الشيخ العارف
الطريق: نار ونور وفجر جديد
د. عبد الرحمن الحطيبات - مشرف اللغة العربية
مدارس الجامعة /الملك فهد للبترول – الظهران
في بلدة من أجمل قرى لواء المزار الجنوبي في محافظة الكرك, تدعى العراق, وهي هبة الله في أرضه, بما تمتاز به من كثرة ينابيع المياه, والأشجار المختلفة التي تغطى مساحات واسعة من القرية الفاتنة, ذات المناظر الخلابة التي جمعت سحر الطبيعة, وأسرار الخليقة, وعبق التاريخ, وألق الحاضر, ورؤى المستقبل، والتي أطعم الله أهلها من جوع وآمنهم من خوف, في هاتيك الديار وتلك الحاضرة ولد الشيخ العارف كمال والذي ينتسب إلى أسرة عريقة, وعائلة كريمة لم تزدد مع الأيام إلا أصالة, ولم تتأثر بالأحداث شجاعة وبسالة, تدعى الحطيبات, وهذه العائلة تشكل رابطة عشائرية, ولحمة قبلية تستند فيها إلى فروع عشائر بني عطية, الممتدة بطونها في الأردن والسعودية ومصر, والذين ينتمون إلى قبيلة السبوت من سكان مدينة تبوك، وقد ارتحل أجداده من حواضر تبوك إلى حاضرة الكرك, وتفرعوا : ذهب جزء منهم إلى فلسطين حيث حاضرة الخليل, واستقر بهم المقام في قرية بيت فجّار, ويدعون بعشائر الثوابتة . استقر المقام في الكرك بالمرحوم الشيخ ضيف الله, حيث منازل عشائر الحطيبات, وعشائر المواجدة, والمرابحة، والتيمة، والحرازنة والخطباء, والطبور، والموانيس في هذه القرية الأردنية الوادعة العراق (كحالة, بلا) انظر (الطراونة, محمد سالم, بلا) يتشاركون الحياة, ويقتسمون لقمة العيش, وماء, وسماء, وخضراء, وسوداء.
وكان للشيخ الحاج أبي كامل عبدالحافظ بن أعبد بن ضيف الله الحطيبات -رحمه الله- خبرة جيدة بالزراعة والتجارة, فعمل على افتتاح متجر في قرية العراق، وكان يجلب بضاعته من فلسطين, والشام في رحلات بين الشتاء والصيف, قد تستغرق عدة أشهر, في قوافل تجارية يحملون البضائع على الإبل من القمح والعدس والشعير والحمص والزبيب والتين المجفف, في رحلة طويلة, وشاقة وممتعة, يزورن مدينة الخليل والقدس وحيفا ويافا من مدن فلسطين, ثم يعودون محملين بالسكر والشاي والأقمشة والعطور والهدايا, والأسلحة من البنادق (الألماني) و(الهتلرية) من أنواع البنادق, وكانت هذه الرحلات تجري على طبيعتها, وباستمرار؛ بسبب التمازج بين القبائل والسكان والتقارب والجوار والأنساب, والصداقة بين السكان في الضفتين الشرقية والغربية لنهر الأردن, وقد انقطعت هذه العلاقة بعد مجيء دولة الاحتلال الصهيونية,(الحطيبات, عبدالرحمن, بلا) وقد ساعد هذا المتجر والدي الشيخ عبدالحافظ – رحمه الله-، مع حسن أخلاقه وطيب معشره, في نمو تجارته وبركتها وحسن حاله. وقد أنجب الحاج عبدالحافظ خمسة أبناء هم: الأكبر الشيخ أبو هيثم كامل, والثاني الشيخ أبو أيمن كمال, والثالث أبو عمر جميل, والرابع أبو محمد أحمد, والخامس أبو محمد الدكتور عبدالرحمن. وابنتين هما: أمينة وجميلة.
وكان الشيخ عبدالحافظ -رحمه الله- من أبرز الوجهاء المعرفين على مستوى المحافظة, والمحب والمنتمي والمخلص لبلده وقيادته وقريته وعشيرته و كانت تربطه-رحمه الله- صداقات حميمة مع كثير من الوجهاء والزعماء والمفكرين من أمثال حسين باشا الطراونة وعلي بن يحيى الصرايرة والحاج ممدوح الصرايرة وقدر المجالي و دليوان المجالي وعبدالوهاب المجالي وحابس المجالي وصالح المجالي وغيرهم من الأصدقاء والأقارب والجيران من مشايخ عشائر الثوابته في الخليل -حررها الله- والذين يرتبط بهم الشيخ عبدالحافظ -رحمه الله- برابطة العمومة, وأبناء العمومة يشاركوننا ونشاركهم الأفراح والأتراح, ويتواصلون في كثير من المكاتبات والمساجلات قبل الاحتلال الصهيوني البغيض, والتواصل مع مشايخ عشائر السبوت أهل النخوة والمكارم والذين تربطهم رابطة النسب وشرف الانتماء, والتواصل مع مشايخ بني عطية أهل النخوة والحمية والممتدة في إقليم الجنوب من المملكة الأردنية الهاشمية والذين يرتبط بهم الشيخ عبدالحافظ -رحمه الله- أيضاً برابطة الأخوة, وأبناء الإخوة يشاركوننا ونشاركهم الأفراح والأتراح, ومع مشايخ الجوار المؤمن الآمن من البطوش والخرشة والقرالة والمعايطة والحباشنة, ويرتبط مع عشائر المواجدة, والمرابحة، والتيمة، والحرازنة, والخطباء, والطبور، والموانيس بعهد الأهل والأخوة والوفاء والمصاهرة, وعهد الإيمان والأمان تمتد أيديهم وتخشع وتذرف أعينهم وتهتف ألسنتهم (وعليك أمان الله, والبايق يبوقه الله) في قرية أردنية وادعة يتذوقون فيها طعم الحياة, ويقتسمون لقمة العيش, ويعبدون رب البيت الذي أطعمهم, وآمنهم من خوف .
- رحمهم الله جميعاً- وكانت على علاقة طيبة بالمسؤولين يكن لهم الاحترام, ويكرمهم وينقل لهم صورة واضحة عن حاجات الناس ومطالبهم وقضاياهم وكان الشيخ عبدالحافظ -رحمه الله- من المصلحين والذي يتصف بسعة الأفق, وسلامة الصدر والحلم والتسامح والكرم وطيب الخلق وحسن المعشر, والسعي للإصلاح بين الناس, مخففاً العبء على أجهزة الأمن وبخاصة الشرطة, في حل كثير من المشكلات والمنازعات قبل تفاقمها ومتعاونا معهم وبشكل فعلي في كثير من القضايا التي يصعب على رجال الأمن حلها, وبخاصة في جرائم القتل والشرف متحملاً كثيراً من الأعباء والتكاليف,ومتعاونا مع شيوخ ووجهاء بلدته: مثل الشيخ حمد سليمان المواجدة وابنه الشيخ محمد, والشيخ سلامة مسلم المواجدة, وولده الشيخ أحمد والشيخ عطاالله مسلم المواجدة وابنه الشيخ إرشيد المواجدة, والشيخ عبدالمهدي سالم المواجدة والشيخ عودة المواجدة وغيرهم من وجوه الإصلاح, مفاتيح الخير .. مغاليق الشر. مشكّلاً بذلك؛ طوقاً أمنياً رديفاً وفي خط الدفاع الأول لحل كثير من القضايا الساخنة, حلاً جذريا,ومن أبرزها كان موقفه في السبعينات من إعادة تنظيم العلاقة مع قوات التحرير الفلسطينية فتح أثناء وجودها في الأردن وفي بلدته القرية, وفي إعادة الحقوق إلى أصحابها, وإعطاء كل ذي حق حقه, وقد أهّلته هذه الأخلاق ليكون مختارا لعدة عشائر في بلدة العراق لفترة تتجاوز ستين عاما, وكان رئيس المجلس القروي لفترة تصل إلى ثلاثين عاماّ, عمل خلالها وبشكل جاد, ومن خلال قنوات الاتصال الرسمية والشعبية على فتح وتوسيع الطرقات, وتوسيع بناء المدارس, وفتح الصفوف والشعب المدرسية, وتوسيع الملاعب, وتوصيل الكهرباء, واستملاك وشراء قطع الأراضي لغايات توسيع بناء المدارس. وبناء مجلس قروي, ومركز صحي, وغيرها من المشروعات والخدمة العامة(الحطيبات, عبدالرحمن , بدون تاريخ)
وكان من عادات الشيخ عبدالحافظ -رحمه الله- أن يجمع شمل العائلة وبشكل مستمر, ويبسط موائده (والجود من الموجود) ليأكل الصغير والكبير, والغني والفقير, والقريب والصديق, في مشهد ملائكي وصفوف متحابة يحبها الله في موسم شهري أو شبه شهري, تجمعهم الألفة, ويتفرقون على البسمة, يحترم الصغير الكبير, ويستمع الأبناء إلى أبيهم , والأخوة إلى أخيهم, والأم إلى بناتها.
وقد ولد للحاج عبدالحافظ ولده كمال عام 1939م، حيث نشأ في بيئة عادية متوسطة الحال، ضمن رعاية والديه ومع إخوته، وكونه وأخوه الحاج كامل من أكبر الأبناء فقد تحملا المسؤولية صغاراً، فكانا يساعدان والدهما في تحمل أعباء الحياة، وقد عملا منذ بداية طفولتهما مع والدهما الشيخ عبدالحافظ –رحمه الله- في الزراعة والفلاحة، ثم التحق كمال قبل أن يبلغ الحلم, وقبل أن ينهي المرحلة الإعدادية في الأمن العام, وخدم في مناطق متفرقة من ربوع الوطن, بدأها في مدينة نابلس وكان الشيخ كمال -رحمه الله- إذا (أُجِيز) عاد إلى بيته في بلدة العراق محملاً بما لذ وطاب.. يعود وكأنه تاجر جملة أو شخص أحيل عليه عطاء.. سيارة محملة بأكياس كبيرة بالجوافة.. جوافة, وبالبرتقال اليافاوي.. برتقال, وبالموز.. موز, وبالسكر والرز والحلويات..وغيرها كثير. كنا صغارا نجلس لنأكل ونطعم الجيران والأصدقاء ونطعم كثيراً ممن كنا نعرف, وكثيراً ممن لم نكن نعرف..كنا نشعر أن في هذه الخيرات حق لجميع أهل القرية, وكانت هذه العادة الطيبة واجباً نشأناً عليه, وطريقاً للخير سار الشيخ كمال عليه... وفي بداية السبعينات تقاعد الشيخ كمال ليشتغل في التجارة, واستقر به المقام في مدينة الكرك بجوار مقام الرجل الصالح (الخضر) -عليه السلام-, وكانت تجارة رابحة استطاع خلالها أن يجمع شمل العائلة حوله, وأن يعمل على بناء مسكن من أربعة طوابق, وأن يمهد لإخوته للعمل كرجال أعمال, ولم يتوان طوال هذه المدة من القيام بالإصلاح بين الناس, وقد ساعدته خدمته وعمله وطبيعة شخصيته في التعرف على الناس والانفتاح على الثقافات المختلفة، وجعلت منه إنساناً صاحب نظرة متفتحة, وحسن معشر, وذا شجاعة, وجرأة انعكست على سيرته, وفي عمق ولائه وانتمائه لوطنه الأردن، وعشقه الدائم لمدينته الكرك، بثوبه الأنيق المقمط, وجبته البهية المقصبة, وبعباءته السوداء المهفهفة, وأطرافها المزينة بخطوط مذهبة, وبكوفيته الأردنية الحمراء المهدبة, والمصفوفة على شكل تاج فوق العقال تزين هامته, وترفرف عليها كالعلم تماماً, وبما لها من دلالات تستدعي الفخر والاعتزاز والشباب والتأنق, والهيبة والوقار.. وتضفي عليه وسما, وسمة شيخ جليل وقور.
لقد كان -رحمه الله- يشكل رمزا وطنيا أردنيا تراثيا كركيا, يفتخر به كل كركي, وكركية ونشمي ونشمية, فلطالما افتخر بهذا البلد وبأبنائه, وبقيادته وشعبه وبكرمائه وأصفيائه, ولطالما غنى لهم بدواليه وغصونها العالية, وبجباله وينابيعه, وبمدنه وكركه وعين سارة, وبربوع وطنه الأكبر الأردن.
كان -رحمه الله- يمتاز بدقة الملاحظة, وسعة الأفق, وبنشاط لا يكل ولا يمل, وشجاعة لا تعرف الخوف, وسمت مهيب, ونفوذ ساحر, ونبرة صوت قوية.
كان رجلا طويل القامة, ممتلئ الجسم, متين البنية, رشيق الحركة, ونشيطها. ملامح وجهه جميلة في جملتها وتفصيلها, تزيدها جمالا ومهابة تلك اللحية البيضاء النضيرة والخفيفة, والمطبقة بمحيا مشرق, وبشرة بيضاء نقية مشربة بشي من الحمرة, ذي جبهة غراء انحسر عنها الشعر رويدا رويدا, وبدت مسحة ناطقة, بطيبة النفس, وقوة الإرادة, ولعينيه المعتدلتين في السعة من غير ضيق بريق ساحر, ولفتة خلابة, يملأ النفس هيبة وإعجابا ووقارا. لقد كان بحق جنديا من جنود الله سخره أو سلطه في كثير من المواقف بصوته المجلل وبنبرته المؤثرة, ليكون أو يقول أفضل ما يكون. كان الشيخ مميزا من ناحية البناء الجسماني والوضع النفساني, وربما يعود ذلك للطفرة أو الوراثة ولربما لنشأته الريفية, فقد نشأ ذا منزلة خاصة عند أبويه, إذ تربى على شيء من الجرأة, والحرية, وتحمل المسؤولية, ولا يكون ذلك إلا للأبناء المميزين, ولا يكون لغيرهم, فينشؤون نشأة ذوي استقلال وجرأة وإقدام.
ويبدو على الشيخ بعض ملامح التصوف من العرفان, فالعارف شجاع, وكيف لا يكون شجاعا, وهو بمعزل عن تقية الموت؟ والعارف جواد, وكيف لا يكون جوادا وهو بمعزل عن محبة الباطل؟ والعارف حليم صفّاح, وكيف لا يكون حليماً صفّاحاً, وذكره وفكره مشغول بالحق جل في علاه.
وكان رحمه الله ملجأ للمظلومين, وكهفا لأصحاب الحوائج, وقد كان يسعى -رحمه الله- مع صاحب الحاجة, وهو يعلم أنه قد أساء إليه من قبل, ونال منه, وتحالف عليه مع خصومه في الترويج لعبارات الذم والسب والنميمة, كان -رحمه الله- إن الشر ليس غنيمة ولا مكسبا, وأنه لا فائدة منه, وأن الشر يولّد الشر "ومن يزرع شوكا لا يجني به عنبا ولا موزاً" -على حد تعبيره- وإن العفو والتسامح عن كل شي, وعن كل شخص هما خير وسيلة للسلامة ومعالجة الشر, والبعد عن السوء والأذى, وأسرع للإصلاح, ولا يأتي العفو والتسامح والإحسان إلا بالعز والخير, وكان شعاره الذي ملأ عليه حياته, والمرجع الذي يصدر عنه, ويعود إليه في كل حين قول الله تعالى "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم , وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظٍ عظيم" (سورة فصلت 35-36 ). ولذلك كان رحمه الله يتقدم الصفوف ويسبق الآخرين مستشعرا الأخطار, ومدركا تمام الإدراك للآلام ولنتائج الشر وعقباه, مستشرفا ثمرات الخير وجناه, وقد كان يفكر التفكير العميق في أسباب الداء, ومكامن الأدواء, ويشخص العلة, ولا يقف عند حد التشخيص والوصف, بل يقوم بالعلاج, ومتابعة ما بعد العلاج, شأنه في ذلك شأن الطبيب الخبير, والمعلم المخلص, والأب الرحيم.
لقد كان ينظر إلى كل مشكلة من أكثر من زاوية نظرة واقعية وحقيقية, ويدعو إلى مداواتها من تلك الرؤى التي تنير الطريق.. وتبشر بالخير .. بالندى والطيب والنور والفجر الجديد. لقد أبلى رحمه الله بلاء حسنا, ولاقى في ذلك الصعوبات, وعانى من التحديات ما لا يطيقه إلا القليل, لقد أحب -رحمه الله - الإصلاح بين الناس أكثر مما أحب الحياة, وأعطى في ذلك أكثر مما أعطته الحياة, جهدا موصولاً, وهمّاً بعده هم, وتعباً لا ينتهي, وعرقاً لا يجف, وسهراً لا ينقطع, وليلاً طويلاً, فلم يكن يشعر بالراحة والسعادة حتى يحقق مبتغاه, وأخيراً, وفي يوم غابت شمسه, وفي ليلة افتقد بدرها, لم يسمع صوت أبي أيمن المعهود, لقد أصيب الشيخ كمال- رحمه الله- في آخر أيامه, بمرض في القلب, فأوقف هذا القلب الكبير عن النبض, وبرد ذلك الشلال الدافئ المتدفق بالحب والحياة والحركة, وسكت ذلك الصوت الفرد, الذي تغنى بالكرك وأهله, وطالما تغنت به الكرك, في عام 2008م توفي كمال الشيخ, وكمال الأخ, وكمال ابن العشيرة, وكمال المحب للكرك وأهله وللأردن قيادة وشعبا وهواء وماء وترابا، عن عمر أمضاه في العمل الجاد، وترك وراءه إرثاً كبيراً, وذكريات وحباً, سيبقى يذكر به على مر الزمن.