كان إقبال أحمد مناضلاً أنسنياً..
د. حازم خيري
"أى مشعل للفكر قد انطفأ،
أى قلب توقف عن الخفقان!"
نيكراسوف
المرء على دين خليله! لكم تصدق هذه المقولة على إدوارد سعيد وصاحبه إقبال أحمد، فقد ترافق الاثنان على درب الأنسنية، ولو أن إدوارد بز صاحبه بما تركه لنا من كتب عديدة وثمينة، أودعها ذاكرة الزمن وأثرى بها عقول وقلوب أصحاب النفوس المتوثبة، فى كل زمان ومكان! وذلك لا يرجع بطبيعة الحال لقصور في فكر إقبال وملكاته، ولكن لكونه رجلاً شفهياً، حاضر، وكتب المقالات في الصحف، ومنح المقابلات، وتكرم بالمشورة بلا حدود، فلم يتبق لديه وقت للكتب، حتى أن إدوارد ألح عليه كثيراً في جمع كتاباته المتناثرة في كل مكان!
ففي كلمة ألقاها في حفل تكريم إقبال في كلية هامبشير بأمهرست مساشوستس، ناشد إدوارد سعيد صديقه إقبال أحمد قائلاً(1): "أرجوك، من أجلنا ومن أجل الشباب، حاول أن تضع في اعتبارك أنك فضلا عن كونك مخلوقاً شفهياً، حكيماً من حكماء المسلمين، وطائراً دائم الترحال..عليك أن تتذكر أنه لا يجوز أن تترك كلماتك في مهب الريح أو مسجلة على أشرطة، لابد من جمعها ونشرها في مجلدات يتسنى للكل قراءتها. أقول، عليك أن تفعل ذلك من أجلنا، تعد وتجمع وتنشر بما يسمح لأولئك الذين لم يتح لهم امتياز معرفتك أن يتعرفوا على موهبتك اللافتة فيعرفون أي إنسان أنت! وان كان لي أن أحول اسمك يا إقبال إلى فعل أقول: "أقبل علينا أكثر"، وأستخدم هنا كلمات ويليام ووردزورث عن جون ميلتون ـ وهما من أبرز الشعراء الإنجليز ـ: لأن "العالم بحاجة لك"، نحن بحاجة لأعمالك الكبيرة عن الجزائر وشمال أفريقيا، عن فيتنام، وعن باكستان والهند، وعن مقاومة الحرب في الولايات المتحدة ومعارضتها، عن حركة الحقوق المدنية، وعن الشرق الأوسط، على الأقل، نظرية متكاملة عن الكفاح الثوري للقرن الحادي والعشرين. يصعب علينا أن نصبر ولكننا سنفعل إن وعدتنا بذلك! هل تعدنا؟!"
وهكذا، وكما أوردت في مقال سابق لي عن إدوارد سعيد ـ منشور على شبكة الانترنت، بعنوان "إدوارد سعيد/أنسنية بلا ضفاف" ـ قبساً من صورة إدوارد في عيون صاحبه إقبال، أراني ملزماً بفعل الشيء نفسه مع إقبال، فإليك قارئي العزيز أسوق قبساً من صورة إقبال في عيون صاحبه إدوارد، وهي صورة تتجلى أروع ما تتجلى في نعيه له بكلمات تقطر تقديراً وإعجاباً، إليك بعضها(2):
[يُعد إقبال أحمد أحد أكثر المحللين المعادين للإمبريالية نباهة في قارتي آسيا وأفريقيا، ولقد مات عن عمر يناهز 66 عام في إسلام أباد، على أثر إصابته بسرطان القولون. وللرجل حضورً كاريزمياً هائلاً، بفضل اعتزازه بالمثل والقيم النبيلة، إضافة إلى قدراته المدهشة كمتحدث ومحاضر..
وجد إقبال في ذاته انجذاباً فطرياً نحو الحركات الممثلة للمقهورين والمضطهدين، أينما كانوا، سواء في أوروبا أو أمريكا أو البوسنة أو الشيشان أو جنوب لبنان أو فيتنام أو العراق أو شبه القارة الهندية. فقد كانت له دراية واسعة بالتاريخ، وكان يُطالب دوماً بالنأي بالدين والقومية عن النهب والعنف، باعتبارهما مدخلاً ملكياً للأصولية والشوفينية والإقليمية..
كان الرجل محارباً صلباً في مواجهة العنف والانحراف الإنساني. ففي سنواته الأخيرة، كرس إقبال حياته ـ أحيانا على نحو دون كيخوتي ـ لتأسيس جامعة نموذجية في باكستان، أسماها "الجامعة الخلدونية"، نسبة إلى المؤرخ الموسوعي بن خلدون، الذي طمح إقبال لتجسيد رؤيته للتجربة الإنسانية في منهج، يستند إلى الإنسانيات الحديثة والعلوم الطبيعية والاجتماعية..
وُلد إقبال في ولاية هندية تدعى بيهار، ورحل هو وذويه إلى دولة باكستان الوليدة (مع تصاعد الاضطرابات الطائفية). قُتل والده في فراشه بسبب النزاع على قطعة أرض، وكان إقبال يرقد إلى جواره أبيه، وهو الحدث الذي أثر كثيراً في إقبال، ودفعه لمهاجمة الاستغلال والانتهازية أينما وُجدا ..
وفي لاهور، درس إقبال في Foreman Christian College ، وأصبح ضابطاً بالجيش بعد فترة قصيرة، ثم ذهب إلى الولايات المتحدة في منتصف خمسينيات القرن المنصرم، والتحق بجامعة برنستون عام 1958، للتخصص في العلوم السياسية والدراسات الشرق أوسطية. وحصل على درجة الدكتوراه عام 1965، وسافر أثناء سنواته في برنستون إلى الجزائر للالتحاق بجبهة التحرير الوطني والمشاركة في الثورة الجزائرية، وقُبض عليه في فرنسا، وأسس مركزاً ثقافياً في تونس..
وخلال ستينيات القرن الماضي، درس إقبال في كورنيل وشيكاجو، وكان بين الزملاء الأوائل لمعهد واشنطن للدراسات السياسية. وتزوج إقبال عام 1969 من جولي دياموند، وهي مدرسة وكاتبة من نيويورك. وخلال الفترة من 1973 وحتى 1975، أسس إقبال وترأس فرع المعهد في أمستردام ..
ولقد كان إقبال مناهضاً بارزاً لحرب فيتنام، وحوكم عام 1970 مع آخرين بتهمة ملفقة، وهي التآمر لاختطاف هنري كيسنجر (السياسي الأمريكي البارز)، وحُكم له ولزملائه بالبراءة. واعتاد إقبال أيضا تقديم دعم علني للقضايا التي لا تحظى بقدر من التأييد الشعبي، خصوصا قضية الحقوق الفلسطينية. وأسفر ذلك عن عزلته في الوسط الأكاديمي، وعدم استقراره في جامعة بعينها، حتى عام 1982، عندما عينته كلية هامبشير أستاذاً بها. وظل بها حتى أصبح أستاذاً متقاعداً عام 1998، و شرع في تقسيم وقته بين نيوانجلاند وباكستان..
وفي غضون تلك السنوات سافر الرجل لجميع أنحاء العالم. فقد أطلع العرب، على سبيل المثال، على أسباب فشل القومية العربية. وفي عام 1980، في بيروت، كان أول المتنبئين بالغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982. وفي مذكرة إلى ياسر عرفات وأبو جهاد تنبأ الرجل أيضاً بهزيمة قوات منظمة التحرير الفلسطينية في جنوب لبنان. كان إقبال أيضا معارضاً لا يلين للتسلط العسكري والبيروقراطية والصرامة الأيديولوجية وما أسماه "أمراض السلطة". ولطالما استشاره الصحفيون والموظفون الدوليون بخصوص الاتجاهات الغامضة في أفغانستان المعاصرة، والجزائر، وإيران، والهند، وباكستان، وأنجولا، وكوبا، وسريلانكا، فضلاً عن امتلاك الرجل معرفة موسوعية بالولايات المتحدة ..
ولن ينسى أولئك الذين رأوه متربعاً على أرض غرفة معيشته، عاري القدمين، يتحدث بلطف لساعات طويلة، ممسكاً كوباً بيده ـ لن ينسوا قدرته الفائقة على متابعة الحديث بعذوبة وشفافية. فقد أحب الآداب، خصوصا الشعر، واللغات، سواء كانت أورديه أو إنجليزية أو فرنسية أو عربية أو فارسية ..
كان إقبال مخلوقاً نادر المثال ومفكراً شجاعاً لا تُخيفه سلطة أو قوة، كما كان رفيقاً للعديد من الشخصيات المحترمة، الأكاديمي إبراهيم أبو لغد (من أصل فلسطيني)، وعالم اللغويات الشهير ناعوم تشومسكي (من أصل يهودي). ولطالما نظر الرجل لنفسه على انه أحد رجالات القرن الثامن عشر لرؤاه التنويرية، إذ أنه رغم محافظته على تقاليده الإسلامية الأصيلة، حرص على عدم الوقوع في شرك الانعزالية..صفوة القول، إن الأنسنية والعلمانية لم يملكا صديقاً افضل من عالم السياسة وداعية السلام إقبال احمد.]
تصور إقبال أحمد للأنسنية :
على خلاف إدوارد سعيد، ولكونه مخلوقاً شفهياً على النحو الوارد سلفا في وصف إدوارد سعيد له، يكاد الكاتب المدقق يواجه شيئاً من الصعوبة في سعيه لرصد تصور إقبال للأنسنية، فهو لم يعلن نفسه أنسنيا بنفس الإصرار والوضوح الملموسين لدى إدوارد وغيره من الأنسنيين. غير أنه ـ ورغم ذلك ـ، لا تكاد أنسنية إقبال تخفى على المراقب المنصف، فهي تتجلى أروع ما تتجلى فيما تبناه وطرحه من آراء وأفكار لا تتعارض في جوهرها، بل تكاد تتطابق، مع النهج الأنسني، وان لم يصرح صاحبها بذلك، على حد علم الكاتب. على أية حال، يستند الكاتب في رصده لأبرز آراء وأفكار إقبال ذات الطابع الأنسني، إلى بعض كتاباته وأحاديثه المتناثرة في مهب الريح على حد تعبير إدوارد سعيد(3):
[1] عشت في طفولتي ـ كابن من أبناء شبه القارة الهندية ـ المسعى الشعبي للتحرر من الاستعمار البريطاني، وواقع العنف الطائفي الذي انتهى بإنشاء دولة باكستان المستقلة عن الهند. كان أبي قريباً من الزعيم الهندي المهاتما غاندي وحزب المؤتمر الوطني، وكذلك أمي. ولكنى كنت أيضاً متأثراً باخوتي الأكبر المساندين للرابطة الإسلامية. تبعت غاندي عام 1946 عندما زار ولاية بيهار، في محاولة لوقف الاقتتال الطائفي. كان غاندي يزور القرى المدمرة، ويصطحب معه الأطفال المسلمين والهندوس وينتقل بهم من قرية إلى قرية، تأكيداً للأخوة الإنسانية. رافقت غاندي لما يقرب من ستة أسابيع، كنت على اتصال يومي به، دون أن أنتمي له تماماً أو أستوعب درسه. لم أدر في براءتي إن كان على أن أفتح قلبي للدرس الإنساني أم أغلقه في وجهه، وان انتبهت لشخصيته الآسرة ولمحبة جاذبة لكل من يقترب منه، لم يخشونه بل أحبوه وتبعوه. ومع تصاعد الاضطرابات الطائفية وبدء الهجرة الجماعية للمسلمين وإنشاء دولة باكستان، تبعت اخوتي الأكبر إلى الدولة الجديدة، أما أمي فرفضت أن تغادر الهند. أتمنى لو كانت الأمور أكثر وضوحاً في عقلي. آنذاك وأنا في الثالثة عشرة من عمري، لم أكن أرى في غاندي سياسياً صديقا لناً، رغم أنه قُتل وهو يدافع عنا، كان يجب أن أتعلم الدرس الأنسني، ولكنني لم أكن في مزاج يسمح لي بذلك.
[2] ليس معنى العلمانية عدم امتداح عناصر بعينها في التفكير والممارسات الدينية، كتلك الخاصة بأعمال علماء الدين المسلمين في الهند، ومعارضتهم لفكرتي التقسيم ـ يقصد انفصال باكستان عن الهند وقيامها كدولة مستقلة ـ والقومية، باعتبارهما تتعارضان مع الأيديولوجية الإسلامية، وترميان لخلق حدود لا تعرفها تلك الأيديولوجية المتسامحة. ومخاطر القومية أشبه بلعنة التعصب الديني، وهي غالباً ما تتجسد في الأمراض التي طالما عانت ـ ولا تزال تعاني ـ منها دولة ما بعد الاستعمار، والتي تحولت لوضع أسوأ مما كانت عليه في ظل الحكم الاستعماري.
[3] لا تعدو دولة ما بعد الاستعمار كونها نسخة رديئة من الدولة نفسها إبان خضوعها للاستعمار، فهيكل السلطة المركزية هو نفسه، والبيروقراطية المتحجرة والفاسدة هي نفسها، والتحالف بين العسكر والأثرياء هو نفسه. كل ما في الأمر أن النخبة الجديدة ورثت تركة المستعمر. حتى أن كبار الملاك وأهل الفكر ومن يوصفون بالبورجوازية لا يبالون بإنسانية البسطاء، ربما على نحو أسوأ مما كان عليه الحال إبان الاستعمار. بعبارة أخرى، فشلت الحركات المعادية للإمبريالية فشلاً عميقاً، باحتضانها القومية كفكرة غربية، متجاهلة بذلك أقوال حكماء، كالشاعر والمفكر الهندي رابندرانت طاغور.
[4] ظاهرة الأصولية ليست حكراً على شعب بعينه أو أتباع ديانة بعينها، كما يحلو للبعض أن يروج. وهي في تناميها اللافت للانتباه لا تعدم المحفزات المنطقية لها، فهناك الخوف من أو الرغبة في التصدي لمساعي الهيمنة، ممثلة ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ في عولمة الاقتصاديات المحلية، وتقليص المسافات المكانية بفعل التكنولوجيا الحديثة، وتوحيد الأذواق عبر الآلة الإعلامية الجبارة، فعلى الجميع أن يرتادوا مطاعم ماكدونالد وأن يلبسوا الجينز. محاولات كتلك كفيلة بإثارة عدم الارتياح لدى من يملكون طرائقهم الخاصة في الحياة. وغالبا ما يسعى اليمينيون لاستثمار تلك المخاوف، قائلين للبسطاء: "تعالوا إلينا، سنعود بكم إلى البدايات الدينية الأولى! تعالوا إلينا، سنعيدكم إلى طرائق حياتكم القديمة..إلى ذكرياتكم القديمة"! حينئذ، لا يملك البسطاء سوى الانصياع، فهم لا يملكون البديل الأكثر جاذبية. بيد أن الخوف ليس المحفز الوحيد للتنامي الأصولي، فهناك اليأس من الحداثة، وفقدان الثقة في إنسانية طرائق الحياة الحديثة، بفعل التأثيرات السلبية للتكنولوجيا والرأسمالية الشرسة، فالبسطاء يجدون أنهم موجهون في كل خصوصياتهم، كأنواع الملابس الداخلية الواجب عليهم شرائها، وكذا كيفية اختيار شريك الحياة. الأمر الذي يحسن الأصوليون تثمينه، عبر الترويج لما يصورونه طريقا فريدا للعودة إلى الذات!
[5] عداء الغرب للإسلام ونظرته إليه على أنه يمثل تهديدا لوجوده ومصالحه، أمر له أسبابه المنطقية. فبانتهاء الحرب الباردة بين الكتلتين الشرقية والغربية، افتقد الغرب تهديداً اعتاد أن يحشد قدراته وسياساته في مواجهته، ولم يعد باستطاعة القوى الغربية الإمبريالية، بمزاعمها الأنسنية، تبرير ممارساتها اللاأنسنية في حق الشعوب المختلفة، وبدت الحاجة ملحة لخلق شيئين: شبح و مهمة. وسرعان ما تفتقت القريحة الأمريكية عن حقوق الإنسان، رغم غرابة اختيارها كمهمة لدولة اعتادت دعم ومساندة الديكتاتوريات لأكثر من مائة عام في شتى أنحاء العالم. أما الشبح، فكان الإسلام، نظراً لما تواجهه الولايات المتحدة وحلفاؤها من مقاومة في أراضيه، فضلا عن احتضان أراضيه لمنابع النفط.
أنسنية إقبال في إطار الممارسة :
المرء على دين خليله! وكما عرفت حياة إدوارد سعيد تطابقاً مدهشاً بين المثاليات والواقع، والتقاء بين المبدأ المجرد والسلوك الفردي، كذلك عرفت حياة صاحبه مثل هذا التطابق والالتقاء، فسلوكيات إقبال أحمد تكاد تتطابق مع آرائه وأفكاره المذكورة سلفا، والتي لا تتعارض في مجملها مع ما أورده كاتب هذه السطور في مقالات سابقة كخصائص عامة للأنسنية بين جميع الحضارات.
وللقارئ الكريم أن يطالب الكاتب بأن يسوق له مواقف بعينها، تعضد في شكلها ومضمونها القول بإصرار إقبال على الالتزام بآرائه وأفكاره، أيا كانت العواقب والتبعات. وهو أمر ليس باليسير، لا لندرة في تلك المواقف التي تشي جميعها بأنسنية صاحبها، وإنما لوفرة فيها يحار المرء إزائها، فلا يدرى أي المواقف يأخذ وأيها يترك! ولسوف يحرص الكاتب فيما ينتخبه من مواقف، على إبراز فداحة الثمن الذي تكبده صاحبها، حتى يعلم القارئ العزيز مدى صعوبة الدرب الأنسني، والى أي حد يعاني أولئك الذين يعاهدون أنفسهم على اجتيازه، ولو أنهم يبلغون باجتيازه انتصاراً، تتضاءل أمامه انتصارات الفاتحين، وكيف لا؟! وهو انتصار يعني إحرازه إصابة هدفين بحجر واحد، رفع نير القهر والاضطهاد عن عنق الضحية والعفو عن الجلاد:
[1] مواجهة الحكم بالإعدام :
سُئل إقبال في مقابلة له مع دافيد بارساميان، في 4 أغسطس 1994، عما إذا كانت الأوضاع قد تطورت إيجابياً في بلاده باكستان، ومدى تأثره بذلك حال حدوثه، فأجاب الرجل بأن الأوضاع تطورت بالفعل، لدرجة سمحت له بالعودة إلى بلاده وقضاء معظم وقته فيها. وقد كانت آراء إقبال المناهضة للأوضاع اللاأنسنية في بلاده قد ظلت لسنوات طويلة حائلاً بينه وبين العودة إليها والإقامة فيها. فطبقاً لإقبال، أصدر نظام أيوب خان العسكري الأول أمراً باعتقاله، وكذا أصدر نظام يحي خان العسكري الثاني حكماً بالإعدام ضده. أما نظام ضياء الحق العسكري، فقد حال بينه وبين بلاده لمدة تزيد عن 11عام. بيد أن إقبال حرص في المقابلة نفسها على تأكيد شكلانية الديمقراطية في بلاده، متمنياً قدوم يوم تتحول فيه الشكلانية إلى ديمقراطية حقيقية. فحرية التعبير والاجتماع ـ في نظر إقبال ـ من شأنها وضع حد لتنامي التهديد الأصولي، على اعتبار أن الأصولية لا تواجه بالديكتاتورية وإنما بمزيد من الديمقراطية. وحول ما إذا كانت الحكومة الباكستانية قد سمحت له بنشر ما يريد في جريدة "الفجر" الباكستانية الناطقة بالإنجليزية، أجاب الرجل بالإيجاب، وعلل ذلك باطمئنانها لصعوبة اطلاع المواطن الباكستاني على الإعلام المطبوع، عكس الحال مع الإعلام المسموع والمرئي الخاضع بدوره لتحكم حكومي مباشر، فنسبة الأمية في باكستان تناهز 75% تقريبا(4).
[2] مجاهدة العزلة الأكاديمية :
ظل إقبال احمد دائماً في قلب الحدث، وكثيراً ما جلبت له مواقفه الاستهجان والعزلة. فبينما كان إقبال يدرس في جامعة برنستون بالولايات المتحدة الأمريكية في خمسينيات القرن الماضي، قطع دراسته ورحل إلى الجزائر، حيث شارك في الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، وهناك التقى برفيق آخر على درب الأنسنية، وهو الأنسني الثائر فرانز فانون(5). هذا فضلا عن مساهمة إقبال في حركة الحقوق المدنية بالولايات المتحدة، وكذا مساهمته في حركة مناهضة الحرب الفيتنامية. وفي أثناء حرب 1967 بين إسرائيل والدول العربية، وبينما إقبال يدرس في جامعات أمريكية كبرنستون وكورنيل، إذ به يعمد لتبصير مجموعة من الطلبة بحقيقة الصراع العربي الإسرائيلي وكونه اكثر تعقيداً مما تروج له أجهزة الإعلام الغربية. وسرعان ما جلب إسهام الرجل المستمر بمواقفه وقلمه في التنويه بمشروعية حق الشعب الفلسطيني وغيره من الشعوب، له العزلة داخل الوسط الأكاديمي الذي كان يعمل به، حتى أنه اعتاد أن يجد نفسه في قاعة الطعام وحيداً، لعزوف الآخرين عن مجالسته، باعتباره ثائراً على ما اصطلحوا على اعتباره ثوابت لا يحق التشكيك فيها أو النيل منها. ولقد ظلت تداعيات مواقف إقبال الجريئة والثائرة تطارده، حتى أنه ظل يتنقل في عمله من جامعة لأخرى، إلى أن عينته كلية هامبشير أستاذاً بها عام 1982، وظل بها حتى تقاعده(6).
لله درك يا إقبال .. تظل ممنوعا من دخول بلادك طوال ثلاثين عاماً، ويشمل سجلك من بين ما يشمل حكماً بالإعدام من المحاكم الموالية للحكم العسكري، وتجاهد عزلة أكاديمية صارمة، ورغم ذلك لا يهتز إيمانك بالفكر الأنسني، حتى أنك تظل للنهاية متمسكاً به ومصراً عليه. قناعة منك بأنه الدرب الأكثر ملائمة لك كمفكر، طالما دافع عن المقهورين والمضطهدين في شتى أنحاء المعمورة. ولو أن غيرك يا إقبال جاهد بعض ما جاهدته، لما سعته أرض التيه والفخر. لكنك على طريقة الجندي المجهول، أو حكيم شرقي تتوارى حكمته ومعارفه الموسوعية وعطاؤه الهائل في جسد ناحل وصوت خافت، يخلع نعليه ويتربع على الأرض، ويمنح حكمته للنجوم ويحتفظ لنفسه بالظلال..!
قال إدوارد سعيد تفسيراً لإهدائه كتاب "الثقافة والإمبريالية" لصديقه إقبال احمد (7):" إن ما يفهمه إقبال ليس تجربة الهيمنة الإمبريالية في كل أشكالها فحسب، بل أيضا الرؤية المبتكرة التي تطرحها المقاومة". وأراه ما قصد بذلك القول سوى الإشادة بإعمال إقبال للنهج الأنسني في فهمه المتميز والرائع لتجربة الهيمنة الإمبريالية، وما ينبغي أن تكون عليه المقاومة الفعالة لتلك الهيمنة.
الهوامش:
(1) راراجع كلمة إدوارد سعيد في حفل تكريم إقبال احمد في كلية هامبشير بأمهرست مساشوستس، في 4 أكتوبر 1997: www.bitsonline.netspan>
(2) راجع نعي إدوارد لصاحبه إقبال في الجارديان:Edward Said, Eqbal Ahmad, >The Guardian, Friday May 14,1999
(3) استند الكاتب في معالجته لتصور إقبال أحمد للأنسنية، على عرض واف لكتاب "إقبال أحمد: مواجهة الإمبراطورية"، المنشور عام 2000، بواسطة دار نشرSouth End Press، قام به عالم اللغويات والمحلل السياسي الأمريكي ناعوم تشومسكي ، ونشر على شبكة الإنترنت، بعنوان "أفكار صوفي علماني"، وذلك لتعذر اطلاع الكاتب على نسخة إلكترونية أو ورقية من الكتاب المذكور، والذي يضم بين دفتيه مجموعة حوارات مع إقبال أجراها دافيد بارساميان. وكذلك استند الكاتب في معالجة التصور نفسه إلى مقابلة أخرى منفصلة، أجراها بارساميان مع إقبال، نُشرت على شبكة الإنترنت، بعنوان " تواريخ مشوهة: مقابلة مع إقبال أحمد". للاطلاع على المصدرين المذكورين، راجع : www.bitsonline.netspan>
(4)(4) راجع نص مقابلة دافيد بارساميان مع إقبال احمد في 4 أغسطس 1993: www.thirdworldtraveler.com
(5) راجع: حازم خيري، تعرية الثائر الأنسني فرانز فانون للآخرية، مقال منشور على شبكة الانترنت.
(6) راجع: تواريخ مشوهة: مقابلة مع إقبال أحمد، م.س.ذ. pan>
(7)(7) راجع: كلمة إدوارد سعيد في حفل تكريم إقبال احمد في كلية هامبشير بأمهرست مساشوستس، في 4 أكتوبر 1997: www.bitsonline.netpan>