الدكتور عبد الكريم عثمان
نجم سطع، وسرعان ما رحل
عدنان سعد الدين
المراقب العام السابق للإخوان المسلمين في سورية
أثمرت دعوة الإخوان المسلمين في سورية من أربعينيات القرن الماضي جيلاً صاعداً جديداً، سرعان ما أحيا للأمة آمالها، وأيقظها من سباتها، وأعاد إليها ثقتها بعقيدتها وذاتها، وردها بإذن ربها إلى حظيرة الإسلام رداً جميلاً، فامتلأت بهم الساحات، وزخرت بجموعهم المدارس والمعاهد والجامعات، فانحسرت موجة الإلحاد والعلمنة والتغريب التي كانت قبل ذلك تعربد في العشرينيات والثلاثينيات، وتتحدى المجتمع في أفكارها الوافدة، ومذاهبها المستوردة، وتقاليدها المستنكرة، ودعوتها الصريحة السافرة إلى نبذ الإسلام، وخلع ربقته عن الأعناق، فكان الداعون إلى الله في ضيق وحرج أمام هذه الموجة التي أحرزها انتصار الحلفاء الغربيين في الحرب العالمية الأولى على تركيا العثمانية، زاحفين إلى بلادنا وعقر ديارنا بما يملكون من تفوق حضاري وعسكري كاسح.
كبرت الغراس والفسائل التي زرعتها دعوة الإخوان المسلمين، وظهر جيل على أبواب الثلاثينيات في أعمار الأزهار، رفعوا راية القرآن، ودعوا بثقة وجرأة إلى رسالة الإسلام، وواجهوا تيارات العلمنة والتغريب بقوة وشجاعة، فكسروا أمواجها، وأكدوا بأقلامهم وخطبهم وأنشطتهم وجموعهم الهادرة، أن خلاص أمتهم من الذل والاندحار والتخلف إنما هو رهن في العودة الحميدة والجادة إلى رحاب الإسلام الحنيف، فلا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
كان في طليعة هذا الجيل الناهض فتى نشأ في طاعة الله، تفتحت مواهبه في سن مبكرة، وظهرت علائم النجابة عليه منذ نشأته الأولى، فإذا هو خطيب مفوه، ولما يزل على مقاعد الدراسة في المرحلة الثانوية، انتسب إلى جماعة الإخوان المسلمين في منتصف عام 1945، وعمره ست عشرة سنة إذ هو من مواليد عام 1929، فإذا بالفتى الناهض يرتجل الخطب الحماسية في الدعوة إلى انتخاب الشيخ الشهيد محمود عبد الرحمن الشقفة مرشح الإخوان والعلماء للبرلمان عن محافظة حماة، ولما يتجاوز الثامنة عشرة من عمره المبارك.
لفتت مواهبه التي - تفتحت كأزهار الربيع في وقت مبكر - أنظار قادة الإخوان في مركز حماة، فقرروا أن يرعوا هذه الموهبة التي أنعم الله بها، فقرروا إيفاده لدراسة علم الاجتماع في كلية آداب جامعة فؤاد الأول جامعة القاهرة فيما بعد ويتحمل أعباء الدراسة عدد من الإخوان برعاية ومساهمة رئيس المركز الشيخ الشهيد عبد الله الحلاق رحمه الله وأجزل له المثوبة والأجر على ما قدم من بذل وصبر وجهاد، وعلى ما تحمَّلَ من أذى في سبيل الله، دعماً ودفاعاً عن دعوة الإخوان المسلمين.
من هو الداعية عبد الكريم عثمان؟
هو ابن الشيخ محمود العثمان العالم الزاهد الورع، والأستاذ في مدرسة دار العلم والتربية التي تأسست في عهد الملك فيصل الأول الذي لم يطل كثيراً، والتي تخرج فيها قادة كبار، وساسة شهيرون، لعبوا أدواراً كبيرة في الحياة السياسية السورية، أمثال الأستاذ رئيف الملقي قائد الكتلة الوطنية في حماة بعد وفاة توفيق الشيشكلي، والأستاذ أكرم الحوراني وآخرين.
كان الشيخ محمود العثمان عالماً مجاهداً، عمل مع المناضلين ضد فرنسا، وقاوم بخطبه ومواقفه الصلبة الانتداب بجرأة نادرة، وعزيمة صلبة عُرف بهما بين أبناء جيله، ولما سمع عنه الإمام الشهيد حسن البنا وعرف عن صفائه وصدقه وجهاده، راسله وكتب إليه، شاكراً ومشجعاً، وشاداً على يده، لما يبذل في سبيل الله دفاعاً عن الإسلام والأوطان.
ولربما سمع الإمام عن الشيخ محمود العثمان من رفيق دربه وأنيس قلبه الشيخ محمد الحامد، لأن الإمام كان يستحث العلماء الذين يأنس منهم الخير، ويسمع فضائلهم في كل بلاد المسلمين، ويستنهضهم للقيام بحمل لواء الدعوة إلى الله، والجهاد في الله حق جهاده.
ورث الأخ عبد الكريم عن والده محمود العثمان جملة صفات في حب العلم وصدق الحديث، والصدع بكلمة الحق، والجرأة في مواجهة الباطل بعفوية وقلب سليم، لا تأخذه في الله لومة لائم.
في عام 1947 - وبعد أن حمل الشهادة الثانوية – البكالوريا - وقررت إدارة مركز حماة إيفاده إلى مصر لتلقي دراسته الجامعية التحق بكلية الآداب في جامعة فؤاد الأول - قسم الاجتماع - فكان متفوقاً ومتقدماً على أقرانه في دراسته، وكما حدث للإمام الشيخ محمد الحامد في صلته بالإمام حسن البنا وتعلقه به، كان حال الأخ عبد الكريم الذي أحب الإمام البنا حباً ملك عليه عقله ولبّه وقلبه، فلم يعد قادراً على مفارقته، أو البعد عنه، واستمر هكذا ممسكاً بهذه الصلة الحميمة منذ وصل إلى القاهرة عام 1947 وحتى فارق الإمام الحياة في 1947/2/12 في موكب الشهداء الذين قضوا في سبيل الله.
عزم عبد الكريم على الزواج من مصر، واعتمد على إخوة له من تنظيم الجماعة ليعينوه على ذلك مشترطاً الحشمة والحجاب الذي كان نادراً في تلك المرحلة في المدن الكبيرة مثل القاهرة والإسكندرية، فوصفوا له فتاة محافظة، وإذا به يراها تخرج مكشوفة الذراع، فصدم وبهت، فقيل له: هذا أفضل ما تطمح إليه، فصرف النظر عن الزواج من مصر، وقرر الزواج من بلده في سورية، ليت عبد الكريم وأبناء جيله من إخوان مصر، يرون ما آلت إليه المرأة المصرية من انتشار الحجاب، ومظاهر الحشمة، واضطلاعها بأعباء الدعوة إلى الإسلام، واستئناف الحياة بموجبه وعلى قواعده، وتشكيل تيار إسلامي عريض للنساء المسلمات في المدارس والمعاهد والجامعات، وفي الأحياء والمدن والأرياف، حتى صار الطابع العام للشارع المصري في كل أرجاء القطر من أدناه إلى أقصاه، فاكتسح الحركة النسائية التي عمل الإنكليز ودعاة التغريب وتقليد الحياة الغربية على إيجاده وتشجيعه، فأبلس وتراجع القهقرى، فلا يكاد يُرى بجانب تيار الداعيات المسلمات القانتات العاملات لرسالة الإسلام والدعوة إلى الله.
عودة عبد الكريم إلى سورية
عاد الأخ عبد الكريم إلى سورية بعد أن حمل ليسانس الآداب في علم الاجتماع بدرجة امتياز وتفوق، فعمل مدرساً في ثلاث مناطق، درّس الفلسفة في حماة وحلب، فكان تأثيره في طلابه ملموساً، ثم عمل في مدينة دير الزور مدرساً في ثانويتها، وباشر خطبة الجمعة في أحد مساجدها، فأصغى إليه الطلاب وسكان المدينة، وتأثروا به أيما تأثر، والتفوا حوله، وتعلقوا به، وانحازوا إلى جماعة الإخوان في دير الزور، بل وفي الأقضية والنواحي عبر الطلاب الوافدين منها إلى الدير لإكمال دراستهم الثانوية تمهيداً للالتحاق بالكليات الجامعية، ولو رغب أن يمثل عبد الكريم دير الزور في البرلمان، ويترشح في الانتخابات لأيدته المدينة وما خذلته، ولكن هذا الأمر كان بعيداً عن تفكيره وطموحه، ومن أراد أن يعرف المزيد عن الأثر الذي خلفه الداعية عبد الكريم عثمان في دير الزور وفي المنطقة الشرقية من سورية، فليسأل الشيخ دندل جبر الذي سمعت منه أنه كان في أول نشأته متأثراً بحزب البعث الذي كان الأستاذ جلال السيد - رحمه الله - أحد مؤسسيه - ومنتقديه فيما بعد - والذي كان يجمع ما بين الشيخ دندل والأستاذ جلال الانتماء العشائري، ولكن سرعان ما اتجه الأخ دندل بحزم وعزم إلى جماعة الإخوان بتأثير الداعية الموفق عبد الكريم عثمان، كما سمعت منه قصة انتمائه لجماعة الإخوان المسلمين الراشدة.
كان عبد الكريم يقضي أشهر الصيف في حماة، فكان رفيق عمره ودربه الأخ الداعية مصطفى الصيرفي وكاتب هذه السطور وعبد الكريم في لقاء مسائي يومي، لا نكاد نفترق، نأكل معاً في مكان بعيد عن الأعين على شاطئ النهر، ونتجاذب أطراف الأحاديث المتنوعة، ومدارها جميعها دعوة الإخوان ونشرها والتبشير بها في أحاديث الجمعة الأسبوعية ومجموعات الأسر، والطواف على الأحياء، ومخاطبة الطلاب، وكذا العمال والنقابات، وإحياء الذكريات المباركة، كأيام المولد والإسراء والمعراج والهجرة النبوية ومعركة بدر، بالتعاون مع إدارة المركز، وعلى رأسهم الشيخ عبد الله الحلاق، والأخ بديع عدي، ورعاية الشيخ محمد الحامد رحمهم الله جميعاً، وكنا نستقبل كبار ضيوف مدينة حماة، ومركز الإخوان المسلمين من الوطن العربي والعالم الإسلامي والمدن السورية، من أمثال أبو الحسن الندوي، وأبو الأعلى المودودي، والمرشد العام حسن الهضيبي ومصطفى السباعي ومحمد المبارك وعادل كنعان وفوزي حمد ومحمد علي الصابوني ومحمد المجذوب وغيرهم، حتى أضحت المدينة ملاذاً وموئلاً وعريناً لدعوة الإخوان المسلمين المباركة.
ليت الأجيال اللاحقة تحيط علماً بما كان عليه الإخوان في الأربعينيات والخمسينيات من نشاط وعمل دؤوب، وتحرك متصل، وكأنهم خلية نحل، في جو من التعاون والإلفة والحب حتى ترسخت قواعد الجماعة، وأضحت عصية على الاجتثاث بالرغم من كيد ومكر الأعداء الرهيب الذي تزول منه الجبال.
طبيعة الداعية وسيرته
كان الأخ عبد الكريم طاهر السريرة، سليم الصدر، خالي النفس من العقد والوساوس، يألف ويؤلف، يحبه إخوانه الكبار والصغار وأقرانه، عُرف عنه الطيبة، وصفاء النية والشفافية، وبعد أن سطع نجم عبد الكريم في شمالي سورية – حلب - وفي شرقها - دير الزور - وفي وسطها - حماة ودمشق - لحظ المراقب العام الشيخ السباعي موهبة عبد الكريم وألمعيته، فأسند إليه وظيفة نائب مدير المعهد العربي الإسلامي ذي السمعة والشهرة الواسعة في العاصمة، ليكون مساعداً للمربي الكبير مدير المعهد عبد الغني باجقني، بل ليكون المدير التنفيذي والفعلي للمعهد.
في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، وعندما ضيق أديب الشيشكلي الخناق على الشيخ الدكتور مصطفى السباعي مراقب الجماعة وقائدها، وعلى إخوانه من قادة الجماعة، واضطر إلى مغادرة دمشق إلى لبنان، لم يجد شيخنا من يسد فراغه وينوب عنه مثل الأخ عبد الكريم عثمان ليقوم بمهمة المراقب العام وكالة، ولما يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره الميمون.
كانت حركة الانشقاق التي قادها ضابط المخابرات الناصرية نجيب جويفل، ومن التف حوله من دمشق وحمص وإدلب، قد استفحلت، وصارت تشكل خطراً على كيان الجماعة، فرأى المنشقون في الأخ عبد الكريم عثمان سداً في طريقهم، وعقبة أمام تطلعاتهم، وإحباطاً لمخططاتهم، فهدده أحدهم هشام جندل الرفاعي بالتصفية إذا لم يوافقهم، ويذعن لهم، أو على الأقل أن لا يعترض سبيلهم، فإذا بالأخ الوديع ذي الحاشية الرقيقة يتحول بلحظة إلى غضنفر، يواجه شططهم بموقف صلب، وعزيمة غير مألوفة ولا متوقعة، متحدياً المنشقين أن يفعلوا ما يعن لهم، فإذا بهم يرجعون القهقرى، ويرضون من سوء خلقهم بالإياب والتراجع، وطي صفحة التمرد الذي قاده ضابط المخابرات الناصرية نجيب جويفل وعصابته التي تبعثرت، وكأنها لم تكن، أمام صلابة الإخوان، وعلى رأسهم عبد الكريم عثمان والإخوة المخلصون في دمشق، وثباتهم وتلاحمهم، والتفافهم حول قيادتهم، وعلى رأسها فضيلة مراقبهم الفذ الشيخ الدكتور مصطفى السباعي طيب الله ثراه، وتلاشت حركة الضلال، وذهبت أدراج الرياح، ولم نعد نعثر لها على أثر.
صفة الداعية وسيرته
كان الأخ عبد الكريم يلامس - بوداعته ولطفه وتهذيبه وعذوبة حديثه - شغاف القلوب لدى الجميع، كان رحمه الله يألف ويُؤلف، يحبه إخوانه الكبار منهم والصغار، لمس الكل عنه ومنه الطيبة وصفاء النية، وسلامة الصدر، لا يختلف عليه إخوانه، بل ولا أبناء المدينة من غير الإخوان، فعندما كنا معاً في دمشق نؤدي امتحانات شهادة الحقوق، لنتمكن من العمل الحر إذا أقدمت حكومة (التجمع القومي) على تسريحنا من وظائفنا التعليمية كما تشير النذر، وقررنا دخول انتخابات (الاتحاد القومي) لاعتبارات كثيرة، حملت ترشيحه، أو تفويضاً بترشيحه مؤيداً من الكاتب بالعدل، فتم ذلك، دون أن يكون حاضراً، فكان الثالث في قائمة الفائزين - ذات الثلاثين اسماً - يمثلون ثلث مدينة حماة في شمالي الوسط في سورية، وكان ذلك في عام 1959 بعد عام وبضع عام من قيام الوحدة بين مصر وسورية.
في القاهرة مرة أخرى
عاد عبد الكريم إلى القاهرة مرة أخرى، عندما قررت وزارة التعليم العالي أو الجامعة السورية إيفاد من يدرس الفلسفة الإسلامية ويحمل شهادة الدكتوراه بها ليعود إلى دمشق، ويملأ كرسي هذه المادة في كلية آداب الجامعة، فكان عبد الكريم مرشحاً لهذا الإيفاد بالدرجة التي نالها – الامتياز - في الليسانس التي حاز عليها من الجامعة المصرية - جامعة فؤاد الأول - فوقفت مخابرات دولة الوحدة أمام هذه البعثة وقررت إلغاءها، لأن صاحبها يحمل فكراً إسلامياً، غير أن مساعي حثيثة قام بها نفر، كان أخوه العقيد عبد الملك عثمان قائد موقع حماة العسكري واحداً منهم، وكان الخلاف قد دب بين عبد الناصر وبين البعثيين وحلفائهم، فأثمرت هذه الجهود، وألغي الحظر، فركب متن الطائرة التي أقلته إلى عاصمة الكنانة.
درس الماجستير في التربية وعلم النفس عند الغزالي، وقدم أطروحة الدكتوراه عن القاضي عبد الجبار أحد أئمة المعتزلة، وأصول دعوته وفلسفته بإشراف الدكتور أحمد فؤاد الأهواني، وفي كل مراحل هذه الدراسات وما سبقها كان متفوقاً ومتقدماً.
كانت هذه الحقبة من أغنى سنوات عمر فقيدنا الدكتور عبد الكريم، بالتزامه ودوامه على دار الكتب المصرية، أشهر مكتبات العالم العربي في أثناء تحضيره رسالتي الماجستير والدكتوراه مع عدد من رفقاء دراسته أمثال الدكتور شاكر الفحام الذي أمسى وزير التعليم العالي في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي في وزارة البعث.
أجرى عبد الكريم لقاءات، وأقام علاقات بشخصيات علمية شهيرة في الجامعة وخارج الجامعة، واتصل بكبار المفكرين والأدباء والعلماء، وفي مقدمتهم الأديب المفكر الموسوعي، صاحب القلم الجبار، أو قل النحّار محمود محمد شاكر، الذي أسكت وأخرس كل الناعقين ضد القرآن الكريم والسنة الشريفة، واللغة العربية الفصحى، ودعوتهم إلى العامية، من أمثال لويس عوض وأشباهه، المشككين في حقائق الإسلام، والعازمين على إطفاء نوره، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الضالون والملحدون.
كان عبد الكريم حريصاً على حضور ملتقى محمود شاكر حرصه على دراساته الجامعية في منزل الشيخ محمود الذي كانت ترتاده نخبة من المفكرين من مصريين وسوريين، ومن أقطار عربية أخرى في شرق الوطن العربي ومغربه، غير أن عبد الكريم راعه وصدمه أسلوب الأديب الكبير محمود شاكر في تناول شخصيات عظيمة بأسلوب غير لائق بأمثاله من الكبار، ومن ذلك ما سمعه ذات يوم من تجريح، ومن كلمات نابية - لا أستطيع إيرادها - في الإمام حسن البنا، فلم يقو المحب والمريد للبنا على سماعها، فانقطع عن اللقاء معرباً عن ألمه ونقده وإنكاره لما صدر عن الشيخ محمود شاكر، فأدرك هذا خطأه، واعتذر عما بدر منه، ودعا الأخ عبد الكريم، وطيب نفسه وخاطره، فعادت الأمور إلى مجاريها، وصدق الله العظيم):نعم العبد إنه أواب( وحادثة أخرى ذات شأن، لقد تواعدنا نحن الثلاثة (مصطفى الصيرفي حفظه الله، والدكتور عبد الكريم رحمه الله، والفقير إلى عفو مولاه) في القاهرة، لإحياء أيام الأنس والمودة فيما بيننا في ذات الله، وفي رحاب دعوة الإخوان المسلمين، فقال عبد الكريم: ثمة تزاور بيني وبين عبد الحق شحادة، فهل ترغبون في اللقاء به، فلديه أمور يجدر سماعها، فوافقت على التو، وتحفظ الأخ أبو محمد الصيرفي حيال ذلك، واعتذر عن اللقاء، وقبل الدخول في موضوع اللقاء، لابد من إعطاء صورة عن عبد الحق شحادة التي اكتملت في الذهن قبيل اللقاء وبعده، كان عبد الحق ضابطاً في الجيش السوري في النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي، وفي النصف الأول من خمسينيات القرن، كان من أركان حكم الشيشكلي في الجيش السوري هو وزميله حسين حِدّة.
بعد سقوط حكم الشيشكلي، غادر عبد الحق سورية بعد أن كان قد قاد حملة عسكرية على مقر المرشديين في جبل العلويين، وقضى على بعضهم ومنهم (مجيب) أحد أبناء سليمان المرشد، أقام علاقات مع عدد من دول المنطقة، فأقام بالقاهرة متعاوناً مع مدير المخابرات الفريق الماحي، وأسكنه المصريون إحدى الشقق المصادرة - باسم تصفية الإقطاع - ذات الأثاث الفاخر، وأقام علاقة مع السعوديين، وخصصوا له في مدينة جدة فيللا - وسبق أن زرته بها – فقال: لقد كلف فرشها مئة ألف ريال، وتعاون مع الصوماليين في عهد سياد بري، وحمل جوازاً دبلوماسياً صومالياً.. إلخ..
تم اللقاء مع عبد الحق شحادة في شقته بالقاهرة، فكان حديثه لي وللأخ عبد الكريم عن مصر وسورية، وخلاصته أن الإخوان إذا وقفوا ضد حكومة البعث في سورية، وزعزعوا أركانها، يفرضون وجودهم على الناصريين، الأمر الذي يؤدي إلى تخفيف الضغط عن الإخوان المسلمين في مصر، فقلت: هكذا يكون العلاج والموقف السياسي؟ إن مثل هذا الأمر يحتاج إلى حوار وتنسيق وترتيب بين المعارضين يتناول جميع المراحل، وتحديد المسؤوليات بدءاً من الكلمة الأولى، وحتى سقوط النظام، ليعرف كل طرف أين مكانه ومشاركته في مثل هذا الموضوع الخطير؟ ثم عرّج عبد الحق على تقويمه للحكم في مصر، وقال فيه ما قاله مالك في الخمر!! وذكر أن له كتاباً سينشره فيما بعد، عنوانه: من السبئية إلى الناصرية، جراء موقف الناصرية المعادي من الإسلام.
انتهى اللقاء على أن نلتقي ثانية في وقت لاحق، فاستأنفنا اجتماعنا في كفتيريا حوريس في شارع 26 يوليو، وإذا بي أفاجأ بإنسان آخر غير الذي رأيت وسمعت في الشقة قبل يومين، بدأ عبد الحق بلهجة زاجرة قوله: إلى متى تمسكون العصا من الوسط؟ لماذا لا تعلنون في بيان صريح أنكم مع جمال عبد الناصر إلى آخر هذه الطروح التي كان يضغط بها على وجوب الانحياز إلى عبد الناصر ضد الحكم في سورية الذي يسيطر عليه البعثيون، وقد استنتجت من ذلك أن عبد الحق راجع المخابرات المصرية، وعرض عليهم ما جرى في شقته من أحاديث، فأملوا عليه هذا الموقف، وزودوه بالآراء والأفكار التي كان عليه أن يطرحها بهذه الفجاجة والفظاظة.
لقد استفزنا موقف عبد الحق وتغيير موقفه، واستدارته مئة وثمانين درجة، فقلت على الفور، وبردود فعل غير مناسبة ولا محمودة:
- كل كلامك اليوم ومنذ يومين كنت تمهد له للطلب منا أن نؤيد الصنم؟ لقد كان هذا الحديث الفج مني مصدر إحراج لنا جميعاً، ولاسيما الأخ عبد الكريم الذي كان مقيماً في القاهرة، يتابع دراسته للدكتوراه في الفلسفة الإسلامية، فحاول تلطيف الموقف، وتفسير كلامي بما يخفف من سلبياته وآثاره التي لا نعرف ما سوف تؤول إليه، دون جدوى، ثم افترقنا، وذهب كل منا إلى سكناه، شعرت بالخطأ الفادح الذي وقعت فيه، ففكرت بالمغادرة السريعة، وما هي إلا سويعات، حتى كنت في مطار القاهرة في الطريق لركوب الطائرة قبل أن تحيط الدوائر المختصة علماً بما جرى في اجتماع حوريس، ولم يمض يومان إلا وكان ضابط برتبة عقيد - إن لم تخني الذاكرة - يقرع باب الشقة التي يقيم بها عبد الكريم عثمان الذي رحب به ودعاه إلى الدخول، فكانت تحقيقات واستفسارات عن اللقاءات والأحاديث والأشخاص.. إلخ، ومرت السحابة الداكنة، بعد أن تأكدوا أن عبد الكريم لم يكن طرفاً في الذي حدث من اللقاءين المنوه عنهما قبل قليل.
هذه الصورة السلبية عن عبد الحق شحادة لم تقنع بعض الإخوة من حلب الذين عرفوا عبد الحق منذ أيامه الأولى، عندما كان عضواً في دار الأرقم - إحدى الجمعيات التي شكلت جماعة الإخوان المسلمين - فظل حسن الظن يغلب عليهم في الرجل، وبعد مرور سنوات، وحدوث الصدام في سورية بين الإخوان والنظام، ظهر عبد الحق في عمان، وزار بعض مقرات الإخوان عبر معارفه السابقة في الجماعة، ثم سافر إلى بغداد والتقى نائب الرئيس العراقي، وعرض عليه التعاون مع السلطة، بعد أن قدم نفسه من دعاة التيار القومي باعتباره أحد المؤسسين في الشمال السوري لحركة التحرير العربي برئاسة السياسي ظافر الرفاعي، ثم عاد إلى عمان، وزار عدداً من الإخوان، وشن حملة أمام الأعضاء على قيادة الجماعة متهماً إياها بالانبطاح - حسب تعبيره - كما شن حملة على العراقيين، وقام بتوزيع مذكرتين بخط يده، تقع إحداهما في 63 صفحة، والثانية في 21 صفحة بشكل واسع، فتلقفها عدنان عقلة الذي كان يتربص بالجماعة ويعتبرها عقبة في طريق طموحاته الثورية، وشرع بتصويرها وتوزيعها على نطاق واسع في الأردن وأوربا وفي كل مكان استطاع أن يوصلها إليه.
عاد عبد الحق شحادة إلى القاهرة بعد أن قطع حباله مع العراق والإخوان، بعد أن يئس من إقناع الإخوان بوجوب مغادرة الأردن والعراق، فقال الشيخ سعيد حوّى رحمه الله:
- إلى أين يريد أن يقذف بنا عبد الحق؟ رداً على اقتراحه بمغادرة العراق والأردن.
توفي نائب الرئيس العراقي الذي أجرى عبد الحق الحديث معه، وتوفي الشيخ سعيد حوى، وتوفي منذ أسابيع أو أشهر عبد الحق، فالكل انتقل إلى جوار ربه، لنتعظ جميعاً، ونتذكر أن الحياة فانية، وأن العمر فيها ليس أكثر من سحابة صيف، تلوح وسرعان ما تنقشع، رحم الله الجميع وسامحهم وغفر لهم، وتجاوز عنا وعنهم وتغمدهم بالرحمة والغفران.
العودة إلى سورية
عاد الداعية عبد الكريم عثمان من القاهرة، يحمل شهادة الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية بامتياز وتفوق، ليشغل مقعد هذه الدراسة التي أوفدته الجامعة ليملأ كرسيها، غير أنه ألفى الأبواب موصدة في وجهه، وأن حكومة الأقلية زاهدة في كل المواهب والاختصاصات إذا لم تكن من المشايعين لها في أفكارها الشاذة، بالرغم مما أنفقته الجامعة على الموفد من تكاليف الدراسة.
كان اختصاصه مطلوباً في الكثير من الجامعات، فاختار التعاقد مع جامعات المملكة العربية السعودية، وسرعان ما طرح في الوسط الجامعي موضوع الثقافة الإسلامية، لتكون مادة مقررة في جميع كليات الجامعات السعودية، يدرسها الطبيب والمهندس والصيدلي وجميع الكليات العلمية، والحقوقي والأديب والمؤرخ والاقتصادي، فوجد اقتراحه قبولاً، وأخذ طريقه للتنفيذ.
عكف الدكتور عبد الكريم على هذا الموضوع، واختار بحوثه ومواده، وأصدر فيه مؤلفات دخلت في المناهج المقررة، يتقدم فيها جميع طلاب الجامعات إلى الامتحان كباقي المواد ذات الاختصاص سواء بسواء، ومنذ ذلك الحين، وبعد حوالي أربعين سنة ما زالت كتب الدكتور عبد الكريم عثمان مراجع للدراسة في فلسفة الغزالي، وفي الفكر المعتزلي، وفي الثقافة الإسلامية، رحمه الله وأجزل له المثوبة.
الرحيل المبكر
في منتصف الستينيات من القرن الماضي، هبطت طائرة في مطار دمشق كان على متنها الأخ عبد الكريم عثمان، فأبلغه موظف الأمن أن قراراً صدر عن الدوائر المختصة يمنع أربعة مواطنين من العودة إلى سورية، وهم:
عبد الكريم عثمان، ومصطفى الصيرفي، ونعسان عرواني، وعدنان سعد الدين، وقال الموظف: كل ما أستطيع أن أساعدك به، أن أترك لك وقتاً كافياً لاختيار الطائرة التي ستغادر بها إلى حيث تريد، فاختار طائرة متجهة إلى بيروت، وعندما وصلتُ إلى لبنان، أخبرني عبد الكريم بقرار المنع، فوجدنا في لبنان الملاذ الذي كنا نمضي إجازات الصيف في ربوعه، ونلتقي على أرضه بالإخوان من جميع المدن السورية، ومع الإخوة في لبنان الذين كثيراً ما كانوا يوجهون إلينا الدعوة إلى مقراتهم ومخيماتهم لنسهم في إلقاء الكلمات وتوجيه أبناء الجماعة الإسلامية في لبنان.
في مطلع السبعينيات حضر الأخ عبد الكريم إلى بيروت، فأنكرت ما رأيته فيه من أثر المرض البادي في صفحات وجهه وفي محياه، وعندما ألح عليه المرض راجع الطبيب المختص في مستشفى الجامعة الأمريكية الدكتور حداد، فطمأنه بادئ ذي بدء بعد إجراء الفحوص الطبية اللازمة، ثم طلب منه بعد فترة قصيرة إعادة الفحص بإخراج قزعة من كبده، ففاجأه أن أيامه محدودة، وعليه القيام بتصفية أموره سريعاً، فهُرع إلى الكاتب بالعدل لاستخراج تفويض لأهله في شؤونه المالية والأسرية، ثم تدهورت صحته بوقت قصير، ولم يعد قادراً على الكلام، فكانت كلماته لا تكاد تسمع إلا همساً، عرضنا عليه العلاج في أي بلد يريد، لنرفع من معنوياته وحالته النفسية، وخيرناه بالذهاب إلى موسكو أو واشنطن أو أوربا، فاختار الذهاب إلى النمسا لوجود شقيق زوجته صلاح الحلاق في فينا للدراسة بها، فلم يلبث أن عاد منها بعد أن أكد له الأطباء استفحال المرض، فقد كانت حالته تنبئ عن اقتراب الأجل، فسعى له أصحابه وأحبابه بالسفر إلى منزل عائلته في مدينة حماة، وما هي إلا أيام حتى فارق الحياة، وانتقل إلى جوار ربه راضياً مرضياً.
لقد كانت وفاة عبد الكريم صدمة مؤلمة للإخوان جميعاً، ولاسيما لرفقاء دربه ومسيرته الدعوية، وخسارة للجماعة التي كان عبد الكريم عثمان - أبو علاء - من ألمع شبابها وأكبر دعاتها، فشيعته الجموع الحاشدة، وحملت جنازته على الأكف في 1972/9/9 بحضور عدد من أبناء المحافظات السورية الأخرى.
احتشدت الجموع على قبر الفقيد، فألقى الشيخ سعيد حوّى - رحمه الله - كعادته - كلمة مؤثرة، هيجت الأحزان، وعصرت قلوب المشيعين، ولامست أكبادهم، كما ألقى الشيخ عبد الله علوان رحمه الله كلمة باسم إخوان حلب، فسالت الدموع، وانسكبت العبرات حزناً على فراق زين الشباب، وفخر الرجال، وكان للأخ عبد المنعم نيربية - أبي عرفان - قصيدة نظمها في رثاء الداعية، إلا أن الأخ الذي يغلب على طبعه الحياء والانطواء أمسك عن إلقائها لظروف شخصية وأمنية، بانتظار الساعة المناسبة لنشرها، فجاء الأوان في هذا الملحق عن الفقيد في المجلد الثاني عن الإخوان المسلمين في سورية الغالية.
وهذه قصيدة الرثاء، وقد جاء فيها:
فـي الـتـيـاع المُكلّمِ عَـلَـمٌ شـامـخٌ تـلألأ فـيـه مـؤمـنٌ ثـابتُ الجنانِ.. ذكيٌ وخـطـيـبٌ يَسبيكَ سِحرُ بيانٍ والـمـعـانـي موصولةٌ بمَعين فـيـلـسـوفٌ ما زاغَ فيه فؤادٌ خاضَ بحرَ الآدابِ خوضَ جَسورٍ سَـرقـاتُ المستغربينَ الحَيارى إنّ مَـن صاحَبَ (الغزاليَّ) يَجني كـيـف تُـغويهِ فلسفاتُ حَيارى إيـهِ (عـبدَ الكريمِ) نبراسَ جيلٍ عُـدتَ من (مصرَ) حاملاً لوسامٍ ويـحَ قـومٍ لم يُكرموا فيكَ عِلما خـوّفـتـهم مواهبٌ فيكَ عظمى كـيـف يَرضَونَ أن تصدَّ شباباً كـيف يَرضونَ أن تُزاحمَ رَهطا فـلـتُسافر إلى (الرياضِ) مُعاراً (أحـرامٌ عـلـى بـلابلنا الدّو فـالكريمُ الأصيلُ يُسجنُ أو يُنفى وقـريباً من منزلِ الوحي جاهَد تَـبذلُ العِلمَ في ظِلالِ اختصاصٍ شَـهِـدَ الـعارفونَ أنَكَ قد كنتَ حـيـنَ تُعطي من نورِها بسخاءٍ لَـهـفَ نـفسي (أبا علاءٍ) على أحـرقَـتْـكَ الآلامُ تغزو ببطءٍ فـاجـأتـنا الأخبارُ بالشرِّ تَتْرى لـهـفَ نفسي على الدّعاةِ كِباراً كـم بـدورٍ سَـنـيـةٍ قد فَقَدنا رَبِّ عـوِّضْ عـنهم بأشبالِ دينٍ رَبِّ والـطُفْ بالمسلمينَ اليتامى رَبِّ ألـهِـم آل الفقيدِ اصطباراً | المفجوعِبـتُّ أبكي حبيبَ هذي مَـعـدنُ الـخيرِ والرشاد البديعِ ألـمـعيٌ.. إلى العُلا في نُزوعِ نـحـوَ مـبنى تبيانِهِ المسموعِ هـو فـي ذروةِ الـبيانِ الرفيعِ عـن صراطِ اللهِ البصيرِ السميعِ لا عـلـى اللهِ بل على الترقيعِ لـم تُـضلله وهي صِنوُ الخُنوع مـن ثمارِ الفكر العميقِ الضليعِ سـقـطوا في مزالقِ التشنيعِ؟! مـؤمـنٍ صـادقٍ مُنيبٍ مُطيعِ جـامـعـيٍّ فـي قـمةِ الترفيعِ وخـلالاً تـزهـو كزهر الربيعِ فـنَـفَـوهـا تَحَكّماً في القَطيعِ عـن طريقِ الإلحادِ والتضييعِ؟! وعـدواً وابنِ اليسارِ الشيوعي؟ وحـرامٌ عـلـيكَ مرأى الرُّبوعِ حُ حَـلالٌ) لـلـبومِ في تشجيعِ؟ وذو الـمـوبـقاتِ قبلَ الجَميعِ تَ بـعـزمٍ فـي خدمةِ التشريعِ تَـعـبـدُ اللهَ في لِباسِ الخَشوعِ كـريـمَ الأخـلاقِ مثلَ الشُّموعِ بـيـنما الجسمُ آخذٌ في الرّجوعِ الفِكرِ شهيدِ الداءِ العُضالِ المُريعِ كـبـداً قد أُصيبَ بينَ الضلوعِ فـأسِـفـنا على الذُّبولِ السريعِ كـمْ مَـشـيـنا نَحُفُُّهْم بالدموعِ! وأولـو الـغَـيّ في ازديادٍ مَنيعِ سـوفَ يَـفـدونَ دينَهم بالنجيعِ رَبّ رُحـمـاكَ بالوليدِ الرضيعِ رَبّ أسـكـنهُ في جِوار الشفيعِ | الجُموعِ
حماة الجمعة 30 رجب 1392هـ - 8-9-1972م.
رحم الله الفقيد الغالي، وأسكنه فسيح جناته، وواسع مغفرته، وجمعنا به في مستقر رحمته، تحت لواء المصطفى صلى الله عليه وسلم وآل بيته وصحبه، ومن سبقنا إلى رحاب الحنان المنّان الرحمن من أمثال الشهيد الإمام حسن البنا وكبير الدعاة مصطفى السباعي، وشيخ العارفين محمد الحامد، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.