الشيخ أحمد الشرباصي
الداعية والكاتب الإسلامي الكبير
محمد فاروق الإمام
[email protected]
من
الأعلام من تتفجر مواهبه مبكرًا، فتجده خطيبًا قد أمسك بناصية الكلام وسيطر على
مستمعيه بحسن الإلقاء وبلاغة التعيير، وقد تجد كاتبًا يبهر قراءه بما يكتب وهو لا
يزال في مرحلة الطلب، وقد تجده شاعرًا قد دانت له القوافي وملك أزمة المعاني، وقد
يرزقه الله سعة فيجمع بين ذلك كله.. وكان الشرباصي واحدًا من هؤلاء، لفت الأنظار
إليه وهو طالب لم يحصل على الشهادة الثانوية الأزهرية، وفتحت له الصحف والمجلات
أبوابها ينشر إنتاجه المبهر بين كبار الكتاب ويثني على نشاطه أئمة الفكر والبيان.
ولد
أحمد الشرباصي في قرية البجلات التابعة لمركز دكرنس بمحافظة الدقهلية بمصر في 17 من
تشرين الثاني عام 1918م، وحفظ القرآن الكريم بكتَّاب القرية، وتعلم مبادئ القراءة
والكتابة، ثم التحق بمعهد دمياط الديني وهو في الثانية عشرة من عمره، وبعد أن أنهى
دراسته به التحق بمعهد الزقازيق الثانوي سنة 1935م، تاركًا ذكرى طيبة بين أساتذته
في المعهد بعدما بهرهم بذكائه واستعداده الأدبي وهمته الطموحة، وبعد حصوله على
الثانوية الأزهرية سنة 1939م التحق بكلية اللغة العربية، وكان في مقدمة الطلاب طوال
فترة دراسته، حتى حصل على الشهادة العالية سنة 1943م وكُرم مع أوائل الجامعات في
حفل أقيم بقصر رأس التين بالإسكندرية، ثم نال شهادة العالمية الأزهرية وإجازة
التدريس سنة 1945م.
وبعد تخرجه عمل بالتدريس فترة طويلة، ثم عين وكيلاً لرواق الأحناف بالأزهر
سنة1951م، ثم سافر إلى الكويت مبعوثًا من الأزهر، وبعد عودته أسندت إليه أمانة لجنة
الفتوى بالجامع الأزهر سنة 1957م، ثم انتدب لتدريس الشريعة الإسلامية في معهد
الخدمة الاجتماعية بالقاهرة سنة 1958م، ثم عمل مستشارًا لهيئة الرقابة على
المطبوعات ومراجعة الكتب الدينية، وبعد حصوله على درجة الدكتوراه في الأدب والنقد
سنة 1967م عين مدرسًا بكلية
اللغة العربية، وكان موضوع أطروحته العلمية (رشيد رضا صاحب المنار.
بدأ
الشرباصي نشاطه العلمي منذ وقت مبكر، وهو لا يزال طالبًا في المعهد الديني الثانوي
بالزقازيق حيث لفت الأنظار إليه وأدهش أساتذته حين أخرج وهو في هذه السن الغضة
كتابًا بعنوان (حركة الكشف) سنة 1938م، ولم يكن الكتاب مقالات متناثرة في موضوعات
مختلفة تمتلئ بأساليب الإنشاء المحفوظة التي يكتبها غالبًا الشداة والناشؤون، ولكن
الكتاب كان هادفًا تحدث فيه عن مبادئ الكشّافة ونظمها وشاراتها، واتفاق كثير من
مبادئها وتعاليمها مع تاريخ العرب وأحكام الإسلام.
وقد
استُقبل الكتاب استقبالاً حسنًا، ونُوّه بصاحبه، وحظي مؤلفه بكلمة طيبة كتبها
الأديب الكبير محمد سعيد
العريان في مجلة الرسالة، ومنذ ذلك الحين فتحت الصحف والمجلات صفحاتها للأديب
الواعد الطالب بمعهد الزقازيق الثانوي، وأخذت مقالاته تترى على صفحات مجلات مختلفة
كـ"الإسلام" و"الصباح" و"النهار" و"منبر الشرق"، بل تطلعت همته إلى أن يكتب في
(جريدة السياسة الأسبوعية) ملتقى إنتاج كبار الكتاب والشعراء.
ثم
أردف كتابه هذا بكتابين آخرين هما: "محاولة"، و"بين صديقين"، استحق عليهما ثناء
النقاد على صفحات الأهرام والرسالة، ثم كرمته جمعية الشبان المسلمين وعرفت له نبوغه
المبكر، فأقامت له حفلة تكريمية سنة1940م، أشاد المتكلمون فيها بجد الشرباصي وجهده
المتصل وهو في هذه السن المبكرة.
وبعد التحاقه بكلية اللغة العربية كان المأمول
أن
يواصل الشرباصي دراسته الأدبية بعد أن أظهر استعدادًا واضحًا لهذا الاتجاه، وكان
جديرًا أن يحتل مكانة مرموقة في مقدمة الدارسين لو تفرغ لهذا الاتجاه، لكن اتصاله
بالحركة الإسلامية التي ازدهرت في مصر وسع من دائرة اهتمامه، وفتح أمامه مجالات
فسيحة، فأقدم عليها بكل ما يملك من موهبة، وقد تعددت مؤلفاته لتشمل التشريع
الإسلامي والدراسات القرآنية، والتاريخ، وغيرها حتى بلغت ما يربو على مائة كتاب،
ومن هذه المؤلفات التي قدمها للمكتبة الإسلامية: موسوعة أخلاق القرآن في سبعة
أجزاء، و"يسألونك" في سبعة أجزاء، وموسعة الفداء في الإسلام في أربعة أجزاء، والنيل
في القرآن، والقصاص في القرآن، وأسماء الله الحسنى، وأمير البيان شكيب أرسلان حياته
وأدبه، وهو أطروحته لنيل الماجستير في مجلدين، ورشيد رضا صاحب المنار وهو أطروحته
لنيل درجة الدكتوراه في ثلاثة أجزاء.
وله
دراسة طريفة بعنوان (عالم المكفوفين) أصدرها سنة1954م تناول فيها أخلاق المكفوفين،
وما يتصف به كثير منهم من الذكاء النافذ، والروح المرحة، وإيداع الشعر والخيال
الجامح، ثم اختار عددا من الأعلام المكفوفين وترجم لهم وصوّر حياتهم وأبان عن
جهودهم في ميادين اللغة والأدب.
وشارك الشرباصي في الأدب المسرحي، فكان من أوائل من كتبوا المسرحيات الإسلامية،
التي استلهمت أحداثها من وقائع التاريخ الصادقة، ملتزمًا الفصحى فيما
يكتب، ومن هذه المسرحيات:
مؤمنة مجاهدة، ومولد الرسول، ومشرق النور، والحاكم العادل.
رزق
الله
الشرباصي ملكة اللسان، فكان خطيبًا مفوهًا يملك أسماع مستمعيه وأفئدتهم ويسيطر على
مشاعرهم بأدائه الفذ ونبراته المؤثرة، وعلمه الواسع، وقد بدأ نشاطه الخطابي الواسع
منذ
أن وطأت أقدامه القاهرة، وكان مسجد المنيرة بالقاهرة موضع خطبه التي جذبت الناس
إليها، وظل يخطب بهذا المسجد ثمانية أعوام، اعتقل قرب نهايتها بسبب خطبه الحماسية،
ودفاعه عن جماعة الإخوان المسلمين، وقضى في السجن ستة أشهر سجل أثناءها مذكراته
اليومية في السجن، ثم نشرها بعد خروجه تحت عنوان "مذكرات واعظ أسير"، وكان الشرباصي
لا يفوت فرصة للكتابة عما شاهده ورآه في أسفاره، ومن ذلك كتاباه: "أيام الكويت" حين
كان مبعوثاً هناك، و(عائد من باكستان).
وأدى نشاطه الواسع في الخطابة أن ينزل إلى ميدان الإصلاح الاجتماعي يكشف خطأ، أو
يصحح مفهومًا، أو يرشد حيرانًا، وأصبح يومه لا يخلو من محاضرة أو درس هنا أو هناك.
وقد جمع الشرباصي بعضًا من هذا النشاط الخطابي المتنوع في كتابه "الخطب الشرباصية"
في خمس مجلدات.
وشارك بعلمه وجهده في بعض الجمعيات الإسلامية مثل جمعية الشبان المسلمين، وتولى
أمانتها فترة طويلة،
وجمعية الهداية الإسلامية، وجماعة الأزهر للتأليف والترجمة والنشر، وجمعية النهضة
الأزهرية.
ظل
الشرباصي
حتى
آخر حياته دائم الجهد وافر النشاط، بين التأليف والتدريس والخطابة على المنابر
والكتابة للصحف، وإفتاء الناس فيما يعرضون عليه من مسائل، ويتعجب الإنسان كيف جمع
الشيخ بين هذا، ولكنه فضل الله يؤتيه من يشاء.
وحين اشتد عليه المرض في أيامه
الأخيرة لم ينقطع عن التأليف على الرغم من عجزه عن إمساك القلم لكن رغبته الصادقة
في أن لا يدع شيئًا في صدره من علم يكتمه على الناس جعله يملي على زائريه من
تلامذته بعض مؤلفاته مثل (موسوعة أسماء المصطفى).
ولكن لكل شيء نهاية، فانطفأ العقل المتوهج، وتوقف القلم السيَّال، فلقي ربه في 14
آب 1980م، تاركًا تراثًا ثريًا وذكرى عطرة.