محمد عبد المنعم خفاجي... سيوطى العصر
محمد عبد المنعم خفاجي... سيوطى العصر
أبو الحسن الجمّال
احتفلت رابطة الأدب الحديث بأحد أعلامها ، أطلق عليه البعض "سيوطى العصر" فى التأليف، لأن مؤلفاته تجاوزت الخمسمائة مثله مثل الحافظ جلال الدين عبدالرحمن بن أبى بكر السيوطي (ت911هـ)، والبعض الأخر قال عنه أنه "الجاحظ الثانى"... إنه الأديب الكبير الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي المعروف بانجازاته الأدبية ذات الجوانب المتعددة فى نقد الأدب، والدراسات حول التراث، والعصور الأدبية المختلفة، ومؤلفاته فى التفسيرن والتصوف، والسيرة، وتحقيق بعض معالم التراث، وهذه الإنجازات التى بلغت عشرات فى المجالات المختلفة هى التى شكلت الصورة عنه وحددت النظرة إليه.
وقد كان حرياً به أن يكرم من عدة جهات وأهمها الرابطة التى شملها برعايته لفترة تجاوزت خمسة عقود من عمره المديد (رابطة الأدب الحديث) فأعدت عنه سفراً نفيساً بعنوان "من صحائف الذكرى" تناولت فيه محطات من تاريخ حياته وإبداعاته وجهاده ونضاله فى سبيل الوطن والمعهد التليد الذى ينتمى إليه وهو الجامع الأزهر، ودراسة فكره وشعره ، وقد استقينا هذه الدراسة من ثنايا هذا الكتاب الرائع، نتتبع الخيوط الرفيعة التى جاء بها.
نشأته وتعلمه:
فى قرية صغيرة قديمة من أعمال المنصورة تدعى "تلبانة"، ولد الخفاجى فى 22يوليو عام 1955م بين أحضان الطبيعة الجميلة فى الريف وبين الفلاحين المكدودين المرهقين الذين كانوا يعيشون عيشة الكفاف، وكانت الحرب العالمية الأولى مستعرة فى الشرق والغرب، واكتوت بنيرانها مصر، التى كانت قد أعلن الحماية عليها قبيل ميلاده بنحو عام، وفى أعقابها اندلعت الثورة الوطنية المصرية عام1919، وهى التى ألهبت الحماس لدى قطاع عريض من الشعب، وعلى هديها عاشت مصر حقبة من أحسن الحقب فى تاريخها، حيث ازدهرت علمياً وحضارياً واقتصاديا.
ينتمى الخفاجى إلى سلالة عربية عريقة هم "بنو خفاجة"، أرخ لهم فى عدة كتب أشهرها كتابه الكبير "بنو خفاجة وتاريخهم السياسي والأدبي"، والخفاجيون قبيلة عربية حجازية كبيرة نشأت فى العصر الجاهلي وزاد نفوذها، وهم من العقيليين العامريين القيسيين، وقد تعددت فروع القبيلة بعد الإسلام وهاجرت سلالات منها إلى الشام، ومصر، والعراق، والمغرب والأندلس، ومنها أعلام خالدون فى كل مكان كالشاعر الأموي توبة الخفاجى، والأمير ابن سنان الخفاجى المتوفى 466هـ ، والشهاب الخفاجى المصرى المتوفى 1069هـ ، وابن خفاجة الأندلسي.
حفظ محمد عبدالمنعم خفاجي القرآن وتعلم مبادئ وأطرافاً من الثقافة فى مكتب القرية وهو المدرسة الأولى التى كان يتعلم فيها الشباب فى ريف مصر فى ذلك الوقت، ويأتي عام 1927 ويرحل إلى مدينة الزقازيق ليتعلم فى معهدها العريق ليتخرج منه فى عام 1936، ويزامل كوكبة صاروا أعلاماًً بعد ذلك منهم: الإمام محمد متولي الشعراوى، ومحمد فهمى عبداللطيف، وطاهر أبو فاشا، ومحمد السعدي فرهود، ومحمد خاطر، وعبدالحليم محمود، ومحمد عبدالرحمن بيصار، ومحمد رجب البيومى، وحسن جاد حسن ... وغيرهم، وفى هذه الفترة شحن وجدانه بالاتجاه الوطني الذى دفعه إلى الكفاح فى سبيل وطنه فى الأزمات السياسية التى مرت بمصر منذ عام 1924، وكان رئيساً لاتحاد طلبة أبناء الشرقية فى مدينة الزقازيق، وكان هذا الاتجاه قوة سياسية كبيرة وكانت أخبار مؤتمراته تنشر فى الصفحة الأولى من جريدة "الجهاد" المصرية والصحف الأخرى.
التحق بكلية اللغة العربية بالقاهرة وهى إحدى كليات القمة بالجامع الأزهر عام 1936، لا يلتحق بها إلا المتفوقين والنوابغ وفيها تخرج عام 1940، ودرس له أعلام شوامخ وقد تأثر باثنين منهم فى الفكر والثقافة والإصلاح هما: الأستاذ الأكبر إبراهيم حمروش شيخ كلية اللغة العربية، وكان بعقله وأفق تفكيره البعيد وثقافته العلمية العريقة أرفع مثل للطلاب فى كليته، يستمدون منه القدوة ويحتذون حذوه فى الفهم والتفكير، وثانيهما الأستاذ الكبير محمد عرفه عضو جماعة كبار العلماء، وكان أستاذاً للخفاجى فى الفلسفة، والبلاغة، وتأثر بآرائه التجديدية العلمية أثراً خاصاً، كما كان الإمام محمد عبده صداه العميق فى نفسه.
يواصل الخفاجى تعليمه العالي فيلتحق بأقسام الدراسات العليا فى اللغة العربية فى أكتوبر 1940 فى قسم البلاغة والأدب وتخرج عام 1944 يحمل شهادة النجاح فى الامتحان التمهيدي لشهادة العالمية من درجة أستاذ، ثم قدم رسالته الجامعية "ابن المعتز وتراثه فى الأدب والنقد والبيان"، ونوقش فيها فى أكتوبر عام 1946 ونال بها بتفوق شهادة العالمية من درجة أستاذ فى الأدب والبلاغة من كلية اللغة العربية وهى أرقى شهادات الأزهر الجامعية وتعادل الدكتوراه الممتازة حرف " أ"، ثم يعمل فى " الليسيه فرانسيه" بشبرا، ثم فى معاهد أسيوط والزقازيق، ثم ينتقل إلى كلية اللغة العربية أستاذا للأدب والنقد والبلاغة، ويعمل أستاذا بجامعة الإمام محمد بن على السنوسي بليبيا 1963-1966، وأستاذاً بجامعة الإمام محمد بن سعود بالسعودية 1969-1972، ويتولى عميد كلية اللغة العربية بأسيوط فى الفترة 1974-1978.
جهوده ومؤلفاته:
عاش الخفاجى حياته فى محاولات مستمرة للكشف عن ذاته وللبحث فى اكتشاف نفسه، بدأ يبحث عن أصوله العربية فى كتابه "بنو خفاجة وتاريخهم السياسي والأدبي"، ثم يردف إلى المعهد الذى شكل كيانه الفكري والثقافي ويعد كتابه "الأزهر فى ألف عام" مرجعاً لكل الباحثين والدارسين، ثم يردف إلى دائرة أوسع فيتناول تاريخ وطنه الكبير فى كتابه الذائع "مواكب الحرية فى مصر الإسلامية"، وعن تاريخها الأدبي فى كتابه "قصة الأدب فى مصر" الذى صدر فى خمسة أجزاء، وعن تاريخها الروحي فى كتابه "التراث الروحي فى مصر"، وعن أدب بلاده المعاصرة يكتب "قصة الأدب المعاصر" فى أربعة أجزاء، و"الشعر والتجديد"، و"مع الشعراء المعاصرين"، و"دراسات فى الأدب والنقد"، و"فصول من الثقافة المعاصرة"، وعاد إلى الآداب العربية يدرسها ويكتب فيها فصدر له: "قصة الأدب فى الحجاز"، و"قصة الأدب فى ليبيا" فى ثلاثة أجزاء، و"قصة الأدب فى الأندلس" فى خمسة أجزاء.
وفى الحديث كتب تعليقاته على صحيح البخاري فى عشرة أجزاء، وتعليقاته على الأربعين حديثاً للمنذرى، وتعليقاته على كتاب "فتح المبدي شرح مختصر للزبيدى" لعبدالله الشرقاوي.
وفى التفسير سلك منهجاً جديداً فى كتابه "الذكر الحكيم"، ثم فى تفسيره للقرآن الكريم الذى أسماه "تفسير القرآن الحكيم"، وقد صدر فى ثلاثة عشر مجلداً.
ودراساته عن الأدب العربى عمل فذ ذو منهج متكامل وفى مقدمتها: "الحياة الأدبية فى العصر الجاهلي"، و"الحياة الأدبية بعد ظهور الإسلام"، و"الحياة الأدبية فى العصر الأموي"، و"الحياة الأدبية فى العصر العباسي"، و"الحياة الأدبية بعد سقوط بغداد".
وقد بلغ الخفاجى القمة فى دراسة الشخصية الأدبية ورسم فيها مناهج جديدة فى الدراسة والتحليل وفى مقدمة كتبه عن أبى شادي بعنوان "رائد الشعر الحديث" ثم كتابه عن ابن المعتز، ثم عن الجاحظ.
هو والتراث:
ارتبط الخفاجى بحكم دراساته الأزهرية بالتراث العربى وحدثت بينه علاقة حب وعشق، استخرج من باطنه الدرر التى حفلت بها مؤلفاته الغزيرة الكم والكيف، واستعان به رواد النشر فى المكتبات التى تنتشر حول الأزهر والحسين والقلعة مثل مكتبة القاهرة، ومكتبة صبيح، والمكتبة التجارية، ومكتبة الكليات الأزهرية، كان يتسم بالتواضع لا يخضع لطقوس جوفاء مثلما يفعل غيره، وأخبرني بعضهم أنه كان يجلس أمام هذه المكتبات ويصحح هذه الكتب والناس غادية وذاهبة عنه، وقد حقق الخفاجى وشرح أكثر من مائة كتاب: "نقد الشعر" لقدامة بن جعفر، و"دلائل الإعجاز"، و"أسرار البلاغة لعبدالقاهر الجرجاني، و"شرح إعجاز القرآن" للباقلانى، و"شرح البديع" لابن المعتز، و"شفاء الغليل" للشهاب الخفاجى، و"قطر الندى" لابن هشام، و"أخبار النحويين البصريين" للسيرافى، و"شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك"، و"تهذيب اللغة" للأزهري، و"سر الفصاحة" لابن سنان الخفاجى، وغيرها ....
علاقته بالصحافة:
ارتبط الخفاجى بالصحافة منذ وقت مبكر من حياته فعمل مصححاً فى جريدة "السياسة اليومية" عام 1936: 1937، ثم مراجعاً فى الأهرام عام 1937: 1944م ، ثم يعمل محرراً فى جريدة الأساس عام 1944: 1946، ورئيساً لمجلس إدارة مجلة "الحضارة" التى تصدر عن رابطة الأدب الحديث فى عام 1984وحتى وفاته .
ولم يترك الخفاجى مطبوعة إلا وكتب فيها، كان نهراً دافقاً من العطاء يهدر كشلال استوائي جارف فكتب فى مجلات "منبر الإسلام"، و"الأزهر"، و"منار الإسلام"، و"الوعي الإسلامي"، و"التصوف الإسلامي"، و"الرسالة" ، و" الثقافة"، و"الكتاب"، و"المجلة"، و"الجهاد".
وقد أثنى عليه جميع أدباء عصره، فى مقدمتهم الدكتور أحمد زكى أبو شادي رائد مدرسة "أبوللو" فى فترة مبكرة فى حديث له أذيع فى صوت أمريكا عام 1953:
"الخفاجى ظاهرة فذة شائقة فى الوراثة والإطلاع والاستقراء والإنتاج فهو سبط الأديب الكبير نافع الخفاجى وهو من أسرة بني خفاجة التى تنتمي على أصول عربية قديمة ومنهم الأمراء الخفاجيون فى الكوفة وفى حلب .. والأستاذ خفاجي ليس لغوياً ولا أديباً فحسب ، بل هو شاعر أيضاً شأنه فى ذلك شأن الدكتور طه حسين وذلك على جانب ثقافته الواسعة التى تلتهم كل معرفة ميسورة ، كان طابع مؤلفاته شعرياً جميلاً مع الحرص على الدقة العلمية فى الوقت ذاته ولذلك نالت تصانيفه احتراماً عاماً فى جميع الأوساط الأدبية ببلاد المغرب وفى دوائر الاستشراق".
وهكذا ظل الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي يبحث ويؤلف ويكتب بالمجلات ويهتم بأشجان اللغة والآداب الرفيعة ، ويلتقي الناس فى المنتديات والمؤتمرات حتى توفى فى مارس 2006م رحمه الله رحمة واسعة .
أبوالحسن الجمال
المنيا فى يوم الأحد 27 شوال 1432هـ ( 25 سبتمبر 2011م )