الشفاء العدوية مربية في عصر النبوة
الشفاء العدوية مربية في عصر النبوة
د. نعيم محمد عبد الغني
الشفاء أم سليمان بن أبي حثمة القرشية العدوية من أوائل المهاجرات إلى الحبشة ثم إلى المدينة هي وزوجها عامر بن أبي ربيعة أبو حثمة بن حذيفة، والشفاء لقبها، واسمها ليلى ولا تذكر عنها كتب التراجم كثيرا من الأخبار، ورغم ذلك فإن ما روي عنها يمكن أن نستنبط منه أنها امرأة كانت تجيد فن التربية للفرد والمجتمع؛ مما دفع ببعض كتاب التراجم لمدحها على هذه الآثار المحدودة التي دونت عنها، فقال الإمام الصفدي في كتابه الوافي بالوفيات بقوله: "كانت من عقلاء النساء وفضلائهن".
وهذا العقل والفضل لم يأت صدفة مع الشفاء العدوية؛ فقد كانت من خير النساء وأعقلهن في الجاهلية؛ فهي امرأة تجيد القراءة والكتابة في مجتمع لم يكن يهتم بحياة المرأة فضلا عن أن يهتم بتعليمها وتثقيفها، وبإسلامها زاد عقلها رجاحة وفاض فضلها على المجتمع، فكما يقول النبي –صلى الله عليه وسلم: (تجدون الناس معادن خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا).
ومعدن الشفاء معدن أصيل؛ فيذكر البلاذري في فتوح البلدان أنها من بني عدي رهط سيدنا عمر بن الخطاب، وهي قبيلة اشتهر كثير منهم برجاحة العقل والقوة والبأس. ولعل الفاروق عمر أشهر قومه رجاحة في العقل وقوة في البأس مما جعل النبي يدعو الله بأن يعز به الإسلام ويدخل، وتحدثنا الشفاء عن هجرتها قبل إسلام عمر فتقول كما يروي الحاكم في مستدركه: «والله إنا لنرحل إلى أرض الحبشة، فقد ذهب عامر في بعض حاجتنا إذ أقبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى وقف علي وهو على شِركه، وكنا نلقى منه البلاء والشدة علينا، فقال: إنه الانطلاق يا أم عبد الله؟ فقلت: نعم والله لنخرجن في أرض الله آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجا، فقال: صحبكم الله، ورأيت له رقة لم أكن أراها، ثم انصرف وقد أحزنه فيما أرى خروجنا» قال: فجاء عامر بن ربيعة من حاجته تلك فقلت: «يا أبا عبد الله لو رأيت عمر آنفا ورقته وحزنه علينا، قال: فتطمعي في إسلامه؟ قلت: نعم، قال: لا يُسلم الذي رأيتِ حتى يسلم جمل الخطاب، قال يائسا منه؛ مما كان يرى من غلظته وقسوته على الإسلام».
ولكن سيدنا عمر رضي الله عنه أسلم وكان إضافة للإسلام وأهله، كما كانت الشفاء من قبله إضافة كذلك؛ فهي نموذج للمرأة العاقلة المثقفة التي تنطلق من إعداد نفسها إعداد جيدا، ثم تهتم بتربية أبنائها، ورعاية أسرتها؛ لتنطلق بعد ذلك إلى العمل العام وخدمة المجتمع، وهذا كله نستطيع قراءاته من خلال سيرتها المقتضبة التي كانت مصدر استشهاد على هذه القضايا، وهنا يلمح العقاد في عبقرية عمر ملمحا ذكيا على نظرة الشفاء فيقول: "ليس أسرع من المرأة أن تلمح جانب الرقة وجانب الغضب من قلب الرجل في خطفة عين..أليست حياتها كلها من قديم الزمن منوطة بذلك الغضب كيف تتلطف في تحويله، وبتلك الرقة كيف تتلطف في ابتعاثها من مكمنها؟ وهل تحجبها عنها القوة وهي ما نفذت إلى نفس الرجل قط إلا من وراء القوة؟" عبقرية عمر ص67
إن إعداد الشفاء لنفسها تمثل في معرفة القراءة والكتابة وحفظ القرآن، وهذا الإعداد النفسي أهّلها لأن تكون أُمًّا صالحة، فابنها سليمان بن أبي حثمة الذي كان ندي الصوت في تلاوة القرآن؛ مما جعل سيدنا عمر بن الخطاب يعينه إماما للنساء في صلاة التراويح في رمضان. أما الرجال فكان يتناوب على إمامتهم سيدنا أبي بن كعب وتميم الداري رضي الله عنهما إلى أن أتى عهد عثمان بن عفان فجمع النساء، والرجال على إمام واحد في صلاة التراويح، وكان سليمان بن أبي حثمة أول إمام يصلي خلفه المسلمون من الذكور والإناث جميعا صلاة التراويح في رمضان.
لقد كانت الشفاء تعلم الفتيات القراءة والكتابة، ومن ثم عهد النبي صلى الله عليه وسلم إليها أن تعلم أم المؤمنين حفصة القراءة والكتابة قبل أن تتزوج به عليه الصلاة والسلام، وكانت الشفاء ترقي في الجاهلية وواصلت نشاطها في الرقية بعد أن أخذت الإذن من النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد أخرج الحاكم في مستدركه أن الشفاء كانت ترقي برقية في الجاهلية، فلما أن جاء الإسلام قالت: لا أرقي حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: « ارقي ما لم يكن شرك بالله عز وجل»
وفي لفظ للحاكم أيضا أنها لما هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قدمت عليه، فقالت: يا رسول الله إني كنت أرقي برقى في الجاهلية، وقد رأيت أن أعرضها عليك، فقال: «اعرضيها» فعرضتها عليه، وكانت منها رقية النملة، فقال: «ارقي بها وعلميها حفصة".
إن الشفاء لرجاحة عقلها وفضلها كان النبي صلى الله عليه وسلم ينام عندها نومة القيلولة، ومن ثم اتخذت له فراشاً وإزاراً ينام فيه، واحتفظت به، ولم يزل ذلك عند ولدها حتى أخذه منه مروان بن الحكم.
وكان سيدنا عمر -رضي الله عنه- يرى رجاحة عقلها فكان يستشيرها، ويقدمها في الرأي، وولاها بعض أمور الحسبة في السوق من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وعند هذا الحد من الأخبار تتوقف كتب التراجم التي لم تذكر شيئا من تفاصيل حياتها، ولكن ذكرت أخبارا كما رأينا كان لها أثر في المجتمع، وحسبها فضلا أن كانت مربية للفرد والمجتمع، وأنها موضوع ثقة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده الخلفاء الراشدون وخاصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.