سطور من حياة المجاهدة زينب الغزالي 9
سطور من حياة المجاهدة زينب الغزالي (الحلقة 9)
رفضت عرضاً من الرئيس السادات بطلب مليون جنيه تعويضا عن التعذيب,
وقالت إن أموال الدنيا كلها لا تعوضني عن ضربة سوط واحد في سبيل الله!
بدر محمد بدر
صفقة بمليون جنيه يسيل لها اللعاب, ويضعف أمامها أقوى الرجال, خصوصا وأن المطلوب لم يكن صعبا أو يمس بالكرامة أو الخلق أو التاريخ, بل إن الكثيرين يرونه حقا طبيعيا, ولم يكن الأمر يتطلب أكثر من الذهاب إلى مبنى الشهر العقاري لاستخراج توكيل عام للقضايا للمحامي الذي تختاره !
والحكاية تبدأ عندما قام المستشار هاشم قراعة الذي يعمل مع رئاسة الجمهورية, بزيارة لبيت الداعية الكبيرة, وبعد تقديم واجب الضيافة سألته عن سبب الزيارة, فأبلغها بأن الرئيس أنور السادات كلفه بأن يعرض عليها عرضا يرجو أن تفكر فيه جديا, وهو أن ترفع دعوى أمام القضاء المصري تطالب فيها بالتعويض عما تعرضت له من تعذيب نفسي وبدني رهيب منذ عام 1965 وحتى الإفراج عنها في عام 1971, وأكد لها رئيس الجمهورية سوف ينفذ الحكم مباشرة ويعطيها المليون جنيه التي طلبتها! وكل المطلوب منها أن تقوم بعمل توكيل للمحامي ليتمكن من رفع الدعوى..
المسألة إذن في نظره بسيطة لا تحتمل مجرد التفكير ناهيك عن الرفض, ولكن ما هو هدف رئيس الجمهورية من هذا العرض المغري الذي يسيل له اللعاب؟ ولماذا يقدم للسيدة زينب الغزالي بالذات؟... التفسير المنطقي يقول إن الرئيس السادات عندما تولى السلطة عقب وفاة جمال عبد الناصر, كان يعاني من تضخم شخصية " عبد الناصر " بصورة كبيرة في وسائل الإعلام وبين كبار رجال الدولة ولدى عامة الناس.. لقد صنع منه الإعلام بطلاً أسطورياً وزعيماً قومياً وقائداً وطنياً ليس له مثيل في تاريخ مصر, يذيع خطبه وكلماته باستمرار, وينتقي شعارات من خطبه النارية حتى بعد هزيمة 67, وبالتالي فالرئيس الجديد ليس له مكان واضح بين الناس, في ظل " طغيان " شخصية عبد الناصر حتى بعد وفاته, إذن هو في حاجة إلى كشف حقائق حدثت في عهد عبد الناصر, تساهم في تعديل الصورة أو بالأحرى تصحيحها, ورسم صورة أخرى واقعية, غير تلك التي روج لها الإعلام طويلاً..
كان الرئيس أنور السادات في حاجة إلى " شاهد عيان " مؤثر يقول للناس: أنتم مخدوعون في هذا " الزعيم " الذي يكره الحرية ويعشق الاستبداد, ويدوس على الحرمات ولا يتورع عن تعذيب الأبرياء.. والأدهى إن كان هؤلاء الأبرياء نساء, من أمثال " زينب الغزالي " .. والمرأة في ديننا وأخلاقنا وأعرافنا لها " حرمة " لا يجوز مسها أو انتهاكها أو إهانتها.
كان الرئيس السادات يريد أن يكشف " الوجه الآخر " لعهد " الزعيم " عبد الناصر حتى يفسح له شخصياً مكاناً في نفوس الناس, ويقلل من هذه " الهالة الكاذبة " التي صنعها الإعلام لعبد الناصر, ومع الأسف لا يزال هناك بعض المخدوعين في عهد عبد الناصر, دون أن يدركوا أن كل إنجازات ذلك العهد تنهار أمام إهدار الحريات وانتهاك حقوق الإنسان والحط من الكرامة والعدوان على الدستور .. إن حرية الإنسان المصري, التي عصف بها عبد الناصر وأعوانه, هي أغلى ما يحتاجه الوطن الحر الكريم, ووطن بلا حرية هو وطن بلا حياة ولا كرامة, وشعب مقيد ومقهور هو شعب ميت لا مستقبل له ولا مكانة.
استمعت المجاهدة الصابرة إلى كلمات المستشار قراعة وانتظرت حتى شرب الرجل قهوته, وقالت كلمات بسيطة في حروفها, عظيمة في معانيها, تكتب بأحرف من نور في سجل تاريخ الدعوة والدعاة.. قالت الداعية الصابرة: " إن أموال الدنيا كلها لا تعوضني عن ضربة سوط واحد تلقيتها في سبيل الله, وإن أحداً من البشر, كائناً من كان, لا يستطيع أن يعوضني عن لحظة واحدة قضيتها في السجن, ولكني أنتظر الجزاء من الله العادل وحده, ولا أنتظر ممن سواه شيئاً, أبلغ السيد الرئيس تحياتي وشكري وكلماتي.. ", وفشلت الزيارة في إقناع الداعية الكبيرة برفع الدعوي أمام القضاء والحصول على " المليون " جنيه, التي ضمنها رئيس الدولة!
ورفضت الداعية المجاهدة طوال حياتها أن ترفع دعوى أمام القضاء للمطالبة بالتعويض عما لحقها من تعذيب, وما أصابها من ضرر, وعندما كان يقول لها تلامذتها ومحبوها إن فلاناً " من قيادات ورموز الإخوان المسلمين " رفع دعوى للمطالبة بالتعويض, كانت تقول: هذا رأيه وهو حر فيما يراه ولا شأن لي بذلك, ولكل وجهة هو موليها.
هذه هي زينب الغزالي, وهذا هو سر عزيمتها وقوتها وشموخها وإبائها, وهذا هو يقينها الصادق بالله العادل المنتقم الجبار, الذي لا يدع ظالماً ولا يترك طاغية ولا يتسامح مع جبار من جبابرة الأرض, انشغل بحوله وقوته عن حول الله وقوته, وداس على كرامة البلاد والعباد, وسجل صفحة سوداء من تاريخ الوطن.
كانت أدلتها على هذا اليقين بالله أنه المنتقم الجبار ذو القوة المتين, وأنه لن يترك الجلادين القساة دون عقاب, كانت هذه الأدلة في حياتها كثيرة..ومنها أنها عرفت, وهي لا تزال في السجن, ما فعله الله المنتقم الجبار باللواء حمزة البسيوني قائد السجن الحربي, الذي أذاق الإخوان المسلمين كؤوس العذاب ألوانا, وقال قولته الشهيرة, عندما سمع الإخوان تحت التعذيب يستغيثون بالله تعالى: لو جاء ربكم من فوق سبع سماوات لحبسته معكم! ( تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ), لقد اخترقت أسياخ الحديد جسد اللواء البسيوني ومزقته قطعا صغيرة, بعد أن اصطدمت السيارة التي كان يستقلها في طريق مصر ـ الإسكندرية الصحراوي بسيارة نقل أمامها محملة بأسياخ الحديد الذي يستخدم في البناء, فمات على الفور ميتة بشعة, وجاءها من يبلغها كذلك أن الرئيس جمال عبد الناصر كان يصرخ من الآلام في رجليه في أواخر أيام حياته, دون أن يعلم الأطباء مصدر هذه الآلام!, وغير ذلك الكثير والكثير.
كانت زينب الغزالي توقن بأن أي جزاء لها في الدنيا أو تعويض عما قاسته ومر بها من آلام سوف ينتقص من أجر الآخرة, وأنها تتوق إلى أن تنال أجر الآخرة كاملاً .. " وما عند الله خير وأبقى ".
ورغم هذه الأيام والشهور والسنوات التي عاشتها في عذابات السجن وآلامه, وسطرت بعضاً مما تعرضت له في كتابها الشهير " أيام من حياتي ", إلا أنها لم تحقد على أحد من جلاديها, ولم تشغل نفسها بالدعاء عليهم أو تتبع ما فعله الله بهم من عقاب في الدنيا, فقد أوكلت أمرهم لله سبحانه المنتقم العادل, وتفرغت لنصرة دينها وإعلاء كلمة الله في حياة المسلمين.
لم تكن تذكر أو تتذكر أيام السجن والتعذيب الرهيب إلا قليلاً, وعندما كان الصحفيون يسألونها ويلحون عليها لتتحدث إليهم عن هذه الفترة وما جرى فيها, كانت تطلب تغيير السؤال إلى موضوعات أخرى أكثر فائدة ونفعا للأمة.. كانت تنظر إلى الحاضر وإلى المستقبل, وتقول: " علينا أن نأخذ العبرة والدرس من الماضي, حتى لا يتكرر الخطأ ونعالج المشكلات, ويبقى الحاضر والمستقبل هو الأهم في حياة الأمة, وهو الذي يحتاج إلى الرؤية الصحيحة والجهد المنظم والعمل المتواصل ".
وفي عام 1973 بعد خروجها من السجن بعامين, وجهت لها وزارة الشئون الدينية بالجزائر دعوة للمشاركة في المؤتمر السنوي الذي تعقده, لمناقشة أحد الموضوعات التي تشغل اهتمام الوزارة فيما يتعلق بقضايا المسلمين, وذهبت الداعية الكبيرة لحضور المؤتمر, وأثناء وجودها في الجزائر, وقعت حرب العاشر من رمضان 1393 هـ, السادس من أكتوبر 1973, فعبرت عن سعادتها وشعورها بالفرحة لعبور الجيش المصري قناة السويس واقتحام خط بارليف الحصين, في برقية أرسلتها لرئيس الجمهورية أنور السادات من العاصمة الجزائرية.
كان حبها للوطن وتفاعلها مع قضاياه المصيرية أقوى من أي ظلم تعرضت له فيه, على أيدي بعض أبنائه في حقبة سوداء من التاريخ.. لم تترك نفسها أسيرة للشعور بالظلم والقهر والإذلال, لكنها خرجت من ذلك سريعاً إلى مصلحة الأمة وصالح الإسلام.
شاركت الداعية المجاهدة في المؤتمر, وقدمت ورقتها عن " واقع المسلمين اليوم من شريعتهم ", والتقت عدداً من العلماء والدعاة من مصر ومن أنحاء العالم الإسلامي, ثم عادت إلى وطنها, وبدأت تشارك في الندوات والمحاضرات والمؤتمرات, وألقت عشرات المحاضرات في الجامعات المصرية المختلفة للشباب والفتيات, وكان يحضرها أيضا بعض الأساتذة, تشرح لهم معالم الإسلام وهموم الأمة وقضايا النهضة, وتدعوهم إلى الالتزام به والثقة في نصر الله.
كانت زينب الغزالي تدعو إلى تبني منهج الوسطية بعيداً عن الإفراط أو التفريط, وبعيداً عن التسيب أو المغالاة, وبعيداً أيضاً عن الآلام والجراح التي مرت بها في حياتها الدعوية.. كانت تبني الجيل الجديد على أسس الإسلام الراسخة, وتبشر بالمستقبل المشرق لهذا الدين, وتضع الشباب, طلابا وطالبات, أمام مسئولياتهم الكبيرة, وأمام التحديات المطروحة على الساحة الوطنية والإسلامية, وأيضا أمام الآمال العريضة التي تنتظرها الأمة منهم.
كانت الوفود الشبابية والطلابية تتقاطر من كل أنحاء الوطن, فتيانا وفتيات وأيضا سيدات, تزورها في بيتها بحي مصر الجديدة لتستمع إليها في إنصات وإعجاب وتأثر, ربما لأكثر من ثلاث ساعات متواصلة, وهي لا تكل ولا تمل من شرح معالم الإسلام الصحيحة, وأسس الشريعة السمحة, وواجب المسلمين نحو دينهم وأمتهم, والرد على ما يعتمل في نفوس هؤلاء الشباب والفتيات من جيل الصحوة الإسلامية, التي انتشرت في مصر في سبعينيات القرن العشرين, من أمور تؤرق هذا الشباب المحب لدينه, الغيور على شريعته, المتحمس لرفع لواء الإسلام من جديد, تتعلق بالماضي والحاضر والمستقبل.