الأستاذ محمد قطب

بقلم : محمد المجذوب

ما أحسب أن مسلماً يهمه أمر الإسلام والمسلمين في أي مكان من العالم يسعه أن يجهل أخبار آل قطب في هذه المرحلة الرهيبة من تاريخ الإسلام .

أول من عرفت من هذه الأسرة شهيد الإسلام سيد ، وكلن ذلك عن طريق مقالاته الثورية في مجلة الفكر الجديد ، ثم صدر كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام) فكان فتحاً جديداً في موضوعه احتذب كل المعنيين بالإصلاح الاجتماعي من هواة الثقافة الإسلامية ، ثم تلاه (مشاهد القيامة) و (التصوير الفني في القرآن) وغيرهما من المؤلفات ،التي نشرت ذكره ، ورسخت مكانته حتى إذا طلع على الناس بكتابه العظيم (في ظلال القرآن) ثم (معالم في الطريق) كان قد احتل ، مع كبار مفكري الإسلام المعاصرين ، مركز القيادة الفكرية في أذهان المسلمين وقلوبهم .

وكان ظهور الشهيد سيد قطب بهذه القوة المتفوقة قد مهد السبيل لظهور أخيه الأستاذ محمد قطب ، الذي كان بروزه مفاجئاً للوسط الفكري الإسلامي ، أو على الأقل بالنسبة إلينا في الشام ، إذ لم نكن قد طالعنا له أي إنتاج يسترعي الانتباه قبل كتابه العملاق (الإنسان بين المادية والإسلام) .

ومن هنا كان تطلع الوسط الفكري الإسلامي إلى أخبار هذين الأخوين وإلى إنتاجهما الأثير، فلما أنشب الطغيان مخالبه في آل قطب وإخوانهم ، تداعى لهم ضمير الأمة كلها بالألم والتعاطف ، وانطلقت الأقلام المؤمنة تدق قلوب الطغاة بمختلف الأساليب المثيرة للإنسانية ، والمحذرة من نقمة الله .. ولكن هؤلاء كانوا قد صمموا على أن ينزلوا بالإسلام الضربة التي ترضي أعداءه من الشرق والغرب ، فلم يعيروا كل هذه المناشدات والتحذيرات أي اهتمام ، وساقوا الموكب الثاني من خيار المؤمنين إلى الموت ، وبينهم سيد الذي احتفظ وإخوانه بعزة الإسلام ، فلم يهنوا ولم يستكينوا ولم يسترحموا سوى الله ، حتى حقق ربهم لهم ما تمنوه من نعمة الشهادة ، والانتقال إلى دار الكرامة التي عرضها السموات والأرض .

وانقطعت أخبار الثلة المعذبة من إخوان الشهداء ، حتى كدنا نيأس من بقائهم على قيد الحياة وكان محمد قطب أحد الذين شاع نبأ مصرعهم تحت التعذيب ، فلم نملك له ولإخوانه سوى العبرات والدعوات الحارة نرفعها إلى الله ، مستمطرين لهم الرحمة والمغفرة ، ومستنزلين من عنده جميل الصبر والعزاء لمن بقي من أهليهم وأحبابهم .

ولكن .. وما كان أسعدها مفاجأة يوم أعلنت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عن أول محاضرة يلقيها الأستاذ محمد قطب في دار الحديث التابعة لها !

ولأول مرة نلقى هذا الوافد العزيز وجهاً لوجه ، وكأنما أعيد إلينا من عالم البرزخ ليحدثنا عن إخوانه السابقين إلى جنات النعيم ..ولم أتمالك أن عقبت على محاضرته النفيسة يومئذ ، فرحبت بالشهيد الحي ، وأتبعت ذلك بقصيدتي (عِبَر وعبرات) التي سبق أن صغتها في الشام أيام المحنة في ظل الطغيان الناصري ، فبكيت الضحايا ، وصورت فظائع المجرمين والمنافقين من أعوانهم ، وأبرزت تصميم المظلومين من أبطال الدعوة على الصبر والمصابرة والمرابطة ، حتى يأتي الله بأمره على القوم الظالمين ، تحقيقاً لوعده الذي لا يتصور منه الخلف .

ومنذ ذلك اليوم تتابع لقائي هذا المفكر الإسلامي الكبير في هذه المملكة ، التي أصبحت وطنه الثاني ، وبات عمله رئيسياً في جامعة (أم القرى) على مقربة من البيت العتيق ، وتلك منحة أكرمه بها الله جزاء صبره على البلاء الذي تحمله في سبيله ، وهي في الوقت نفسه فرصة فسحت له مجال العمل لنشر أفكاره النيرة مدرساً ومحاضراً ومؤلفاً ومحدثاً ، لا على مستوى المملكة وحسب ، بل مبعوثاً إلى العديد من الجامعات والمناسبات .

ولكم كنت أود لو أفردت للشهيد سيد ترجمة صالحة ولكن حال دون ذلك حرماني لقاءه ، وقد ألزمت نفسي ألا أترجم إلا لمن عرفت فلم أشذ عن هذه الخطة في كلا كتابيَّ " علماء ومفكرون عرفتهم " إلا قليلاً مما أشرت إلى دواعيه في مكانها .. وإن كنت كتبت عن الشهيد كثيراً في تضاعيف كتبي الأخرى .. ولعلي أكفر عن قصوري في حق آل قطب بكتابتي هذه عن مفكرها الثاني الذي أراه حقيقاً بلقب " الشهيد الحي " .

البيئة الأولى :

أما مترجمنا الذي لا يجهله مثقف من المسلمين فهو محمد قطب إبراهيم ، ولد في 26 / 4 / 1919 في بلدة موشا ـ من محافظة أسيوط بمصر وكان والده قطب إبراهيم من المزارعين في تلك الناحية ، لم يتجاوز في دراسته المرحلة الابتدائية ، ولكنه لم يقف عند حدود التحصيل المدرسي إذ كان محباً للمطالعة مقبلاً عليها ، فهو يعتبر من مثقفي قريته المهتمين بالأمور العامة ، وبذلك كان موضع الاحترام والتقدير من أهلها إذ يعدونه من أصحاب الرأي فيهم ، بالإضافة إلى مكانة أسرته بينهم . أما والدته فهي السيدة فاطمة عثمان تنتمي إلى أسرة عربية محبة للعلم ، وقد تلقى إخوتها دراستهم في الأزهر، وبرز منهم أحمد حسين الموشي ، الذي امتاز بمواهبه الأدبية والقلمية ، إذ كان شاعراً أديباً، وقد اشتغل بالصحافة والسياسة ، فأحرز شهرة في كلا الميدانين .

ومن هنا كان تأثر السيدة فاطمة فنشأت محبة للعلم والثقافة ، وقررت أن تبعث بولديها سيد ومحمد إلى القاهرة ليتلقيا تعليمهما هناك .

ففي القاهرة بدأ الفتى محمد دراسته من أولها ، فأتم المرحلتين الابتدائية والثانوية ، ثم التحق بجامعة القاهرة حيث درس اللغة الإنجليزية وآدابها ، وكان تخرجه فيها عام 1940 ، ومن ثم تابع في معهد التربية العالي للمعلمين فحصل على دبلومها في التربية وعلم النفس .

في رعاية سيد :

ويحدثنا الأستاذ عن أعمق الرجال تأثيراً في توجيهه وتفكيره ، فيؤكد أن أعظم الناس تأثيراً في حياته كلها هو أخوه سيد ، الذي كان يتقدمه بأكثر من اثنتي عشر عاماً في الميلاد ، فهو الذي أشرف على تعليمه وتوجيهه وتثقيفه ، وكان بالنسبة إليه بمثابة الوالد والأخ والصديق .

ويقول الأستاذ : لقد عايشت أفكار سيد ـ رحمه الله ـ بكل اتجاهاته منذ تفتح ذهني للوعي ، ولما بلغت المرحلة الثانوية جعل يشركني في مجالات تفكيره ، ويتيح لي فرصة المناقشة لمختلف الموضوعات ، ولذلك امتزجت أفكارنا وأرواحنا امتزاجاً كبيراً ، بالإضافة إلى علاقة الأخوة والنشأة في الأسرة الواحدة ، وما يهيئه ذلك من تقارب وتجاوب . ويقول الأستاذ : لقد كانت صلة سيد بي من حيث التربية يتمثل فيها العطف والحسم في آن .. فلا هو اللين المفسد ، ولا الشدة المنفرة ، كما أنه كان يشجعني على القراءة في مختلف المجالات ، وكان هو نفسه نهماً إلى القراءة ، فساعدني هذا التوجيه على حب المطالعة منذ عهد الطفولة ..

وخاله الأريب :

وعن تأثير خاله يحدثنا الأستاذ قائلاً : كان لوجودنا مع خالي ، ذي النشاط السياسي والأدبي والصحافي ، أثره الملموس في توجيهنا ـ أخي وأنا ـ نحو الأدب والشعر وتغذية ميلنا إلى القراءة والاطلاع ، وإذ كان خالي على صلة وثيقة بالعقاد فقد اجتذبنا إلى التأثر به فكرياً وأدبياً إلا أن تأثيره في أخي كان أكبر لطول مصاحبته ومعايشته ، ولاشتراكهما في النشاط الأدبي والنقد الأدبي بخاصة .

أما أثره بالنسبة إلي فقد بدأ منذ بدأ الاتصال بكتبه وكتب المازني وطه حسين ، وأنا في التاسعة من سني ، إذ كنت أجدها بجانبي في البيت ، فأحاول أن أفهم منها ما يتيحه لي وعيي وتجربتي ، ويمكنني القول بأن أثر العقاد بي فكرياً إنما يتمثل في الصبر على معالجة الأفكار بشيء من العمق وعدم تناولها من سطوحها ، وأسلوبياً يتمثل في التركيز على الدقة في التعبير .. وطبيعي أن شيئاً من ذلك لم يظهر إلا بعد أن بدأت أمارس الكتابة بالفعل ، وفيما عدا هؤلاء الثلاثة لا أحسب أحداً ترك في نفسي أو فكري طابعاً ملحوظاً ، اللهم إلا بعض اللمسات الهامشية التي لا تعد في المؤثرات الهامة .

مأساة آل قطب

والكلام عن آل قطب أو أحدهم سيظل أبتر خداجاً ما لم يتصد للأحداث التي جعلت من محنتهم صورة أخرى لمأساة آل ياسر مع أبي جهل .. وعلى الرغم من شهرة هذه المحنة ، وكثرة رواتها وتواتر أنبائها ، وتوافر الأقلام التي تناقلتها ، لن يجد القارئ في أي منها ما يغنيه عن الاستماع إلى خبرها من فم الرجل الذي شارك في معاناتها ومعاينتها في نفسه وأهله .. وها هو ذا الأستاذ محمد قطب يقص علينا كل ما يتصل بالمحنة من مقدمات وخلفيات ووقائع .

يقول حفظه الله : بدأت طلائع تلك الأحداث منذ عودة أخيه سيد من أمريكا ، بعد قضائه فيها العامين 49 و1950 فقد شرع قلمه في معركة صحفية سياسية هائلة كانت تعرضه باستمرار لخطر الاعتقال على ذمة التحقيق .. وكانت هذه التجربة جديدة في حياة الأسرة من ناحيتين ، أولاهما مواجهة الباطل وجهاً لوجه في ميدان الواقع ، بعد أن اقتصر صراعهم إياه على ميدان الفكر وحده ، والثانية هي تعرض حرية سيد للمصادرة بين الحين والآخر ، وهو رب الأسرة التي يستغرقها الشعور بأنه ـ بعد الله ـ معتمدها الوحيد في سائر شئونها الحيوية .

وعلى الرغم من أن التجربة قد مرت دون أخطار حقيقية ، فقد كانت أشبه بالإرهاص لما بعدها .

لقد انفجرت الثورة العسكرية بعد ذلك .. وقامت بينها وبين سيد علاقة مرضية أول الأمر، إلا أن مسيرتها سرعان ما شرعت في الاضطراب ، وجعلت تتخذ وجهة أخرى ، مما أنذر بوشك تصادم بينها وبين أصحاب الاتجاه الإسلامي .. وهكذا استمر الخطر يقترب ويتفاقم ، حتى كانت مسرحية الإسكندرية الشهيرة في أوكتوبر ـ ت 1 ـ 1954 ـ التي أعقبت اعتقال سيد والموكب الأول من شهداء الدعوة ، ثم جاء دور أخيه محمد بعد أيام ، وأتيح لهما أن يشهدا من فنون التعذيب ما لا يخطر على بال إنسان .. وقد ألحق كل من الأخوين بمكان من السجن الحربي بعيد عن الآخر، وحيل بينهما حتى لا يعرف أحدهما عن الآخر شيئاً .. ثم أفرج عن الأستاذ محمد بعد فترة غير طويلة ، وبقي سيد في قبضة الجلادين طوال عشر سنوات .

ويقول الأستاذ : كانت فتنة السجن الحربي بالغة الأثر في نفسي ، إذ كانت أول تجربة من نوعها ، وكانت من العنف والضراوة بحيث يمكن لي القول إنها غيرت نفسي تغييراً كاملاً من بعض الجوانب على الأقل .. كنت أعيش من قبلها في آفاق الأدب والشعر والمشاعر المهمومة ، أعاني حيرة عميقة صورتها في الأبيات التالية من قصيدة جعلت عنوانها (ضلال) :

ثم مرت بي دورات الليالي

وانطوى السحر الذي غشى خيالي

فإذا بالحق في الكون بدا لي

وإذا الناس جميعاً في ضلال !

ما الذي يرجون في دنيا الزوال !!

أنا والوهم الذي يشغل بالي

في غد نذهب في طيات هاتيك الرمال

ثم يمضي الكون في التيه المعمى لا يبالي

وكانت تلك الحيرة تشكل أزمة حقيقية في نفسي استغرقت من حياتي عدة سنوات ، غير أن الدقائق الأولى منذ دخولي ذلك السجن ، والهول الذي يلقاه نزيله ، بدلت ذلك كل التبديل .. لقد أحسست إذ ذاك أنني (موجود) وأن لي وجوداً حقيقياً ، وأن الذي في نفسي حقيقة لا وهم .. وهذه الحقيقة هي السير في طريق الله ، والعمل من أجل دعوته ، وأن السائر في هذا الطريق ليس ضائعاً بل هو المهتدي ، وأنه حين يذهب في طيات هاتيك الرمال باللحظة المقدورة له لا يذهب بدداً ، وإنما يذهب إلى الله ، وهناك يجد وجوده كله .

لقد كانت هاتيك اللحظات مفترق طريق .. وانتهت الحيرة الضالة ، ووجدت نفسي على الجادة .

وخرجت ، يوم أفرج عني ، لأحمل عبء الأسرة التي كانت من مسئوليات أخي وحده كما عودنا ، ومضيت أخوض تجارب الحياة العملية خلال أكداس من العسر على مدى عشر السنوات ، حتى أفرج عن سيد رحمه الله وتلقيت ذلك الإفراج بكثير من القلق ، إذ كنت أحس في قرارة نفسي أنهم لم يخلوا سبيله إلا وهم يدبرون له أمراً أشد سوءاً من السجن ، وقد كان ما توقعت ، فما إن انقضى على مغادرته السجن الحربي عام واحد حتى اضطربت الأمور كرة أخرى ، وتيقنا أن المؤامرة تحدق بنا من كل جانب ، فلما شرعوا في اعتقالات 1965 أعيد سيد وأعدت كذلك إلى السجن ، وكان نصيبي أن أقضي فيه ست سنوات متصلة ، من 30 يوليو ـ تموز 65 / إلى 17 أكتوبر ـ ت 1 ـ 1971 ، وكان نصيب أخي الإعدام بعد محاكمة صورية مع ثلة من كرام الشهداء ، وقتل في هذه المجزرة واحد من أبناء أختي أثناء التعذيب دون إعلان ، واعتقلت شقيقاتي الثلاث ومنهن الكبرى أم ذلك الشهيد ، وعذبت الشقيقة الصغرى ثم حكم عليها بالسجن عشر سنوات ، وتعرضنا جميعاً لحملة ضارية من التنكيل الذي لا يخطر على بال إنسان . وكان ذلك كله جزءاً من الحرب المسلطة على الإسلام ، يقودها ، نيابة عن الصليبية العالمية والصهيونية الدولية ، مخلوقون يحملون أسماء مسلمين.

ولكن هذه السنوات الست بكل أحداثها ووقائعها هي في النهاية زاد على الطريق .

مساومات لم تنجح

وسألنا الأستاذ إيضاحاً لما يشاع من أن طغمة المتسلطين قد حاولت احتواء الشهيد سيد بإسناد وزارة المعارف إليه ، فكان رفضه إياها من الأسباب المباشرة لتلك المحنة ؟

ويجيب الأستاذ : إن محاولة احتواء أخي بعرض وزارة المعارف ورفضه إياها حقيقة واحدة من الحقائق الكثيرة المتعلقة بذلك الصراع العنيف الطويل بين العساكر والإسلاميين ، إلا أنها لم تكن السبب الأساسي في المحنة ، وإنما كان السبب هو اختلاف الطريق ، ذلك الاختلاف الذي ظنوا أنهم يستطيعون تجاوزه فيما يتعلق بأخي ، فلما تبين لهم إصراره على الحق ، وصلابته في دين الله ، واستحالة احتوائه أتموا خطتهم المقدرة وكان ما كان .. بل إن محاولة الاحتواء قد استمرت حتى آخر لحظة ، فبعد إصدار حكم الإعدام سنة 1966عرضوا عليه أن يعتذر لجمال عبد الناصر ، ويعلن أن الإخوان كانوا مخطئين ، ومقابل ذلك لن يلغي أحكام الإعدام عن كل المحكومين فحسب بل سيفرج عن المعتقلين جميعاً ، وبذلك تنتهي القضية كلها .. فلما رفض سيد العرض مضوا إلى آخر الشوط بتنفيذ الإعدام .

في أفكار الشهيد

وكان سؤالنا التالي عن رأي الأستاذ بما نشر في بعض الصحف الإسلامية عن أفكار الشهيد سيد وما نسب إليه من القول بوحدة الوجود في بعض تفسيره ، فكان جوابه :

" لقد وردت في (الظلال) عبارات يمكن لمن يفصلها عن القرائن أن يوجه إليها مثل هذا الظن ، غير أن الباحث المدقق ، فضلاً عن الباحث المنصف ، إذ وجد في الظلال عبارات متواترة تبين بصورة قاطعة أن المؤلف يقول إن الله متفرد بكل صفاته ، وإن مخلوقاته عارية عن هذه الصفات ، فلا بد لهذا الباحث أن يؤول تلك العبارات الموهمة بما يتناسب مع ما تقطع به العبارات الأخرى الكثيرة المتواترة ، من إفراد الله وحده بالألوهية والربوبية ، ونفي أي اشتراك بينه وبين خلقه في شيء من صفاته التي تفرد بها .

ولنأخذ مثلاً على ذلك قول الحواريين لعيسى عليه السلام :[هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ؟.] فلو إنساناً أخذ هذه العبارة وحدها ، فنسب إليها عقيدة الحواريين ، وقال إنهم يشكون في قدرة الله .. فهل يكون فهمه سليماً ؟.. كلا .. بالطبع ، والداعي إلى تنزيههم عن ذلك هو القطع بأنهم كانوا مؤمنين ، والمؤمن منزه عن الارتياب في قدرة الله ، ومن أجل ذلك أجمع المفسرون على تأويل هذه العبارة بما يصرفها عن شبهة الشك في قدرة الله .

ومع حفظ المقامات لأصحابها نقول : " إذا ثبت في أكثر من مائة موضع في الظلال اعتقاد المؤلف الجازم بأن الله تعالى متفرد في صفاته ، لا يشاركه أحد في شيء منها ، فقد وجب أن تحمل تلك العبارات على أنها محاولة من المؤلف للتعبير عن استشعاره لعظمة الله سبحانه ، وأن كل المخلوقات إنما تستمد وجودها من وجوده .. وأنا لا أقول هذا دفاعاً عن أخي فهو بين يدي مولاه ، وإنما أقوله لأني عايشته السنين الطوال ، وأعلم بما لا يدع مجالاً للشك أنه لم يقع في عقيدته شيء من الزيغ الذي توهمه تلك العبارات ..".

ولعل في هذا الإيضاح من رفيق الشهيد وتلميذه المقرب ، ما يكفي لإلغاء كل ما يثار من الشبهات حول الموضوع .. وقد سبق أن ناقشنا هذه الشبهات في مقال واف نشرته جريدة المدينة ـ في العام 1403 ـ وذيلنا به ترجمة فضيلة الشيخ " محمد ناصر الدين الألباني " في الطبعة الثانية من كتابنا الأول (علماء ومفكرون عرفتهم) الذي نشرته مؤخراً دار (عالم المعرفة) في جدة .. وهناك بينا ما انطوت عليه تلك الشبهات من أخطاء مردها إلى عدم التدقيق في نقل عبارات الشهيد من مظانها في تفسير الظلال .. وما أحسب شيخنا الجليل الأستاذ الألباني إلا مقتنعاً بما أوردنا من الحق ، وعائداً إن شاء الله عما توهمه في كلام الشهيد من التواء لا مكان له في تفسيره .

في رحاب الأدب

ومثل الأستاذ محمد قطب لا يستكمل الحديث عن خصائصه إذا أغفل منها جانب الأدب ، الذي يمكن القول بأنه مفتاح شخصيته ، فهو أديب في مشاعره ، وأديب في تفكيره ، وأديب في فلسفته ، وأديب في طريقة تناوله لكل ما ينشئ .. هذا إلى كونه شديد التركيز على أهمية الأدب في مخاطبة القراء والمستمعين ، حتى لتشعر، وهو يطالعك بأفكاره في هذه الشئون ، أنه يعتبر الكلمة الجميلة ، والعبارة البليغة ، والصورة الموحية ، هي الوسائل المفضلة التي عن طريقها يتوصل الداعية الإسلامي إلى التأثير المنشود في العقول والقلوب .

ومن هنا كان سؤالنا التالي :

ـ في نطاق الأدب يلاحظ أنكم كثيراً ما تركزون على ضرورة الالتزام بالتعبير غير المباشر. ومعلوم أن هذا ألصق بفن الشعر منه بالأدب العام ، لأن الأدب هو كل تعبير جميل يؤدي إلى المراد بالأسلوب المناسب ، فلكل من المباشر وغير المباشر مجاله الذي لا يغني فيه سواه .. فما رأيكم في هذا ؟

ـ غير خاف أن الأدب ألوان مختلفة ، ولكل لون خصائصه المناسبة .. وحين أتحدث عن التعبير غير المباشر فلا يمكن أن يتطرف ذهني إلى المقالة والبحث والدراسة والموعظة ، التي تلقي على الناس مباشرة بقصد التوجيه والتذكير، إنما أقصد بذلك الشعر والقصة ـ بأنواعها والمسرحية .. ففي هذه الفنون يحسن دائماً أن يتوارى المؤلف ، وأن يتوارى القصد المباشر ، وأن يصل المؤلف إلى هدفه من خلال عرضه مشاهد حية ، شعورية وفكرية ، وحسية ، يتصرف الناس فها تصرفاتهم التي تتناسب مع مواقفهم المختلفة ومن خلال براعة العرض يتبين الموقف الصحيح ، أو الذي ينبغي أن يتجه إليه الناس ، وهي طريقة أكثر تأثيراً في هذه الفنون من التعبير المباشر الذي يفسد على القارئ أو المشاهد متعة المشاركة مع أشخاص القصة أو المسرحية ، ومتعة استخلاص القصة بنفسه لنفسه . والملحوظ أن الشعر والقصة والمسرحية إذا لجأت إلى التعبير المباشر تستوي مع الموعظة بكون تأثيرها يكون عابراً مؤقتاً ثم لا يلبث أن يخفت ويضيع .. على حين تظل مع التعبير غير المباشر مؤهلة للخلود .

العلوم الإنسانية في ضوء الإسلام

ـ في بعض محاضراتكم عرضتم لموضوع علم النفس وعلم الاجتماع ، ودعوتم إلى تكوين كل منهما على أسس الإسلام ، بحيث يكون هناك علم نفس إسلامي ، وعلم اجتماع إسلامي .

فلو تفضلتم بشيء من التفصيل في هذا الموضوع .

ـ العلوم الإنسانية جميعاً ، وهي تشمل فيما تشمل على علوم التربية وعلم النفس وعلم الاجتماع ، إنما سميت في أوروبة كذلك لا بمعنى أنها تعالج أموراً إنسانية ، كما يتوهم بعضنا حين يستخدم هذا الوصف ، بل بمعنى أن المرجع فيها هو الإنسان ، وليس الله ! . ولإيضاح ذلك نذكر بأن هذه العلوم نبتت في أوروبة ضمن جو معاد للدين ، بسبب الظروف المحلية القائمة هناك منذ عصر النهضة ، ونحن نقلناها كما هي ، ودرسناها في مدارسنا وجامعاتنا بنفس الروح المجافي للدين والمعادي له ، سواء شعرنا بذلك أم لم نشعر.. وقد آن لنا أن نتخلص من وطأة الغزو الفكري على عقولنا وأرواحنا، فنتناول هذه العلوم من منطلقنا الإسلامي ، الذي لم يعرف العداوة بين الدين والعلم ، ولا بين الدين والحياة .

وحين نصنع ذلك فسيتضح لنا أن في هذه العلوم ـ كما هي في صورتها الأوربية ـ اختلالات مبدئية تترتب عليها نتائج خاطئة ، وإن اشتملت على حقائق جزئية كثيرة ، ولكنها حقائق يفسدها اختلال القاعدة التي تقوم عليها ، ويمكن الإفادة منها بتصحيح تلك القاعدة .

وإليك مثالاً واضحاً : منذ دارون سيطرت فكرة حيوانية الإنسان وماديته على الفكر الأوروبي في مجال علم النفس والاجتماع والتربية والاقتصاد وما إليها .. وحيوانية الإنسان ليست فكرة علمية صحيحة ، والعلم ذاته يتجه الآن تدريجياً نحو تأكيد إنسانية الإنسان ، بمعنى تفرده بخصائص رئيسة لا تتوافر للحيوان.. فكل النتائج المترتبة على تلك النظرة الخاطئة هي خاطئة كذلك ، ومن شأنها أن تسقط كل القيم الخلقية ، أو لا تعتبرها أسساً ثابتة في الكيان البشري .

وحين نعود إلى مقومات وجودنا الحقيقية ، وهي المقومات الإسلامية ، فستكون نظرتنا إلى الإنسان مختلفة من جذورها ، ومن ثم تصل أبحاثنا العلمية إلى نتائج نهائية مختلفة تماماً عما تصل إليه (العلوم الإنسانية) في مفهوم الغرب .

أعني حين ننطلق من أن (الإنسان إنسان لا حيوان) وأن الله خلقه ليكون خليفة في الأرض ، أي مسيطراً ومهيمناً عليها ومعمراً لها ، ومنحه الأدوات والمواهب التي تعينه على عمارتها ، من عقل وصلاحية للتعليم ، ودوافع وقدرة على ضبط الدوافع وتنظيمها .. وفي الوقت ذاته شق له الطريقين وألهمه معرفتهما ومنحه القدرة على اختيار أحدهما [ونفس وما سواها . فألهمها فجورها وتقواها . قد أفلح من زكاها . وقد خاب من دساها] سورة الشمس ـ فصار لأعماله قيمة خلقية مصاحبة لها ، نابعة من الفطرة نفسها لا مفروضة عليها من الخارج . ثم إن الله كلفه أن يعبده وحده لا شريك له [وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون] الذاريات ـ والعبادة شاملة لكل أعمال الإنسان فصارت مهمته النهائية هي عمران الأرض بمقتضى المنهج الرباني ، وهي موضع ابتلائه .. أيستقيم على النهج فيفلح في الدنيا والآخرة ، أم يزيغ مدفوعاً بشهواته ، فيستمتع في دنياه متاعاً مشقياً مدمراً ويخسر في نفس الوقت آخرته !.

حين نتحرك من هذا المنطلق فلا شك أن علومنا النفسية والاجتماعية وما إليها ستختلف اختلافاً جوهرياً في المبدأ والنهاية ، وإن اشتركت مع العلوم التي نتعاطاها اليوم في بعض الحقائق الجزئية التي تثبتها التجربة والمشاهدة ـ كما أسلفنا ـ وهذا ما أقصد إليه بكلمة (علم النفس) و(علم اجتماع) إسلامي.

ولقد بذلت بعض الجهد في هذه السبيل عن طريق كتبي (الإنسان بين المادية والإسلام) و(دراسات في النفس الإنسانية) و(منهج التربية الإسلامية) في جزئيه الأول في النظرية ، والثاني في التطبيق.. غير أن المجال لا يزال واسعاً جداً ، ولا يزال في حاجة إلى جهود مكثفة حتى نصل إلى علوم متكاملة في هذا الميدان..

وفي تراثنا العلمي كنوز

ولعمر الحق إن في هذا البعض من الجهد لذخراً كبيراً من الحقائق العلمية والكشوف النفسية ، من شأنه أن يسد فراغاً واسعاً في المكتبة الإسلامية الحديثة ، وقد سبق أن قرأت الكثير مما كتبه في نقد الداروينيه ، ولكن كتاب (الإنسان بين المادية والإسلام) جاء متميزاً عليها جميعاً بانطلاقه من رؤية إسلامية جمعت فأوعت ، إلى جانب الحجج الموضوعية التي لا أغالي إذا قلت إنها أتت على كل ما انطوت عليه تلك النظرية التطورية من زائفات الظنون التي لا تقف أمام العلم .

وحبذا لو أتم الأستاذ شوطه في هذا المضمار فراجع بعض المؤلفات المتعلقة بموضوع الإنسان ومناهج تربيته في ضوء الوحيين ، وهي غير قليلة في تراثنا الإسلامي ، ولكنها تنتظر البصيرة النافذة التي تحسن استخراج كنوزها وتصنيفها في نسق تربوي يصلح للمطالعة والدراسة .

وأذكر بهذه المناسبة حديثاً جرى في مجلس سماحة العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ أمتع الله بحياته ـ لفتُّ أثناءه نظر شيخنا إلى كتاب الإمام ابن القيم المسمى (طريق الهجرتين) وما يتضمنه من تحقيقات نفيسة بشأن النفس وأحوالها ووسائل تدبيرها ومعالجة نزعاتها وترويضها على المسالك المثلى التي تؤمن لها سعادة الدارين .

وقلت يومئذ لسماحة الشيخ : إن في هذا الكتاب لمادة خصبة لتأليف في علم النفس الإسلامي يحمل الخير الكثير ..

وأجاب الشيخ إذ ذاك : فعليك به إذن .. فقلت : وأين أنا من مثل هذه المهمة التي تتطلب مجموعة من العزائم .. وخير ما يُخدم به هذا الكتاب وأمثاله من نفائس التراث هو أن يعهد بها إلى لجنة من خبراء التربية الإسلامية توسعها درساً ، ثم تصوغ من مناجمها المناهج التي تنقذنا من سلطان التقليد لأعداء الإسلام .

ولا أزال أكرر هذا القول وأذكر به سماحة الشيخ الجليل ، الذي لا نعرف له نظيراً في الاهتمام بتصحيح أوضاع المسلمين في كل مجال .

الشرق الإسلامي هو الميدان الأول

وخبرة الأستاذ الطويلة والعميقة في ميدان الدعوة تدفعنا لاستطلاع رأيه في مسيرتها الراهنة ، وبخاصة في أوساط مفكري الغرب .. وما يقترحه في هذا الشأن .

ومن منطلق هذه الخبرة الحية يرى الأستاذ أن في مسيرة الدعوة هذه الأيام إيجابيات وسلبيات ، فهي تتطلب مراجعة موضوعية واعية تتناول أحداث نصف القرن الأخير، لتأكيد الإيجابيات ومحاولة التخلص من السلبيات وبالنسبة إلى إقبال بعض مفكري الغرب على الإسلام يرى كذلك أن من حقنا أن نبتهج ونرحب بكل مفكر غربي هداه تفكيره السليم إلى الحقيقة ، ولكن هذا لا ينسينا أن ميداننا الأصيل في الدعوة ينبغي أن يظل في الشرق في داخل العالم الإسلامي ، لرد الناس إلى حقيقة الإسلام التي أصبحت غريبة بينهم ، تصديقاً للخبر النبوي القائل : " بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء .. الذين يصلحون ما أفسد الناس " ولئن ألجأ الضياع بضعة أفراد وعشرات أو مئات، أو حتى الألوف من الغربيين إلى البحث عن طريق الخلاص عن طريق الخلاص حتى يقفزوا فوق الحاجز الصليبي ، الذي حال في الماضي بين أوروبة والإسلام ، ثم لا يكتفوا باعتناقه حتى يصبحوا من دعاته ، لقد كانت الفرص مهيأة لأن يكونوا ملايين بدلاً من الألوف لولا العقبات الأخرى ، المتمثلة في الواقع السيء الذي يعيشه المسلمون بعيدين عن حقيقة الإسلام .. ولو كان الإسلام في صورته الحقيقية ماثلاً في واقع حي لا تنتقل ملايين الأوروبيين اليوم إلى الإسلام . لذلك يقرر الأستاذ ضرورة التركيز على الدعوة في داخل العالم الإسلامي ذاته ، وليس معنى ذلك ألا نلتفت إلى الغرب ، ولكن معناه فقط أن حصيلتنا فيه ستظل ضئيلة حتى يتغير هذا الواقع الذي يلابس المسلمين .

الإسلام هو المنقذ الوحيد

وعن المحنة التي يمر شباب الدعوة وشيوخها في معظم ديار المسلمين ، والمصير الذي يتوقعه لها يقول : إن المحنة القائمة في محيط الدعوة تبعث على الأسى الكثير ، ولكن لا بد من دراسة أسبابها دراسة موضوعية فبعض هذه الأسباب قد يكون عائداً إلينا نحن ، كما أن بقية الأسباب من صنع أعدائنا ولا شك . فمن جانبنا ينبغي أن نتساءل أترانا سلكنا المنهج الصحيح ؟ وما المنهج الصحيح ؟.. أهو الاستكثار من الجماهير ؟ أم هو البدء بإعداد مجموعة قليلة العدد نسبياً ، تأخذ حظاً كاملاً من التربية التي أنشأ عليها رسول الله ، صلوات وسلامه عليه وآله ، أصحابه .. ثم تمضي القاعدة في الاتساع خطوة فخطوة ولكن على تمكن ..

ويتابع تساؤلاته : وهل بدأنا التحرك الصحيح الذي هو تجلية العقيدة ، وتقويم ما انحرف من مفهوماتها ، مع التربية على مقتضى هذه العقيدة ، تربية تحول مقتضياتها إلى سلوك واقعي ؟ أم هو مجرد دروس تثقيفية في شتى المعارف الإسلامية !

وهل الخطو الصحيح هو استعجال الصدام مع الأعداء قبل إعداد القاعدة المناسبة لهذا الصدام ، ولاستمراريته في حجمها وصلابتها حتى يؤتي ثماره المرجوة ؟.. أو هو تحاشي الصدام جهد الإمكان حتى تتهيأ القاعدة الواجبة ؟.. وهل وعينا خطط أعدائنا كيلا نفاجأ بها ، ولا يستغرقنا الذهول كلما نزلت بنا واحدة من ضرباتهم أو خديعة من خدائعهم ، ما بين محاولات الإبادة ومحاولات الاحتواء ؟

وقبل ذلك وبعده هل تجردنا لله حق التجرد ، حتى نستأهل أن يمن علينا بالنصر الموعود ؟ أو أن أهواءنا الشخصية هي المسيطرة ، فمنها ننطلق وحولها ندور ؟..

أما أعداؤنا فلن يكفوا ، وقد علمنا ذلك يقيناً من قوله تعالى [ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم] سورة البقرة ـ [ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا] سورة البقرة .

ويعقب هذه التساؤلات المثيرة بقوله المملوء باليقين : (ولكني على الرغم من كل شيء أشعر دائماً بالتفاؤل العميق بالنسبة إلى مستقبل الدعوة).

ويعلل تفاؤله باستقرائه لسنن الله والتتبع لظواهر مشيئته وقدره ، فلو كان في قدر الله أن ينتهي الإسلام من الأرض لكان زوال الخلافة هو الفرصة الملائمة لذلك ، وبخاصة أن ذلك هو مقصد الأعداء من تدمير الخلافة ، بيد أن هذا الحدث ذاته هو الذي بعث حسن البنا لإنشاء حركته العالمية .. ولو كان في قدر الله أن تموت الحركة الإسلامية لكان التعذيب الوحشي ، ومحاولات الإبادة الجماعية في السجون والمعتقلات كافية للقضاء على كل أمل بحياتها ، على حين نرى الضد من ذلك ، فبعد كل مذبحة ينبثق مدد جديد من الشباب يعتنق الدعوة ويتفانى من أجلها ..

ثم إن المحنة الكبرى التي فتنت المسلمين عن دينهم كانت هي أوروبة وبريق حضارتها الخاطف .. ولكن أوروبة اليوم قد تجلى عوارها للجم الغفير من أبنائها ، إذ بدأ كثير منهم يذبحون عن طريق الخلاص من أمراض تلك الحضارة المدمرة .

وكذلك الأمر بالنسبة لملاحدة الزعماء الذين بذرتهم أوروبة وأمريكة وروسية في العالم الإسلامي ، ليحولوا الناس عن الإسلام بالشعارات المضللة أو بالقتل والتشريد ، فقد أثبت هؤلاء إخفاقهم الذريع في حل مشكلات شعوبهم ، بل زادوا هذه المشكلات سوءاً وتعقيداً ، وزاد هوان المسلمين على أيديهم فضاعت فلسطين ، ومضى غيرها في طريق الضياع ، واليوم تبدأ على أيديهم عملية التفتيت للدول الإسلامية تحقيقاً لأهداف أعدائهم .. ولم تزدهم تلك الأنظمة المستوردة من مصانع أولئك الأعداء إلا إخفاقاً وهواناً ، والنتيجة واحدة مشتركة هي اليأس من كل النظم والاتجاهات ، والتطلع إلى الإسلام على أنه هو المنقذ الوحيد ، وما ذلك إلا توكيد حاسم بأن الحركة الإسلامية هي طريق المستقبل رضي الأعداء وأذيالهم أم أبوا .. ومع ذلك لا أتعجل النتائج .. وأعرف أن ثمة مخاضاً ضخماً لا بد أن تخوضه الأمة الإسلامية وطريقاً طويلاً مشحوناً بالمعاناة والعرق والدماء والدموع ، ولكنه قدرها الذي لا مندوحة لها عن سلوكه ، ثم تتنزل رحمة الله بالنصر والتمكين ، وصدق الله العظيم القائل في كتابه الحكيم : [وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً ، يعبدونني لا يشركون بي شيئاً] سورة النور آية رقم 55 .

آثاره المفضلة

وكان خاتمة الحديث استفسار الأستاذ عن أحب مؤلفاته إليه ، فكان جوابه :

من المعتاد أن يقول المؤلف أن كتبه كلها أبناؤه ، وكلهم عزيز عليه . وأنا أيضاً أقول هذا ، ومع ذلك فقد يكون (الإنسان بين المادية والإسلام) وهو باكورة كتبي ، أحبها إلي ، فضلاً عن كونه الابن البكر فهو يشتمل على الخطوط الرئيسية التي انبعثت منها عدة كتب تالية في مجال التربية علم النفس ، كما أن كتاب (جاهلية القرن العشرين) له موضع خاص في نفسي كذلك ، ولعل السبب أنه يمثل رؤيتي لحقيقة الجاهلية ، وأنها ليست محدودة بفترة معينة من الزمن ، وإنما هي حالة يمكن أن توجد في أي زمان ومكان ، وأن البشرية تعيش اليوم أعتى جاهلية عرفتها .. كذلك كتاب (دراسات قرآنية) فإنه يحكي قصة حياتي مع القرآن منذ الطفولة حتى النضج .. وأخشى أن يستدرجني السؤال إلى أن أوثر كل واحد من كتبي على إخوته ، فيضيع معنى السؤال .

أما من حيث الأهمية في تقديري فقد أقدم (الإنسان بين المادية والإسلام) و (منهج التربية الإسلامية) و(التطور والثبات في حياة البشرية) و(جاهلية القرن العشرين) وأخيراً كتاب (المذاهب الفكرية المعاصرة)..

ومع ذلك فقد يكون للقراء رأي آخر..

تعقيب لا تثريب

وأنا بوصفي واحداً من هؤلاء القراء ، ومن منطلق تقديري لرأي المؤلف في هذه الكتب ، أحب أن أشير إلى ملاحظتين ، إحداهما وردت في إحدى مذاعات الأديب الكبير الشيخ علي الطنطاوي ثم كررها أكثر من مرة ،والأخرى لقارئ نشرت في العدد 931 من مجلة الدعوة ـ بالرياض ـ فقد عارض الأستاذ الطنطاوي استعمال كلمة الجاهلية للأوضاع الراهنة في حياة المسلمين ، وحجته في هذه المعارضة فرق ما بين حال الجاهلية السابقة للإسلام وحال مسلمي اليوم ، إذ لم يكن أولئك على نور من الكتاب ، على حين يحتفظ هؤلاء حتى اليوم بالصفات التي تربطهم بالإسلام الحق عن طريق إيمانهم بالكتاب والسنة .. فأين هم من الجاهلية ؟ وهي حجة صحيحة إذا أريد بها ذووالعقائد السليمة من المسلمين ، ولكن هناك السواد الأعظم من الذين سلبوا الوعي الصحيح لحقائق الإسلام ، وراحوا يضربون وراء كل ناعق ، لا يكادون يملكون من صلة الإسلام خارج حدود الهوية ، التي تمنحهم حق الإرث وصلاة الجنازة والدفن في مقابر المسلمين .. وإلا فكيف يعد من المسلمين ذلك الطرقي الذي يقول بالحلول والاتحاد وبوحدة الوجود ؟ وكيف يحسب على الإسلام ذلك الشيوعي الذي أسلم وجهه لماركس ولينين ، والآخر الذي آمن بالاشتراكية ورفض نظام الإسلام ، وأولئك الذين ربطوا وجودهم بقيود الحزبية ، فهم يصلون ويصومون ويحجون ، فإذا ألفوا أنفسهم بين دعوة الله ونداء الحزب لم يترددوا لحظة في الاستجابة للحزب والإعراض عن دين الله ..أفنستكثر على هؤلاء أن يحشروا مع الجاهليين ، والله يقول في وصفهم وأشباههم [ألم تر على الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به . ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً] سورة النساء ـ 60 .

الحق إنها لجاهلية جديدة لا تقل أثراً عن الجاهلية القديمة ، بل لعلها تفوقها خطراً بما تملكه من وسائل الإغراء والتضليل التي لم يعهدها الضالون السابقون ..

أما الملاحظة الثانية فحول كتاب (الإنسان بين المادية والإسلام) يؤكد فيها القارئ على مأخذين أحدهما تعليل المؤلف لأسباب الثورة على ذي النورين بردها إلى بذور التفاوت الاجتماعي ، وبأنها ثورة ناشئة عن شعور المسلمين بأن الأمور لا تجري كما ينبغي أن يكون ، وأنها تخالف الحق والعدل.. إلخ وطبيعي أن هذا التعليل قائم على ادعاء أولئك الثائرين المضللين ، وهو ادعاء له ما يحتج به من ناحية التفاوت الاجتماعي الذي جاء به التطور ، الذي أعقب أيام الفتوح والاستقرار ، فكثر المال ، واتسعت شقة التفاوت بين الناس ، حتى كان هناك الطبقة الغارقة في غمار النعيم ، إلى جانب الطبقة المتخلفة في ميدان الكسب ،فكان ما لا مندوحة عنه من شيوع التذمر والتحاسد .. وفي مثل هذا الجو تضطرب المعايير وينفسح مجال النقد ، حتى يتوهم الغوغاء من جيل ما بعد الصحابة أن الوضع مخالف لما يفرضه الإسلام من الحق والعدل والمساواة ، وبذلك يتهيأ المجال أمام المفسدين لاستغلال هذه الظواهر ، وهو عين ما حدث في عهد الخليفة المظلوم رضي الله عنه .

ويتناول المأخذ الثاني موضوع (الانحراف الذي ـ يقول المؤلف إنه ـ امتد أيام الدولة الأموية) فيسوء القارئ ذلك القول لمجرد أن حكامها من المسلمين ..وكان على هذا الأخ أن يراجع تاريخ الأمويين في مصادره الصحيحة ، وبخاصة ألوان المفاسد المتمثلة في أنواع التماثيل والزخارف التي خلفوها في مصايفهم بالأردن .. ليستيقن أن في ذلك العهد من الانحرافات ما لا تفي بوصفه كلمة الانحراف .

ثم اسأل هذا الأخ ماذا يسمي عمل الحجاج في بقية الصحابة ، وفي بيت الله الحرام .. وبأي عبارة يصف استباحة القوم لمدينة رسول الله .. وكيف ينظر إلى مأساة أهل البيت المطهر على أيدي ابن ذي الجوشن ومالك بن البشير ، وسنان بن أنس ، وبقية الطغمة من كبار القتلة ؟!..

ألا فلنذعن للحق ، ولنقلها صريحة : إن المسلمين الذين حكموا الدولة الأموية لم يكونوا على سواء في الالتزام بمنهج الإسلام ، ولو أننا عزلنا صالحيهم وهم الأقلون لم يبق لدينا سوى أولئك الذين مهدوا بانحرافهم لكل مآسي المسلمين .

وبقي أن نذكر الأخ القارئ بأن بعض هذه المتشابهات التي يعدها من المآخذ قد استدركها المؤلف في ما بعد الطبعة الأولى من كتاب (الإنسان بين المادية والإنسان) ـ كما أخبرنا ـ.

وأخيراً

ذلك هو محمد قطب الذي شرق اسمه وغرب مع مؤلفاته الطافحة بالجديد من الفكر الحي النابع من الرؤية الإسلامية ، التي خلصت من شوائب التقليد ، فكانت إحدى المنارات القليلة التي تبين للقارئ المسلم طريقه الموصل إلى عز الدنيا وسعادة الآخرة .

والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .