الإعلامي والمثقف الفلسطيني البارز

الإعلامي والمثقف الفلسطيني البارز شقيق أبو سلمي

وأحمد شاكر الكرمي:

حسن الكرمي: آخر الكرميين الكبار... بلغ المئة!

 ابراهيم درويش

عيد ميلاد سعيد، اليوم، 1/7 بلغ الاذاعي والمعجمي الفلسطيني حسن الكرمي (ولد عام 1905) مئة عام، قرن فلسطيني، زيتونة معمرة عبر عنها شقيقه الراحل ابو سلمي الذي اطلق عليه لقب زيتونة فلسطين ، حسن الكرمي، هو سليل العائلة المعروفة، من الكرميين الذين ينتمون الي مدينة طولكرم ولجهاد وثقافة الشيخ سعيد الكرمي (1852 ـ 1935) تلميذ الافغاني ومحمد عبده ( للمصادفة يحتفل هذا العام بمئة عام علي وفاة محمد عبده)، حسن الكرمي هو قرن فلسطيني، قرن الشهادة التاريخية ، وقرن من العمل الدائب لخدمة اللغة العربية والثقافة الاسلامية، وآخر حلقة الكبار من الكرميين، او عائلة الشيخ سعيد الكرمي التي لعبت دورا هاما في الثقافة الفلسطينية وممثليها الكبار، الشيخ سعيد الكرمي وابنائه الذي لمعوا قي مجالات هامة، خاصة احمد شاكر الكرمي الكاتب والأديب (1895 ـ 1927)، وعبد الكريم الكرمي (ابو سلمي) (1907 ـ 1980)، الشاعر والمناضل وحسن الكرمي الاذاعي واللغوي اضافة الي نبهان، حسين محمود وعبدالله الكرمي . وتظل حياة الكرمي صورة عن تقلبات القرن العشرين، وعن تاريخ القضية الفلسطينية بشكل عام. فالكرمي عايش فلسطين العثمانية والانتدابية والاردنية وفلسطين المحتلة ورأي ايضا حكم السلطة الوطنية (في المراحل الثلاث الاخيرة كان في الخارج)، وظل خلال هذه التقلبات والاهوال التي مرت علي وطنه وعايشها في غربته وفيا للقلم وللكتاب، حيث يقضي أيامه في عمان، باحثا في معاجمه ومطورا اياها ومحاولا انجاز ما لم ينجز من الابحاث والقراءات، ومن هنا فالكرمي آخر ممثل للجيل الذي تربي في فلسطين الانتدابية وعاش معظم حياته في بريطانيا، وكون نفسه بنفسه.

يقول حسن الكرمي في مذكراته ان ولد عام البطيخ في طولكرم وهو العام الذي فاض فيه الموسم وصدر ما تبقي منه في المراكب الي مصر. وكان في صغره كبير الرأس كما يقول في مذكراته التي نشرتها القدس العربي في عام 1990. وادخله والده في الكتاب، في الحارة القبلية في طولكرم. ويتذكر الكرمي والده سعيد الذي حكم بالاعدام عام 1916.ويقول الكرمي انه تلقي تعليمه في مكتب عنبر في دمشق حيث كان والده يعمل في مجمع اللغة العربية الدمشقي، وكان هو واخوته الفلسطينيون الوحيدون في المكتب، ويرسم الكرمي صورة حية عن الحياة والتعليم في سورية في مفتتح القرن العشرين. ويتذكر العديد من قادة الفكر والثقافة في سورية والذين ساهموا في بناء الحياة التعليمية في سورية والعالم العربي مثل عبد القادر المبارك وسليم الجندي وغيرهما. ويتذكر الكرمي اليوم الذي قرر فيه الجنرال غورو زيارة المدرسة والاطلاع علي مستوي التعليم فيها وكيف قابله طلبتها بالصراخ. وعبر الكرمي عن نزعة نحو الثورة حينما شارك في مظاهرة ضد الوجود الفرنسي في سورية. ويقول الكرمي انه التقي في مكتب عنبر بثلة من الطلاب الذين قادوا الحركة الادبية في سورية مثل انور العطار وزكي المحاسيني وغيرهما. . بعد عودة الكرمي لفلسطين اشتغل بالتعليم. ويقول الكرمي انه اسس جمعية سرية اثناء دراسته في المكتب.

عاش الكرمي في فترة الثلاثينات الثورة الفلسطينية، ولم يكن مؤيدا للمجلسيين وقيادة الحاج امين الحسيني لهم، حيث اتهمه البعض بالتعامل مع الانكليز وعاش فترة من الزمن خلف الاضواء خوفا علي حياته. وفي عام 1938 ارسل في بعثة لبريطانيا، واعتبر ممالئا للسلطة، والمعارض في ذلك الزمن كان مشكوكا في وطنيته الحزبية في البلاد. ويبدو غضب الكرمي واضحا علي جماعة الحسيني نظرا لان شقيقه محمود تم اغتياله من بعض مؤيدي الحسيني في بيروت.

وفي عام 1945 تلقي الكرمي بعثة اخري من المجلس البريطاني، وخلال هذه الفترة نمي الكرمي قراءاته وعلاقته باللغة الانكليزية التي دأب علي شراء معاجمها.

وبعد عودته الي فلسطين عرض عليه مدير البنك العربي عبد الحميد شومان منصبا للعمل في البنك، وكان الكرمي بين عقلين، حيث نصحه مدير التعليم في السلطة الانتدابية برفض الطلب. في عام 1948 انتسب الكرمي للقسم العربي في هيئة الاذاعة البريطانية. ويحمل الكاتب الفلسطيني صورة عن الوضع العام في القسم والتنافس بين العاملين فيه من فلسطينيين ومصريين، والتحزبات التي حملها كل فريق عن الاخر، وضمن هذا السياق يتذكر الكاتب جهوده في توحيد المصطلحات بين العاملين في القسم، ومحاولاته الدائبة لتصحيح الاستخدام اللغوي. ولان الاقران لا يؤخذ منهم كما يقول علماء الجرح والتعديل في علم الحديث، فان الكرمي كان شديدا في نقده للباحث والمؤرخ الفلسطيني عبد اللطيف الطيباوي. ولا يخفي ان التنافس والتناحر بين الاقران يكون موجودا في كل اماكن العمل والاتصال. وحديث الكرمي عن الطيباوي واقرانه في هيئة الاذاعة البريطانية / القسم العربي لا يخرج عن هذا السياق.

وخلال عمله في البي بي سي قام بزيارات عديدة للدول العربية منها زيارته لافريقيا، حيث زار السودان في اواخر الخمسينات من اجل تغطية الانتخابات البرلمانية فيها، واجتمع مع العديد من القيادات السودانية واقترح عليهم مشروعا لحل ما اسماه الازمة في الجنوب السوداني، وقابل الكرمي في زيارته الافريقية اسماعيل الازهري احد الزعماء التاريخيين السودانيين. وشملت زيارته ايضا نيجيريا التي زار فيها احياء الجالية اللبنانية فيها، وزار الولايات الشمالية فيها ذات الغالبية الاسلامية ونقل بعضا من تقاليدها التي اعتبرها غريبة، حيث قال ان القرآن لا يذاع في الاذاعة النيجيرية في لاغوس بطلب من السلاطين المسلمين ولديهم تفسير خاص لهذا الامر وهو الآية الكريمة التي تقول واذا قرأ القرآن فاستمعوا له وانصتوا... ، ومن هنا فانه في حالة اذاعة القرآن ولم ينصت له احد لا يحل شرعيا، واستغرب الكرمي من هذا التفسير وعلق قائلا ان الاثم علي المستمع وليس علي قارئه في هذه الحالة.

كما زار غانا واجتمع فيها مع الزعيم التاريخي كوامي نكروما، كما نقل شيئا من عادات المسلمين وتقاليدهم هناك، وصورة عن الخلافات بين الجاليتين اللبنانية والسورية والتي كان لكل واحدة منهما ناد، ووجد نفسه موضع احراج حينما تلقي دعوات من الجاليتين. وبنفس الطريقة التي تحدث فيها الكرمي عن تخلف المسلمين في نيجيريا وعاداتهم الغريبة، ونقل شيئا من عادات المسلمين في غانا منها ان الشيخ فيها يحل له ان يتزوج 3333 زوجة. ولم يغفل الكرمي في رحلته هذه من البحث عن النكات اللغوية والتعبيرات العربية في لغة الهوسا والفولاني.

بعد عودته الي لندن، اذاع الكرمي عددا من الاحاديث عن رحلته الافريقية، وبدأ بتقديم حلقات برنامجه الذي ارتبط به وعرف بالعالم العربي، بل وطارت شهرته في الافاق نتيجة له وهو برنامج قول علي قول ، ويقول الكرمي ان فكرة البرنامج تنبع من محاولته لايجاد وسيلة تؤدي بالناس عامة وبالطلاب خاصة الي التعرف علي اللغة العربية وأساليب التغير فيها، وذلك عن طريق ذكر الاشعار، والاقوال في مناسباتها، لأن مناسبة القول في بيت الشعر عون علي فهم معناه بالتحديد .

واقترح الكرمي عددا من الشروط لمن يريد تقديم البرنامج ان يكون المجيب علي معرفة تامة بالشعر العربي في أول عهده، وان تكون له فراسة في الشعر العربي بعد طول الدراسة والممارسة، وان تكون لديه مكتبة شعرية كاملة تعينه علي البحث والدراسة. وقد اشتهر البرنامج، حيث ظل يذاع حتي نهاية الثمانينات، وحينما قرر الكرمي ايقاف البرنامج نظرا لكبر العمر، تلقي آلاف الرسائل من المعجبين به من معظم انحاء العالم العربي الذين طالبوه باعادة البرنامج.

وكان الكرمي يردد في البرنامج لازمة معروفة تقول وسألني سائل من القائل وما المناسبة؟ . ونظرا لانتشار البرنامج فان العديد من الاذاعات العربية حاولت تقليده دون جدوي، فأني لها بشخص بثقافة وتوسع الكرمي. ويقول الكرمي ان جمال عبد الناصر نفسه تساءل عن عدم سبب وجود برنامج للشعر مثل هذا البرنامج، وكان الملك فيصل بن عبد العزيز احد المعجبين به، والرئيس العراقي السابق احمد حسن البكر، والشيخ زايد بن سلطان الذي ارسل في طلب الكرمي ليسأله عن بيت شعر غريب، فلما وجده الكرمي اعطاه الشيخ زايد هدية 300 جنيه استرليني .

ويتحدث الكرمي انه حاول بعد طباعة كتابه قول علي قول في ثلاثة عشر مجلدا ان يدفع الوزارات العربية لتقريره علي المدارس العربية، ولكن محاولاته باءت بالفشل، وقيل له ان السعودية رفضت تقرير الكتاب بسبب احتواء الكتاب علي اشعار الخمر. واستمر الكرمي في تقديم برنامجه حتي بعد تقاعده من العمل في القسم العربي في هيئة الاذاعة البريطانية، في اواخر الستينات.

من الجوانب الاخري المهمة في حياة الكرمي، والتي تتعلق ايضا بخدمة اللغة العربية، كان انشغاله الدائم بتطوير المعجمية العربية، ويبدو ان هم تطوير المعاجم العربية الثنائية منها والاحادية كانت هما يوميا ودائما. ويقول الكرمي في هذا السياق انه لم يترك معجما بالعربية او الفرنسية او الانكليزية الا واقتناه، كما فرز كل ترجمات القرآن الكريم للغة الانكليزية واعجبته ترجمة محمد اسد، فيما لم يستحسن ترجمة يوسف علي. ويعود اهتمام الكرمي بالمعجم العربي الي ايام عمله في القسم العربي بهيئة الاذاعة البريطانية حيث انتقد طريقة ترجمة الاخبار، واشار الي عدم الدقة في فهم معني الكلمة العربية حينما يتم وضعها في سياق سياسي او اقتصادي. وفي هذا الاتجاه كثيرا ما عاب الكرمي علي الكتاب الذين اتخذوا من ترجمة الكتب العربية للانكليزية تجارة رابحة، حيث وسم الباكستانيين الذين اتخذوا ترجمة الكتب الاسلامية للانكليزية صنعة للتكسب. وضمن هذا السياق قدم الكرمي سلسلة معاجمه التي ابتدأت بـ المنار عام 1970، و المغني ، و المغني الكبير و المغني الاكبر ، و الهادي الذي كان معجما احاديا.كانت لعبة الكرمي طوال حياته القراءة، حيث يقول في هذا السياق انه كان يقرأ قبل النوم وبعد النوم، وقبل الطعام وبعده وفي البيت والحديقة والشارع وفي القطار، ونتيجة لذلك كانت القراءة هوس حياته، وفي مذكراته يتحدث كثيرا عن طبيعة الكتب التي كان يقرأها خاصة الفلسفية والتاريخية واللغوية، اضافة الي الكتب الرياضية التي يقول انها كانت تساعده علي تمرين الذاكرة.

يعتبر جهد الكرمي المعجمي جهدا شخصيا، حيث حاولت العديد من مجامع اللغة العربية تبني عمله، ولاسباب غير معروفة ظل جهده ومشروعه شخصيا يقوم علي حماية اللغة العربية وتطويرها، وادخال العديد من المفردات اليها باعتبارها لغة حية متطورة.

وفي عام 1983 عينه مجمع اللغة العربي الاردني عضوا فخريا فيه. ونال في عام 1969 وساما من الملكة البريطانية اليزابيث الثانية علي خدماته في مجال العمل الاذاعي.مثل حسن الكرمي آخر الكرميين الكبار الذين ظهروا علي سطح الحياة الفكرية والسياسية في فلسطين في بدايات القرن العشرين، فوالده الشيخ سعيد بن علي بن منصور ولد في طولكرم، واليها نسبت اسرته منذ ان استوطنها جد والده. وقد روي الشيخ سعيد لصاحب كتاب الاعلام خير الدين الزركلي، ان اسرته تنحدر من عرب اليمن الذين جاؤوا مع عمرو بن العاص لفتح مصر واستقروا فيها، واول من جاء منهم الي فلسطن جد والده في اواخر القرن الثامن عشر، كما يبدو. انهي الشيخ سعيد دراسته الابتدائية في طولكرم ثم ارسله والده الي الأزهر لاكمال دراسته، وحضر دروس الشيخ جمال الدين الافغاني، واتصل بالشيخ محمد عبده، وبقيت الصلة وثيقة بينهما بعد ذلك. وبعد حصوله علي شهادة العالمية عاد الي بلده وعين مفتشا للمعارف في قضاء بني صعب طولكرم، ثم اصبح مفتيا ولما الفت الجمعيات الوطنية العربية انتمي الشيخ سعيد الي حزب اللامركزية واصبح معتمدا للحزب في قضاء بني صعب، وعندما اعلنت الحرب العالمية الاولي وزعت في دمشق منشورات تدعو للثورة علي الاتراك موقعة باسم حزب الثورة العربية.

وطاردت السلطات العثمانية رجال الحركة العربية فالقت القبض في فلسطن علي حافظ السعيد (يافا) ، والشيخ سعيد الكرمي وسليم عبد الهادي (جنين) من نشطاء حزب اللامركزية وبعد محاكمة قصيرة في عاليه نفذ في 21 آب (اغسطس) 1915 حكم بالاعدام في احد عشر شخصا منهم عبدالهادي، اما حافظ السعيد والكرمي فابدل حكم الاعدام عليهما بالسجن المؤبد، وفي شباط (فبراير) عام 1918 اطلق سراح الشيخ سعيد بفضل مساعي الشيخ عبد القادر المظفر وغيره.

وفي سنة 1918 عاد الشيخ سعيد من دمشق الي طولكرم بعد الافراج عنه من سجن القلعة، ولما الفت الحكومة العربية في دمشق في تشرين الاول (اكتوبر) 1918 دعي للعاصمة السورية وعين في شعبة الترجمة والتأليف من آذار (مارس) حتي ايلول (سبتمبر) 1920، ثم عين عضوا في المجمع العلمي العربي فنائبا لرئيس المجمع المذكور بين تشرين الاول (اكتوبر) 1920 ونيسان (ابريل) 1922. وكان قد حضر المؤتمر الفلسطيني الاول في شباط (فبراير) 1919، وشارك في بعض انشطة الحركة الوطنية في تلك الفترة.

وفي 6 أيار (مايو) 1922 غادر الشيخ سعيد دمشق الي عمان وعين قاض للقضاة في مجلس المستشارين مجلس الوزراء ورئيسا لمجلس المعارف وبقي في عمان يشغل منصب قاضي القضاة حتي عام 1926 وعين بعده الشيخ حسام الدين جار الله، وعاد بعد ذلك الي مسقط رأسه واعتزل السياسة واشتغل في اواخر حياته مدرسا في مسجد طولكرم.

ويقال ان سبب تركه العمل في الامارة له علاقة بوقفية ابو عبيدة بن الجراح.

ترك الشيخ سعيد من المؤلفات قليلة وذلك لانشغاله بالسياسة والمناصب الحكومية، كما يبدو بالاضافة الي اشعاره التي لم تجمع، و طبعت له في صدر شبابه  رسالة في التصوف بعنوان واضح البرهان في الرد علي اهل البهتان .

وشعره يجنح للفظة الجاهلية والصورة الصحراوية البدائية او التراثية ولكنه حسن السبك متين العبارة، وهو فوق ذلك خطيب مفوه عالم بالتصوف والفقه واسرار اللغة وعلوم القرآن والتاريخ والسيرة وغير ذلك من المعارف وكانت له بين الناس حظوة مثلما كانت له مكانة رفيعة عند ذوي الشأن.

وحسن الكرمي كان احد اولاد الشيخ سعيد الكثر واخرهم، فقد توفي اولهم وانجبهم من الناحية الفكرية والثقافية احمد شاكر في حياة والده في دمشق بعد ان اصدر مجلة ادبية مؤثرة الميزان والتي لعبت دورا في تشكيل الحركة الثقافية والادبية العربية في عشرينيات القرن الماضي، وكتب احمد شاكر العديد من المقالات وترجم عددا من الاعمال الانكليزية للعربية منها مي او الخريف والربيع التي عربها عن الانكليزية للشاعرة الامريكية ماريون كروفورد ورواية الوردة الحمراء لاوسكار وايلد، بالاضافة لمجموعة مقالاته المعنونة بـ الكرميات ، اما عبد الكريم الكرمي (1907 ـ 1980) فقد كان احد شعراء المقاومة الفلسطينية، البارزين والذي عايش فترة الثلاثينات في فورتها الشعرية والنضالية، وعمل في الاذاعة الفلسطينية مع شاعر فلسطين ابراهيم طوقان، واشتغل بالمحاماة قبل ان ينتقل لدمشق التي اتخذها مسكنا له، وفيها عمل في الاذاعة، كما وتفرغ للعمل الثوري ومثل فلسطين في اكثر من لجنة للتضامن والسلم، وكتب ابو سلمي اجمل القصائد عن فلسطين وجبل المكبر والقسام وعرف بديوانه المشرد ، ويعتبر الكرمي كما وصفه محمود درويش البيدر الذي تربي عليه شعراء فلسطين قاطبة، وقد حصل ابو سلمي علي العديد من الاوسمة والجوائز، وتمثل عائلة الكرمي كما قال عجاج نويهض في كتابه رجال من فلسطين مجموعة لها اهمية في الفكر في فلسطين حيث يقول ان الشيخ سعيد الكرمي وابناءه يؤلفون رهطاً له وزنه في حركة الاذهان في فلسطين، ولا نكاد نعلم ان بيتا اخر في هذه البلاد قام فيه الاب وتبعه علي دروبه ابناؤه في حياته ومن بعده كما قام هذا المشعل . وفي مذكرات كريمته غادة البحث عن فاطمة صورة حية لحياة العائلة في حي القطمون في القدس، ورحلتها لدمشق، ومن ثم الرحيل الي بريطانيا. وتقول غادة انه بعد النكبة (1948) ورحيل العائلة لدمشق، اخذ والدها يدرس خيارات العمل، فعمان كانت بلدة صغيرة، ومقارنة مع جو القدس الليبرالي المتحرر، كانت دمشق محافظة.

ولهذا جاء اختيار لندن، ربما عن نية او غير نية، فغادة تقول ان والدها لم يخف دائما علاقة الحب والكره مع بريطانيا، فهو من جهة وان اعجب بتقاليد الامبراطورية والادب والثقافة الانكليزيتين انغلوفايل الا انه كان في داخله يشعر بالغبن التاريخي الذي اقترفته بريطانيا بحق الفلسطينيين عندما منحت ارضهم لشعب غريب فـ لولاهم لما كان هناك غزو يهودي لارضنا ولما كانت اسرائيل ، ونظرا لطبيعة عمله في الادارة الانتدابية، في قسم التعليم، فقد تعرف علي بريطانيا من خلال الرحلات التدريبية لبريطانيا، حيث سافر في نهاية الثلاثينات وعام 1946، في لندن، وكان في العاصمة البريطانية اثناء تفجير فندق الملك داوود، حيث كتب رسائل في ذلك الوقت عن الشعور العام والغاضب لما حدث في الفندق.

ولكن حسن الكرمي، مثل كل المثقفين الذين زاروا مدينة الضباب وقع في حب المدينة، حيث يقول لندن تكبر في داخلك، فهي مدينة لا تحب من النظرة الاولي، ويجب ان تعيش فيها حتي تحبها . ولهذا السبب تقول انه عندما قدم طلبا للعمل مع هيئة الاذاعة البريطانية كان يريد توثيق صلاته مع المدينة، وبعد التهجير عاد وقدم طلبا من جديد حيث تلقي ردا جيدا، وسافر للقاهرة للمقابلة حيث عين مشرفا للغة في الاذاعة.تقول غادة ان والدتها كانت تحبذ لو عمل الوالد في القاهرة التي كانت تحمل في ذهن العرب حسا عن السحر، وكل ما هو جميل ويرتبط بعالم النجوم والسينما، فالقاهرة كانت ولا تزال مصنعا للنجوم. وعلي خلاف التوقع هذا، قرر حسن الكرمي السفر للندن وبناء علي نصيحة الادارة في الاذاعة سافر وحده ذلك ان بريطانيا كانت تتعافي من آثار الحرب العالمية الثانية ومعني هذا ان يعيش حسن الكرمي وحيدا لمدة عام في لندن قبل ان تصل العائلة في خريف قاتم ورمادي، لمطار هيثرو، حيث كانت الطائرة تحمل اماً وفتاتين وصبياً ومعهم حقائب كثيرة مليئة بكل خيرات سورية، وهذه الرحلة كانت بداية مرحلة جديدة في حياة العائلة. ويتذكر الكاتب المصري حسين احمد امين، ايام حسن الكرمي في بي بي سي قائلا:اما حسن الكرمي فصاحب المعجم الانكليزي العربي الشهير المغني الأكبر والبرنامج الاذاعي في الأدب والشعر قول علي قول ، والقائم وقتذاك علي اعداد سلسلة تعليم الانكليزية بالراديو . كان يشغل منصب مراقب اللغة. فهو في مكتبه عن مكتبه في طابق علوي يستمع من طريق سماعة الرأس الينا معشر المذيعين ونحن نقرأ نشرات الأخبار في الاستوديو تحت سطح الأرض، ويسجل في ورقة أمامه ما ننزلق اليه من أخطاء في النحو، أو النطق أو الترجمة، حتي اذا ما انتهت نوبتنا في الاستوديو كان علينا أن نصعد اليه في مكتبه علي الفور ليسرد علينا بيان هذه الأخطاء. وهو أحياناً يفاجئنا في الحجرة المخصصة لمترجمي النشرات الاخبارية ليراجع ويصحح مانكون قد فرغنا من ترجمته من فقرات . ويري امين ان الكرمي كان له فضل كبير عليه، بعد والده احمد امين في الارتقاء بلغتي العربية، فعلي رغم أنني كنت في مصر أعتبر نفسي مجيداً لتلك اللغة، اذاً بي أجد الكرمي يسجل من أخطائي خلال النشرة الاخبارية الواحدة التي لا تستغرق قراءتها أكثر من الساعة، ما يملأ صفحة أو يزيد! غير أنه كان ثمة ما يخفف عني شعوري بالاحباط: فالأخطاء المذكورة لم تكن مما يقع فيها الطلاب أو الصحافيون أو السياسيون فحسب، وانما كان معظمها ما يسميه الحريري صاحب المقامات بأوهام الخواص، أي تلك التي يقع فيها حتي من ظن في نفسه اتقان اللغة ، ويضيف قائلا لم يكن رؤساؤنا من الانكليز يحترمون أحداً منا احترامهم لحسن الكرمي ، ويضيف كان نادراً ما يبتسم، ونادراً ما ينفعل، بارد العاطفة، أو هكذا خيل الي، كذلك خُيل الي أنه شديد الحرص في الانفاق، ربما لأني لم أكن أراه في مطعم الاذاعة ساعة الغداء الا وأمامه كوب من اللبن الزبادي لا يتجاوزه الي غيره. أما المؤكد فهو أنه كان دودة كتب ، لا حديث له الا في ما يقرأ أو يكتب، في تصريف فعل أو أصل كلمة، ولا اهتمام له خارج حدود الكتب وعمله الاذاعي، ولا غرام يشغل قلبه غير الغرام باللغة العربية. فهو ملم بتراثها الماماً يندر أن تجده في غيره، وما كان ليبزّه فيه من معاصريه غير الأستاذ محمود محمد شاكر ، مشيرا الي ان اهتمامات الكرمي بالمسرح او الموسيقي والسينما وفنون التصوير والنحت والباليه والأوبرا، كان معدومة، علي الاقل من خلال حديثه.

ويقول عن لقائه رحب بي عند تسلمي العمل ترحيباً حاراً اذ علم أني ابن لأحد أمين، غير أنه ما تبين بمرور الأيام أني لست حجة في اللغة، ولا حتي من مُتقنيها، حتي فترت حرارته، وصار شأني عنده شأن الآخرين من غوغاء الاذاعة .

           

* ناقد من اسرة القدس العربي