المرحوم الدكتور حسان حتحوت
يتحدث
رضوان سلمان حمدان
توفي الداعية الإسلامي البارز الطبيب حسان حتحوت - مصري الجنسية - الذي وافته المنية في ولاية كاليفورنيا عن عمر ناهز الرابعة والثمانين، بعد رحلة طويلة قضاها في خدمة الإسلام في أمريكا الشمالية، وقال المدير التنفيذي لمجلس العلاقات الأمريكية - الإسلامية نهاد عوض: "كان شخصًا ذا بصيرة .. كان مصدر إلهام للعديد من مسلمي الولايات المتحدة من خلال فهمه للإسلام، وتكريس نفسه للعمل الإسلامي".
فيما قال الدكتور كمال الهلباوي، المتحدث الرسمي السابق باسم التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، إن: "د.حتحوت كان يمتلك كاريزما خاصة .. كان على قدر كبير من الثقافة، ويمتلك خبرة عظيمة"، وأضاف د.الهلباوي: "كان تركيزه الرئيسي على إعادة تشكيل المستقبل، ومعالجة أزمة العقل لدى المسلمين، وسيظل العديد من الأجيال المسلمة تنتفع بإرثه الثري".
وقد نعى الكثير من مسلمي الولايات المتحدة الراحل، منهم الإمام شاكر السيد، الذي قال: "بلاشك لن أكون الوحيد حين أقول إنني سأفتقد د.حتحوت كثيرًا"، وأضاف: "كان واحدًا من أوائل المسلمين الذين تجاوبوا بإيجابية مع تداعيات أحداث 11 سبتمبر 2001م، وبيَّن الطريق للأقلية" المسلمة التي يتراوح عددها بين ستة وسبعة ملايين من أصل أكثر من 300 مليون نسمة، هم إجمالي تعداد الولايات المتحدة.
* أنا من أواخر الذين رافقوا وعاصروا الإمام حسن البنا مرشد ومؤسس الإخوان المسلمين في مصر ولعلني من أوائل الأطباء العرب الذين عملوا في فلسطين قبل نكبتها ولكن لا شك أني وظفت كل ذاك التاريخ من أجل مد جسور الحوار بين المسلمين والطوائف الأخرى في الولايات المتحدة الأميركية رغم تقدمي في العمر.
ولدت في قرية شبين الكوم المصرية في 23 ديسمبر عام 1924 ،
أنهيت دراسة الطب في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن) تخصص في مجال طب النساء والولادة وحصلت على دبلوم التخصص من نفس الكلية عام 1952.
عائد لتوي من الولايات المتحدة الأميركية حيث أعيش مع زوجتي وابنتي.
أواصل نشر الإسلام المنفتح، الإسلام المؤمن بضرورة وأهمية الحوار مع الآخر.. إلى أي طائفة انتمى.
ترعرعت في كنف الإخوان المسلمين وعاصرت المؤسس والقائد الأول لهم الإمام حسن البنا.
وظفت الطب لخدمة فلسطين ثم عملت في الكويت والسعودية فقد استقر بي المقام في الكويت قرابة عشرين سنة، طبيباً ومدرساً، ورئيس قسم أمراض النساء والولادة بكلية الطب بها.
الحمد لله أحتفظ بذاكرة متقدة حافظة لكل التفاصيل أو تكاد ومن هذه الذاكرة تلك القصيدة الشهيرة التي كتبهتا في وصف الأمة العربية بعنوان عش الدجاج.
خلف زعامات له منفوخة الأوداج
من كل ديك عُرفه يزري بألف تاج
يصيح بينهم بمثل خطبة الحجاج
وينطلق الزور بلا خوف ولا إحراج
فتصب الأمة بالتصفيق والهياج
وتزدهي الديوك في عالية الأبراج
كأنها من زهوها الكباش في النعاج
تأثير الأسرة وعلاقته بحسن البنا
من والدي أستاذ اللغة الإنجليزية والشاعر والأديب ورثت حب الشعر وهو لا أزال أذكر حتى اليوم ما قاله لي والدي حين قررت شاب طبيب الذهاب إلى فلسطين حاملاً بعض البلسم لجراح الناس والأرض هناك:
اهبط على أرض السلام جُعلت يا ولدي فداك وأنسى أمك أو أباك
وتنتهي بالبيت
شُلت يمينك يا صُهين فقد صفعت بها قفاك.
ومن والدتي التي قادت أول تظاهرة نسائية في مصر ضد الاستعمار الإنجليزي ورثت خميرة النضال، ذلك أن تلك السيدة الفاضلة والمتوسطة الثقافة كانت تحمل في ذاتها حب الناس البسطاء لأرضهم ورغبتهم في طرد المستعمر الإنجليزي عنها.
أول ما تعيه ذاكرتي من طفولتي وأمي تكرره عليّ:
عندما حملت فيك نذرت أن أهبك لطرد الإنجليز من مصر.
تأثير الأهل كان كبيراً علي ولكن التأثير الأكبر جاء لاحقاً من مؤسس الإخوان المسلمين الإمام حسن البنا، فمنه اكتسبت ذاك العمق الإنساني والإسلامي الذي وظفت أولى بذوره لنصرة فلسطين ولا أزال حتى اليوم أحمل ثمراته اليانعة في العالم الأميركي الذي كاد لا يعرف عن الإسلام سوى الإرهاب.
في الفترة الأولى من حياتي كان حزب الأغلبية هو حزب الوفد، مات سعد زغلول في حياتي وأنا طفل صغير وخَلَفَه مصطفى النحاس وكان الوفد هو أمل الأمة وهو الترجمان الذي يُعبِّر عن صوتها، أحزاب الأقليات.. مررت بالكثير.. مررت بها جميعاً ولكن.. لم انتم إلى حزب الوفد ولكن كطالب.. كان شعوري مع الوفد والنحاس باشا ، وهكذا حتى فرغت من الدراسة الثانوية وفي بواكير دراستي الجامعية عرفت الأستاذ حسن البنا المُفترى عليه ، هو خير مَن عرفت من الرجال وخير مَن عرفت من الزعامات ولا أظن أن إعلاماً في العالم قطرياً أو عالمياً حُشِد لتشويه صورة إنسان مثلما فعلوا مع حسن البنا، لكنني عرفته عن كثب ، كان رجلاً مؤمناً صادقاً مهذباً لطيفاً سمحاً ، كانت أعجوبته أنه عادي في كل شيء.. جاءنا مرة في كلية الطب وأنا تلميذ وألقى محاضرة وسأله سائل بعدها.. يا أستاذ السينما حلال والاّ حرام؟ قال له في بساطة السينما الحلال حلال والسينما الحرام حرام، عن حسن البنا تعلمت شيئين وددت لو يذكرهما الشباب في عصرنا هذا؛ كان يردد علينا باستمرار سنقاتل الناس بالحب لم يكن يدعو إلى بغض أبداً.
وكان للإخوان جمعية شورية كان فيها وهيب باشا دوس القبطي وترشح للبرلمان فكان مندوبه في إحدى الدوائر قبطياً.. والوحيد من غير أسرته الذي اقتحم الحرس ودخل في جنازة الإمام كان مكرم عبيد الزعيم القبطي وكان محباً وكان لويس فانوس يحضر محاضراته باستمرار وكان يعلمنا الحب وأنا تعلمت عنه هذا الشيء.. علمنا حسن البنا أن نحب الأقباط.
أنا أقيم في الولايات المتحدة الأميركية حالياً وأحاول أن أشرح الصورة الحقيقية للإسلام وأمد الجسور.. يعني الحوار مع الطوائف الأخرى المسيحية واليهودية وما إلى ذلك وكان لذلك إيجابيات كثيرة في هذا المجال.. أما الجدل القائم حالياً في أميركا حول قضية الأقباط في مصر فسببها السياسة فرِّق تسد ومن الغريب أن نرى الناس يلتقطون الطُعم بهذه السهولة، بطبيعة الحال هناك سياسات استعمارية يؤذيها أن يتوحد الناس هنا على حقوقهم وحياتهم الكريمة، فمنهم مَن دأبوا على إثارة هذه التفريقات والفتن، في أميركا مسيحيون وفيها مسيحيون مصريون وأقول جلهم ناس محبون، نحبهم ويحبوننا.
المشكلة هناك أقلية خارجة عن هذا، أقلية تكره ولا تحب.. الذي يحركها إما الكراهية وأقصد الشيطان وإما السياسات الاستعمارية.. يعني الصهيونية والاستعمار، الآن المشرق خاصة المشرق العربي غني وفتي، غني برجاله وبثروته ويستطيع أن يكون دولة كبرى ولكنه عندما يكون كذلك ستضيع الفرصة على مصاصي دماء الشعوب.
ومصاصو دماء الشعوب حاضرون في ذاكرتي في أكثر من مناسبة وذلك عبر تاريخي الذي بدأ إلى جانب الإمام حسن البنا ويستمر اليوم في محافل أميركا المختلفة ، لا أزال أذكر مثلاً تلك المجزرة التي تعرض لها الإخوان المسلمون على أحد جسور القاهرة حين قرروا الذهاب إلى قصر عابدين حيث كان ملك مصر وكان ذلك للمطالبة بحث الملك على طرد المستعمر البريطاني.. وهي معركة كوبري عباس الشهيرة، كان الاتفاق أن يكون إضراب واجتماع للطلبة في الجامعة ومناشدة الأحزاب أن تتحد في جبهة واحدة تفاوض الإنجليز على الخروج من مصر، عندما ذهبت إلى الجامعة كان زعيم الطلبة كما يقال في ذلك الوقت المهندس مصطفى مؤمن رحمة الله عليه، فأثناء خطابه قال والآن إلى عابدين سرايا الملك ولم يكن هذا متفقاً عليه، فلما رأيت الأمر خرج على ما اتفقنا عليه انسحبت وعدت إلى كلية الطب، الذي حدث أن المظاهرة سارت فلما وصلت إلى كوبري عباس تركها البوليس تعبر هذا الكوبري وعندما امتلأ الكوبري بالمظاهرة فُتح الكوبري، يعني قُسِم لتمر المراكب، ثم هجم البوليس من الناحيتين فأصبح الطلاب.. البوليس من جهة والنيل من جهة، السقوط من الكوبري وسقط الكثيرون ومات بعض الطلبة ومنهم مَن لم يزل على قيد الحياة إلى الآن، كانت غادرة وكانت مأساة في الواقع لم يكن لها من ضرورة أبداً.. لقد كان ذلك خطأ من قِبل الدولة بالتأكيد.. فالطلبة كانوا إخوان وغير إخوان..
وقد كتبت قصيدة بهذه الحادثة قصيدة أخاطب فيها رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي باشا وليس الملك.
هل أسكروك فما غدوت رشيداً
أم قد حسبت لك العباد عبيداً
أم جاء من دار السفارة منبئ
يروى بأنك لم تزل مسنوداً
أم حمستك الحرب
أم حمستك الحرب فيمَن حمست
فوجدت نفسك قائداً صنديداً
لم يرضك الأبطال من قوادها
فبدعت فناً في القتال جديداً
وإذا عداك شباب مصر وشيبها
لقيت خصماً يا تعيس عنيداً
وإذا جريمتهم بأن نفوسهم قد حُمِلت حباً لمصر شديداً
وهكذا حتى تصف الجنود..
هل أحضروا بدل المشاة مواشياً
أم أركبوا فوق الخيول قروداً
وهكذا قصيدة طويلة.
أنا الآن عمري 81.. 82 عاما ولا أزال حافظاً لكل أبيات القصيدة.
دور أميركا بمصر وعلاقتها بالإخوان
لم تتبخر ذاكري والحمد لله الدكتور فأنا ومنذ عهد مرافقتي للإمام حسن البنا مؤسس الإخوان المسلمين حتى عملي في الكويت طبيباً ودراستي في بريطانيا أو عملي في الولايات المتحدة الأميركية لا تزال صور كثيرة راسخة في ذاكرتي، وحين كنت أزوره في القاهرة كانت مصر تستيقظ لتوها من اختراق الإخوان المسلمين لانتخاباتها وخبر هذا الاختراق يحتل عناوين الصحف الكبيرة.
الشيوعيون كانوا يعملون لحساب روسيا الشيوعية وعندما أعلِنت الحرب العظمى الثانية كانت روسيا والحلفاء في معسكر واحد، الحلفاء بريطانيا وفرنسا وكنا تحت بريطانيا ولهذا فقد انتقلت روسيا من عدو بغيض إلى حليف للذين يحكموننا.. الإنجليز، فانتعشت الشيوعية في مصر انتعاشاً كبيراً وكان يرأسها متمصر اسمه هنري كوريال.. وكان لكنته أجنبية ولكنه كان يقول أنا مصري .. كان معروفا أنه يهودي مصري، لا بل أنه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أعتمد عليه وعلى بعض الشيوعيين المصريين لمد جسور من التفاوض مع أنصار السلام.. مع الأطراف الأخرى في إسرائيل التي كانت تعترض على المشروع الصهيوني بشكل عام وهم ساعدوا في الواقع جمال عبد الناصر.. يعني أنا أذكر الاجتماعات التي مثلاً كان يقوم كوريال في فرنسا يمهد لاجتماعات بين بعض الموفدين من الرئيس جمال عبد الناصر وبين أطراف إسرائيلية وكتّاب إسرائيليين وكوريال اغتيل على الأراضي الفرنسية لهذا السبب وانساحت الشيوعية أصبحت هي الموضة، الموضة الجديدة أن تكون شيوعياً إن كنت مثقفاً.
كانت في العالم ثنائية وأعتقد أن مصر وبطبيعة الحال وبالطبيعة المصرية المتدينة كانت تأمل في أن يد العون لها ستأتي من أميركا وكنا نعتقد أننا ضحايا بريطانيا وفرنسا وكنا نعتقد أن أميركا غنية فليست في حاجة إلى مستعمرات ولهذا توسمنا أن تساعدنا أميركا على التخلص من الاستعمار البريطاني والفرنسي لنكون مستقلين.. وكان هذا رأي الإمام حسن البنا أيضاً بالنسبة للولايات المتحدة
وهذه أيضاً إحدى القصص التي أرويها عن الإمام حسن البنا أنه مرة كان في السجن وأراد أن يؤم الصلاة ودعا الجميع للصلاة معه وكان هناك شخص شيوعي فقال له أنا لست على وضوء فقال له تعال صلي معانا صلي بغير وضوء وتيمم الرجل وصلى وفي خلال أيام من الحوار الهادئ الحلو.. حسن البنا كان يمتاز بأنه كأن وجهه رُكبت فيه ابتسامة وأنه كان لا يغضب وواسع الصدر ويأخذ الناس بالأناة وبالحلم فأسلم الرجل وحسن إسلامه فيما بعد.
وهناك أيضاً حادثة أخرى.. واحد من الإخوان أقنع أستاذاً في الجامعة أن يزور حسن البنا، فجاء الرجل في الموعد وكان صديقنا مع الأستاذ البنا ولاحظ الصديق أن الضيف يلبس خاتماً ذهبياً فأراد أن يلحظ إليه أن لبس الذهب محرم على الرجال، فما كاد يبدأ حتى زغده حسن البنا زغدة قوية أسكتته واستمرت الزيارة وانتهت وانصرف الرجل وإذا بحسن البنا يقول له نحن مازلنا في دور لا إله إلا الله فتذهب وتقفز وتناقشه في لبس الذهب!.
البنا وعلاقة الإخوان بعبد الناصر
لم يكن لدى حسن البنا وقت فراغ كان مشغولاً 24 ساعة في اليوم.. ولم يكن عنده هوايات معينة لا وقت لهذا، كانت هوايته ورسالته الدعوة إلى الله.. كان يعيش يومه الكامل للدعوة كان بيته بيتا متواضعا شديد التواضع في حي الحلمية وطالما حدثه الناس غيّر بيتك، اسكن سكناً معقولاً، لكنه كان يأبى.. كان يرفض، كان في البيت غرفة للكتب كان يلقى فيها الناس والحياة متواضعة شديدة التواضع ومن الصباح إلى الليل في أمور دعوته.
وكما أن الصدفة قادتني للتعرف إلى الإمام حسن البنا مؤسس ومرشد الإخوان المسلمين فإنها قادتني أيضاً للتعرف صدفة على الرئيس جمال عبد .. طلب مني الإمام مرة أن أذهب إلى أسيوط لإلقاء محاضرة وكان لي هناك قريب ضابط وحضروا المحاضرة وهكذا هو وآخرون، الآن.. يعني بعدها بوقت طويل عندما قامت الثورة وعُرف جمال عبد الناصر ابتدأت أفكر أنه كان في صحبة قريبي الضابط يستمعان لمحاضرتي وأنه قال لي أنتم يا إخوان أصبحتم قوة لماذا لا تثورون على الوضع القائم.. قال لي ذلك بيني وبينه.. صديقنا.. قلت له لأننا لو ثُرنا أنتم ستقمعوننا والشيء الثاني أنني لا أؤمن في الثورات، إذا انصلح الناس سينصلح حالهم ومن غير ثورة فنحن نعمل على إصلاح الناس.
كان الرئيس جمال عبد الناصر عضواً في الإخوان المسلمين عرفنا هذا فيما بعد.. ولم يحدثنا الإمام حسن البنا عنه مطلقاً قبل ذلك الوقت.
حتحوت بين فلسطين وأميركا
لم يحدثنا الإمام حسن البنا مؤسس الإخوان المسلمين عن الرئيس جمال عبد الناصر، كان السر كبيراً بين الرجلين قبل ثورة يوليو التي اندلعت أثناء وجودي في السعودية، ولكن حسن البنا كان يحدث الشبيبة المسلمة عن فلسطين التي سمعت عنها للمرة الأولى من خلال كتاب النار والدمار ثم ذهبت إلى فلسطين في أول دفعة ضمت ثلاثة أطباء مصريين.. وكنا في ذلك الوقت نَعتبر أن كل ما هو شرق مصر اسمه الشام، لم نكن نميز لا بين سوريا ولا فلسطين ولا لبنان ...
تعلمنا عن القضايا العربية والإسلامية منه وليس فقط قضية فلسطين.. يعني أحمد سوكارنو زار مصر فزار الإخوان.. أول مَن زار في مصر الإخوان وكان في الإخوان قسم اسمه قسم قضايا العالم الإسلامي تهتم بكل القضايا.. باكستان والمظاهرات في مصر كانت تسير باكستان زيندباد قبل قيام باكستان وهكذا تعلمنا عن المشرق وعن بلاد المسلمين في هذه الآونة.
عالجت الكثير من الجرحى في فلسطين .. ومرت بنا حوادث كلها حوادث مؤثرة، هناك مثلاً الوالد الذي جاء يزور ابنه بعد العملية فعلمت أنه فقد أحد عشر ابناً في الجهاد في فلسطين.. وهو فلسطيني وهو الولد الثاني عشر، جُرِح وجاء يزوره. كذلك اليهودية التي كانت تهذي وأرسلنا إليها عربياً يتكلم العبرية.. كانت يمنية وقالت لقد خذلني قومي، عندما جُرِحنا أنقذوا الفتيات البيض الأوروبيات وتركوني وقالت له تحسبه منهم العرب أحسن ناس، لقد عاملوني أحسن معاملة وهكذا.
حوادث كثيرة عشتها كطبيب مصري شاب آنذاك في فلسطين المحتلة، فد حوصرت وكدت أموت في مستشفى الرملي وقد قلت للمقاتلين العرب الذين حاولوا قتل جرحى يهود في المستشفى تمرون على جثتي ولن أدعكم تقتلونهم وتلقيت بعد ربع قرن رسالة شكر من الجريح اليهودي.
ولكني حين عدت إلى القاهرة سُجنت كما سُجن الكثير من الإخوان المسلمين الذين اتهموا بمحاولة قلب النظام آنذاك ولا تزال أحجار لعبة الشطرنج في منزلي شاهدة على فترة السجن وأعتذر اليوم عن الحديث بالتفصيل عنها.
العرب خذلوا القضية الفلسطينية وعندما أتذكر الحديث.. الرجل الذي سأل النبي "يا رسول الله الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل ليُرى مكانه فأي ذلك في سبيل الله؟ قال مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"، لا أعتقد أن مقصد الدول العربية كان أن تكون كلمة الله هي العليا ولا أعتقد أنهم قدّروا قوة الطرف الآخر قبل أن يدخلوا هذه الحرب.
الشيء الثاني والسؤال المحير في 15 أيار أعلِنت دولة إسرائيل لماذا لم تُعلَن في نفس اليوم دولة فلسطين وكان لها حكومة فلسطين الحرة في القاهرة برئاسة أحمد حلمي باشا لتكون هناك دولة إسرائيل ودولة فلسطين ويبدأ كفاح بين دولتين؟.. ألغيت دولة فلسطين، بل بدخول الجيوش العربية فلسطين جمع السلاح من المجاهدين الفلسطينيين لأنه لا يعقل أن يكون هناك جيش وأن يكون هناك مجاهدون في يدهم سلاح.. والسبب كان الغباوة والأنانية وعدم الإخلاص لله.
كانت خطيبتي آنذاك الآنسة سالوناز تتسلح بالصبر وتشجعني على القتال في فلسطين، سالوناز التي أصبحت زوجتي ورفيقة العمر هي طبيبة مثلي وقد أهدتني قصيدة لمناسبة عيدي الثمانين بعد 54 سنة من الزواج.
اسمها سالوناز معروف في عدة بلاد خارج البلاد العربية، فهو موجود في إيران وموجود في تركيا بس النطق يختلف طبعاً، فإيران اسمه سلفيناز وفي تركيا سيلويناز.. ومعناه تشبيه بشجرة السلف وهي شجرة رشيقة طويلة وناز يعني دلال:
إن الثمانين قد جاءت تذكّرنا بأنعم من عطاء الله تغمرنا
تلك السنين بها فرح بها شجن مرت كطيف حبيب ظل يذكرنا
قد التقينا على قدر يُقدره مدبر الكون يرعانا وينصرنا
خضنا العباب فما ضلت سفينتنا وطاب عيش لنا أيام مهجرنا
مصر الحبيبة لا ننسى أمومتها بالشوق نذكرها والشوق يعصرنا
ولكن قبل ذلك بنصف قرن كنا قد تبادلا الرسائل الرقيقة بعاطفتها والعميقة ببعدها السياسي والمتينة لغوياً وذلك أثناء ذهابي إلى فلسطين.
وهذه قطعة من رسالة أصل إلى نهايتها فأقول: بل هو وداع إلى حين من النفس المطمئنة حتى ترجع إليك إنشاء الله راضية مرضية فاحفظي عني وصوني لي أيتها الأخت الوفية والزوجة المخلصة وإذا رحلت فزوديني من بطولتك وصلابتك ما تزودينني من حنوك وعطفك وفيضي عليّ من إيمانك ونحن من قبل ومن بعد على كف الله وبعينه ولك الحب وعليك السلام يا سالوناز.
السيدة سالوناز رافقتني في كل مراحل حياتي من مصر إلى فلسطين إلى بريطانيا حيث عملت على نشر الإسلام الصحيح، ثم إلى الكويت حيث أحبها وأهلها وقال له ولي العهد السابق الشيخ سعد العبد الله إنه لن يتخلى عني لولا قناعته بأهمية دوري المقبل في أميركا وفي أميركا كان لي دور والحمد لله في شرح الإسلام الحقيقي.. الإسلام المنفتح على الغير خصوصاً حين وقعت الهجمات الشهيرة على الولايات المتحدة الأميركية، حين حصلت أحداث الحادي عشر من شهر سبتمبر الشهيرة.. ولولا ما حضّرناه وهيأناه طيلة السنوات السابقة لقامت مذابح للمسلمين في أميركا ولو أن ما حدث حدث في بلد آخر لحدثت مذابح.
أذكر أن المركز الإسلامي طوق في مرحلة معينة من قبل مسلمين وغير مسلمين لحمايته لقد جاؤوا للدفاع عن المسلمين، وجدنا مظاهرة ضخمة من النصارى واليهود حول المركز الإسلامي، قالوا جئنا للدفاع عن إخوتنا المسلمين، إذا فكر أحد في مهاجمة صلاة الجمعة وأمطرت السماء فأبوا أن يدخلوا وقفوا في المطر، هذا لم يحدث صدفة وأول ذهابنا عندما بدأنا نتصل ونذهب ونحاضر وندعو ونحتفل بيوم اسمه يوم إبراهيم وندعو مسيحيين ويهود ومسلمين للحديث عن إبراهيم ويأتي جمهور مشترك ويعرفون عن الإسلام وعندما مثلاً أنشأنا يوماً اسمه يوم المُعلم.. ندعو المعلمين مسلمين وغير مسلمين لنتحدث عن التعليم ومن ضمنه التعليم في الإسلام ومقام العلم في الإسلام، نُعلّم الإسلام خلال أنشطة مختلفة، الحديث عن المال.. وظيفة المال، الحديث عن المحبة بين الناس، كيف يسود السلام العالم وهكذا، في بادئ الأمر كان كثير من المسلمين يجرموننا على هذا ويقولون مَن جلس مع قوم بُعث معهم ويحتجون كيف نتصل باليهود والنصارى، الآن لا يكاد يكون هناك مركز إسلامي إلا هو فيه قسم للاتصال بالأديان الأخرى.
أعتقد أن النظام الديمقراطي أشبه الأشياء بالنظام الإسلامي، حتى في الدين في الإسلام في الشرع هناك مذاهب فإذا لماذا لا تكون هناك أحزاب؟ ولماذا لا تختار الأغلبية ما تريد؟ النظام الإسلامي في نظري نظام ديمقراطي مع فارق واحد هو أن النظم الديمقراطية في بلادها لا تلتزم بإحكام الله.
إننا نرى محاولات لحكم إسلامي أول ما يفعله قطع اليد وإلزام المرآة بالتغطية هذا آخر شيء، أما العدالة الاجتماعية، أما مسؤولية الحاكم أمام المحكوم، أما أن الحاكم موظف أجير إن أصاب أيدناه وإن لم يصب عزلناه وهكذا الديمقراطية الحقيقية، هذا هو الإسلام الحقيقي وهذا هو حكم الشريعة الحقيقي.
كتبت مراراً للرئيس الأميركي وأقمت شعائر عيد الأضحى في قلب البيت الأبيض وألقيت المحاضرات في المساجد والكنائس المسيحية واليهودية، لا بل إن الانفتاح على الغير بلغ حد كتابة الشعر للسيد المسيح.
يا ابن الإنسان تحيات يا ابن الإنسان
ومحبات ملء الوجدان
وأحاديث مثل المسك تعطر كل لسان
يا روح الله وكلمته
يا بر الله ورحمته ببني الإنسان كل الإنسان
كانت لي قصيدة آخر بيت فيها:
ما غربة القلب أرض غير موطنه بل غربة القلب ناس لا تصافيه
الغربة.. أين الغربة؟ في مصر؟ في أميركا؟ في البلاد العربية؟ أنا مغترب في الدنيا كلها وسعيد بذلك.