خالد بن يزيد الأموي
رائد علم الكيمياء
محمد فاروق الإمام
[email protected]
عَلَمٌ من
أعلام المسلمين، لُقِّبَ بحكيم آل مروان، ترك الخلافة واتجه إلى دراسة الكيمياء،
واهتمَّ بها اهتمامًا كبيرًا، بعد أن كانت محاطة بالخرافات، وجلب لها الكثير من
الكتب وأشرف على ترجمتها؛ فكان من أوائل من درسوا الكيمياء من المسلمين، ويرجع إليه
الكثير من الفضل فيما توصَّل إليه المسلمون من تطور في هذا المجال.
إنه
خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان القرشي، حكيم قريش وعالمها في
عصره، اشتغل بالكيمياء والطب والنجوم، فأتقنها وألَّف فيها رسائل، وكان موصوفًا
بالعلم والدين والعقل.
عرضت عليه الخلافة بعد أن تنازل عنها أخوه معاوية بن
يزيد، فتركها لمروان بن الحكم، واتجه هو إلى طلب العلم، وكان فاضلاً ذا همَّة
ومحبًّا للعلوم، حَسْبُهُ أنه لولاه لتأخَّر نقل الكيمياء إلى العربية سنين.
نال
خالد بن يزيد ثناء العلماء وتقديرهم؛
لأخلاقه الراقية، وعلمه الغزير، ولإسهاماته العظيمة في علم الكيمياء؛ فهو الرائد
الأول لهذا العلم عند المسلمين، لذلك قال عنه البيروني: (كان خالد أول فلاسفة
الإسلام ).
كما
حظي خالد بن يزيد بإعجاب الكثير
من
المؤرخين؛ فها هو العلاّمة ابن كثير يتحدث عنه قائلاً: (كان أعلم قريش بفنون
العلم، وله يدٌ طولى في الطب، وكلامٌ كثير في الكيمياء، وكان خالد فصيحًا بليغًا
شاعرًا منطقيًّا).
وتحدث عنه ابن النديم قائلاً: (كان خالد بن يزيد بن
معاوية يُسَمَّى حكيم آل مروان، وكان فاضلاً في نفسه، له همة ومحبة للعلوم، خَطَر
بباله الصنعة (الكيمياء)، فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونانيين - ممن كان ينزل
مدينة مصر وقد تفصَّح بالعربية- وأمرهم بنقل الكتب من اللسان اليوناني والقبطي إلى
العربي، وهذا أول نقل كان في الإسلام من لغة إلى لغة). مما يؤكد سماحة العقلية
الإسلامية، وتعايشها مع غيرها من الحضارات الأخرى، فلم يُؤْثَر عن الحضارة
الإسلامية أنها هدمت حضارة، أو مَحَتْ تراثًا، ولكنها استفادت من التراث الإنساني،
ونقلته بأمانة وإتقان، فأفادت البشرية جميعًا.
أما
الجاحظ فقد قال في كتابه
البيان والتبيين: (كان خالد بن يزيد بن معاوية خطيبًا شاعرًا، وفصيحًا جامعًا،
وجيِّدَ الرَّأْي، كثيرَ الأدب، وكان أوَّل من أعطى التراجمة والفلاسفة، وقرّب أهل
الحكمة، ورؤساء كل صناعة، وترجم كتب النجوم والطب والكيمياء والحروب والآداب
والآلات والصناعات). وشهادة الجاحظ في حقِّ خالد تؤكد أنه أنفق من ماله على
العلم، كما تدحض من ادعى أن خالدًا تعلَّم الكيمياء بحثًا عن
الأموال التي افتقدها عندما تنازل عن الخلافة.
وقال عنه الذهبي في سير
الأعلام: )وكان
من نبلاء الرجال، ذا علمٍ وفضل وصوم وسُؤْدُد).
وقال ابن
خَلِّكان في وَفَيات الأعيان: (كان من أعلم قريش بفنون العلم... وكان بصيرًا بهذين
العلميْن: الطب والكيمياء، متقنًا لهما... وله شعر جيد).
لم
يكن خالد بن
يزيد كيميائيًّا فقط، بل كان محيطًا بالعديد من العلوم؛ فكان يعرف شيئًا من علوم
الطبيعة، وروى عن أبيه ودِحْيَة الكلبيّ. قال أبو زرعة الدمشقي: (كان هو وأخوه
معاوية من خيار القوم). وكان خالدٌ من نوادر أقرانه في الثقافة الغزيرة؛ فقد كان
شاعرًا أديبًا فصيحًا.
إذن
يرجع
إليه الفضل فيما وصل إليه المسلمون من تقدُّم في هذا المجال؛ فكان أول من عني بنقل
الطب والكيمياء إلى العربية، وكان هذا أول نقل في الإسلام. كما أمر بترجمة كتب
جالينوس في الطب، وهو أول مَنْ جُمِعَتْ له الكتب وجعلها في خزانة.
تنوعت
مؤلفات خالد بن يزيد في علم الكيمياء، من أهمها:
-كتاب السر البديع في فك رمز المنيع في علم الكاف.
-كتاب
فردوس الحكمة في
علم
الكيمياء منظومة. يقول عنها حاجي خليفة: (منظومة في قوافٍ مختلفة، وعدد أبياتها:
ألفان وثلاثمائة وخمسة عشر بيتًا).
أوَّلها:
الحمد لله العلي الفـرد *** الواحد القهار رب الحمـد
يا
طالبًا بصناعة الحكماء *** خذ منطقًا حقًّا بغير خفاء
-كتاب الحرارات.
-كتاب
الرحمة في الكيمياء.
-كتاب الصحيفة الصغير.
-كتاب الصحيفة الكبير.
-مقالتا
ميريانس الراهب في الكيمياء.
-وصيته إلى ابنه في الصنعة.
وتُعتبر مؤلفات خالد بن يزيد
في
مجال الكيمياء غزيرة جدًّا بالمقارنة لمقاييس عصره، خاصة إذا عرفنا أنه لم تكن
توجد في هذه الفترة كتب تتحدث عن الكيمياء باللغة العربية، وكان علم الكيمياء من
العلوم المتدنية المحاطة بالكثير من الخرافات.
ولم
تقتصر جهود خالد بن يزيد
على
مجال الكيمياء فقط، بل كانت له مؤلفات عديدة منها: ديوان النجوم، وهو أبيات
شعرية في التنجيم، وذكر بروكلمان أن نسخة منه موجودة بمكتبة كوبرالي، وثانية بمكتبة
جار
الله في إسطنبول. كما ذكر (كرنكو) أن نسخة منه كانت موجودة بمكتبة أنستاس الكرملي
ببغداد.
وقد
أورد البيروني شيئًا من ديوان خالد في الفلك والحساب
الفلكي، حيث قال بأن عدد السنين بين آدم أبي البشر والإسكندر المقدوني هو 5180 سنة،
وأن
هجرة النبي كانت سنة 923 للإسكندر، أو 6113 لآدم، والرقم الأخير من حساب
السنين هو ما ورد في شعر خالد.
وجاء في
ديوان خالد بن يزيد ما جرى بينه وبين الراهب مريانس من الأسئلة العجيبة، وذلك لمَّا
أرسل خالد غلامه غالبًا وراءه إلى بيت المقدس:
فلما كان ذا يوم قال له خالد: يا
مريانس، إني طلبت علم الصنعة لأعلمها، وبحثتُ عن خبرها وأمرها، واستقصيت عنها، فلم
أرَ
من يخبرني عنها، وأنا أسالك أن تسبب لي أمرها وعلاجها، ولك مني ما تحبُّ، مع عودتك
إلى موضعك الذي كنت فيه.
قال
مريانس:
أنصت للحكم معرفة وفهمًا
تَعْلَمْهَا، وتفكَّر في أصول الأشياء تُدْرِكْ فروعها؛ إن هذا الأمر الذي طلبت ليس
يقدر عليه أحد إلا بتؤدة]، ولا يظفر به العنف، ولا يوصل إليه من عالم إلا
بالتؤدة والرفق والحب الصادق، فأوَّلُ ذلك رزق يسوقه الله إلى من يشاء من خلقه
بالقدرة الغالبة، يتسبب له تعلم ذلك، ويكشف له عن مستوره، وإنما هو موهبة من الله
تعالى يعلمه من أحب من خلقه الذليلين الخاضعين له.
ويُضيف مريانس في تعليمه
خالد بن يزيد، يقول: (قال فيثاغورس: كما أن الأشياء كلها إنما كانت، وأتحدث من
الواحد، كذلك هذه الصنعة إنما هي شيء واحد. وكما أن في بدن الإنسان الطبائع الأربع
خلقها الله -تعالى ذِكْرُهُ- وجعلها مفروقة منفصلة، ومنفصلة مجتمعة، ومفترقة يجمعها
بدن
واحد، وكل واحد منها يعمل عملاً غير صاحبه، له قوَّة ولون وسلطان على حِدَة، كذلك
هذا الشيء، وفي هذا شهادات الحكماء إذا نظرت فيها كثيرة.
واعلم - أيها
الأمير- أنه لا يضيع شيء مما خلقه الله إلا مثل لونه ومثل شبهه، ألا ترى حبة القمح
كيف
تقع في الأرض فتموت، وتلين، وتعفن، وتسودُّ، وتخضرُّ، وتبيضُّ، ثم ترجع إلى
جوهرها الأول، كذلك جميع ما خلق الله من النبات والحيوان... وقال هرمس: خذ الحجر
الأحمر ظاهرة والبياض عنصره، فأديموا عليه السحق، حتى يظهر منه ما خفي على الناس من
خير
وما بقي. وقال زوسم: إن عملنا من الياقوتة الحمراء - التي أخرجت من بيضة الحكماء
وسميناه العصفر- فهذا الحجر أيها الأمير يحترق بذاته من غير حاجة منه إلى غيره، ولا
يختلط به سواه، فهو يحرق جسمه كما يحترق العود، ويصير فحمًا أسود، أو أبيض كما يبيض
به،
فاكتفِ بما قلته لك.
وفي
آخر الديوان، قال خالد: (فهل فرغ تدبير
الإكسير، أو بقي منه شيء لم تخبرني به؟). قال: (قد فرغ لمن أحبَّ الاختصار، فأما من
أحب
الفاتر فليسقه من الماء الخالد، يكون معداله، وعنده فإنه يزيد صبغه وقوته، وما
لي
أُكْثر عليك أيها الأمير، واعلم أنه يزيد في صبغه بلا نهاية، ويشرب كلما تسقيه بلا
نهاية).
وتظهر في هذه الرسائل مدى رغبة خالد بن يزيد في تعلُّم
الكيمياء، حتى إن كان هذا الأمر على يد راهب؛ مما يدل على مدى حبِّه للعلم والتعلم،
وعدم تعصبه ضد دين أو جنس أو لون.
انقسم المؤرخون والمفكرون في آرائهم حول خالد بن يزيد، فمنهم من
أنكر عليه اشتغاله بالكيمياء؛ مثل: ألدومييلي، الذي يقول: (لقد رفع بعض المؤرخين
العرب - ثم بعض الكتاب المحدثين من بعدهم- من ذكر خالد بن يزيد بن معاوية، الذي
لُقِّبَ كثيرًا بالحكيم أو الفيلسوف… ولم يقتصر كما زعموا على تشجيعه علماء اليونان
وحثهم على ترجمة الكتب المؤلفة بلغتهم إلى العربية، بل كان هو نفسه عالمًا أصيلاً،
عَنَى على الأخص بعلم الصنعة (الكيمياء القديمة) التي تعلمها - إن صحَّ ذلك- من
راهب
يوناني اسمه مريانس، وليس ذلك إلا محض افتراء، وعلى الأخص ما ذُكِرَ عن تبحره في
علم
الصنعة، وفوق ذلك كانت ترجمة كتب اليونان إلى العربية متأخرة عن ذلك العهد، كما أن
المؤلفات العربية الأصلية أحدث كثيرًا منه).
ومن
الافتراءات التي لحقت
بخالد بن يزيد قول المستشرق الألماني يوليوس روسكا، أن أغلب الكتب التي نسبت إلى
خالد، أو من جاء بعده بقليل، قد كتبها غيرهم بعد وفاتهم بمدة طويلة ونسبوها إليهم.
ويردُّ ستابلتون على تلك الافتراءات قائلاً: (إن مثل هذه الآراء لا تستند إلى أدلة
تاريخية صحيحة، ولا مَبْنِيَّة على العمق في التحقيق والتجرد في الحكم).
ويواصل روسكا افتراءاته قائلاً: (إن حاجي خليفة الذي كتب بعد قرون
سبعة مدعيًا بأن لخالد خمسة عشر وثلاثمائة وألفين بيتًا من الشعر في موضوع الصنعة)الكيمياء)
لهو زعم كبير).
ويرد عليه الكيميائي هوليمارد قائلاً: (وحتى في الظروف
التي أشار إليها روسكا، فلا تزال كتب وأشعار لخالد في مكتبات الهند ومصر وأوربا لم
تُمَحَّصْ بعدُ ولم تُحَقَّقْ).
كذلك أنكر بعض المؤرخين العرب - مثل ابن
خلدون في مقدمته- على خالد اشتغاله بالكيمياء لبداوته، وأن العرب لم يكونوا قد
وصلوا بعدُ إلى الدرجة التي تمكنهم من الخوض في علوم غريبة عليهم، مثل علم الصنعة.
ويردُّ عليه الكيميائي علي جمعة الشكيل في كتابه (الكيمياء في الحضارة الإسلامية)
بأنه: (لئن كان أقرب إلى البداوة منه إلى الحضارة، إلا أنه عاش في عصر متحضر، وفي
منطقة زخرت بالفلاسفة والعلماء، وإن كانوا من غير المسلمين. كما أن عدم حصوله على
الخلافة قد يكون السبب الجوهر في اتجاهه إلى العلم (الجديد)، وربما كان العمل
بالكيمياء متنفسًا له؛ لتغطية عزوفه عن خلافة المسلمين).
لذا
فليس
غريبًا أن نجد علماء الغرب يشهدون بما قدمه خالد بن يزيد، فها هو جاك ريسلر يقول في
كتابه الحضارة العربية: (هل هو واقع الظروف، أم واقع ذكاء العرب النظري، أن يشغفوا
بما يثير الإعجاب، فقد اتجه خالد بن يزيد إلى ترجمة الكتب القديمة في الكيمياء إلى
اللغة العربية، وتُعَدُّ من أولى الترجمات).
لقد
كان
لمجهودات خالد بن يزيد الذي تُوفِّي في دمشق سنة (90هـ/ 708م)، الدور الأكبر في
تطور علم الكيمياء عند المسلمين، خاصةً أن هذا العلم كان في بداية نشأته، وكان
محاطًا بالكثير من الخرافات، فكان ما قدمه خالد بن يزيد الأساس الذي اعتمد عليه
علماء المسلمين فيما بعد.
يُعَدُّ خالد بن يزيد رائد علم
الكيمياء؛ فهو أول من اهتمَّ من العرب بهذا العلم، وقد صار للكيمياء (علم الصنعة)
بفضله شأنٌ عظيم، بعد أن كانت مرتبتها متدنية بين العلوم الأخرى.