الشاعر علي الحاج بكري، شمس أفلت
محمد زهير الخطيب/ كندا
هل وصلتَ يوما إلى حديقة غناء متأخراً قليلا والشمس تُشرف على المغيب فأسرعتَ تكسب الوقت وتكحلُ عينيك بمنظر الورود وتشنف أذنيك بألحان الحركة الاخيرة من سيمفونية الوداع؟... هكذا كان شعوري عندما قابلت الاستاذ علي لاول مرة، لقد آنسنا بابتسامته وحديثه الممتع وأمتعنا بسماع بعض أشعاره، وفرحت بأن أعثر على شاعر عربي أصيل في كندا أسمع منه (فعول مفاعيل) بعد أن كسّر بعض شعراء اليوم تفعيلات الخليل الفراهيدي، ورفعوا ضغط أبوالاسود الدؤلي... سبحنا مع شاعرنا في بحور الشعر طويلها ومديدها ووافرها دون خوف من بلل أو غرق... لكنه كان على موعد مع القدر كشمس الاصيل التي تلملم أواخر خيوط الذهب لتنام بهدوء خلف التلال.
رحل الشاعر علي الحاج بكري قبل أن يرتوي ظمؤنا منه، رحل وقد ترك ذكريات طيبة في نفوس تلاميذه ومحبيه الذين تناثروا في اللاذقية ودمشق ومكة والرياض وكندا... وقد سمع أشعاره من الاذاعة السعودية آلاف الناس من خلال برنامج تسبيح شاعر الذي استمر سنوات عديدة، وبين يدي حلقة منها رقمها 464، ومن المؤكد أنها لم تكن الحلقة الاخيرة.
سيرته:
ولد الشاعر علي الحاج بكري في اللاذقية عام 1920م وامتهن التدريس مبكراً، وتابع تحصيله العلمي بدأب حتى نال شهادة الثانوية العامة، وكانت المفاجأة أنه كان الاول على سورية في تلك السنة، ثم نال الليسانس وبعدها الماجستير من لبنان، وأكاد أجزم أن الذين حصلوا على الماجستير من مواليد 1920 في سورية قلة قليلة ولابد أنه توفر فيهم الذكاء والدأب وتوفيق الله عز وجل. ومن طرائفه أن كان يكتب مواضيع الانشاء والتعبير شعراً مرتجلاً جميلاً بدل النثر، وقد فعل هذا في امتحان الثانوية العامة مما أثار إعجاب أساتذته ورفاقه.
وقد شغل بعض المناصب الثقافية كمدرس ومفتش ثم كمدير للمركز الثقافي في كل من اللاذقية ودمشق، وكان أستاذ مادة الثقافة الاسلامية في جامعة الامام محمد بن سعود في الرياض.
ومن أعماله الادبية أنه كان يكتب أناشيداً إسلامية ووطنية فكانت تلحن وتذاع من الاذاعة، ومنها نشيد (مسلم) للمطرب الراحل طلال مداح يقول فيها:
مسلمٌ صليتُ أوقاتي وصمتُ مسلمٌ زكيتُ أموالي، حَججتُ
مسلمٌ في سيرتي مسلمٌ في نيتي
مسلمٌ آمنتُ بالله المُمَجدْ مسلمٌ صدقتُ بالهادي محمدْ
مسلمٌ عهدي وفاءٌ وأمان صادقٌ برٌ أمينٌ يتعبدْ
تسبيحات شاعر
ومن حلقات تسبيحات شاعر التي اذيعت في السعودية، نقتطف هذه الابيات، فبعنوان تغذية القلب يقول شاعرنا مصورا النشوة الروحية التي رافقته في طريقه صباحاً لأداء الصلاة في المسجد:
خرجتُ مع الصباح فمنْ لقلبي يغذّيهِ سوى آلاءِ ربي
ولامَسَ مسمعي صوتٌ شجيٌ بلاليُّ الندى فسلكتُ دربي
وسرتُ ولم أكنْ وحدي ولكنْ تزاحَمَتِ الخطا ولقيتُ صحبي
نداءُ الحقّ يحدونا فنمضي إلى هدفٍ وفي شَغَفٍ نلبي
اجتمعنا للصلاةِ وما عَرفنا لقاءً مثلها بالحقِ يُنبي
****
وعن تنوع سلوك الناس في سعيهم في هذه الدنيا يقول:
فمنهمْ باسمُ القسماتِ يسعى ويقطِفُ سعيَهُ ويقولُ حسبي
ومنهمْ لا يقرّ له قرارٌ يلفُ ويستديرُ بكلّ صوبِ
وألقاهُ وإن جمعتْ يداهُ وفيرَ المالِ في همّ وكَربِ
وفي نظراتهِ جشعٌ وحقدٌ يكادُ يُهيُلها في كلّ قلبِ
إذا الايمانُ غابَ فلا ضياءٌ يغذينا وينعشُ كلّ لبِ
ويذكرنا هذا البيت الاخير ببيت الشاعر الكبير محمد اقبال اذ يقول:
إذا الإيمانُ ضاعَ فلا أمانٌ ولا دنيا لمنْ لم يحي دينه
وتحت عنوان ثبات المؤمن يقول شاعرنا:
جُبتُ البلاد وهزتني مفاتنها لكن نفسي أبتْ أن تَعلِقَ الفِتنا
وعاشَ طرفي مع الاضواءِ تَبْهُرُهُ وفي الرياضِ سَبَتْهُ نضرةٌ وجَنى
لكنّ كفي ماهمّتْ ولا قدمي سعتْ ولا خافقي في صبوةٍ وَهَنَا
ظللتُ أشهدُ خلقَ اللهِ منطلقا فيما أظلَّ وما أعطى وما قَرَنا
آلاؤه بلسمٌ للقلبِ تُسعدهُ تدفقتْ وأفاءتْ نعمةً وغِنَى
****
ويرصّع الشاعر أبياته بحِكمٍ ثرّة فيقول:
وجولةُ البغي مهما اشتدّ صاحِبها هيهاتَ تمتدّ في دربٍ لها زمنا
ياربُّ خيركَ دفاقٌ يؤمّلهُ كلّ الخلائقِ منْ يَسعى ومنْ سَكَنا
إذا مضوا في طريقِ الحقّ عَمّهم ُ وإن تراخوا غدتْ أيامهمْ مِحَنَا
وفي تسبيحة بعنوان في رحاب الله يقول شاعرنا:
لنا في رحابِ اللهِ قصدٌ ومأربُ ومايَهبُ الرحمنُ للعبدِ طيبُ
أفاء علينا الخيرُ من كلّ جانبٍ هنا موردٌ عذبٌ، هنالكَ كوكبُ
ومرة اخرى يتحفنا الشاعر ببعض الحِكم تعلمها من مدرسة الحياة فيقول:
وإدراكُ قانونِ الحياةِ يقودنا الى عيشِنا أنى مضينا نُجرّبُ
رحابٌ ونحنُ الناعمونَ بفضلها تفيضُ هناءً للقلوبُ وتجلبُ
تكاملَ ما نرجوهُ نهجاً وغايةً فمنْ حادَ عنهُ فهو للجهلِ أقربُ
ويبتهل الشاعر إلى ربه فيقول:
إلهي أفضتَ الخيرَ ثَبّتْ قلوبنا على الشكرِ لانكبو ولا نتقلّبُ
رحابُكَ دنيا للعطاءِ تَحوطُنا رحابكَ جناتٌ لمنْ يتقربُ
وفي تسبيحة صدق المقال وحسن التوجه يُسطّرُ فلسفته في الحياة فيقول:
إذا صَدَقَ المقالُ نَعُمْتُ بالاً وأحسنتُ التدبرَ والفِعالا
وأحسستُ الحياةَ تفيضُ نبلاً وتحفزني نشاطاً وانتقالا
وبانَ لِي الطريقَ على استواءٍ ولا أجدُ التواءً واختلالا
أسيرُ لغايتي في عزمِ واعٍ فلا أخشى انزلاقاً وانفعالا
وأشعرُ أن طيبَ الودّ أضحى يُطوّقني ويَفسَحُ لي المجالا
وصِدْقُ القولِ يفضُلُ كلّ أمرٍ وطاعتُهُ تطيبُ لنا امتثالا
وكلما استرسل شاعرنا في الكلام يطارحنا الحِكم ويشاطرنا الجمال يعود من جديد الى مناجاة الاله:
إلهي شطّتِ الاقوالُ فينا ولا الافعالُ شارفتِ المِثالا
وما سِرنا معَ الحسنى ولكنْ أثرْنا في تخاطبنا الجدالا
فما حُكْمُ الحياةِ إذا عَرَانا صراعٌ كادَ يُردينا وبالا
أنمضي في انفعالٍ ليتَ شِعْري ولا نُلقِي لحسنِ الرأي بالا
ونحيا حيرةً جلبتْ بلاءً وما خضنا المعاركَ والنِزالا
وفي قصيدة رشيقة تصلح لاناشيد أبي الجود و أبو راتب يقول بعنوان يافؤادي:
عِشْ بالتفاؤلِ يافؤادي والزمْ سبيلكَ للرشادِ
ومن التأمّلِ مستريحَ البالِ فياضَ الودادِ
واعمل بصمتِ المؤمنينَ الصابرينَ على العوادي
هيهات يُجدي الانفعالُ إذا تحركَ في اتِّقادِ
لابدَّ أن يخطو الفتى بعدَ التّدبرِ في اعتدادِ
لاينثني عما يودُّ كأنهُ ليثُ البوادي
ويتابع شاعرنا مخاطبة فؤادِه وما أظن إلا أنه يخاطبنا جميعاً، نحن إخوته وأحباءه وأصدقاءه فيقول:
عِشْ يا فؤادي مؤمناً والجأ إلى ربِّ العبادِ
هو من يقيكَ ويصطفيكَ فكنْ لهُ رهنَ القيادِ
وانهضْ بكلِّ عزيمةٍ واعملْ لعمرانِ البلادِ
ورضى المهيمنِ سِرُّ ما تلقاهُ من طيبِ الحصادِ
وإذا زللتَ أو ابتُليْتَ فزِدْ نشاطكَ للجلادِ
واعلمْ بأنّ الحادثاتِ تنيرُ دربكَ للسدادِ
والليلُ مهما طالَ ينبلجُ الضياءُ من السوادِ
ولقد طال الليل حقا، ونحن بانتظار وعد الشاعر بانبلاج الضياء من غياهب هذا السواد الحزين الذي يلف عالمنا المجنون، وما أظن وعده إلا حقا، إنها سنة الله تعالى ووعده الصادق بأن الليل يتبعه النهار، وإن مللنا، وإن تمطى الانتظار.