سطور من حياة الإمام المجدد "حسن البنا" 3
سطور من حياة الإمام المجدد "حسن البنا"
( 3 )
بدر محمد بدر
وفي الرابع من شهر رمضان عام 1341هـ ـ 1923م, التقى حسن البنا وهو في السابعة عشرة من عمره, بالشيخ عبد الوهاب بالتزام الطريقة وإذنه بأدوارها ووظائفها, واستمرت صلته بشيخه على أحسن حال, حتى أنشئت جمعيات الإخوان المسلمين وانتشرت في ربوع مصر.. وفي تلك الفترة ـ وهو في السابعة عشرة من عمره ـ أسس "البنا" مع بعض إخوانه في "المحمودية" "جمعية الحصافية الخيرية" واختير سكرتيراً لها, وزاولت الجمعية عملها في ميدانين : الفاشية في تلك الفترة, كالخمر والقمار وبدع المآتم, والثاني مقاومة الإرساليات الإنجيلية التبشيرية التي استقرت في بلدته "المحمودية" وكان قوامها ثلاث فتيات يبشرن بالمسيحية في ظل التطبيب وتعليم التطريز, وإيواء الصبية من بنين وبنات!
في القاهرة لأول مرة
أنهى "حسن البنا" دراسته في مدرسة المعلمين الأولية بدمنهور, ثم تقدم إلى القسم العالي المؤقت في مدرسة (كلية الآن) دار العلوم في العام الدراسي (41 ـ 1342 هـ) (23 ـ 1924 م) وسافر ـ لأول مرة في حياته ـ إلى قاهرة المعز, عاصمة الثقافة والفكر, ومدينة الألف مئذنة, واتخذ مسكناً في حي السيدة زينب, أحد أحياء القاهرة القديمة, في المنزل رقم 18 بشارع مراسينه, وتقدم لامتحان القبول, وبتوفيق الله نجح رغم صغر سنه, وتم قيده طالباً بالسنة الأولى بمدرسة دار العلوم, ليبدأ في القاهرة مرحلة جديدة من الاحتكاك والتأمل والدراسة والنقاش حول قضايا ومشكلات المجتمع والأمة, وبدأ في حضور الندوات ومجالس العلم, والقراءة في أمهات الكتب ومتابعة الصحف والمجلات الأكثر انتشاراً في القاهرة عنها في الريف.
نجح "حسن البنا" في السنة الأولى في دار العلوم, وكان ترتيبه الثالث بين الناجحين, وإثر تعرضه لحادث من زميل له في الدراسة كان يسكن معه, أعماه الحقد على تفوق "حسن" رغم صغر سنه, فألقى على وجهة وعنقه وهو نائم زجاجة بها "صبغة اليود" المركزة!, فقام "حسن" من نومه فزعاً واتجه إلى دورة المياه, وأزال ما استطاع من اليود قبل أن يسبب كارثة في جسمه ومظهره, وعندما علم زملاؤه, المقيمون معه في نفس الشقة, أوسعوا الفاعل ضرباً وطردوه من الشقة وقذفوا بأمتعته في الشارع,وعندما وصل الخبر إلى والدة "حسن" تأثرت بشدة, وخيرته بين أمرين: إما أن ينقطع عن العلم ويعود إلى الوظيفة (حيث كان وصلة خطاب التعيين في سلك التدريس من مديرية البحيرة) وإما أن تنتقل الأم (والأسرة بالطبع) معه إلى القاهرة حتى لا يتكرر معه ما حدث, وانتصر الخيار الثاني, وحضر والده إلى القاهرة, واختار مسكناً للأسرة, ومحلاً لتصليح الساعات, وانتقلت الأسرة معه من بلدة "المحمودية" إلى "القاهرة" لتستقر في حي "السيدة زينب" رضي الله عنها, وتتغير أمور كثيرة في حياة الشاب النابه وأسرته, بل في حياة وطنه وأمته والدنيا كلها بعد ذلك..
كانت "القاهرة" بالنسبة لحسن البنا عالما جديداً لم يألفه, فهو نشأ في بيئة ريفية هادئة, حيث العادات والتقاليد والأخلاق والآداب والسلوكيات العامة والخاصة, لا تزال الأقرب إلى روح الإسلام بالرغم من نقص الوعي وقلة العلم وانتشار الأمية.. بينما في القاهرة ـ كما كتب في مذكراته ـ "مجتمع غريب تزداد فيه مظاهر الانحلال الخلقي, والتحلل القيمي, وتكثر فيه الدعاوى الإلحادية والمادية المنحرفة".. وشاركت الصحف والمجلات ـ التي كانت تصدر في تلك الفترة رغم قلتها ـ بل وتبارت في نشر ما يتعارض مع الإسلام من أفكار وأخلاق وسلوكيات ورأى حسن البنا, وهو لا يزال طالباً في دار العلوم, أن الخطر شديد وراء هذا الطوفان العاتي, وزاد من عمق إحساسه بهذا الخطر, تكوينه الديني وتربيته الإيمانية والسلوكية, التي تحدثنا عنها من قبل, وتيقن أن المساجد وحدها لا تكفي في صد هذه الهجمة الشرسة, وغرس الأخلاق والقيم النبيلة وآداب الإسلام في سلوكيات الناس .
فكر "حسن البنا" في مواجهة "عملية" لهذا الواقع المؤلم الذي رآه في القاهرة.. واقع الانحلال والانحراف والإلحاد وغياب الروح الإسلامية, وساهمت طريقة تربيته واشتراكه في أكثر من عمل جماعي لخدمة الإسلام في تشكيل ملامح هذه المواجهة العملية, فاهتدي إلى ضرورة دعوة فريق من زملائه الطلاب الأزهريين, وطلاب دار العلوم الذين يعرفهم, للتدريب على الوعظ والإرشاد, ليس فقط في المساجد, ولكن أيضاً ـ وهذا هو الجديد غير المألوف ـ في المقاهي والمجتمعات العامة, بل ويذهبون إلى الريف والمدن المهمة لنشر الدعوة الإسلامية, وبالفعل دعا عدداً من زملائه وأصدقائه, واجتمعوا في مسجد "شيخون" بمنطقة الصليبية في حي "السيدة زينب" وتحدث معهم عن الواقع المؤلم وأهمية تغييره, وعن جلال هذه المهمة وضرورة الاستعداد العلمي والعملي لها, وخصص البنا جزءاً من مكتبته الخاصة, لتكوين مكتبة دورية خاصة بهذا المشروع, تمر على "الوعاظ الجدد" للتثقيف والتوجيه.. فهل نجح هذا المشروع غير المألوف؟ وكيف تقبله مجتمع القاهرة في ذلك الوقت؟
كانت فكرة الوعظ في المقاهي والمنتديات العامة, خروجا على ما ألفه الناس من أن مكان ذلك هو المسجد, والفكرة الغالبة أن هذا الجمهور, الجالس في المقاهي. هم قوم بسطاء منصرفون إلى اللهو والترويح عن النفس, وبالتالي فالوعظ ثقيل عليهم, إنهم يجلسون للترويح عن أنفسهم واحتساء المشروبات التي تهدئ وتخفف من متاعبهم, وأيضاً فإن أصحاب المقاهي, ربما يجدون في هذا العمل ـ الوعظ ـ نوعاً من تعطيل مصالحهم, ومضايقتهم, وربما تنفير زبائنهم, لكن "حسن البنا" كان له رأى آخر..
كان يرى أن "هذا الجمهور أكثر استعداداً لسماع العظات من أي جمهور آخر, حتى جمهور المسجد نفسه! .. لأن هذا شئ طريف وجديد عليه والعبرة بـ "حسن اختيار الموضوع" فلا نتعرض لما يجرح شعورهم, وبـ "طريقة العرض" فيعرض الوعظ بأسلوب شائق جذاب, وبـ "الوقت" فلا نطيل عليهم القول.قدرته على الإبداع :
ونلحظ هنا أمرين, الأول: قدرة حسن البنا ـ في هذه السن على الابتكار وابتداع الوسائل غير التقليدية وغير المألوفة, لتنفيذ فكرته وإقناع الآخرين بها, والثاني: حرصه على أن تكون الوسائل التي يستخدمها لدعم فكرته ونشر دعوته "عملية" و "إيجابية" و "واقعية " واهتمامه بالمدعو وطريقة تقبله لما يدعو إليه, والنزول إلى مستواه الثقافي دون ابتذال, وبالتالي القدرة على التأثير فيه.. وهكذا كان دائماً.