شيء عن المرحوم، المناضل عبد العزيز شربا
عقاب يحيى
كثرٌ الأحبة، والأصدقاء والمعارف الذين رحلوا عنا ولم نرهم.. ليتركوا في القلب جراحاً تضاف إلى مافيه، وفي النفس غصّات.. على عمر ومشوار لم يكتمل برؤية الحرية تعيش في بلادنا.. حلم العمر...
" أبو أسامة" من الرعيل الثاني في البعث.. انتسب إليه، ككثيرين أمثاله، يافعاً وبالذهن أحلام كبار، وأمنيات بطول وعرض الوطن عن الأمة الواحدة، والوطن الموحد، وفلسطين المحررة.. والدولة الحداثية التي تساير ركب العالم وتأخذ مكانها الطبيعي بين دول العالم..
آمنوا بذلك حتى النخاع فأمسكوا بجمر الإيمان يقاوم الانتهازية، وإغواءات السلطة ومكاسبها.. بعضهم أغوته فهزمته، وبات جزءاً من منظومتها وعصاباتها النهابة، المرتزقة، التشبيحية، تجار المبادئ والشعارات والوطن.. وأكثر.. وقلة رفضت جميع الإغراءات، وتمسّكت بالمبادئ تمنحها ما تقدر.. رغم الأمواج، والتلاوين الصاخبة، والثقوب الكثيرة التي أحدثها الواقع فيها، وفي جملة الآمال... والشعارات الكبيرة، والخطابات المنفوخة بالكثير من الحماس والاندفاع..
ـ أبو أسامة.. ومعظم رفاقه، أبناء جيله، تلك الكوكبة الوطنية، لم تكسرهم شياطين الحكم والمكاسب..لم يتراخوا، ويتبدلوا، ولم يخونوا الأمانة والحلم والأهداف، وكان البلعاس وبطمه وسنديانه وهواءه الحر.. غذاء واستناداً.. منه يستمدون تلك" المثالية" الملتزمة، وإليه يرتحلون واقعياً، وفي الحلم.. ينفثون في فضاءاته بعض اليأس، والإحساس بالفشل، والتناقض بين الأهداف والممارسة..ويعودون لنقاش الذي جرى.. منذ هزيمة حزيران ومهازلها وأسئلتها الكبيرة، ويقفون طويلاً عند ظاهرة الطاغية الأسد، واستناده، وتعاظم قوته، فنجاح انقلابه في عزّ الوضوح.. ومع ذلك لا يمكنهم إلا أن يكونوا في الخندق الصحيح : خندق المبادئ والأخلاق والقيم.. والالتزام.. مهما كان حجم النقد، وأيّاً كانت الأسئلة الغامضة التي لا أجوبة شافية لها..
ـ هكذا كان المرحوم أبو أسامة... الذي توفي البارحة : السادس من الشهر الأول.. وهو من مواليد العام 1934، مدرس اللغة العربية، والقائد الحزبي ـ أمين شعبة الحزب في سلمية ـ حتى العام 1970، والمسؤول عن منطقية سلمية في العمل السري من 1976حتى العام 1980، والمهاجر إلى الجزائر.. في رحلة الشقاء والمعاناة، فالعودة شبه القسرية لسلمية..
ـ مثله كان المرحوم محمد حيدر، أمين فرع الحزب بحماة الذي توفي باكراً، والأستاذ المرحوم عبد الكريم محفوض، نقيب المعلمين في سورية، وعديد ممن ما زالوا أحياء: مصطفى رستم وعبد الكريم الضحاك، وكثر من الأصغر سناً ببضع سنوات.. من تلك الشلة التي رفضت حل الحزب ثمناً للوحدة، فانضوت في تنظيم ما يعرف بالقطرييين، وكانوا في موقع قيادي له على مستوى سلمية..
ـ وحين عودتهم للحزب/ القومي/ 1964 تركوا بصماتهم الواضحة فيه : نقاء والتزاماً حزبياً، ونظافة قلب ويد مشهورين..
جميعهم، عدا نفر قليل جداً من تلك الشلة، اتخذوا موقفاً ضد انقلاب الطاغية على أعلى مؤسسة في الحزب..لبدء مشوار آخر.. يطرح عشرات الأسئلة عن الذي جرى، وعن مجاهيل كثيرة.. وتطورات، وقضايا كانت تحتاج الإجابة، والوضوح، والتطوير.. وكان أبو أسامة على الموعد.. لم يتخلف في تلبية نداء العمل السري فور عودته من الجزائر ـ استاذاً للغة العربية لمدة أربع سنوات ـ فعمل مسؤولاً عن منطقية سلمية التي كانت تضم عشرات المناضلين.. والتي تعرّضت لحملات اعتقالات لئيمة على دفعات متتالية .. دفعت به، بعد توصية له من بعض المعتقلين، إلى الخروج هارباً نحو الجزائر عام 1980.........
*****
ـ كثيرة الذكريات... والأحاديث..التي ربطتنا، وأكثر منها مشاعر الفقدان ، والبحث عن الحقيقة، وعن الممكن عمله وسط انهيارات المعارضة، والاعتقالات.. والصراعات الداخلية.. والماضي وفجواته، والمستقبل وموجباته، وأبو اسامة يعاني شظف الحياة أستاذاً للغة العربية في الثانويات الجزائرية حين كان ينتهي عقده، وحين كان عليه، وصحبه، بذل مساعي خارقة لإعادته.. ثم مكوثه سنوات طويلة في / قرية إيغيل علي/ الجبلية وسط ما يعرف ب"القبائل الصغرى" التابعة لولاية بجاية بطبيعتها السكانية والجبلية..وتراكب حالة اليأس العام، بالوضع الخاص، ومحاولاته الاستناد إلى الإيمان وممارسة الصلاة، ومزاولة قراءة القرآن مراراً.. في حين كان يذهب بعيداً في تفسيره للذي جرى للحزب، والبلد.. ويتهم الطاغية الأسد بالتآمر، والعمالة والطائفية الوقحة.. وكثير من توصيفات ..
**
عاد أبو أسامة شبه مكره، مثقلاً بتراكم الفوات، ونتاج أعوام اليأس.. فقبع في بلدته السلمية التي تغيّرت كثيراً عن صورة الحلم، بل وعمّا عاش.. بتلك الفطرية، والطيبة، والشعبية التي ترفض القنزعة، والحدود المادية الفاصلة.. وتكور البشر على ذواتهم وعوائلهم.. و..كثير..هو الذي كان متعلقاً بها كثيراً، ويتغنى بذكرياته وصحبه، وسنوات الشباب، ورحلات الصيد، وجلسات السياسة، وسهرات الطرنيب..
كان منكسراً تماماً.. وإن أعادت الثورة إليه بعض الأمل.. لكن مشوار العمر لم يعد يسمح له بالحركة.. فقد حلت الأوجاع والأمراض فأنهكت الذاكرة.. والجسد..
رحل المناضل عبد العزيز شربا.. ولم تنتصر ثورة الحرية بعد.. لكنه شهد قيامها، ورافق اقتراب نصرها.. ولعله وهو يودع الحياة بدمعة تختزل مشوار عمر طويل..كان يوصي الأجيال الجديدة أن تضع الحلم في المقل، وأن تضحي لأجله كما فعل هو وصحبه الكرام.. وأن لا يتغلب الذاتي على العام..ولا المصالح الخاصة على الوطن..
ـ له الرحمة الأستاذ الصديق عبد العزيز شربا.. ولعائلته الصغيرة : أم أسامة وأسامة وعلي وسرار وسراب وهلا، وجميع أفراد العائلة الصبر والسلوان، والعزاء...