الدكتور عبد الكريم اليافي
الدكتور عبد الكريم اليافي
نشأ في طفولته مهملا بين أخوته إذ كان أقل منهم ذكاء عمليا. فلم يكن أهلوه يكلفونه شراء سلعة أو شيء ما من حوانيت الحي القريب. ولكنهم كانوا يحبونه لبساطته ولحساسيته المفرطة ولحيائه العميق الذي كاد يكون مَرَضِيّا.
لما وصل إلى سن التعليم أرسله والده إلى الكتّاب القريب في الحي.
وكان شيخ الكتّاب مشهوراً بشدته وقسوته كما شهر بمهارته في فنون الخط العربي.
وقد أسبل هذا الجو القاسي الشديد على دماغ فتانا سترا صفيقا دون الوصول إلى تهجّي الأبجدية التي كانت مكتوبة بخط الشيخ.
وإذ لم يستفد شيئا في هذا الكتّاب نُقل إلى كتّاب أبعد يختلف عن الكتّاب السابق في أن شيخه كان دمث الحاشية هيّن الإدارة تسود الجو فيه حرية واسعة.
فتُرك هو وشأنه في هذا الجو الحر. وأخذ ينظر إلى زملائه المتقدمين في حسن الخط والكتابة ويقلدهم حتى صار خطه في الجودة مثل خطوطهم فنفسوا عليه هذا التقدم السريع وهو أصغر سنا منهم. وكأنه شعر بما تكنه صدورهم فلم يحفل لذلك ولا ألقى إليه بالا. وأظن ذلك كله في أوائل العشرينيات من هذا القرن. وشاع في المدينة افتتاح المدارس الرسمية في عهد الاستقلال. فرأى أبواه إرساله إلى مدرسة الإرشاد الابتدائية. وكان قد انغمس قبلاً في الإلمام بجوانب التراث في جوّ البيت ليالي الشتاء حين يجلس الأهل بعد العِشاء والعَشاء فيقرأ أحد إخوته أضاميم وكتبا من السير الشعبية ويتذكر خاصة سيرة عنترة بن شداد وسيرة علي الزيبق. وإلى جانب ذلك حفظ أسماء الأنبياء واستظهر بالسماع بعض آيات القرآن الكريم ومواقعها في بعض السور, كما وصل إلى سمعه أخبار الشعراء والعلماء وأصحاب المذاهب الدينية وغيرهم في ذلك الجو الأهلي. وكان يرغب في سريرة نفسه أن يكون واحداً منهم شاعراً حيناً وعالماً حيناً آخر وفيلسوفاً طوراً وكاتباً مشهوراً تارة أخرى. أما النبوّة فقد فهم أنها ختمت نهائيا. ومع قوة جسمه الطفولي كان يعجب بعنترة وبأخيه شيبوب ولكن لم يكن يريد أن يكون بطلا يقاتل الناس. كان يحبّ الانفراد والسلام ويكره الزحام والخصام وتهتزّ مشاعره لما كان فكرا عاليا وعاطفة سامية. وكان يستمع إلى ما كان يراه بعض الناس من رؤى في المنام.
ويذكر في شبابه أنه حين كان في سن الطفولة رأى فيما يراه النائم الرسول صلى الله عليه وسلم. فأسرع يقبّل يده وهو في أرض قفر ليس فيها نبات فقذفه الرسول إلى أرض بجانبها خضراء وارفة بالنبات الغض. ويقول هو عن نفسه: منذ ذلك الوقت تفتّحت له آفاق الفهم. فكان دماغه بعدئذ يلتقط أيّ التقاط كل ما يسمع من فوائد علمية وأدبية.
حب الشعر والأدب
في عطلة الصيف بعد الصف الثالث الابتدائي وضعه والده في مدرسة خاصة لا تغلق أبوابها في العطلة هي مدرسة طاهر أفندي في جورة الشياح كانت تعلم اللغة الفرنسية إلى جانب اللغة العربية وبعض الدروس العلمية. وكان بين معلميه نخبة من الأدباء والشيوخ يذكر منهم الشيخ عبدالكريم أتماز السباعي مدرس النحو والأديب الشاعر محيي الدين الدرويش والأستاذ عبدالرزاق الدرويش كما كان يختلف إلى المدرسة الأديب الشاعر الحمصي نبيه لامة الذي آثر الهجرة بعد حين إلى أمريكا الجنوبية. وفي هذا الجو الأدبي العربي دخل قلب الفتى حبّ الشعر والأدب.
كان الشيخ السباعي من المشهورين في تعليم النحو. يدرّسه في حلقات الجامع الكبير بحمص فوق تدريسه له في تلك المدرسة. فكان ذلك اليافع يتملك في السماع عليه شذرات من شذور الذهب) ويشتفّ قطرات من (قطر الندى) وهما الكتابان لابن هشام اللذان كان يعتمدهما الشيخ في تدريسه للتلاميذ الصغار في المدرسة الابتدائية.
وكان الأستاذ عبدالرزاق الدرويش يعتمد في درس القراءة كتاب (أدب الدنيا والدين) للإمام الماوردي وهو غير مشكول وذلك في الصف الرابع الابتدائي.
وعلى التلميذ الذي يأتي دوره في القراءة ألا يلحن. كل ذلك والفتى يلتقط صامتا وبصورة عفوية فوائد اللغة والأدب والشعر. أما هذا الشعر فكان يتدفق غدقاً على لسان محيي الدين الدرويش, واشتهر معه إذ ذاك شاعران شابان كانا كوكبي الشعر في حمص هما رفيق الفاخوري ورضا صافي. ولم يمض قليل من الزمن حتى أدرك معلمو الفتى ورفاقه حسن انتباهه وقوة حافظته فكان المعلم إذا سأل التلاميذ إعراب لفظ طلب إليه أن يبقى ساكتا فلا ينطق ثم يسأله فيجيب. ثم غدا الفتى إذا سئل استحيا من أن يجيب تجاه رفاقه فكان يتظاهر بالصمت وعدم المعرفة. وتلك خلة بقيت ملازمة له طوال حياته. فهو يكره التبجح والتنفج وإنما كان يكفيه أن يعرف أنه يعرف.
يتذكر أن الشيخ عبدالكريم السباعي لما رآه يختلف في تفرده عن بقية التلاميذ مع أُلْفته لهم ناداه فقال له: سوف تبعث أمّة وحدك كما جاء في الأثر أن سيدنا إبراهيم سوف يبعث أمة وحده. لم يفهم الفتى هذا التشبيه ولكنه بقي يرنّ في ذاكرته حتى اليوم.
وساقت صروف الزمان بعد حين إلى المدرسة معلما للرياضيات أتى من فلسطين فكُلِّف تدريس التلاميذ هذه المادة. وكان هؤلاء في الصف الخامس الابتدائي. والغريب أنه بدأ معهم بتدريس الجبر فعلمهم إتقان التراكيب الجبرية والمعادلة الأولى. وكان ذلك فرصة نادرة للفتى إذ انشرح صدره للرياضيات إلى جانب اللغة والنحو والأدب.
ولما تقدم إلى فحص الشهادة الابتدائية لا يتذكر ما كتب ولا ما أجاب.. ولكنه قيل له إنه نال الشهادة بدرجة جيد جدا وكان الأول فيها.
دراسته في تجهيز حمص أي في المرحلتين الإعدادية والثانوية شيء آخر. إنه يملك مفتاحين مهمين سحريين لجميع الدراسات إنسانية كانت أم موضوعية, نقلية أو عقلية. وهما ملكة البيان العربي وملكة التعبير الرياضي, فسهّل ذلك له كل عسير, وهوّن كل صعب, وذلل كل حرون.
ويذكر مرة أن الأستاذ المرحوم ناجي أديب خريج الأزهر الشريف دخل على الصف الثامن الذي كان الفتى من تلامذته وهو يسائل هل حسان مصروف أو ممنوع من الصرف? فأجابه الفتى فورا: هو مصروف إن كان مشتقا من الحسن وممنوع من الصرف إن كان مشتقا من الحسّ لزيادة الألف والنون. ولما دخل إلى فحص الاستظهار الشفهي في آخر السنة الدراسيةوضع له الأستاذ الدرجة الكاملة وامتنع عن طرح أي سؤال عليه قائلا: لا حاجة إلى فحص من يعرف إعراب حسان.
روح الملح
كان الفتى اليافع شغوفا أيضا بالعلوم. في البيت الذي نشأ فيه فسقية مصنوعة من الرخام كما هي أكثر البيوت العربية القديمة التي تنظر إلى الماء في البناء كالدم في الجسم. وقد غشّى مرور الزمن رخامها بطبقة كامدة حجبت لونه الأبيض الناصع.
جاء بعض العمال لإزالة تلك الغشاوة ومعهم سائل هو (روح الملح) يفركونها به روح الملح هذا اسم لحمض كلور الماء التجاري (HCI) وكان الناس في ذلك العهد يستوردون الأسبرين حبّات مرصوفة في أنبوب زجاجي غطاؤه من التوتياء (الزنك) فعمد الفتى وهو في الصف الثامن الإكمالي بعد أن درس خواص غاز الهيدروجين إلى إفراغ الأنبوب من حبّات الأسبرين ومَلئه بسائل روح الملح وتنكيسه على الحوض فجعل الحمض يأتكل الغطاء المعدني ويسقط على الحوض نقطة نقطة والغاز ينطلق إلى أعلى الأنبوب المنكس حتى فرغ الأنبوب من الحمض وعندئذ جاء بثقاب أشعله وقرّبه من فم الأنبوب فاشتعل الغاز لهبا وكوّن قطرة صغيرة من الماء. تلك كانت طريقة طلاّبية لاستحضار غاز الهيدروجين وبيان احتراقه وتكوينه حبّة صغيرة من الماء باتحاده بالأوكسجين الذي في الهواء.
كان دائما صديقا لزملائه يعاونهم. ويذكر مرة أن أستاذ الرياضيات المرحوم عبد المجيد الصمادي وكان ضابطا في الجيش العثماني متقاعدا أعطى الطلاب وظيفة في الرياضيات بها بعض الصعوبة. فحل الفتى مسائل الوظيفة وطلب إليه رفاقه أن ينقلوها عنه إشفاقا من الأستاذ فقدمها إليهم راضيا. ولما راجع الأستاذ الوظائف أعطى التلامذة أصفارا لأنهم نقلوا وأعطاه صفرا لأنه نقّل.
كان ذلك في زمن الثورة السورية الكبرى. ويذكر أنه استيقظ ذات يوم شتوي وتأهب للذهاب إلى مدرسة التجهيز قبل الساعة الثامنة صباحا فإذا بفرقة من الجيش الفرنسي مؤلفة من جنود السنغال تحاصر حي باب الدريب وتحت المئذنتين وباب السباع بحثا عن الثوار. فأخذ هو ووالده ورجال الحي وفتيانه وشبابه إلى المرج وراء البيوت وفُتِّشت البيوت وفُتِّشوا وأوقفوا مدة من الزمان ثم تركوا.
وكان قد وصل إلى الثوار خبر التفتيش فأخذوا حذرهم واختفوا عن الأنظار. وكثيرا ما كان الناس يسمعون في غسق الظلام وآناء الليل طلقات الرصاص تترامى وتتجاوب في سماء الحي, ويتحدث الناس عن بطولات نذير النشيواتي وخيرو الشهلا ورفاقهما إذ ذاك.
وللفتى اليافع أخ يكبره يدرس العلوم الدينية على شيوخ يعقدون حلقات في زوايا المساجد أو في غرف خصصتها الأوقاف لهم يدرّسون العلوم العربية والدينية تدريسا حرا لا جر فيه وإنما هو عبادة وتقرب من الله ومأثرة عالية من مآثر التراث العربي والحضارة الإسلامية. فكان الفتى أول الأمر يسأل أخاه عن مشكلة عنّت له في الإعراب أو في اللغة. ثم رأى نفسه في العطلة الصيفية يحذو حذو أخيه فيستيقظ في الصيف مع الفجر فيصلي صلاة الصبح وينظر لمحات إلى السماء يتأمل النجوم تزداد تألقاً وتوهجاً وهي على وشك التغوّر والتواري, ثم يسرع من بيته في حي تحت المئذنتين إلى جامع بازرباشي لدى أول السوق ليصعد الدرج ويتحلق مع بعض الطلاب حول شيخهم المرحوم أحمد صافي. وقد وجد في دروس هذا العالم الجليل المتميز في علوم الآلات أي اللغة والنحو والتفسير والبلاغة والنحو والمنطق وما إلى ذلك بغيته المنشودة فكان يستوعب كل شاردة وواردة ثم يعود بعد متوع الشمس إلى البيت فيستذكر ما وعاه وكأنه القوت المرجو والزاد المطلوب ثم يطالع ما يعن له من كتب أخيه مشغوفا بالمطالعة في الكتب الصفر والبيض وما تشتمل عليه من متون وحواش وتعليقات وشعر.
علاقة بالأدب الفرنسي
ويتذكر أي تذكر أنه لما وصل إلى صف البكالوريا الأولى تمثل بقول عدي بن الرقاع في مجال اللغة والنحو والأدب:
وعلمت حتى ما أسائل واحدا عن علم مسألة لكي أزدادها وكان الفتى في الصف العاشر حين خطر لأستاذ اللغة الفرنسية السيد أوزو أن يقيم شبه ندوة مسائية بسيطة في المدرسة مرة في الأسبوع يجمع فيها بعض المعلمين والمعلمات في المدارس الابتدائية والتلامذة المتقدمين في مدرسة التجهيز ويعرض عليهم قصائد من الشعر الفرنسي في شتى الاتجاهات ولاسيما الرومانسي والبرناسي والرمزي.واختاره الأستاذ بعد أن يشرح القصيدة واتجاه الشاعر ليكتب وظيفة في هذا الموضوع. ثم يلقي عليها الأستاذ لمسة أخيرة ويطبعها على الجلاتين (لم تكن إذ ذاك آلات النسخ الحديثة جاهزة) ثم يوزعها على الحضور في الأسبوع التالي.
وفي هذه الأمسيات الأدبية تعرف الطالب - على قرب - ألفريد دومسّي وألفريد دوفينيي وفيرلين ولو كنت دوليل وسولّي برودوم وشارل بودلير وغيرهم من نجوم الشعر الفرنسي وكان ذلك ممتعا له أي إمتاع في ريعان القوة والشباب.
واشتدت علاقته بالأدب الفرنسي إذ ذاك فشرع الأستاذ يعيره من مكتبته أو مكتبة المدرسة بعض الروايات الأدبية فطالع في أثناء السنة ببيرلوتي وهنري بوردو وأندري موروا وبول بورجي وأنتول فرانس وأمثالهم. كانت مطالعاته تتم غالباً في الصباح قبل الانطلاق إلى المدرسة ولاسيما في شهر رمضان الذي كان دوره إذ ذاك في الشتاء فكان يصومه. يستيقظ قبل الفجر للسحور ثم يجلس بعد الصلاة في غرفته إلى الطاولة مع مصباح الكاز (لم تكن الكهرباء موجودة) فيقرأ حتى يستفيض ضوء الصباح وتطلع الشمس فيتهيأ للذهاب إلى المدرسة. ومهما قيل في روايات الكاتب الفرنسي الدبلوماسي ببير لوتي فإنها كانت أكثر ماجذبه وأثّر في نفسه, إذ كان يصف فيها استانبول ومجالي حضارتها وجوانب البسفور والقرن الذهبي كما كان يصف بمحبة جوانب من الحياة الإسلامية كحياة الناس هناك في رمضان وأذان المؤذن وتنبيه المسحر على الطبلة في آخر هزيع من الليل إلى جانبه لُمَعٍ من حياته العاطفية حقيقة أو خيالا.
وكان من أساتذته في اللغة الفرنسية المرحوم وجيه كرامة. أشار عليه أيضا أن يطالع تولستوي ودستويفسكي وتمّ لقاؤه للأدب الروسي الرفيع على طريق اللغة الفرنسية فقرأ إذ ذلك أنّا كارينين ثم الجريمة والعقاب وتعلق أيما تعلق بالأدب الروسي العظيم.
وكان اسمه في لوحة الشرف متفردا في كلتا المرحلتين الإعدادية والثانوية ست سنوات. وكانت مدرسة التجهيز تكافئ أبناءها الأوائل بجوائز من الكتب في كل مادة من مواد الامتحان. فكان يحمل آخر السنة عبء حِمْل من الكتب جوائز في جميع المواد.
كل شيء إذ ذاك كان يدفعه إلى أن يكون أديباً. وبدلاً من أن يدخل القسم الأدبي من البكالوريا السورية دخل القسم العلمي. ثم بعد نجاحه المبرّز لزم أن يكمل القسم الثاني من البكالوريا أي الصف الثاني عشر. ولم يكن هذا الصف قائما في حمص فانتسب إلى مكتب عنبر بدمشق تلميذا داخليا ليهيئ قسم الرياضيات الذي يتمم القسم العلمي بدلاً من قسم الفلسفة الذي يتمم القسم الأدبي.
وانتهت السنة الدراسية بفوزه أول على جميع طلاب سوريا وبحوزة درجات لم يحرزها أحد من قبل في شهادة نهاية الدراسة الثانوية.
من العلوم للآداب
انتسب إلى كلية الطب فدرس الشهادة التمهيدية التي كانت تسمى P.C.B أي (ف.ك.ب) أوائل حروف الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا. ثم السنة الأولى من الطب بما فيها من تشريح وفيزيولوجيا ونبات وحيوان وكيمياء وفيزياء طبيتين وتشريح مرضي وكان الأول في كل سنة. وكان أساتذته ينظرون إليه بعين التقدير. وقد أحب هذه الدراسات. ولكنه كان يطمح أن يستقيها من مصادرها ومناهلها الأولى, ولاسيما أن الإضرابات كانت تتعاقب في بلاد الشام, ويتذكر إضراب البلاد الذي استمر نحو ثلاثة أشهر عام 1936 عقب المفاوضات المخفقة بين الكتلة الوطنية والدولة المنتدبة.
وجرت بعد ذلك مسابقة إيفاد إلى فرنسا لدراسة العلوم ففاز فيها. (وكان يضمر في نفسه استكمال دراسة الطب والعلوم جميعاً). ووصل مع رفاقه الأربعة الذين فازوا في المسابقة في نهاية نوفمبر عام 1937 إلى باريس عاصمة العلم والنور إذ ذاك. كانت لغته الفرنسية تخوله الانتساب فوراً إلى جامعة السربون فعكف على الدراسة ولم يجد حرجاً في متابعتها نظرياً وعملياً. فلم تمض ثلاث سنوات إلا وقد نال شهادة الإجازة في العلوم عام 1940 ثم إجازة الآداب عام 1941, إذ انتسب إلى كلية العلوم وكلية الآداب معاً.
إن مرحلة دراسته في فرنسا كانت مرحلة قاسية ومفيدة معاً. لقد نشبت الحرب العالمية الثانية في سبتمبر عام 1939. وحياة الحرب بما فيها من انقطاع عن الأهل ومن تقنين ونقص في الأنفس والخيرات ومن تعتيم وارتباك ومخاوف وسوق سوداء لا بد من أن تترك آثارها في نفوس الناس وفي سلوكهم. ولكن تلك المرحلة كانت خصيبة لمن شاء من الطلاب أن يتابع دراسته ويغرف من مناهل العلم والأدب.
وهكذا انتحى طالبنا شُعَب الدراسات الفلسفية وأتيح له أساتذة أكفاء كانوا مشاعل الفكر في أوربا لا في فرنسا وحدها. كان بعض هؤلاء الأساتذة ولاسيما غاستون بشلار من جهة والمستشرق الكبير ماسينيون من جهة ثانية حين عرفوا ثقافة هذا الطالب السوري ومزاياه خصُّوه بنوع من الرعاية لا ينساها أبدا. وهكذا استطاع أن يقطف بعد إجازتي العلوم والآداب خمس شهادات في الدراسات الفلسفية العليا وأن يهيئ أطروحة الدكتوراه في الفلسفة بمعدل أكثر من شهادتين في السنة الواحدة. ومن المناسب أن نذكر أن تصنيفه كان الأول في شهادة علم الجمال وفلسفة الفن التي كانت جامعة باريس وحدها متخصصة بها.
ولكنه مازال يذكر الأيام الدُّكْن والليالي السود حين مرضت عيناه وقد فاجأه الفحص عام 1942. ولما ذهب يستشير الأطباء تحيروا في المداواة إذ لم يعرفوا سبب المرض. فقدَّمَ الامتحان وكان يشكو عيناً واحدة فغدا يشكو كلتا العينين. كان يكتب مباشرة على الورقة المبيضة دون أن يبصر بالتدقيق ما كان يكتب, ولكنه كان يعلم ماذا يكتب. ثم وقع بين يدي طبيب من أصل ألزاسي وهو الدكتور كَلْت. كان طيب الأخلاق عميق المعرفة فأدرك سبب المرض وهو سوء الحالة الصحية لرداءة التغذية أي السَّغَل زمن الحرب مع إدمان الدراسة. فحوّله إلى طبيب خاص بالأمراض النادرة الغريبة فكان يذهب إلى مشفاه مرتين في الأسبوع ليتلقى في الوريد خلاصة السموم التي كانت تجلب من ألمانيا. تزاد الزرقة بمقدار ضئيل جدا كل مرة لعلها بالتدريج تثير جملتها مقاومة خلايا الجسم. ومرة أخطأ الطبيب المعاود فأعطاه جرعة تتجاوز المقدار المحدد, فقضى ليلة لا ينساها كابد فيها الحمى والهذيان والرؤى الكابوسية لم يصدّق أنه سيعيش بعدها.ولكن البُحْران انفرج في الصباح. وكانت سيدة تختلف إلى المشفى تعالج المعالجة نفسها فبدأت تعمى. ولكنه أفاد كل الإفادة أن أمضى ثلاثة أشهر صيفية في قرية صغيرة تدعى سمبادل في جبال الكتلة المركزية متعرضا مرة لتفتيش جنود الاحتلال ولتفتيش الثوار مرة مقابلة. وكان مع ذلك يرجو من الله أن يردّ إليه بصره كما رده من قبل إلى يعقوب. وقد قُيِّض له بحمد الله الشفاء وسلامة البصر.
زرقة السم
كان يذهب في الصباح إلى المشفى ليتلقى زرقة السم ثم يحضر خاصة بعد الظهر دروس الفيلسوف بشلار بالسربون في بحوث فلسفة العلوم وفي بحوث الخيال الأدبي.
ثم ينصرف إلى غرفته مساء في الحي اللاتيني ليقاوم تأثير تلك الزرقة السمية في جسمه. كانت هذه طريقة المداواة في كل مرض مستعص غامض وذلك قبل كشف المضادات الحيوية.
وكم ليلة فوق مكابدة المرض أيقظت صفارات الإنذار السكان بالغارات الجوية. وقد اعتادها الناس, حتى إن الذين يسكنون في الحي اللاتيني كانوا يعلمون أن حيهم حي الطلاب والجامعات ليس هدفا للغارات. فكان يقف إلى نافذةغرفته وينظر منها إلى قنابل الطائرات المغيرة تتهاوى على بعد من السماء كالشهب وإلى قنابل المدافع المضادة تتصاعد من حديقة اللكسمبرج حيث أقيم فيها بعض تلك المدافع. كان ذلك المشهد رهيباً ذكره ما جاء وصفه في أهوال القيامة حين تتشقق السماء وتنكدر النجوم متهاوية متساقطة.
كانت عزيمته على الدراسة في تلك الأجواء مع مرضه مَلْحَمةً وأيَّ ملحمة.
ورجع حين وضعت الحرب أوزارها صيف 1945 مع رفاقه إلى الوطن الحبيب ويتذكر اغريراق مدامعه حين اقتربت الباخرة (مراكش) من شواطئ لبنان ولمح وراء سِيفِ البحر تلك الجبال المنتصبة الخالدة حارسة الأهل والتاريخ والتراث بعد انقطاع ثمانية أعوام ذاق فيها المرّ وجنى فيها المفيد.
وقد وقف, وهو يخفي مدامعه تحت جفونه, يتمثل حين رأى من أعلى البحر جبال لبنان وقراه الحالمة في أحضانها وسفوحها ببيتي عمر بن الفارض:
يا صاحبي هذا العقيق فقف به متوالهاً إن كنت لست بواله وانظره عني إنّ طرفي عاقه إرسال دمعي فيه عن إرساله ثم دخل في عداد هيئة التعليم بكلية الآداب عام 1947. وكان قد حال على إنشائها حول كامل. اكترى غرفة في ثَويّ (بانسيون) بمزرعة الشهبندر, ولبث فيه خمس سنين. وكانت غرفته الواسعة تضيق بكتبه. عُهد إليه أولاً في تدريس مادة علم الاجتماع في السنة الأولى وكانت هذه المادة جزءاً من شهادة الثقافة العامة, كما عهد إليه في تدريس مادة علم الجمال في السنة الثانية في قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية. وكانت هذه المادة تدرس لأول مرة في سوريا, بل في العالم العربي.
وهكذا طفق يرفع في كلية الآداب بنيان علم الاجتماع ودعائم علم الجمال, كان يستيقظ الساعة الخامسة من صباح كل يوم ويعكف على إعداد المواد التي تعلمها بلغة أجنبية ينفي سفسافها وينقل صحيحها وجيدها إلى اللغة العربية بلغة واضحة مشرقة. ثم يرجع في العطلة الصيفية إلى بيت أهله في حي تحت المئذنتين ويعتكف فيه ما استطاع باحثاً عن القوت الروحي الذي يسعى أن يزود به طلابه في السنة التالية. كان يلتمس من خلال الدراسات الاجتماعية الأجنبية أسساً علمية ومعايير عددية يستند إليها فأدى به ذلك إلى بحوث علم السكان أي الديمجرافيا.
وكان أوّل مَن ألّف في هذا الموضوع وأقام دعائمه في اللغة العربية, وكتب في مقدمة الكتاب الذي ألّفه أنه جعل هذا العلم الحديث عربياً في بيانه بل في صميم بنيانه. كذلك نشر كتابه (تمهيد في علم الاجتماع). وعنوان هذا الكتاب ينمّ على التواضع لأنه في موضوعه موسوعة تلخص تاريخ التفكير الاجتماعي وتلمّ بمختلف المذاهب الاجتماعية. ولهذه المزايا كان فريق من الطلاب الذين يذهبون إلى أوربا لاستكمال دراستهم يستصحبونه لأنه يدعم ثقافتهم وينير ما يحتاجون إليه فيها.
هذا, وكان من ثمرات تدريسه مادة علم الجمال ثلاثة أسفار وهي (دراسات فنيّة في الأدب العربي) و(بدائع الحكمة) و(شجون فنية).وفي السنة الثالثة بقسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية قام بتعليم فلسفة العلوم أو ما يسمى في اللغات الأجنبية بالابستمولوجيا. وغدا هذا التعليم مادة كتابه (الفيزياء الحديثة والفلسفة) أبان فيه أحدث التيارات الجديدة في الفيزياء مع ما ابتعثته من تيارات فكرية طريفة في الفلسفة. وكان هذا الكتاب رائداً أوّل في هذا الحقل باللغة العربية. ومازال يلتمسه الباحثون في هذا المضمار على الرغم من نفاده. وقد زاد عليه فصولاً وطبعه طبعة جديدة بعنوان (تقدم العلم).
معاجم ودراسات
وقد اتسعت بحوث علم السكان أيّ اتساع في النصف الثاني من القرن العشرين ونشأت مع اتساعه مصطلحات كثيرة أجنبية أدخلت بعض الحيرة في اتساعها على الباحثين في شتى اللغات. فسمّت منظمة الأمم لجنة لوضع معجم يحدد دلالات تلك المصطلحات نشرته بعدئذ في اللغات الثلاث الأولى للمنظمة وهي الإنجليزية والفرنسية والإسبانية. وقد أطلعه صديق فرنسي عضو في اللجنة على النسخة الوقتية التي أعدت لهذا الشأن والتي غدت أساس المعجم الديمغرافي المتعدد اللغات.
واقترح هو حين سُمّي عضواً في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية في زمن الوحدة مع مصر وضع النص العربي لذلك المعجم نظراً للحاجة إليه. وقام هو والمرحوم الدكتور عبدالمنعم الشافعي أستاذ الإحصاء بوضع النص العربي وسبقا بذلك اللغتين الروسية والألمانية وغيرهما. وقد رأت أن تحذو حذو اللغة العربية اللغات التي لها علاقة بالحضارة العربية الإسلامية كالتركية والأردية والأندونيسية. ثم بعد سنين ظهر نص جديد للمعجم في اللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية.
فكلفته اللجنة الاقتصادية لغربي آسيا أن يضع النص العربي له, فأتم ذلك وغدا النص العربي يقوم مزهوّاً بلغته السليمة المبينة إلى جانب النصوص الأجنبية الرسمية المتعددة. هذا لم يجد واضع النص العربي وعورة ولا حرجاً في العثور على مصطلح عربي يقابل المصطلح الأجنبي. وقد زاد في حواشي الفقرات ما يتعلق بعلم السكان من الألفاظ العربية الأصيلة الداخلة في الثقافة والتراث العربيين.
وفي السنة الرابعة من قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية أدخل بحوث التصوّف وتأملاته العميقة في نطاق الفلسفة العربية الإسلامية الواسعة ودرّس نصوصاً للصوفية الأوائل الروّاد كالحلاج والحارث بن أسد المحاسبي والجنيد ثم عمد إلى تدريس أهم كتب التصوّف وأصعبها وهو (فصوص الحكم) للشيخ محيي الدين بن عربي. وكم كانت دهشة الطلاب حين كانوا يطلعون على درر الفكر العربي الإسلامي في مقابل ما ألمّوا به من خلاصات الفلسفة الأجنبية.
هذا شَدْوٌ عن تعليمه في مختلف سنوات كلية الآداب. ولقد درّس قضايا الفيزياء الحديثة ومشكلاتها النظرية طوال سنين في كلية العلوم ودرّس أيضاً طوال سنتين في كلية الشريعة غبّ إنشائها علم الاجتماع والفلسفة الإسلامية والمنطق.
وكذلك درّس في كلية الصيدلة مادة الإحصاء الحيوي سنتين, ودرّس في كلية الطب خلاصة عن مضامين علم النفس وعلم الاجتماع. وكان هذا التدريس مادة كتابه (فصول في المجتمع والنفس).
كانت قاعات دروسه تغتص بالطلاب. وأخبره بعض الأطباء والمحامين أنهم كانوا يغيبون عن دروسهم في كليتهم ليحضروا دروسه حين كانوا طلاباً.
ومن طلابه من أصحبوا وزراء وضباطاً ونواباً ومسئولين في مختلف الإدارات. وتخرج عليه كثير من أساتذة الجامعات في سوريا وفي الوطن العربي, وجمع غفير من أساتذة التعليم الثانوي. فتعاليمه مستفيضة وآثاره في الأجيال عميقة ومستمرة.
كذلك تخرج عليه كتّاب وشعراء وفلاسفة وعلماء أصبحوا معروفين في الوطن العربي استطاع أن يثير مكامن النور في نفوسهم وجوانحهم.
وقد سمّته منظمة الأمم خبيراً أول في علم السكان مرتين طوال أكثر من أربع سنوات. هذا كله عدا نشاطه الواسع في الندوات الوطنية والإقليمية والعالمية.ولابدّ من الإشارة إلى إشرافه على العديد من شهادات الماجستير والدكتوراه.
وكم سَعد حين كان يرى أغراسه تنمو فتُنبت الورد والياسمين وصنوف الأزهار, أو تشتد وتثمر شهيّ الفاكهة وطيّب الثمار, أو حين يبصر ضوء مصابيحه تنير أحياناً خبايا الظلام على توالي الأيام والأعوام.