غسان كنفاني
غسان كنفاني
(1936 – 1972 )
زهور في حدائق جرداء
أحمد الخميسي . كاتب مصري
عاش غسان كنفاني ستة وثلاثين عاما وغاب خمسة وثلاثين لكن العطاء المتنوع خلال عمر قصير بترته رصاصة في صيف 72 مازال يثير الدهشة : قصاص ، وروائي ، ومسرحي ، ومقاتل في الجبهة الشعبية ، وصحفي ، وكاتب سياسي ، ورسام ، جرب النحت ، والشعر ، غير ما تركه من دراسات . كانت حياته القصيرة وإبداعه أقرب إلي عاصفة من القدرة على التعبير عن الكرامة والوطن خرجت من مخيمات نكبة 1948، وحملت معها إلي العالم كله صورة تلك المخيمات وقضية شعب سدت أمامه كل الأبواب ولم يبق له سوى دخول التاريخ برأس ثابت كالرمح، لأن الوطن لا يستبدل بشيء آخر أيا كان . يقول كنفاني في رسالة له : " حاولت منذ البدء أن أستبدل الوطن بالعمل ، ثم بالعائلة ، ثم بالكلمة ، ثم بالعنف ، ثم بالمرأة . وكان دائما يعوزني الانتساب الحقيقي .. كنت أريد أرضا ثابتة أقف فوقها ، ونحن نستطيع أن نخدع كل شيء ما عدا أقدامنا ، إننا لا نستطيع أن نقنعها بالوقوف على رقائق جليد هشة معلقة بالهواء ". الأقدام التي سارت أول الأمر في عكا حين ولد غسان عام 1936 واصلت سيرها دون توقف ، إلي دمشق ، والكويت ، وبيروت ، إلي أن فجرتها شحنة ألغام وضعت داخل سيارة الكاتب والمبدع والمقاتل . ولد في أسرة فلسطينية فقيرة أرغمها احتلال 1948 على النزوح إلي دمشق ، فأخذ هناك وهو صبي يبيع في الشوارع الأكياس الورقية ، ويكتب الشكاوي بقروش أمام أبواب المحاكم إلي أن أنهى تعليمه ، فتزوج من بلده عكا ، وشد رحاله إلي يافا ، ومنها إلي الكويت عام 1956 . هناك نشر أولى قصصه " القميص المسروق " ، ثم رحل إلي بيروت عام 1960 ليعمل في جريدة " الحرية " التي كان يصدرها القوميون العرب ، إلي أن شارك عام 1969 في تأسيس مجلة الجبهة الشعبية " الهدف " وترأس تحريرها . ظهر غسان كالومضة في اللحظة التي خيم فيها ظلام الهزيمة الشامل على المنطقة بعد النكسة ، وعرف بشعراء المقاومة ، وقفز بالقصة القصيرة والرواية الفلسطينية إلي ذروة فنية وفكرية لم تعرفها من قبله ، وكان في ذلك كله نموذجا نادرا في تاريخ الأدب العربي لمثقف لا يفصل بين كلمته وموقفه ظل بسيط من التردد . أحدثت روايته " رجال في الشمس " ضجة حين ظهرت عام 1963 وشحنت الشعب الفلسطيني بفكرة المقاومة قبل بزوغها بسنوات ، وفيها يؤكد غسان أن العالم كله صهريج مغلق للموت الفلسطيني ، وأن الباب الوحيد المفتوح ليس للهرب ، ولكن للبقاء في الوطن ومقاومة الاحتلال . وهزت الرواية في حينه ضمير جيل كامل من أبناء الستينات في مصر وغيرها . سبق ظهور روايته مجموعتان قصصيتان " موت سرير رقم 12 " عام 61 ، و " أرض البرتقال الحزين " عام 63، وفيهما صور غسان أحوال الفلسطينيين في الخارج والداخل ، وترك ثلاث مسرحيات هي : " الباب " و " جسر إلي الأبد " عام 1965 ، و " القبعة والنبي " في 67 ، ثم أضاف إلي إنتاجه الروائي ثلاث روايات أخرى هي " ما تبقى لكم " و " أم سعد " ، وعائد إلي حيفا " ، علاوة على أربع كتب هامة حول " الأدب الصهيوني " ثم الأدب الفلسطيني تحت الاحتلال " ، " المقاومة ومعضلاتها " ، وأخيرا " ثورة 1936 " .
وخلال ذلك كله كان هم غسان الأول هو تأريخ المعاناة الفلسطينية ودفعها لتجاوز ألمها بحيث تستعيد بلادها . يقول غسان في رسالة له : " سأظل أناضل لاسترجاع وطني ، لأنه حقي وماضي ومستقبلي الوحيد ، لأن لي فيه شجرة وغيمة وظل وشمس تتوقد وغيوم تمطر " .
متى وكيف وأين استطاع غسان كنفاني أن ينجز كل ذلك وعلى هذا المستوى الأدبي والفكري الرفيع ؟ . يقول من عرفوه إنه كان يقضي طيلة اليوم في عمل شاق ما بين الاجتماعات الصحفية ، والسياسية ، ومسئولياته كعضو في المكتب السياسي للجبهة الشعبية ، وفقط عندما ينتصف الليل ، يخلو إلي نفسه في حجرة مكتبه في الجريدة ، ليكتب ، إلي أن وضعت الموساد الإسرائيلية عبوة ناسفة زنة تسعة كيلوجرام في سيارته تحت مقعده ، وحين خرج من بيته في الحادية عشرة صباح السبت 8 يوليو واستقل سيارته انفجرت العبوة أطارت أشلاءه في الجو مع لميس الصبية الصغيرة ابنة أخته. وكان آخر ما قاله غسان قبل مغادرته البيت : " أعدوا لنا طعاما شهيا " ! وها هي ذكرى رحيله تحل كالزهور في حدائق جرداء لتعيد إلي الأذهان صورة ومعنى الكاتب والمثقف حين يغدو عاصفة.