط, وعينه على العراق.