محيي الدين الحاج عيسى
محيي الدين الحاج عيسى
|
بقلم: حسني أدهم جرار |
الأستاذ محيي الدين الحاج عيسى.. أديب من روّاد
الأدب والتربية في فلسطين.. وشاعر وطني نظم أشعاره في قضايا أمته الوطنية وخاصة
وطنه فلسطين، وحذّر فيها من وقوع المأساة قبل سنوات من وقوعها.. ولما وقعت كانت
كلماته تحليلاً لما حلّ بفلسطين، وأشعاره متنفساً للكروب وسلوة للأحزان.
حياته:
ولد محيي الدين الحاج عيسى في مدينة صفد عام 1900م، ودرس المرحلة الابتدائية في مدرستها، والمرحلة الإعدادية في مدرسة عكا الإعدادية، والثانوية في سلطاني دمشق وبيروت.. وانتقل من الصف المنتهي من سلطاني ببيروت إلى الكلية الصلاحية في مدينة القدس في أوائل الحرب العالمية الأولى، فقضى في صفوفها العالية ثلاث سنوات حتى كان الاحتلال البريطاني لفلسطين.
وفي أثناء الانتداب البريطاني اشتغل في التعليم في صفد مديراً لمدرستها مدة ثماني سنوات حصل خلالها على شهادة الحقوق من القدس، وفي أعقاب الثورة التي اشتعلت في فلسطين سنة 1929 نقلته مديرية المعارف إلى ثانوية نابلس لانتمائه إلى جمعية الشبان المسلمين التي نُسب إليها نشوب الثورة في مدينة صفد ضد اليهود وإحراق قسم من بيوتهم. وقضى في تدريس اللغة العربية بنابلس خمس عشرة سنة وبعدها نقل إلى صفد نائباً لمدير مدرستها الثانوية ومدرساً لمادة اللغة العربية فيها حتى كانت النكبة سنة 1948 فنزح مع عائلته وأولاده إلى سورية حيث استقر به المقام في حلب مدرساً للأدب العربي في ثانوية معاوية ودار المعلمات مدة خمس سنوات، ثم تعاقد مع معهد حلب العلمي وقام بتدريس الأدب العربي فيه مدة سبع سنوات حتى 1961، وبعد هذا التاريخ آثر الراحة على العمل تمشياً مع ما تقتضيه سُنّة الحياة بعد التقدم في السن، مكتفياً براتبه التقاعدي..
وقد كان لنشأته في أسرة علمية وميله إلى كثرة المطالعة وقراءة القرآن، وحبه لأشعار شوقي وحافظ إبراهيم، والنظر في دواوين الشعراء وخاصة البحتري وأبي تمام والمتنبي، والمعلقات العشر، وشعراء العصر الجاهلي والإسلامي.. دور بارز في تنمية ذوقه الشعري وإقدامه على نظم الشعر منذ كان في الخامسة عشرة من عمره.
وكان لأساتذته في دمشق وبيروت والقدس أثر حميد بتشجيعه على ممارسة نظم الشعر والإكثار من المطالعة..
يقول الأستاذ الأديب عبد الله الطنطاوي عنه(1): "تعرّفت إلى شاعرنا في أواخر الستينيات، كنّا جارين في حي الإسماعيلية بحلب، وبعد أن أقعده المرض في السنتين الأخيرتين من حياته، كنت أزوره يومياً، أسلّيه، وأستفيد من معلوماته الغزيرة عن فلسطين وعن القضية الفلسطينية، وعن اليهود والصهيونية، وعن الزعامات الفلسطينية والعربية، الصالحة منها والفاسدة، وعن مكر الإنجليز، وخيانتهم للعرب الذين وثقوا بهم، وعداواتهم للإسلام والمسلمين حتى إنه ليعتبرهم واليهود والشيوعيين أعدى أعداء هذه الأمة، فهم الذين مكنوا لليهود في فلسطين، وهم الذين حاربوا القادة المخلصين..
وكانت للشاعر أمنيتان، يذكرهما: أما الأولى فمستحيلة التحقيق في حياتي، وربما في حياتكم، ألا وهي تحرير فلسطين من أيدي الغزاة اليهود، لأن التآمر عليها في الداخل والخارج..
وأما الثانية: فأن أرى ديواني مطبوعاً قبل أن أموت.
وعندما قال الأطباء: إن الشاعر صار على حافة قبره، بادرنا -أنا وابنه إياد-إلى تحقيق أمنيته الثانية، وقدّمنا إليه الملزمة الأولى من الديوان، قرأتها عليه، وصححتها أمامه، فانفرجت أساريره وغسلت دموعه ما ران على ابتسامته الودود من اكتئاب، وقال هامساً: :الحمد لله" ثم ما لبث أن توفي -عليه رحمة الله- عام 1974م".
من خلال هذا العرض لحياة شاعرنا نستطيع أن نلمس مؤثراً رئيسياً كان له الأثر البالغ في تكوين شخصيته الشاعرة.. هذا المؤثر ه، متابعة المؤامرات البريطانية على فلسطين منذ احتلالها، وفرض الانتداب عليها عام 1918، وحتى وقعت المؤامرة الكبرى بتسليمها لليهود عام 1948، مما أدى إلى نزوحه عن بلده وهو يشاهد صور المأساة التي حلّت بأهله وبشعب فلسطين، والتي اكتوى بنارها وعاشت معه حتى توفاه الله.
شعره:
الأستاذ محيي الدين شاعر فلسطيني وطني أصيل.. عايش فترة الاحتلال البريطاني لفلسطين وشاهد جور الاستعمار والصهيونية منذ بدأ الاحتلال عام 1918 حتى وقعت النكبة الكبرى عام 1948.. ووصف بشعره ما عانته فلسطين السليبة من ظلم وجور ومؤامرات، ووصف ما أعقب ذلك من تشريد ونزوح ما يزيد عن المليون من أهلها العرب.. ثم وصف المآسي والرّزايا من جرّاء العدوان الصهيوني على الدول العربية المجاورة لفلسطين، واحتلال أجزاء من أراضيها عام 1967
هذا الشاعر الوطني واكب أحداث القضية الفلسطينية، وعاش معها بأفكاره وأحاسيسه.. ولم يترك حدثاً ولا جانباً من جوانب القضية إلا وترجم فيه أفكاره وأحاسيسه شعراً..
فعندما قام مفتي فلسطين سماحة الحاج أمين الحسيني بعقد مؤتمر إسلامي في القدس عام 1932، واجتمعت وفود الأقطار الإسلامية لبحث قضية فلسطين نظم قصيدة بعنوان "المؤتمر الإسلامي" قال فيها(2):
وداعٍ لجُلّى فدتهُ دعا الناس للخير يا حبّذا فلبّي النداء على بعدهِ فيا قادة الشرق أهلاً بكم فلسطين ذاقت صنوف الأذى وأضحتْ على ضعفها سلعةً فلم يبق للعرب فيها سوى فيا قادةَ الشرق هذا الحمى فصونوه حتى يصان البُراقُ |
النفوسُ
|
(أمينٌ) على الحق لا الدّعاءُ ويا حبذا المطلب ليوثُ لها في العُلا مأربُ وقد لا يفي الأهلُ والمرحبُ وكادَ البراقُ بها يذهبُ تُباعُ وتُشرى وتستوهبُ بقاعٍ لقد أوشكت تُسلبُ إليكم جميعاً غداً يُنسبُ ويرضى الذي دارُهُ يثربُ |
يكذبُ
ولما أضرب شعب فلسطين ستة أشهر عام 1936 احتجاجاً على مواقف بريطانيا في تأييد اليهود والسماح لهم بالهجرة إلى فلسطين.. واشتعلت الثورة نتيجة لهذه المواقف نظم شاعرنا قصيدة بعنوان "في ثورة 1936" خاطب فيها الثوار وأشاد ببطولاتهم فقال(3):
يا أيها البطلُ الكريم تحية في ذمّةِ التاريخ ستةُ أشهر مُتزوّداً في طول يومك كِسرة |
|
تُهدى إليك بناضر لم تشكُ من نصب ولا إرهاقِ ما خِفْتَ من جوع ولا إملاقِ |
الأوراقِ
ومنها:
والطائراتُ حوائمٌ يُلقينَ في جوفهنَّ الموتُ يكمنُ جاثماً |
من
|
كبد السماء صواعق الإحراقِ فإذا انفجرنَ أطلَّ بالأعناقِ |
وتقع النكبة عام 1948، ويخرج محيي الدين من بلاده نازحاً.. وتمرّ خمس سنوات على النكبة، ويزداد شعوره بالحزن والأسى على فراق الوطن، فيقول مخاطباً شباب العروبة والإسلام(4):
خمسٌ من السنوات مرّت لم تذق طيفٍ يجدّدُ كلّ يوم لوعةً يا حسرتا ما في الديار سوى القذى شطّتْ بأهليها النّوى فترحّلوا * * * واهاً فلسطينُ الحبيبةُ قد جرتْ إنْ قسَّموكِ فتلك قسمةُ جائرٍ أو أخرجوا بالنارِ أهلك عنوةً أرضُ العروبة منذ حلّ بها الهدى أين الليوث تصول في أدغالها أين الميادينُ الفسيحةُ تنبري سكتَ الأذانُ فدرْ بعينك باكياً ليس البكاءُ على الديار بنافعٍ وازأر إذا عَوتْ الذئابُ فإنما |
|
عيني الكرى إلا لطيفٍ ويثير فرطَ صبابتي وتشوُّقي وسوى حثالات البريّة تلتقي وتفرّقوا في الأرض أيَّ تفرُّقِ * * * كفُّ القضاءِ بمفجعٍ ومُفرّقِ وجدَ السياسةَ فيكِ أن تتمزّقي فاللهُ يرقبُ فعلَ خبّ أحمقِ قد هُودت يا عينُ بالدمع اغرقي أين الظباءُ على الموارد تلتقي؟ فيها الشبابُ على جيادٍ سُبّقِ؟ تلك الرباع وخلّ فوقك واشهق فامسحْ دموعكَ عند وجدكَ وارفُقِ أشبالُ يعربَ للبُكا لمْ تُخلقِ |
مُؤرقِ
ولمّا أُقيم في سورية عام 1955 أسبوع للتسلح لإنقاذ فلسطين، استبشر شاعرنا خيراً ونظم قصيدة قال فيها(5)
يا ربّ باركت في أيدٍ قد تسابق الناسُ للداعي فلا وكلٌ جادوا بما عزَّ من مالٍ ومن عرضٍ |
انطلقتْ
|
تُعطي الجزيلَ وتُحيي المجد والكرما يُبدي التّواني ولا من يدّعي الصّمما جود السّحابِ إذا ما انهلَّ مُنسجما |
وتمر الأيام والسنون ومحيي الدين يترقب يوم العودة الظافرة وينتظر اليوم الذي يعود فيه إلى داره وبلده، التي لم تبتعد عن مخيلته يوماً من الأيام، ولا ليلة من الليالي.. ويهزّه الشوق فينظم قصيدة بعنوان "الدارداري" يقول فيها(6):
الدار في صفدٍ تشكو أذى يا هاتفَ الشوق قد ناديتَ مستمعاً ها قد غدوتُ لأوطاني على قدمي فجئتُ عجلانَ بابَ الدار أطرقه إذا بعلجٍ قبيحٍ جاء يفتحُ لي فقال: من أنت يا هذا؟ فقلتُ له الدارُ داري، لماذا أنت تسكنها فقال لي ساخراً: ما أنت صاحبُها أُدخلْ وزرها، وعدْ من حيث جئت، ولا وقال غاصبُ داري إذْ يودِّعني: لا تبتئس إنّ إسرائيلَ باقيةٌ وسوفَ تملكُ من نهر الفرات إلى فقلتُ والغيظُ تغلي بي مراجلُه: لن يستقرّ بأرض العُربِ ذو طمعٍ |
النُّوَبِ
|
وأنتَ صبٌّ تقاسي البُعدَ في أصغى إليك بقلب واجفٍ تعب والوجدُ قرّح أجفاني وبرَّحَ بي طرقَ الذي آبَ من منأىً ومُغتربِ كأنّه من بني الشيطان في سبب مَنْ ذا يخاطبني؟ ما أنت من نسبي من أنت؟ قل لي، فقد أكثرتَ من عجبي لكنّ صاحبها من فاز بالغلبِ تطلبْ محالاً، إذا ألحفتَ في الطلب عدْ كل عامٍ وزرها غيرَ مكتئب في هذه الأرض من كنعان للنقب قناة مصر بحق القهر والغَلَبِ خسئْتَ من غاصب في ظلّ مغتصبِ وفي دماء بنيهم نخوة العربِ |
حلبِ
ويزداد شوق محيي الدين إلى الديار، ويزداد مع هذا الشوق شعور بالندم على تركها والرحيل عنها.. فينظم قصيدة بعنوان "هل تذكرن حمى الديار".. يقول فيها(7):
هل تذكرنّ حمى الديار ونأيتَ عنها ضارعاً وتعيشُ عيشاً بائساً تنعى على الأيام عثرتها فالذنب ذنبُك أنت * * * لو كنت متّ مدافعاً فالموت خيرٌ من نزوحٍ * * * هل تذكر الشهداء خاضوا المعارك لم يرعهُمْ كم ثورةٍ في أرضها ثارتْ ذاق العدوّ بها الردى * * * فانهضْ لحقك، والفداءُ ما غيرُ نيران الحديد بها بالمدفع الرشاش بالصا |
|
وقد نأتْ عنك تبكي وقد شطّ المزار لم يستقرّ له قرار وما منها العِثار لا يجدي عن الذنبَ اعتذار * * * عنها لكان لك الفخار فيه إذلالٌ وعار * * * فالذكرى لنا فيها اعتبار عندها النّقع المُثار وكان لها ابتدار وغشاه ذُلٌ وانكسار * * * هو الوسيلة والشّعار على الخَصم انتصار روخ للباغي اندحار |
الديارُ
وعندما وقعت معركة الكرامة عام 1968، وانهزم فيها اليهود المعتدون أمام الأبطال من أبناء الأردن وفلسطين.. نظم قصيدة يحيي فيها هؤلاء الأبطال ويقول(9):
سلمتْ يمينك أيها قد غرّه غدرٌ مضى زمناً هذي الديارُ ديارُنا رقدتْ خسئَ الدخيلُ فلن يقرَّ له * * * أرضَ الكرامة أنت خالدةٌ جاء العدى يبغونَ فيكِ أذىً فإذا المعاقلُ وهي مُرعدةٌ فإذا العدوّ يفرُّ من جزعٍ ضاقتْ به ذرعاً مسالكُهُ |
البطلُ
|
فالبغيُ ولّى وهو فالدهرُ في أيامهِ دُولُ فيها الأصولُ أصولنا الأولُ عيشٌ ولنْ يحيا له أملُ * * * للعُرب فيكِ من الفدى مثلُ وتعلّلوا ما شاءتْ العِللُ تُرديهمو من قبل أن يَصلوا لم يحمهِ سهلٌ ولا جبلُ فدروبه بالنار تشتعلُ |
منخذلُ
ولشاعرنا قصائد في أغراض مختلفة.. دينية ووطنية واجتماعية.. منها قصيدة نظمها سنة 1944 عندما تمّ تأسيس جمعية خيرية في القدس برئاسة أحمد سامح الخالدي لرعاية الأيتام، وأنشأت الجمعية مدرسة في دير عمرو قرب يافا ضمّت المئات من الأيام، وكانت بعنوان "اليتيم في دير عمرو" قال فيها(9):
وهل دمعٌ أحقُّ بأن يُواسي أبوه قد انطوى وغدا حديثاً هو اليُتمُ المريرُ فأسعفوه فقد يغدو اليتيم فتىً عظيماً وقد يحيا بدنياه مُجيداً تفيدُ بلاده منه المعالي فلا تبخلْ على الأيتام فيما فإنّ الخيرَ عندَ الله أبقى |
|
غداة البرّ من دمع تردّدهُ الشّفاهُ على وجوم بترياقٍ من العطف الكريم يُثابُ إليه في الأمر العظيم صناعاتٍ تدقُّ على الحلوم وينقذها من الجهل الوخيم حباكَ اللهُ من فضلٍ جسيمِ ودنيا لا تدومُ لمستديم |
اليتيم
وله قصيدة في تكريم الأم بعنوان "أمي هي الدنيا" قال فيها(10):
أمي هي الدنيا وبهجتها وأعيش تسعدني محبتها تبقى على الأيام رافلة أمي وما أحصي أياديها بالعلم بالأخلاق سامية |
|
يحيا بظل حنانها طول الحياة موفقاً عملي من نعمة الرحمن في حُلل قد طوّقت عنقي بخير حلي من غير ما منٍّ ولا بخل |
أملي
آثاره الأدبية:
1 - ديوان "من فلسطين وإليها" (حلب: المطبعة السورية) 1975، عدد الصفحات 336 صفحة، ويضم 98 قصيدة.
وهذا الديوان يحتوي على شعره الذي قاله بعد نكبة 1948 وبعض القصائد التي كان يحفظها قبل النكبة.. أما شعره قبل عام 1948، فقد ضاع أكثره، لأن ضراوة العصابات الصهيونية وقسوتها في ارتكاب المجازر، جعلتا الشاعر وتحت ضغوط هائلة من الأهل والجيران، يفرّ بعرضه وأولاده ونفسه من مدينة صفد تاركاً كلّ شيء –كسائر أبناء صفد وغيرها- وكان مما نسيه، ديوان مخطوط، لم يكن يحفظ منه إلا القليل.
2 – "مصرع كليب" مسرحية (القاهرة: عيسى البابي الحلبي) نظمها عام 1946 في أثناء وجوده في نابلس، وقد تقرّر تدريسها كمادة إضافية للمطالعة الشعرية في جميع مدارس فلسطين الثانوية.
3 – "أسرة شهيد" مسرحية، نظمها في حلب سنة 1966، وصف فيها ما لاقته أسرة شهيد فلسطين من الآلام والتشرد، الذي كان أنموذجاً لما حلّ بالشعب الفلسطيني خلال هجرته وتفرقه في مختلف البلاد العربية وغيرها.
مختارات من شعره: اخترنا من شعره ثلاث قصائد:
1 – "النكبة الكبرى".. قصيدة نظمها الشاعر في حلب بعد نزوحه من بلده عام 1948، وهي تمثل شعره خير تمثيل بما فيها من المعاني والأفكار.. وقد استعرض فيها تاريخ اليهود الذين ما توقفوا لحظة عن الكيد لهذه الأمة.. في جاهليتها عندما كانوا يورون نيران العداوة والبغضاء بين الأوس والخزرج. وفي إسلامها عندما ناصبوا نبي هذه الأمة العداء، وتآمروا على الإسلام وعلى النبي مع المشركين والمنافقين في مكة والمدينة، وحاولوا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، ووأد دعوته في مهدها وإلى الأبد.. فهم لم يعودوا إلى العداوة لهذه الأمة، لأنهم ما تركوها لحظة واحدة، والذي كان يسترها هو ضعفهم وغفلتنا..
ووصف فيها ما كان من أعداء الأمس واليوم والغد.. واعتداءاتهم على ثالث الحرمين، وعلى حيفا وعكا ويافا والرملة وصفد ودير ياسين وسواها.. ووصف حال اللاجئين البائسين الذين كانوا ضحايا الغدر والمؤامرات، والذين أخرجوا من ديارهم وهاموا على وجوههم لينجوا بأرواحهم من أيدي الجزارين..
هذه القصيدة الوصفية تذكرنا بما جرى للمسلمين في الأندلس، وبما حلّ في ديار المسلمين على أيدي التتار في أصبهان وبغداد وحلب ودمشق، وبما حلّ في القدس على أيدي الصليبيين من قبل، والصليبيين المتصهينين من بعد، وبما حلّ في البوسنة على أيدي الوحوش من الصرب، وما حلّ في الشيشان على أيدي الدببة المتوحشين من الروس.
2 – "إيه يا يوم الثلاثاء".. في 11 آب عام 1929 تم عقد مؤتمر صهيوني عالمي في مدينة زوريخ.. وقام زعماء الصهيونية بوضع خطة للاعتداء على البراق الشريف في بيت المقدس، وعهدوا لليهود المقيمين في فلسطين بتنفيذ الخطة بعد أخذ موافقة الجمعية الصهيونية في لندن.. وفي 15 آب اقتحم اليهود ساحة حائط (البراق الشريف) وحاولوا فرض سيطرتهم عليه.. وأقاموا شعائر دينية غير متعارف عليها عند حائط المبكى.. ونشبت الثورة في جميع أنحاء فلسطين، فاعتقلت السلطة البريطانية عدداً كبيراً من شباب العرب وحكمت المحاكم عليهم بأحكام مختلفة.. وكان منها الحكم بالإعدام على الشهداء فؤاد حجازي من صفد، ومحمد جمجوم وعطا الزير من الخليل، ونُفذ الحكم فيهما يوم الثلاثاء 17 حزيران 1930، وكان كلما أعدم أحدهم يؤذن المؤذنون وتدق أجراس الكنائس في جميع أنحاء فلسطين.. وبهذه المناسبة كانت هذه القصيدة.
3 – "عودي لخدرك يا أخت المها".. نظم الشاعر هذه القصيدة في مدينة نابلس في أوائل ثورة 1936 إثر مظاهرة اشترك فيها فريق من نساء المدينة وطالبات المدارس.. احتجاجاً على ظلم سلطة الانتداب البريطاني، ومواصلتها العمل على تهويد فلسطين.. فنظم الشاعر هذه القصيدة طالباً منهن العودة إلى خدورهن.. لأن ليوث الحي من فتيان المدينة وشبانها كفيلون بمواجهة المستعمرين الغاشمين.. فهم طلاب شهادة مستعدون للموت دفاعاً عن وطنهم الغالي وأرضهم المقدسة.
النكبة الكبرى(11)
طرفٌ أضرَّ بجفنه جُرحٌ يسيلُ ولوعةٌ لا تنطفي قيل، الأُساةُ فأين منهم بلسم يا شهرَ (مايس) خِلتُ ليلك مؤنساً كمْ بتُّ أرقبُ فيكَ همّاً ينجلي وإذا العجائبُ أيُّ أمرٍ عجيبة نبذتهُمُ الدنيا فضلَّ سبيلهم عادوا يحوكونَ العداءَ لأمة في ثالثِ الحرمينِ رنّةُ ثاكلٍ وطنٌ يضيع فيا قلوبُ تفطَّري وطنٌ تمزَّق قاطنوه وشُرّدوا وطنٌ يضيع وأمةٌ عبثت بها يا مَنْ شهدتَ رحيلهم يوم النّوى أرأيتَ كيفَ الرُزء يصدع أمةً نزحوا وخَلّوا جازعينَ ديارَهم قد حازها أعداؤهم وتجردوا من لم يُبارِ الحادثاتِ بعدّةٍ * * * (حيفا) ولا أدري بروعكَ يومُها أم يومُ (يافا) والعدوُّ يدكّها أم (ديرُ ياسينٍ) وقد طافَ الردى أم (رملة) الصيدِ الكرامِ أميةٍ و"قرى" كجنات الخلود بحسنها (بلدُ المسيحِ) تدنَّستْ حرماتُه والشرُّ أنزل ركبَه في بقعةٍ حملتْ حمائمها السلامَ مباركاً "صفد" وقد عانيتُ هولَ مصابها ذادوا وكم ذاقَ العدوّ بلاءَهم حتى أتى القدَرُ العجيبُ وهنا هنا هي معقلٌ دكَّ العدوّ حصونَه ثارَ الرصاصُ وجُنَّ مقتحمُ الوغى فالأرضُ يُعفَرُ بالقذائفِ وجهُها والليلُ داجٍ والرياحُ عواصفٌ مطرٌ طغتْ فوقَ الطريقِ سيولُه هذا هو الوادي(12) وتلك صخوره كيف المسيرُ وكل شبرٍ مزلقٌ لم يبقَ من بين المسالكِ غيرُه ساروا وهم يتلمسون رسومَه يتلفّتون مودّعينَ فثاكلٌ كم مرضعٍ ناءتْ بحمل رضيعها وأشاوسٍ صمدوا لكراتِ العدى جثمانه للطير أصبح مطعماً لمن يبقَ من يُلقي عليه ترابه * * * يتساءلون: وأينَ بعدُ المبتغى ربضَتْ بنو الأعمام في أكنافها إخواننا في كل خطبٍ داهم هرعوا لنصرتنا وآسوا جرحنا أبناء "سوريا" ومفخر يَعربٍ أسديتمو فوق الذي تبغي العُلا أنا إنْ شكرتُ فشاعرٌ لقي الرضا حسبي أسىً سيفُ العدو مجرّدٌ وجناحنا قد قُصَّ من أطرافه شرٌ أرادته السياسة فهو في إنْ لم تُحِذّ من الأصول غراسُهُ ما خطبُ أندلسٍ ولا ويلاتها هذي فلسطين الشهيدةُ مُزّقتْ يا تربةَ الأجدادِ حظّك عاثرٌ سلفٌ كرامٌ قد تداولَ إرثَهم |
التسهيدُ
|
وَحَشاً تعاني قرحةً وجوى على مرّ الزمان جديدُ يشفي وأين المنقذُ الموعودُ فإذا الأماني في نهارك سودُ فإذا الرزايا والنحوسُ تزيدُ أدهى؟ زعانفةُ الأنامِ تسودُ فيها، فسارٍ في الدّجى وشريدُ حَدَبتْ عليهمُ والزمانُ حميدُ وأنينُ مفجوع له ترديدُ وتجردي للرزءِ فَهُوَ عتيدُ فبكل أرضٍ نازحٌ وطريدُ أيدي البغاة فعاثَ فيه السِّيدُ وجموعهم إثر الجموع تميدُ والنازلاتُ الصمُّ كيف تعود؟! ولهم هنالك مُطرفٌ وتليد منها كما يتجرّدُ العنقود لم يُجدهِ يوم الكفاحِ عديدُ * * * أم يومُ عكا الأَسْوَدُ المنكود؟ أم يومُ (سلمةَ) والمنايا سود فيها وأفنى أهلَها التشريدُ هُتِكتْ ولم يحفظْ حماهم صيد دَرَست وحلَّ بأهلها التبديدُ والسَّلْمُ في أرجائهِ مفقودُ عند البحيرةِ نورُها مشهود لو كان يصغي للسلامِ رشيد صُرعت وفارقها الحُماةُ الصيدُ مُراً وحسبُكَ بالليوثِ تذودُ دعني فلا أبدي الأسى وأعيدُ غدراً وكان لغدره تمهيدُ وصدى المدافعِ صيحةٌ ووعيدُ والجوّ فيه لهولها ترديدُ وبلاءُ ربك بعدَ ذاكَ شديدُ أينَ الطريقُ ورسمه المعهود برزتْ وذاك طريقُه المنشودُ منه وكل حفيرةٍ أخدودُ؟ سدَّتْ وصار لغيرنا الإقليدُ يتعثّرونَ ورشدهم مفقود تبكي وشيخ ذاهلٌ ووليدُ تسعى لتنجو والنجاءُ بعيد كم خرَّ منهم أروعٌ صنديدُ أو للسباع ولا يُعابُ شهيد رحل الجميعُ وقلبُهم مكمود * * * قيل: الحدودُ وظلُّها المقصود غيلٌ رعته من الكرامِ أسود ما بيننا في النائبات حدود ليت الجراحَ أزالها التضميدُ طبتم وطابَ نداكُم المحمود وبذلتمو ما يرتضيه الجودُ وإذا شكوتُ فموجعٌ مفقود فوق الرؤوس وسيفنا مغمودُ متقاصراً وجناحُهُ ممدودُ أهوائها نارٌ لها ووقود ورِثَ الشقاءَ عن الحفيدِ حفيدُ أدهى فشرّ الحادثات تعود من بعد ما حزَّ الوريدَ حديدُ لم تغنِ عنك من البلاء جدود خلفٌ أضاعوه غداةَ أُبيدوا |
وتبيدُ
إيه يا يوم الثلاثاء(13)
رثاء شهداء ثورة البراق
أنحيبٌ أم نشيدُ ورثاءٌ أم إيهِ يا يومَ الثلاثاء اكتوتْ فيكَ الكبودُ فتيةٌ غرٌ غطاريفٌ بحبلِ الموتِ قيدوا أنفوا أنْ يُنزلَ الضيم بهمْ طاغٍ عنيدُ فأثاروها على الطغيانِ تطغى وتبيدُ ثورةٌ قدْ حطَّمتْ صهيونَ فارتدَّ يكيدُ واستجابَ الظالمُ العاتي لما شاءَ اليهودُ * * * إبكِ يا خلي فُؤاداً إنهُ الليثُ الشهيدُ إبكِ جمجوماً وزيراً لا يكفكفكَ جُحودُ إبكِ مَنْ أثقلهمْ في سجنِ عكاءَ الحديدُ إبكهمْ يومَ دعاهمْ للردى عاتٍ مَريدُ فمَشوا للموتِ في تيهٍ كما تمشي الأُسودُ واكتسوا إذ راقهم يومَ النوى البُرْدُ الجديدُ فكأنَّ الموتَ عرسٌ أو كأنَّ الموتَ عيدُ * * * لا تشقي الجيب يا أمُّ فذا الموتً الحميدُ ما حياةٌ نحنُ فيها لذوي الظلمِ عَبيدُ إنها يا أمُّ خِزيٌ ليسَ ترضاهُ الجدودُ كفكفي الدمعَ فإنَّ الحرُّ بالنفسِ يجودُ وعقابُ اللهِ يومَ الحشرِ للباغي شَديدُ * * * رفعوا للموتِ أعناقاً أناءتها القيودُ شدّها الحبلُ فكانَ الرُّزء إذ قُدَّ الوريدُ أذِّنَ الناعي فضجَّ الشيخُ وارتاعَ الوليدُ دقَّتِ الأجراسُ فاندقتْ أكفٌ وخدودُ واكفهرَّ الجوُّ راعَ الناسَ برقٌ وبريدُ واختشى الظالمُ أنْ يدهمهُ خطبٌ جديدُ * * * أيهذا الساكنُ الطورَ تحيّيه الوفودُ لا يغرَّنك زمانٌ أقبلتْ فيهِ السعودُ إنما الريحُ إذ هبَّتْ لها يوماً ركودُ وإذا ابيضَّ نهارٌ فالليالي هيَ سودُ قُلْ لمنْ في لندنٍ آواهمُ القصرُ المشيدُ: أبهذا حكمَ العدلُ وهل ترضى اليهودُ؟! أمْ لديكمْ بعدَ قتلِ النفسِ بالجورِ مزيدُ؟ بينما العربُ تُمنيهمْ من الغربِ الوعودُ فإذا الوعدُ وعيدٌ وإذ الثعلبُ سيدُ وإذا هذا سجينٌ وإذا ذاكَ شهيدُ فرويداً إنَّ مجدَ العربِ لابُدَّ يعودُ وفتى العربِ كريمٌ وفتى العربِ حقودُ وإذا نجمٌ هَوى منهمْ بدا نجمٌ جديدُ |
قصيدُ
عودي لخدركِ يا أخت المها(14)
عُودي لخدرك يا أُختَ المها تباركَ اللهُ إذ أقبلتِ مُغضبةٌ فكفكفي الدمعَ من عينيك واطَّرِحي ودونَك الحيُّ جُرّي في مسارحه أما رأيتِ ليوتَ الحيِّ قد برزوا غادينَ للموتِ لا يلوونَ أو يًصِلوا فتيانُ قومِك كم خفُّوا لنائبةٍ الناشرونَ الهُدى في كلِّ منزلةٍ * * * مَنْ مبلغُ الغربِ والدنيا بأجمعها أثارَها الجشعُ القتّالُ محتدِماً هذي فلسطين قد جاشت بوادرها تقضي النهار بأتراحٍ مُبرّحةٍ تشكو إلى الله ما تلقاهُ واندفعَتْ فمن جريحٍ على الراحات مضجعهُ والناسُ ما همَّها ضيقٌ ولا عوَزٌ والكلُّ أضربَ عن كسبٍ وشدَّ على وآخرون نسُوا ما كان بينهُمُ تصافحوا بالأيادي والقلوبِ معاً * * * كم كان وعدُكَ يا بلفورُ مشأمةً جرَّ البلاءَ وأسبابَ البلاءِ إلى ظنَّ اليهودُ بأن الوعدَ أرجعَهم وما دَروا أنَّ مقتَ الله حلَّ بهم |
عودي
|
في الحيِّ ما شئتِ من شُوْسٍ ومن صيد والحسنُ يُشرقُ من طَرفٍ ومن جيد عنكِ الأسى لتواسي قلب معمود ذيلَ المفاخر بين الخُرَّد الغيد حمرَ المناصلِ فوقَ الضُّمَّر القود إلى سبيلٍ من العلياء محمود في كل يومٍ من الأيامِ مشهود والعاقدونَ لواءَ البأسِ والجود * * * بأنَّ في الشرقِ ناراً ذاتَ توقيد أُوارِها فهي دوماً ذاتُ تجديد لما تُلاقيهِ من جور وتنكيد وتقطعُ الليلَ في همٍّ وتسهيد تجلو العناءَ بعزمٍ غير مردود ومن شهيدٍ بجوفِ القلب ملحود فالكلُّ راحَ يلبّي داعيَ الجود خَصم البلاد بإقدامِ الصناديد من الضغائن شأنَ القادة الصّيد إخوانَ همٍّ وعزمٍ غيرِ مجحود * * * أعوذُ بالله منْ شؤمِ المواعيد أرضٍ مباركةِ الأمصار والبيد لعهدِ يوشعَ أو أيام داوودِ ما حيلةُ العبد في تقديرِ معبودِ |
الهوامش
(1) من مقال كتبه الأستاذ عبد الله الطنطاوي عن الشاعر.
(2) ديوان "من فلسطين وإليها" ص17.
(3) ديوان "من فلسطين وإليها" ص36.
(4) ديوان "من فلسطين وإليها" ص60.
(5) ديوان "من فلسطين وإليها" ص66
(6) ديوان "من فلسطين وإليها" ص73
(7) ديوان "من فلسطين وإليها" ص83
(8) ديوان "من فلسطين وإليها" ص116
(9) ديوان "من فلسطين وإليها" ص223
(10) ديوان "من فلسطين وإليها" ص260
(11) ديوان "من فلسطين وإليها" ص51
(12) الوادي: هو المعروف بوادي الطواحين في غرب مدينة صفد.
(13) ديوان "من فلسطين وإليها" ص 13
(14) ديوان "من فلسطين وإليها" ص31