عمر أبو ريشة

عبد الله يوركي حلاق

عمر أبو ريشة

 

بقلم: عبد الله يوركي حلاق

كنتُ في بسمة الصبا، يوم رأيتُ عمر أبو ريشة، واستمعتُ إليه، وصفّقتُ له كثيراً، وهو يلقي قصيدته "البتول" ويصفُ فيها بمنتهى الدقة والبراعة، البطلة الفرنسية الباسلة "جان دارك"(1) التي خاضت غمار القتال، دفاعاً عن وطنها وكرامة أمتها.

كان لقاؤنا الأول، في حفل أدبي أقامته "جمعية نهضة الشبيبة الأرثوذكسية" في مدرسة الأمريكان بالخندق، في مساء يوم الأربعاء 21/11/1934 وهناك تعارفنا تعارفاً سريعاً، ما لبث أن قوي وغدا صداقة متينة.

في ذلك الحفل، افتتح عمر قصيدته الرائعة بقوله(2):

الـفـجـرُ أومـأ iiوالبتو
حـتـى إذا حـلمُ iiالصبا
أخـذت تـمـطّى والفتو
وغـطـاؤها  حيرانُ iiيز
وأكـفّـهـا فـي شعرها
والـنّـاهـدان iiبصدرها
فـتـشـدّ  فـوقهما وسا
وبـوارقُ الـوجدِ iiالخفي
هـيهاتَ  تُروى iiوالحياءُ








لُ بحلمها المعسولِ نشوى
ولّـى  مع الظلماء iiعدوا
رُ  يهزها عضواً iiفعضوا
لـقُ عن ترائبها iiويُطوى
تـزدادُ دغـدغـةً iiولهوا
يـتواثبانِ  هوىً iiوشجوا
دَتـهـا وفي شغفٍ iiتلوّى
تـنزو مع النظراتِ نزوا
خـدينُها،  هيهاتَ iiتُروى

وقد استطاع الشاعر الشاب، أن يطرف سامعيه بتسعة وخمسين بيتاً، جعلها ذات سبعة مقاطع اتحد بحرها، واختلف رويّها، وسمت معانيها، وتفرّدت صورها بألوان زاهية من الخيال والجمال والابتكار.

وحلّق عمر في آفاق الإبداع، وهو يرسم بريشته الساحرة، وشاعريته الفذّة، تلك المناضلة الحرّة الأبيّة، التي آثرت النار على العار، فقضت شهيدة الواجب القومي المشرّف، وغدت في عداد القديسات.

وأُعجب السامعون بالشاعر الوسيم، ذي القامة المديدة، والإلقاء الرصين، واللهجة العذبة الصافية، وتوقّعوا له مستقبلاً أدبياً زاهراً.

كانت سورية في ذلك الحين، تقارع الانتداب وتكافح المنتدبين ودُعاة الاستعمار، وكان للشعر صوته المدوّي، وتأثيره العظيم في إيقاظ الهمم، وإلهاب المشاعر، ودفع الناس إلى المطالبة بالسيادة والاستقلال، وكان شعر عمر يعلو في كل مناسبة قومية، وفي كل حفلة وطنية، فتلقفه الأسماع، وتحفظه الصدور، وتنشره الجماهير، وتتنافس في نشره كبريات الصحف العربية الروح والهدف.

وبعد أن كان اسم عمر متألقاً في سماء حلب والبلاد السورية، امتد بسرعة مذهلة إلى جميع أقطار العرب، وإلى كثير من المدن الأمريكية التي تضمّ جاليات عربية، يتأجّج في صدورها الشوق والحنين إلى مساقط رؤوسها، وملاعب طفولتها، ومسارح شبابها.

وُلد عمر في 10 نيسان 1910 في مدينة عكا، من أبوين تقيين فاضلين اشتهرا بالنبل ومكارم الأخلاق، وقد عرفنا في مطلع شبابنا، هذه الأسرة الكريمة، فاحترمناها لرفعة قدرها، ولأنها كانت تمثل وجهاً أصيلاً ونبيلاً من وجوه العروبة العريقة في الأريحية والمروءات. وكان والده شافع، "قائم مقام" في منبج، وكان شاعراً مجيداً، له قصائد حسنة، وقد زرع حب الأدب في نفس ولده، ولكنه لم يكن يريده أديباً ولا شاعراً، بل كان يحب أن يكون ولده مهندساً، لعلمه أن الأدب لا يطعم خبزاً، ولا يجرّ على صاحبه غير التعب والحرمان.

تلقّى عمر دروسه في الكلية الأمريكية بحلب، وفي عام 1931 دخل الجامعة السورية بدمشق، ثم انتقل إلى الجامعة الأمريكية ببيروت، وأكمل علومه في المعهد الفني بمنشستر –إنكلترا، وهو يحمل شهادة ب، آ B .A  Bachelor of Arts"" وشهادة م. آ – "Master of Arts" M. A ودبلوم (1)"Master of Sciences" – M. Sc –

ومن حسن حظ الأدب العربي، أن عمر لم ينصرف إلى الهندسة، بل انصرف إلى الشعر، لأن الشاعرية متأصلة فيه وسارية في دمه، ولهذا ما كاد يعود إلى حلب، حتى بدأ يصدح بشعر لم تعرفه حلب منذ عهد سيف الدولة.

وهكذا أيقن الحلبيون أن الشهباء قد ظفرت بشاعر تمثّلت فيه عبقرية المتنبي، وتجلّت في قصائده ديباجة البحتري، وجزالة ابن أبي ربيعة، ورقّة أبي فراس الحمداني.

والغريب في أمر عمر، أنه لم يدرس علم العروض، ولكنه ذو أذن موسيقية عجيبة لا تخطئ، وهو يختار اللفظة المناسبة للمعنى الذي يريده، ومن هنا جاءت أشعاره في منتهى الدقة والفصاحة والانسجام، فضلاً عن السمو والإشراق والتجديد الدائر في فلك الفصحى، والمشرق بأنوار الأصالة الفنية الخالصة.

وتوثقت أواصر الصداقة بين عمر أبي ريشة وبيني، وحاولنا مع نخبة من أدباء حلب، ومن الأدباء الذين كانوا يقيمون فيها وقتئذ(4) أن نؤلف رابطة أدبية تسهم في خدمة الشعر والتجديد، وشاء بعضنا أن يغالي في نظرية التجديد مغالاة أدت إلى عدم اكتمال محاولتنا.

وراح عمر يُنشد خرائده البكر، في الحفلات القومية، فيهزّ المنابر، ويخلب الألباب، ويقيم الحفل ويقعده، وكان يؤثر تأثيراً سحرياً عجيباً في سامعيه وعشاق أدبه، فبنبرة من صوته الجهوري، أو بنظرة من وراء نظارتيه، كان يدفع الأيدي إلى التصفيق، والحناجر إلى الهتاف، وكثيراً ما دفع مستمعيه إلى التظاهر ضد الانتداب والمنتدبين.

كان يقول الحق، ويدافع عن الحق، دون أن يخشى لومة لائم، أو يخاف سطوة ظالم، فالشجاعة النفسية فيه، تحدوه إلى الصراحة، وتجعله ينتقد المفسدين، ويثور كالبركان على المستبدين الغاصبين.

وفي عام 1936 يوم كانت الحكومة السورية ترحب بالمعاهدة السورية –الفرنسية، وتلقبها بأعجوبة القرن العشرين، ثار عليها عمر، وصاح من فؤاد جريح:

صريعَ الهوى إن خلف البراقع    تلكَ المطلقة الفاجرهْ

وفي عام 1938 أقيمت للزعيم السوري إبراهيم هنانو حفلة تأبينية حضرها سعد الله الجابري رفيق هنانو في الجهاد والنضال، وكان يومئذ وزيراً للداخلية، ونائباً لرئيس الوزراء، فوقف عمر وطفق يصبّ جام غضبه على أساليب الحكم بجرأة نادرة، وفي نهاية الحفلة تقدم سعد الله الجابري رحمه الله من الشاعر الثائر عمر، وقبّله قبلة الرضى والإعجاب وقال له:

"إن شعركَ يقوّم اعوجاجنا شئنا أم أبينا".

وفي صيف عام 1948 أقيمت على مسرح حديقة "اللونابرك" حفلة ترفيه عن المجاهدين في سبيل فلسطين، فوقف عمر أبو ريشة أمام جموع السامعين، وبينهم فئة من كبار حكومة ذلك العهد، وألقى قصيدته الانتقادية الشهيرة "أمتي" التي يقول فيها:

أمـتـي هـل لكِ بينَ iiالأممِ
أمـتـي،  كـم صنمٍ iiمجدتهِ
لا يُـلامُ الـذئبُ في iiعدوانه
فاحبسي الشكوى، فلولاكِ iiلما



مـنـبـرٌ  لـلسيفِ أو iiللقلمِ
لـم  يكن يحملُ طهر iiالصنمِ
إن يـك الـراعي عدوّ iiالغنمِ
قام في الحكم عبيدُ الدرهمِ(5)

ويتابع أبو ريشة حملاته على المتهاونين بحق أمتهم وشؤون بلادهم، ويؤلمه أن يكون هو واحداً من أولئك الصابرين على جراحهم، الواجمين الذاهلين أمام نعش الكبرياء، فيطلق صيحته القوية الحائرة:

تـتـساءلينَ علامَ iiيحيا
الـمـتـعبونَ  ودربهمْ
الـذاهـلونَ iiالواجمونَ
الصابرونَ على الجراحِ
أنـسـتْـهُـمُ الأيامُ iiما
أزرَتْ  بـدنـياهم iiولم
تتساءَلين! وكيف iiأعلمُ؟
امـضي لشأنك، أُسكتي







هـؤلاء iiالأشـقـيـاءْ
قَـفـرٌ  ومرماهم iiهباءُ
أمـامَ  نـعشِ iiالكبرياءْ
المطرقونَ  على iiالحياءْ
ضحكُ الحياةِ وما iiالبكاءْ
تـتركْ  لهم فيها iiرجاءْ
مـا  يرونَ على iiالبقاءْ
أنـا واحـدٌ من iiهؤلاء

أحببتُ عمر أبا ريشة حباً صادقاً، وأمضيتُ بصحبته أطيب أيام الشباب تحت سماء حلب، التي نشأ فيها، وأحبها كما أحبته، وألقى من على منابرها أشهر قصائده الوطنية والاجتماعية والغزلية، فما رأيت أعفَّ منه نفساً، ولا أصدق منه عاطفة، ولا أرقَّ منه قلباً، ولا غروَ، فالشعر مرآة روح الشاعر، وصوت فؤاده، وهمس وجدانه، وشعر عمر حافل بكل ما يمتاز به من نبوغ وجرأة ومروءة وشمم وإباء.

إنه شاعر مثالي شجاع، لم يخف قوياً، ولم يتملق ثرياً، ولم يمجد غير البطولات والمروءات. ولو أراد لمشى إليه النضار، ولتدفقت تحت قدميه ينابيع الغنى، ولكنه خُلق عزيزاً أبياً، فيه من الإنسانية أكرم هباتها، وأمتن مقوّماتها، وها هو يصف الشاعر، وكأنما يصف نفسه:

غمزته عرائس العيش إغرا
شاعرٌ  لو شكا الحياةَ iiلكانت

ءً  فلم تستبحْ حمى iiعنفوانهْ
سرواتُ  الملوكِ من iiندمانهْ

لقد عاشت حلب في عهد عمر أبي ريشة، خمسة عشر عاماً، استعادت في خلالها، وجهها الأدبي الوضاء، الذي عرفته في عصر ابن حمدان. وبعد أن كان في عام 1940 مديراً لدار الكتب الوطنية في حلب، عُيِّنَ سنة 1949 ممثلاً لسورية في البرازيل، فأقامت له الشبهاء حفلةً تكريمية اشتركتُ فيها بقصيدة أذكر منها الأبيات التالية:

شاعر الخلدِ جئتُ أعلن iiحبي
كمْ  ملأتَ الحياة شدواً iiحنوناً
رُبَّ  بـاغٍ طـلبتَهُ iiفتحاشى
لا يـردّ الـظـلومَ إلا iiانتقادٌ
ثورةُ الحرِّ تخلقُ الوطنَ الحرَّ




وولائـي فهاتِ منك iiالمعاني
ولـكـمْ  ثرتَ ثورةَ iiالبركانِ
لاذعَ  النقدِ وانطوى iiكالدخانِ
من  أديبٍ أو طعنةٌ من iiسنانِ
وتـبني  للمجدِ أعلى iiالمباني

في تلك الحفلة التي نقلت وقائعها محطة إذاعة حلب، تساءلنا: لماذا نكرّم عمر؟

سؤال واحد تزاحمت أمامه أجوبةٌ كثيرة. ففي شخصية عمر، نواحٍ عديدة يستوجب كل منها المحبّة والتكريم.

لقد كرّمنا عمر، لأنه أبطل حجَّةَ مَن قال: إنَّ حلب توحي الشعر، ولا تُنبت الشعراء.

ففي حلب، تجلت شاعرية عمر، كما تجلت قبل ألف عام شاعرية المتنبي وأبي فراس، ثلاثة شعراء أطربوا الدنيا، وشغلوا الناس، وجعلوا قصائدهم حليةَ الخلد والمجد، وبهجةَ العصور والدهور.

وتحتَ سماء حلب، سار موكبُ الشعر في القرن الماضي ومطلع القرن الحالي يضم عدداً من الشعراء أمثال: جبرائيل الدلال وفرنسيس المراش وشقيقته مريانا المراش والشيخ إبراهيم الحوراني وميخائيل الصقال وقسطاكي الحمصي.

أما في القرون السابقة، وفي العصر الحاضر، فالشعراء الحلبيون كثيرون، فهذا البلد العربي الطيب، لا يوحي الشعر فقط، بل ينجب الشعراء المجيدين الصادقين(6).

لقد كرَّمنا عمر، لأنه ذو روح إنسانية سامية، ترى الناس جميعاً إخوة متساوين في الحقوق والواجبات، لا فضل لامرئ على آخر، إلا بالعقل الخلاق، والعمل الهادف لخير الوطن والمجتمع. وهذه نفحة من نفحات الحب المنزه المختلجة في صدر عمر، والمتدفقة في قصائده الغر، وخرائده البكر:

الـنـواقيسُ والمآذنُ ترجيعُ
فـهـلالُ الهدى على iiإنجيل
بوركَ الحبُّ كم تلاشت عليه


صـلاةٍ  رهـيـبةِ iiالألحانِ
وصـليبُ  الفدى على قرآنِ
مـا بـنـتهُ فوارقُ iiالأديانِ

وكنا، ونحن نودّع عمر، نخشى أن ينصرف عن الشعر إلى السياسة، ولكنه استطاع بفضل نبوغه وحبه للأدب، أن يمثل بلاده أروع تمثيل(7)، وأن يبدع في الشعر ملاحم ودواوين عربية وإنكليزية ترقى إلى مصاف الشعر العالمي الرفيع.

من مؤلفاته المطبوعة: "مسرحية ذي قار" ومسرحية "الطوفان" وديوان بعنوان "شعر" و"من عمر أبو ريشة" و"منتحبات شعرية" و"غنيت في مأتمي" وديوان شعر بالإنكليزية.

أما آثاره غير المطبوعة فكثيرة، أهمها ملاحم البطولة في التاريخ العربي، وهي مجموعة تزيد على اثني عشر ألف بيت من الشعر، ومسرحيتا "سميرا ميس" و"الحسين بن علي".

ويحمل عمر أوسمة وأوشحة لم يحملها سفير عربي من قبل.

وقد كان صديقاً حميماً للزعيم الهندي الراحل "نهرو" وكان يلعب معه بالنرد "الطاولة" كما كان صديقاً لمعظم رؤساء الدول التي مثّل وطنه فيها.

وهو يجيد إجادة تامة، عدداً من اللغات الحية مكنته من أن يحرز أوفر قسط من النجاح في سفارته وأدبه وشعره.

لقد جدد عمر في المعنى والصوت والخيال، وطلع على الفصحى بشعر هو مزيج من الحسّ المرهف، والنغم الحلو، والبيان المشرق، والتصوير الفني الصادق، فالشعر عند عمر، يقوم على الإبداع والاستنباط، لا على التنكّر لعمود الشعر والأصالة العربية.

لا ريب أن الشعر العربي، مدين لعمر أبي ريشة، بأسمى ما في التجديد من معان شريفة، وصور فكرية جميلة، وأخيلة مجنّحة ترفرف على جباه النجوم، وتحلّق فوق نهر المجرّة.

وإذا حق لأمة أن تباهي بنابغ من نوابغها، وأن تعتز بشاعر من عباقرة شعرائها، فمن حق أمتنا العربية، أن تفاخر بابنها عمر أبي ريشة، لأنه رسول الفكر النيّر، وشاعر العروبة الأمثل.

         

الهوامش:

 (1) Jeanne D"Arc 1414 – 1431 حاربت الإنكليز لتحرير بلادها منهم، فقبضوا عليها وأحرقوها حيّة في مدينة روان، وقد أعلنت الكنيسة قداستها.

(2) مجلة (الضاد) العدد 1/1935 الصفحة 11.

(3) Who`s Who in the Arab world 1967 -1968 Abou Richeh Omar.

(4) كان في عداد أولئك الأدباء الصديق الدكتور ممدوح حقي والمرحومان الدكتور سامي الدهان وأورخان ميسّر.

(5) الضاد العدد 1/2 السنة 1949 الصفحة 29.

(6) بدأنا بكتاب عنوانه "شعراء حلب في القرن العشرين".

(7) في سنة 1950 عيّن سفيراً لسورية في البرازيل، وفي عام 1953 أصبح سفيراً في الأرجنتين والشيلي، وبين 1954 و1961 صار سفيراً لبلاده في الهند، ثم سفيراً للجمهورية العربية المتحدة في النمسا بين 1959 و1961 ثم سفيراً لسورية في الولايات المتحدة الأمريكية بين 1962 و1964، وفي عام 1964 غدا سفيرنا في الهند.