الشيخ محمد بهجت البيطار
وصلته بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين
أ.د مولود عويمر*
قرر المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين في اجتماعه يوم 4 أكتوبر 1951 منح لقب "الرئيس الشرفي" لهذه الجمعية لبعض العلماء الأجانب الذين يشتركون معها في الفكر والمنهج والهدف، وهم: محمد بهجت البيطار (سوريا)، محمد تقي الدين الهلالي (العراق)، محمد عبد اللطيف دراز (مصر)، محمد أمين الحسيني (فلسطين)، محمد بن العربي العلوي (المغرب)، عبد القادر المغربي (سوريا)، عبد العزيز جعيط (تونس)، مسعود الندوي (باكستان)، أحمد بن محمد التيجاني (المغرب)، محمد نصيف (الحجاز).
ووكل المجلس إلى رئيسه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي تنفيذ هذا القرار بمراسلة هؤلاء العلماء لإبلاغهم به. وتمثل هذه الخطوة إستراتيجية جديدة لتوسيع نشاطها خارج البلاد وكسب منابر جديدة للتعريف بأعمالها، واستقطاب شخصيات علمية مشهورة لمناصرة دعوتها، وفك الحصار الذي فرضته عليها سلطة الاحتلال الفرنسية.
وسأحاول بحول الله في سلسلة من المقالات التعريف بهؤلاء الرؤساء الشرفيين، والكشف عن اهتماماتهم بالحركة الإصلاحية الجزائرية بشكل عام، وصلتهم بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين بشكل خاص. وسأخصص هذا المقال للشيخ محمد بهجت البيطار رحمه الله.
من هو الشيخ محمد بهجت البيطار؟
ولد الشيخ محمد بهجت البيطار بدمشق سنة 1311 هـ/ الموافق لـ 1894 م. وترجع أصوله إلى مدينة البليدة الجزائرية. نشأ في أسرة عريقة معروفة بالعلم والأخلاق منهم جده الشيخ عبد الرزاق البيطار ووالده بهاء الدين البيطار. درس في المدارس الدمشقية، ثم جالس كبار علماء عصره، أذكر منهم: الشيخ جمال الدين القاسمي، الشيخ بدر الدين الحسني، الشيخ محمد الخضر حسين، والشيخ محمد البشير الإبراهيمي. وقد قال الشيخ البيطار عن هذه المجالسات مع هذين العالمين الجزائريين المقيمين في دمشق آنذاك: " وجالت في ضميري تلك المباحث العالية التي كانت تدور بين الأستاذين الجليلين والقمرين النيرين الشيخ محمد الخضر حسين والشيخ محمد البشير الإبراهيمي وكنا نحن معشر الصحب نلتقط من تلك الدرر كل نفيس وغال، فرعى الله ذلك العهد الميمون الذي كنا نغبط عليه."
وتأثر الشيخ محمد بهجت البيطار أيضا بالشيخ محمد رشيد رضا. وأسندت له بعد وفاة هذا الأخير رئاسة تحرير مجلة المنار ومهمة مواصلة تفسير المنار.
وعمل الشيخ البيطار مدرسا في كافة مراحل التعليم، فدرّس اللغة العربية وآدابها والعلوم الدينية في مدارس دمشق ودار المعلمين. واستضافته المملكة العربية السعودية للتدريس عدة سنوات في مدارسها ومعاهدها العلمية.
درّس الشيخ البيطار علم التفسير وعلم الحديث في كلية الآداب بجامعة دمشق بداية من عام 1947 إلى غاية تقاعده في سنة 1953. وتفرغ بعد ذلك للكتابة وإلقاء الدروس في المساجد وتقديم المحاضرات في المحافل العلمية.
ألف الشيخ البيطار أكثر من 20 كتابا في مختلف العلوم أذكر منها: تفسير سورة يوسف، المعاملات في الإسلام، حياة شيخ الإسلام ابن تيمية، حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، الإنجيل والقرآن في كفتي الميزان، الاشتقاق والتعريب، الإسلام والصحابة الكرام بين السنة والشيعة، كلمات وأحاديث...الخ.
كما حقق مجموعة كتب التراث، منها: قواعد التحديث، البخلاء، الموفى في النحو الكوفي، أسرار العربية، حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر...الخ.
وتقديرا لجهوده العلمية انتخب الشيخ البيطار عضوا في المجمع العلمي العربي بدمشق سنة 1923، وكان من أبرز أعضائه وأكثرهم نشاطا. كما أنتخب عضوا في المجمع العلمي ببغداد عام 1954.
وتوفي الشيخ البيطار في 30 جمادى الأولى 1396 هـ/ 29 ماي 1976 بعد مرض أقعده في بيته عدة أسابيع.
جمعية العلماء في نظر الشيخ البيطار
كان الشيخ البيطار من المتتبعين لنشاط جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وعبّر عدة مرات عن إعجابه بأعمالها الإصلاحية وجهودها التجديدية: "في أرض الجزائر غرست شجرة الإصلاح الديني والمدني بيد جمعية العلماء الأجلاء فأزهرت وأينعت، ومن سمائها سطعت شمسه، فأضاءت وعمت؛ ومن بين جوانبها سمعت صيحة الحق فأيقظت الراقد، وحركت الجامد، وزلزلت أقدام المستبد الطامع، فوقف حيران لا يستطيع حيلة و لا يهتدي سبيلا..."
وكان أجمل عمل قامت به جمعية العلماء وأجله في نظره هو تأسيس المدارس وإنشاء معهد عبد الحميد بن باديس الذي استبشر كثيرا به وخصوصا وهو يحمل اسم " الإمام الأول للنهضة الإصلاحية الجزائرية" وثمن نجاح المقيمين عليه بتخريج دفعات من طلبة العلم الذين ينتشرون في كل ربوع الجزائر لإحياء الدين وتعليم اللغة العربية وزرع الأمل في قلوب الناس. ووصفه هذا العالم السوري بهذه الكلمات البليغة: " هو حديقة ذات بهجة، تغرس فيها فسائل العلوم والآداب، وتسقى بماء معين من الأفكار الحية."
وقال عن العلماء الجزائريين الذين يعلمون في هذه المؤسسة العلمية: " يتعهدها رجال من ذوي العقول الناضجة، والهمم العالية، والدين الخالص، غرسا وسقيا وإصلاحا، فتنبت لنا نباتا حسنا بإذن الله "والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه."
فتلامذة معهد ابن باديس هم مستقبل الجزائر وأملها. "فالمعهد الباديسي هو معهد الرجاء، وسيكون روضة علوم وفنون، ثمارها اليانعة تلاميذه الذين ستزدان بهم كراسي الوعظ والتدريس، ومنابر الخطابة، ومحاريب الإمامة، ودواوين الإفتاء، وتستعيد بهم هذه المقامات سيرتها الأولى."
وكان من القراء الأوفياء لجريدة البصائر التي شبهها بأكبر الصحف الإسلامية في عصره وأكثرها رواجا وأبلغها لسانا وأعمقها تأثيرا، فقال عنها: "هي كوكب سيار، يدور في فضاء هذه البلدان العربية والإسلامية، فينير لها سبل الحياة، ويدلها على طرق النجاة، ويهدم ما بنته أيدي الاستعمار فيها بمعول الحق، فينهار بنيانهم، ويتقلص ظل سلطانهم، ويعود لهذه الأمة عهدها الأول، الأغر المحجل".
وقال عنها في موقع آخر: " ما أشد سرورنا بالبصائر الغراء وحبنا لها وإعجابنا بها. إنها المثال العالي لما يكتب في الدين والأدب والنهضة الوطنية والعروبة الصحيحة وفي وسائل المحافظة عليها، وهي المثل الكامل في الإصلاح الإسلامي، والجهاد العلمي والقلمي."
العلاقة الخاصة بين الشيخ البيطار والشيخ الإبراهيمي
تربط الشيخ محمد بهجت البيطار علاقة خاصة بالشيخ محمد البشير الإبراهيمي، وتمتد جذورها إلى سنة 1916 عندما غادر هذا الأخير المدينة المنورة واستقر بدمشق قرابة أربع سنوات. وتعرفا الرجلان وكانت تجمعهما مجالس العلم والأدب صحبة مجموعة من علماء دمشق منهم: جودت المارديني، قاسم وضياء القاسمي، سعيد الغزي، عبد القادر المبارك. وكتب الشيخ الإبراهيمي فيما بعد عن تلك المسامرات بشيء من الحنين: " اشهد صادقا أنها هي الواحة الخضراء في حياتي المجدبة، وأنها هي الجزء العامر، في عمري الغامر."
وبقي الشيخان على صلة بعد عودة الشيخ الإبراهيمي إلى الجزائر. ولم تمنعه كثرة أعماله في الإصلاح والتعليم وقيادة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بعد وفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس من التواصل مع الشيخ البيطار وتبادل الرسائل معه.
وصفه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بأحسن ما يوصف به العالم، فقال عنه: "(هو) علم من أعلام الإسلام، وإمام من أئمة السلفية الحقة، دقيق الفهم لأسرار الكتاب والسنة، واسع الإطلاع على آراء المفسرين والمحدثين سديد البحث في تلك الآراء، أصولي النزعة في الموازنة والترجيح بينها ثم له بعد رأيه الخاص... والأستاذ البيطار مجموعة فضائل، ما شئت أن تراه في عالم مسلم من خلق فاضل إلا رأيته فيه... و(هو) مفكر عميق التفكير، وخصوصا في أحوال المسلمين، بصير بعللهم وأدوائهم، طب بعلاجهم ودوائهم ... يرجع في ذلك كله إلى استقلال في الفهم والاستدلال، ومقارنات في التاريخ والاجتماع."
أما الشيخ محمد بهجت البيطار فقد عبر في العديد من المناسبات عن إعجابه بالشيخ الإبراهيمي. واحتفاظه بالذكريات التي كانت تجمعهما في دمشق في العشريات من القرن العشرين. ومنها ما رواه في جريدة البصائر ثم مجلة مجمع اللغة العربية، فقد كتب قائلا: " كنا نجلس الساعات الطوال، من ليل ونهار، ونحن مقبلون على عالمي تونس والجزائر الشيخ محمد الخضر حسين والشيخ محمد البشير الإبراهيمي، وهذان العالمان ينثران على مسامعنا من درر المباحث العالية، والمطالب الغالية ما يعد لباب اللباب، في كل علم وباب بله الدلالة على الكتب النفيسة، والنقل عنها بضبط وإتقان والتعليق عليها، من دون رجوع إليها. وكنا نشعر أننا أمام دائرة معارف حوت من كل شيء أحلاه وأغلاه. تلك الأيام كانت غرا محجلة في ديار الشام".
وشاءت الأقدار أن يموت العالمان العاملان، والرجلان المتحابان في الله، في شهر واحد، فمات الشيخ الإبراهيمي في 20 ماي 1965، بنما توفي الشيخ البيطار 29 ماي 1976. فرحمهما الله واسكنهما الفردوس، وعوّض الأمة الإسلامية بعلماء مصلحين ومجددين، عاملين ومخلصين.
* أستاذ كرسي التاريخ والحضارة بجامعة الجزائر