علماء و أدباء في ذاكرتي محمد المجذوب

علماء و أدباء في ذاكرتي

محمد المجذوب

محمد المجذوب

يحيى بشير حاج يحيى

[email protected]

لم يكتب لي لقاء الأديب الداعية محمد المجذوب في أيام الطلب ، مع أنه كان معروفا ً لأبناء جيلنا من خلال قصصه و شعره و كان بالنسبة لنا رمزا ًأدبياً إسلامي الوجهة و الفكرة .

و شاء الله أن يكون لقاؤنا في المدينة المنورة ، إذ قدمتها متعاقدا مع الجامعة الإسلامية للتدريس في معهدها الثانوي،في العام الذي ترك فيه المجذوب الجامعة متقاعدا في سنة 1403 هـ .

و مع ذلك فقد توثقت العلاقة بيننا من خلال مجلس السيد عبد الحميد عباس، و نادى المدينة الأدبي ، و لقاءات رابطة الأدب الإسلامي و زيارات متتابعة للراحل  في منزله بقباء مستأنسا برأيه ، و مستفيدا من علمه في بعض ما أنظم و أكتب ...

كان المجذوب رحمه الله من جيل لم يعتمد في تحصيل ثقافته و علمه على المدارس و المعاهد العالية شأنه في ذلك شأن العقاد و سعيد الأفغاني و أستاذنا عمر يحيى و غيرهم كثير .

ولد – رحمه الله – في عام 1907 بمدينة طرطوس على الساحل السوري في بيت متدين يعمل في التجارة ، و له صلة بعلوم الدين و العربية ، و تلقى دراسته الأولية في الكتاب ، ثم في مدارس الدولة العثمانية ، و على يد الشيوخ ، ثم مضى في طلب المزيد من العلم و الثقافة معتمدا بعد الله على جهده الشخصي ، فقد عرف عنه منذ طفولته حب القراءة و الاطلاع حتى إنه ليستأجر الكتب يقرؤها على ضوء السراج ، و استمرت المطالعة دأبه إلى أخريات أيامه . في مطلع عهد الاستقلال 1936م بدأ عمله في سلك التعليم ، و ما زال يتدرج خلال مراحله حتى التحق بخدمة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة مدرسا من عام1383 إلى1403وكان –رحمه الله-من أوفر المدرسين نصيبا من حب طلابه المنتشرين في مختلف أنحاء العالم ، و قد حدثني الأستاذ سعود التركي و كان أحد تلاميذه أن الشيخ كان يدرسهم السيرة النبوية ، فيمر ببعض أحداثها متأثرا باكيا، فيبكي التلاميذ لبكائه !

دخل – رحمه الله – معركة الدفاع عن الإسلام و أهله في وقت مبكر من عمره ، فكان كتابه ( فضائح المبشرين) من أوائل ما كتب ، و هو دون سن العشرين ، رد به مفتريات أحد المتنصرة من المبشرين الذين احتموا بالاحتلال الفرنسي للشام ، فراحوا يشنون غاراتهم على الإسلام قرآنا وسنة و تاريخا ؟!

 و قد  بلغت مؤلفاته المطبوعة و المشرفة على الطبع قرابة الخمسين و ما بين شعر و قصص وبحوث ثقافية تنطلق جميعها من الرؤية الإسلامية، و تنعكس خلالها أحداث عصره في سورية ، و على مستوى العالم الإسلامي ، و قد طبع له النادي الأدبي في المدينة المنورة عددا منها : (ردود و مناقشات- أضواء على حقائق – مع المجاهدين في باكستان – تحفة اللبيب من ثقافة الأديب – قصص لا تنسى – نصوص مختاره من شعره – أدب ونقد – آلام و أحلام ) ومن أجلِّ تصانيفه كتاب (علماء و مفكرون عرفتهم ) بأجزائه الثلاث ، وهو لم يقتصر فيه على الترجمة لعدد من علماء عصره و مفكريه ممن عايشهم ، و لكنه شافههم من خلال صلته بالعدد الكبير منهم ، و قد تجاوز عدد هؤلاء الأفاضل الستين ، شمل كثيرا من  الأقطار الإسلامية . بعضها كتبه بلغة شاعرية هي ذوب قلبه ،كما فعل بترجمة رائد الحركة الإسلامية في بلاد الشام الدكتور مصطفى السباعي – طيب الله ثراه- نقتطف منها ،وهو يصف عودة السباعي من جبهة القتال مع يهود لإنهاض العزائم :"و بلغ البطل يومئذ رسالته ، ثم عاد إلى الجبهة ليواصل حماية الثغرة التي عهد بها إلى كتيبته ، وليسقي الأرض المقدسة . بمزيد من الدم الطاهر ، الذي تسابق إخوانه لبذله في سبيل الله ، ليسجلوا للعالم المتآمر، من وراء و أمام و يمين وشمال ، أن أرض الإسلام لن تعدم الأحرار الذين يقدمون أجسادهم في سبيلها طعاما للحديد و النار ".

كان للمجذوب – رحمه الله – موقفان ممن ترد في أحاديثهم و كتابتهم أغاليط أو شبهات حول الإسلام ، فحين تكون الأغلوطة نزعة بِنية الهجوم المتعمد على الإسلام فإنه يقابل السلاح بمثله آخذا بأنف المبطل حتى يعلم جلال الحق ، دون مواربة أو مجاملة كما فعل مع أدونيس إذ يقول وهو يعدد أسماء الذين ينطحون بقرونهم جبل الإسلام "و الرافضي الحاقد علي سعيد الذي اختار لنفسه لقب (أدونيس) إيثارا للفينيقية على العروبة و الإسلام !

و أما الآخرون ممن يوردون الأغاليط جهلا أو اجتهادا بزعمهم فسبيله معهم لا يخرج عن التي هي أقوم بالحكمة و الموعظة الحسنة و الجدال بالتي هي أحسن ، كما فعل مع أحد الذين انتقدوا قصته(قصة من يوغسلافية ) في زمن تيتو ، مستندا إلى بعض الوقائع التي تشير إلى حرية العبادة و إقامة المساجد و الكتاتيب ، فيرد المجذوب " إن المألوف في الدول المضطهدة للإسلام أن تقيم واحات خاصة في جحيمها، تدعو لزيارتها كبار المسلمين ، حتى إذا ما شاهدوا مظاهر النعيم في تلك الواحات أبدوا بحق رضاهم عما شاهدوه ... وهي في الواقع زيارات محدودة و عابرة لا تكفي لاستيفاء الصورة الكاملة للوضع لاستهوائهم ، و قد حدث هذا لوفود زارت بعض المناطق في الفيلبين و روسية " كتب – رحمه الله – أكثر من عشر مجموعات قصصية منها ( اللقاء السعيد – قصص من سورية – دماء وأشلاء – بطل إلى النار) .

كما نشر ثلاثة دواوين شعرية ( نار و نور – همسات قلب- آلام و أحلام ) و له في أدب الرحلات ( مشاهداتي في ربوع الهند – مع المجاهدين و المهاجرين في باكستان – ذكريات لا تنسى من الفيلبين و إندونيسية و تركية و قبرس)

 وفي نطاق الأدب يقول عنه الأستاذ محمد الحسناوي في كتابه ( الأدب و الأدب الإسلامي) : كان المجذوب داعية و أديبا و شاعرا، كان يقرأ ما وراء السطور مثلما يقرأ الشاعر رسائل الورد، ويترجم زقزقة العصافير ، وخرير الجداول . و قال عنه الدكتور شوقي عبد الحليم حمادة أستاذ الأدب و النقد بجامعة الأزهر : إنه الأديب النابه ، و القاص البارع ، و الشاعر العملاق، و الخطيب المفوه.

ويقول الأستاذان الجدع و جرار في ( شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث):"اهتم شاعرنا المجذوب بقضايا العالم الإسلامي فصاغها شعرا معبرا ، و معاني سامية ، و قارئ شعره ينتقل إلى عالمه ، و يعيش أحاسيسه ، وينفعل به" .

رحم الله محمد المجذوب الداعية و الأديب فقد عاد من غربة إلى غربة ليموت في بلده –عام 1999 م – وقد تزامنت وفاته في الأسبوع الذي توفى فيه الشيخ علي الطنطاوي و تعامت عن خبر وفاته وسائل الإعلام القريبة ، فنقله أصدقاؤه و محبوه.